الأحد، 24 مارس 2024

معالم قضية العصر

 

يجْني الإنسان على نفسه كثيراً عندما يُنتج مواداً كيميائية استهلاكية ويدخلها في أسواقنا وبيئتنا بدون دراسات متكاملة وشاملة لما قد تقوم بها هذه المواد من فسادٍ عظيمٍ ومزمن لصحتنا وسلامة بيئتنا. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان المبيد الحشري السحري المعروف بالـ "دِي دِي تِي" في السبعينيات من القرن المنصرم من أكبر إنجازات الإنسان الطبية في القضاء على الأمراض كالملاريا الذي كان يقتل الملايين، ثم بعد سنوات قليله تم حظر المبيد عندما تأكد بأن أضراره أكثر من منافعه، ولكن بعد سنوات تم تقنينه وحصره في تطبيقات ضيقة جداً لعدم وجود البديل المناسب. وفي التسعينيات من القرن الماضي أَنْتج الإنسان مجموعة من المركبات العضوية التي تحتوي على عنصري الكلورين والفلورين، واعْتُبرتْ مركبات "أعجوبة" دخلت في تطبيقات لا تعد ولا تحصى، ثم تبين للعلماء أنفسهم بأن هذه المركبات تنتقل إلى السماء العليا وإلى طبقة الأوزون التي تحمي الكرة الأرضية ومن عليها، فتحلل غاز الأوزون وتسمح بمرور الأشعة فوق البنفسجية القاتلة للوصول على سطح كوكبنا، فقام الإنسان نفسه بعد هذا الاكتشاف بحظر استخدامها.

 

واليوم نقف أمام معضلة في تقديري أشد وطأة وتنكيلاً وتأثيراً من الحالات السابقة التي ذكرتُها، وأعتَبِرهُا مشكلة العصر القادمة التي ستحير العلماء وتقلق رجال السياسة والحُكم، وهي المنتجات البلاستيكية والمخلفات الكبيرة والصغيرة الحجم التي تنتج عنها بعد التخلص منها، إضافة إلى الجسيمات البلاستيكية الدقيقة المجهرية التي تنتج عن تجزؤ وتفتت المخلفات البلاستيكية إلى جسيمات أصغر فأصغر حتى تصل إلى مستوى المايكرو والنانومتر، أي جزء من المليون وجزء من البليون في الحجم.

 

ولذلك أستطيعُ أن أُحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية القادمة في عدة قضايا وتحديات رئيسة على العالم مواجهتها وإدارتها بأسلوب مستدام وفاعل. أما القضية الأولى فتتمثل في عشرات الآلاف من المواد الكيميائية السرية غير المعروفة التي تضاف عند صناعة المنتجات البلاستيكية من أجل إعطائها اللون المطلوب، وتحسين خواصها ومميزاتها حسب نوع المُنتج. وتأتي تفاصيل هذه المعضلة الأولى في التقرير الدولي الشامل الأول المنشور في 14 مارس 2024 باسم تقرير "بلاست كيم"(PlastChem) تحت عنوان: " أَحدثْ ما توصل إليه العلم في مجال المواد الكيميائية البلاستيكية". فقد أفاد التقرير أن هناك أكثر من 16 ألف من المضافات التي لا يعلم الإنسان عنها الكثير من حيث تركيبها الكيميائي، ولم يقم بتقييمها بشكلٍ تفصيلي معمق، ولم يجر دراسات مستفيضة حول هويتها، وخصائصها الكيميائية والفيزيائية والحيوية، علاوة على سميتها وتأثيرها وأضرارها والمخاطر التي تنجم عنها على الإنسان والحياة الفطرية ومكونات بيئتنا. وهذه المواد الكيميائية التي تضاف إلى البلاستيك تترشح من المخلفات البلاستيكية عند تعرضها للمتغيرات المناخية من الضوء والحرارة وغيرهما، فتنتقل إلى مكونات بيئتنا المختلفة والحياة الفطرية التي تعيش فيها وتتراكم في أعضائها، ثم عبر السلسلة الغذائية بشكل مباشر أو غير مباشر تصل إلى الإنسان، ولا يعلم أحد عن عواقبها الصحية على البشر والأمراض والعلل الغامضة والغريبة المزمنة التي سيتعرض لها الإنسان بعد سنوات. ولذلك على الجهات الدولية والقومية المختصة إلزام الشركات المصنعة للبلاستيك والمنتجات البلاستيكية على تقديم قائمة بتركيز ونوعية جميع المواد الكيميائية التي تضاف إلى البلاستيك، إضافة إلى حثها على إجراء الدراسات اللازمة من ناحية قابلية هذه المواد على التحلل من جهة، وقدرتها على التراكم في البيئة من جهة أخرى، إضافة إلى معرفة سلامتها وأمنها على الإنسان ومكونات بيئته والحياة الفطرية قبل إضافتها إلى المنتجات البلاستيكية وتقديمها إلى الأسواق.

 

والقضية الثانية التي تحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية فهي تكمن في البلاستيك نفسه. فالبلاستيك عبارة عن مواد "متبلمرة" ذات الوزن الجزيئي الكبير جداً(Polymers)، وتحتوي على خليطٍ كبير من المواد العضوية التي بها عناصر مختلفة كالكلورين، والفلورين، والبرومين وغيرها الكثير. وهذه المركبات المتبلمرة البلاستيكية لها خاصية سلبية بالنسبة لسلامة البيئة وصحة الإنسان والحياة الفطرية، فهي عندما تنتقل إلى مكونات البيئة لا تتحلل كلياً، وإنما تتفتت وتتكسر وتتجزأ كيميائياً وفيزيائياً وحيوياً إلى أجزاء أصغر، حتى تصل في حجمها إلى جسيمات بلاستيكية دقيقة جداً، وقد لا تُرى بالعين المجردة، ولها القدرة على التحرك والانتقال إلى جسم الإنسان عن طريق الأنف أو الجلد من الهواء الجوي، أو الفم من خلال استهلاك مواد غذائية أو مشروبات تحتوي على هذه الجسيمات المجهرية، وهي بدورها تنتقل إلى الرئتين فتتراكم فيهما، أو تنتقل إلى مجرى الدم وتدخل في خلايا الجسم وباقي الأعضاء، فتتراكم فيها مع الوقت ويزيد تركيزها يوماً بعد يوم.

 

وهنا على الإنسان أن يتعامل مع صنفين كبيرين من المخلفات، الأول هو المخلفات الكبيرة الحجم التي نراها بالعين المجردة في سواحل ووسط البحر، وفي الأعماق في تربة قاع البحر، وفي الصحاري، وعلى الأشجار، وفي مواقع دفن المخلفات البلدية الصلبة، والثاني وهو الأخطر الذي يهدد سراً حياة الحياة الفطرية والإنسان وهو المخلفات المايكروبلاستيكية والنانوبلاستيكية غير المرئية. أما الصنف الأول،  وبالتحديد في البيئات البحرية، فقد تكونت مواقع ضخمة معروفة وتمت دراستها بالتفصيل، وبخاصة في المحيط الهادئ، وتغطي عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة وتحمل في بطنها هذه المخلفات مثل منطقة(Great Pacific Garbage Patch). وهذه المخلفات البلاستيكية تكون إما طافية فوق سطح الماء، وإما عالقة في عمود الماء، وإما جاثمة على سطح التربة القاعية أو بداخلها. كما أكدت دراسة منشورة في 23 فبراير 2024 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "مواقع مهمة للجسيمات البلاستيكية الطافية في شمال المحيط الهادئ"، بأن هذه المخلفات توسعت دائرة انتشارها حتى وصلت إلى مناطق نائية ومحمية من المحيط الهادئ. وهذه الدراسة أخذت عينات من المخلفات البلاستيكية والمايكروبلاستيكية السطحية(حجمها أكبر من 330 مايكرومتر) التي تسرح وتمرح فوق سطح الماء من أحد هذه المحميات بالقرب من هاواي، حيث أفادت بأن تركيزها وصل إلى 285200 قطعة لكل كيلومتر مربع. والصنف الثاني من المخلفات البلاستيكية فهي الجسيمات الدقيقة والمجهرية، وهي التي ستشكل التهديد الأكبر للبشرية جمعاء، وستكون محل بحث تفصيلي واسع النطاق في المستقبل من العلماء من تخصصات مختلفة، وبخاصة من ناحية التعرف على تأثيراتها الصحية عندما تدخل في أعضاء جسم الإنسان، والأسقام والعلل المستقبلية التي ستسببها للبشرية.

 

وأما القضية الثالثة التي تحدد معالم مشكلة العصر البلاستيكية فهي تصنيع منتجات بلاستيكية مستدامة وسليمة بيئياً وآمنة صحياً للإنسان، بحيث تأخذ في الاعتبار "دورة حياة البلاستيك" وأداة التصميم البيئي منذ الخطوة الأولى، وتتميز بعدة خصائص بيئية وصحية سليمة، منها أنها تكون قابلة للتحلل الحيوي عندما تُصرف في البيئة، وأن تكون سهلة التدوير وإعادة الاستعمال، وأن تكون المواد المضافة آمنة وسليمة للإنسان والحياة الفطرية. كذلك يتم تقنين وتنظيم كافة هذه المضافات من خلال آلية وأداة دولية كمعاهدة الأمم المتحدة حول التلوث العالمي بالبلاستيك.

 

فهذه المشكلة الدولية التي بدأت خيوطها تنكشف يوماً بعد يوم، وبدأت معالمها تتضح شيئاً فشيئاً، ستكون هي التحدي الأكبر من بين المشكلات البيئية الصحية التي واجهها الإنسان من قبل، فنحن سنتعامل مع منتج واسع الانتشار ولا يمكن التخلي عنه، ونتعامل مع مخلفات صلبة بلاستيكية ثابتة ومستقرة ولا تتحلل وتفشت في كل مكونات بيئتنا والحياة الفطرية، ثم سنتعامل مع التهديد الصحي الأكبر وهو مخلفات مايكروبلاستيكية مجهرية لا يمكن مشاهدتها أمامنا بالعين المجردة، ولا يمكن رؤيتها في عناصر بيئتنا، وهي أخذت منذ سنوات تزحف رويداً رويدا إلى شرايين أجسامنا، وتغزو كل عضو، وكل خلية من خلايانا، وأخيراً سنقف أمام أمراض مستعصية على العلاج وفريدة من نوعها قد نجمت بسبب تراكم وارتفاع تركيز هذه الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في أعضائنا.

 

الخميس، 21 مارس 2024

خفض نسبة البدانة من أهداف التنمية المستدامة


وباء صحي بدأ في الانتشار رويداً رويداً في المجتمعات البشرية جمعاء منذ الأربعة عقود الماضية، وأخذ يتفاقم وتتسع دائرة تفشيه سنة بعد سنة من دولة إلى أخرى. فبعد أن كان الوباء بشكلٍ عام واقعاً مشهوداً فقط في الدول الصناعية الغنية، ومقتصراً على الأثرياء ذوي الدخول العالية، ومتمركزاً في المجتمعات المتقدمة ذات نمط الحياة الغربية، انتقلت عدوى الوباء حتى إلى الدول النامية الضعيفة، والمجتمعات البشرية الفقيرة، كما أن عدوى هذا الوباء بلغت اليوم صغار السن من الأطفال والمراهقين، كما أصابت من قبلِ عقود الكبار في العمر والبالغين.

 

فهذا الوباء المتمثل في السمنة، والبدانة المفرطة، والوزن الزائد أصبح الآن من مظاهر التحضر والمدنية الحديثة، ويعكس نمط الحياة الغربية الاستهلاكية غير الصحية في الدول والمجتمعات الموبوءة بهذا المرض العصري المزمن.    

 

فالمصابون الآن بهذا المرض العضال والذين يعانون من وطأته الشديدة على أمنهم الصحي تجاوزوا المليار مريض في كل دول العالم بدون استثناء، الغنية والفقيرة، والمتقدمة والنامية على حدٍ سواء، وهذه الأعداد أخذت في التزايد والارتفاع بشكلٍ مطرد منذ التسعينيات من القرن المنصرم. وقد تنبهت دراسة علمية إلى سرعة تفشي هذا الوباء على المستوى الدولي، فدقت جرس الإنذار وناقوس الخطر محذرة من التهديدات الصحية الخطيرة الناجمة عن هذا الوباء على الفرد والمجتمع على حدٍ سواء، حيث نُشرت تفاصيل هذه الدراسة الدولية في 29 فبراير 2024 تزامناً مع "يوم البدانة العالمي" في مجلة "اللانست"(The Lancet) الطبية المرموقة، تحت عنوان:" الاتجاهات الدولية في حالات نقص الوزن والسمنة من عام 1990 إلى عام 2022: تحليل مجمع لـ 3663 دراسة ممثلة للسكان مع 222 مليون طفل ومراهق وبالغ". وقد شملت الدراسة 200 دولة من كل القارات ومن كل المستويات المعيشية والدخل القومي، وشارك فيها 222 مليون من الأطفال المراهقين(العمر من 5 إلى 19 عاماً)، والبالغين الكبار في السن الذين تتراوح أعمارهم بين 20 وأكبر من 20 عاماً.

 

وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات عامة وهامة، كما يلي:

أولاً: هناك أكثر من مليار إنسان سقط في فخ البدانة، أي أن واحداً من بين 8 من البشر الذين يعيشون على كوكبنا يعانون من داء البدانة والوزن المفرط.

ثانياً: السمنة في ازدياد مع الوقت، فإجمالي عدد المصابين في 1990 بلغ 226 مليوناً، مقارنة بـأكثر من مليار في عام 2022، ونسبة البدانة تضاعفت مرتين بين البالغين الكبار خلال 32 عاماً، أي منذ عام 1990 حتى 2022، ولكنها تضاعفت أربع مرات بين الأطفال والمراهقين، مما يعني تهديد المجتمعات بأكملها، وتعريضها للأمراض المرتبطة بزيادة الوزن مثل السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والعظام، وارتفاع ضغط الدم.

ثالثاً: نسبة الزيادة في السمنة خلال فترة الدراسة شملت الذكور والإناث، حيث زادت بين الذكور الرجال من 4.8 إلى 14%، وبين الإناث النساء من 8.8 إلى 18.5%، في حين أن النسبة بين الأطفال الإناث زادت من 1.7 في عام 1990 إلى 6.9% في 2022، وبين الأطفال الذكور ارتفع من 2.1 إلى 9.3%.

 

فهناك الآن اهتمام دولي مشترك بظاهرة البدانة المنتشرة بين البشر، والتي تعيق وتعرقل تحقيق الدول للتنمية البشرية المستدامة، والتنمية المستدامة في جميع القطاعات. وبناءً عليه فقد وضعتْ الأمم المتحدة مكافحة هذا الوباء ضمن الأهداف السبعة عشر لعام 2015 المعنية بتحقيق التنمية المستدامة كجزء من جدول أعمال التنمية المستدامة لعام 2030. فقد جاء في الهدف الثاني لمؤشرات تحقيق التنمية المستدامة تحت عنوان: "القضاء على الجوع"، وبالتحديد البند الثاني المعني بالنظام الغذائي الصحي والمستدام وبإنهاء جميع أشكال سوء التغذية حول العالم، سواء سوء التغذية المؤدي إلى نقص الوزن، أو سوء التغذية المؤدي إلى زيادة الوزن والبدانة، أي أن هذا الهدف الدولي يسعى لمحاربة التطرف والإفراط في الوزن، زيادة أو انخفاضاً، وكأنه يدعو إلى تبني المنهج الإسلامي المبني على الاعتدال والوسطية في جميع مناحي الحياة.

 

وقد حددت الدراسات المنشورة العوامل المسببة للبدانة والمؤدية مع الوقت إلى زيادة الوزن، منها عوامل وراثية، أي الجينات التي يحملها الإنسان، ومنها الأسباب المكتسبة التي للإنسان دور في تجنبها والتخلص منها. فنمط حياة الإنسان، وعاداته وممارساته اليومية له دور فاعل في السقوط في وباء السمنة، كنوعية وكمية الغذاء التي يتناولها الفرد كل يوم، من ناحية ارتفاع نسبة السكريات، وانخفاض استهلاك الفواكه والخضروات والألياف والفيتامينات، إضافة إلى كثرة تناول الأغذية المعالجة صناعياً. كذلك من الأسباب المسببة لزيادة الوزن عدم ممارسة أي نوع من أنواع الرياضة البدنية، وتناول الخمر والتدخين بجميع أنواعه التقليدية والإلكترونية.

 

وهناك عامل جديد بدأ العلماء في سبر غوره في علاقته بزيادة الوزن، وهو التعرض للملوثات، سواء عن طريق الأنف من الهواء الجوي، أو عن طريق الامتصاص الجلدي ودخوله في الدورة الدموية، أو عن طريق الفم ودخوله في الجهاز الهضمي. وقد أجمعتْ هذه الدراسات على أن هناك علاقة بين التعرض للملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى ومخاطر الإصابة بوباء البدانة وزيادة الوزن، سواء عند الأطفال والمراهقين، أو كبار السن. أما كيفية عمل هذه الملوثات في زيادة وزن الإنسان الذي يتعرض لها، فهي حتى الآن في مهدها وفي طور النظريات والتفسيرات العلمية التي لا يوجد عليها اجماع. ومن هذه النظريات "السمنة البيئية"( environmental obesogen)، أي أن بعض الملوثات مثل الدخان أو الجسيمات الدقيقة، ومركب بسفينول أ(Bisphenol A) وغيرهما، يسبب خللاً في توازن الميكروبات في المعدة، أو أنه يؤثر على النظام الميكروبي(microbiota misbalance)، مما ينجم عنه مع الوقت زيادة الوزن والسمنة، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "الجمعية الأمريكية لعلم الأحياء الدقيقة" "mSystems" في 1 مارس 2024 حول تأثير التعرض لمركب بسفينول أ على ميكروبات المعدة وبدانة الأطفال.

 

وهذا العامل البيئي المتعلق بالتلوث سيفرض نفسه كسبب رئيس من أسباب الوقوع في الكثير من الأمراض المزمنة والحادة، كالسرطان، وأمراض القلب والجهاز التنفسي، وأمراض العين، والخرف المبكر، والسكري من النوع الثاني، وأخيراً وليس آخراً البدانة وزيادة الوزن، مما يؤكد ضرورة وضع العامل البيئي ضمن العوامل الرئيسة المسببة للأمراض والموت المبكر للإنسان، والعمل على منع التلوث وخفض انبعاثه من مصادره المختلفة في البيئات الخارجية والداخلية.

 

الخميس، 14 مارس 2024

الطيور المهاجرة مقياس لضغط دم كوكبنا


عندما كنتُ مسؤولاً عن جهاز البيئة، كانت من ضمن مهماتي ومسؤولياتي تطوير محمية ومتنزه العرين من حيث إعادة تأهيل بعض الموائل الصحراوية الفطرية الطبيعية، إضافة على حماية وإكثار بعض الأنواع المستوطنة في البحرين وفي الخليج العربي من النباتات الصحراوية والحيوانات كغزال الريم والمها العربية وغيرهما.

 

وقد كانت محمية العرين تتميز بعدة خصائص فريدة بالنسبة للمواقع البرية الأخرى في البحرين، وبالتحديد أنها تحولت إلى محطة "ترانزيت"، ومحطة توقف لعدة أنواع من الطيور المهاجرة كالهدهد والبط والبجع، إما للراحة وقضاء وقت قصير للتزود بوقود الأكل والماء، والتمتع بالسباحة في البحيرات والواحات الموجودة في عمق الصحراء، وإما للتكاثر بسبب وجود الأمان وعوامل الهدوء والاستقرار والغذاء والماء في هذه المحمية الواسعة.

 

وبوجود محمية العرين على أرض البحرين وتوفير وسائل الأمان والغذاء والماء فيها، أصبحت البحرين تؤدي دورها وواجبها على المستوى الدولي في حماية احدى محطات توقف الأنواع المهاجرة من الطيور المائية وغير المائية بصفة خاصة. كما أصبحت البحرين بذلك تفي بالتزاماتها الدولية بالمحافظة وحماية خطير سير ورحلة ومواقع نزول هذه الأنواع المهاجرة، حسب معاهدة الأمم المتحدة تحت مسمى"الأنواع المهاجرة من الحيوانات البرية"( Conservation of Migratory Species of Wild Animals) .

 

كما أننا عندما نشاهد هذه الأنواع المهاجرة على أرض البحرين في محمية العرين في الوقت نفسه في كل سنة، وفي المكان المحدد المعروف في كل موسم، فذلك يُشعرنا بنوعٍ من الراحة والطمأنينة بأن كوكبنا وأن "البيئة" مازالت بخير، وتتمتع بصحة وعافية، وأن الأنظمة البيئية تعمل بشكلٍ منضبط وفاعل وسليم. فهذه الأنواع من الحيوانات المهاجرة عبر الحدود الجغرافية للدول تقيس ضغط دم مكونات البيئة، كما أنها في الوقت نفسه تعمل كالترمومتر، أو مقياس حرارة جسم البيئة، وأي خلل في حركتها ووقت وموعد وصولها يشير إلى مرض البيئة وإصابتها بوعكة صحية، من حيث المشكلات في حرارة جسم البيئة والتعقيدات في ضغط دم عناصر البيئة.

 

فمن المعروف أن الأنواع المهاجرة جواً، وبراً، وبحراً تنتقل عبر رحلة الهجرة من منطقة إلى منطقة أخرى بحثاً عن الهواء العليل والمناخ المعتدل، والغذاء الوفير، والماء العذب الزلال، إضافة إلى الشعور بالراحة والأمان والاطمئنان، ولكن في الكثير من الأحيان تكون هذه المناطق عابرة للحدود الجغرافية للدول فتكون تحت سيادة وسيطرة دولة أخرى، أي أن هذه الأنواع أثناء رحلتها وهجرتها ودورة حياتها الشتوية والصيفية تحط رحالها في أكثر من بلدٍ واحد، مما يعني أن على كل هذه الدول التي تقف فيها هذه الأنواع المهاجرة حماية هذه المناطق ورعايتها، والمحافظة عليها من ناحية وجود الأمن والأمان، ووجود الغذاء والماء، وأي تدهور كمي أو نوعي أو أمني في بيئات ومناطق هذه الأنواع المهاجرة يؤدي مباشرة إلى خلل في رحلتها ومسيرتها وإكمال دورة حياتها. 

 

 ولذلك في الواقع نجد بأن الأنواع من الحيوانات تجد صعوبات وعراقيل وتحديات كثيرة أثناء هجرتها بين الدول، فتؤثر هذه المعوقات على مسيرتها ورحلتها الدورية، وتؤدي في الكثير من الحالات إلى عدم اكتمال دورة حياتها، وموتها في منتصف رحلة هجرتها. فعلى سبيل المثال، هناك صعوبات تواجه نوعاً فريداً ونادراً من الطيور يُطلق عليها "الخناق الرمادي". وهذا الطائر الجميل يتواجد في منطقة الخليج العربي فقط، ويمتاز بلونه البني الفاتح والريش الأسود الذي يغطي جانبي رأس الذكر، حيث يتكاثر الخناق الرمادي في جنوب العراق وإيران ويهاجر لقضاء فترة الشتاء في شمال وغرب مملكة البحرين وكذلك المنطقة الشرقية والطائف في المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج. وفي البحرين نجد بأن المنطقة التي يحط بها ويتوقف عندها أثناء الهجرة هي بساتين النخيل القديمة، وبخاصة في منطقتي مقابه وسار، ولكن مع الغزو والتمدد العمراني وإزالة غابات النخيل، تقلصت الأعداد بدرجة كبيرة، مما يهدد استمرار تواجده على أرضنا.

 

وقد أكد على هذه الحقيقة التي تهدد الخط الملاحي للأنواع في الجو، والبر، والبحر في مختلف دول العالم، التقرير الأممي المنشور من "مجلس التنوع الحيوي"، حيث نُشر الإصدار الأول تحت عنوان: "حالة الأنواع المهاجرة على المستوى الدولي" في 12 فبراير 2024، وتم تدشينه في الاجتماع (14) للدول الأطراف في المعاهدة في أوزبكستان. ويركز التقرير على 1189 نوعاً تحت قائمة المعاهدة، حيث إن واحداً من كل 5 أنواع مهدد بالانقراض، أو قرابة 22%، كما أن 44% منهم يعانون من انخفاض في العدد. وهناك عدة تقارير حول تقييم التنوع الحيوي على كوكبنا، منها التقييم للتنوع الحيوي في عام 2019، حيث استنتج بأن مليون من اجمالي قرابة 8 ملايين نوع يقعون تحت خطر الانقراض، إضافة إلى تقرير صندوق الحياة البرية الدولي في عام 2022 الذي أفاد بأن أعداد الأنواع البرية الفطرية انخفضت بمعدل نسبة 69% خلال الخمسين عاماً الماضية.

 

وهناك عدة أسباب لهذا الانخفاض الشديد والمستمر في أعداد الأنواع من الحيوانات على مستوى كوكبنا، منها تدهور البيئات التي تعيش فيها، أو التي تهاجر إليها من الناحيتين، أولاً من ناحية انكماش مساحتها، وثانياً من ناحية تلوثها بالمواد الكيميائية، أو التلوث الضوئي والضوضائي، كذلك الصيد الجائر والتغيرات في درجة حرارة الأرض، إضافة إلى مشكلة اصطدام الطيور في زجاج الأبنية العالية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مات أكثر من 1000 طائر في ليلة واحدة فقط عندما اصطدمت في مبنى زجاجي(McCormick Place Lakeside Center) في مدينة شيكاغو الأمريكية في 5 أكتوبر 2023.

 

ولذلك فحماية الأنواع من الحيوانات المهاجرة والمستوطنة بحاجة إلى جهود وتنسيق دولي مشترك، وتعاون بين كافة دول وشعوب العالم على منع كل العوامل التي تؤدي إلى انخفاض أعدادها، فلهذه الأنواع المهاجرة فوائد ومنافع كثيرة تنعكس على كوكبنا وعلى جميع شعوب العالم، فهي المؤشر الحيوي المشهود للجميع على سلامة وفاعلية الأنظمة البيئية للكرة الأرضية، كما هي الدليل العملي الذي يشير إلى أن كوكبنا عليل ومصاب بالأسقام، أو أنه سليم وخالي من الأمراض.

 

الجمعة، 8 مارس 2024

البيئة في أولمبياد باريس


أعلنتْ الجهة المنظمة عن إقامة الألعاب الأولمبية والبارالمبية في 15 فبراير 2024 والتي ستعقد في باريس في الفترة من 26 يوليو إلى 11 أغسطس 2024 بأن جميع الميداليات والهدايا التذكارية، إضافة إلى الشعلة الأولمبية ستكون مصنوعة من مخلفات المعادن، وبالتحديد من أعمال الصيانة والترميم لبرج إيفل، حيث تمت معالجتها، ثم تدويرها وإعادة استخدامها.

كما جاء في الإعلان بأنها ستشتمل على تصميم وإنتاج 5000 جائزة من ميداليات وغيرها من هذه المخلفات الحديدية التي ستُقطع على شكل سداسي الأضلاع وتحتوي على صورة لبرج إيفل، حيث تقوم بتصميمها وتصنيعها شركة "برنارد أرنلت"(Bernard Arnault)، إضافة إلى بعض كبريات الشركات الفرنسية المعروفة في الموضة على المستوى الدولي مثل لويس فيتون، وديور، وبرليتي، وتيفني، وبلجاري، وتشامت.

كذلك ستقوم الجهة المنظمة أيضاً بصناعة مقاعد الملاعب من المخلفات البلاستيكية التي تَنْتج من المدن الفرنسية. ومثل هذه السياسات والأعمال المتمثلة في منع، أو خفض، أو تدوير وإعادة استخدام المخلفات في مرافق الألعاب الأولمبية، إضافة إلى استخدام مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة في توليد الكهرباء وفي وسائل المواصلات، وتوسعة الرقعة الخضراء لامتصاص ملوثات الهواء الجوي وغيرها من البرامج والإجراءات البيئية تأتي ليست حباً في البيئة وحماية مواردها وثرواتها الطبيعية فقط، وإنما تنفيذاً لمتطلبات واستحقاقات استضافة وإقامة هذه المنافسات الرياضية الدولية، حسب اشتراطات اللجنة الأولمبية الدولية.  

فهذه الممارسات البيئية في الأحداث الرياضية الأولمبية تؤكد بأن البيئة لم تَعُد اليوم عنصراً هامشياً من عناصر إتمام الملف الذي تنوي أية دولة تقديمه عند الرغبة في استضافة أي حدث رياضي على كافة المستويات الدولية والإقليمية، ولا تعتبر البيئة الآن قضية اختيارية لمن يرغب أن يُدخلها ضمن ملف التقديم، وإنما تحولت إلى عنصر محوري وجوهري لكل دولة تريد أن تنجح في اقناع المسؤولين عن أهليتها وقدرتها وكفاءتها في استضافة الأحداث الرياضية، سواء أكانت على مستوى كأس العالم في كرة القدم، أو الألعاب الأولمبية الصيفية والشتوية، فالعامل البيئي أصبح ذات أهمية كبرى، ومن العوامل الرئيسة والقوية لمنح استضافة الألعاب الرياضية العالمية ومن أسباب نجاحها.

فالجانب البيئي يدخل ضمن تحقيق "الاستدامة"، أو ما يُعرف بالتنمية المستدامة الذي تعمل كل دول العالم على إنجازها في وقت محدد حسب المؤشرات العامة الـ 17 التي وضعتها الأمم المتحدة، ولذلك تم ضم وإدخال البعد البيئي في كل القطاعات التنموية والبرامج والأحداث الدولية، ومنها المنافسات والمناسبات الرياضية. فالبيئة تشمل حماية الموارد والثروات الطبيعية الحية وغير الحية نوعاً وكماً، مثل الثروة المائية، ومصادر الطاقة، والثروة الحيوية النباتية والحيوانية، والبيئة تعني منع أو خفض إنتاج المخلفات بجميع أنواعها الصلبة، والسائلة، والغازية، ولذلك فالأحداث الرياضية يجب أن تتصدي لكل هذه القضايا، وتعمل على معالجتها أثناء الحدث.

وقد انتبهت اللجنة الأولمبية الدولية إلى أهمية إدخال الجانب البيئي في كافة أنشطة وبرامج اللجنة والاتحادات الدولية والإقليمية والقومية، فعملت على فَرْض العنصر والعامل البيئي ووضعه على رأس أولوياتها، لِما للأنشطة الرياضية الكبرى من تأثير سلبي عقيم على الموارد البيئية، ولذلك فقد دخلت البيئة في ملفات الدول التي ترغب في استضافة أي حدث رياضي عالمي، بحيث تقوم هذه الدول بإقناع اللجنة المعنية باختيار الدول المستضيفة لأي حدث على الجهود التي ستبذلها في حماية البيئة، فتُقدم كافة البرامج والأنشطة والإجراءات التي تنوي اتخاذها وإقامتها أثناء المنافسات.

فقد بدأت اللجنة الأولمبية الدولية بمبادراتها البيئية بدءاً من عام 1992 عندما وقعت في برشلونه على ميثاق الأرض، أو اعلان ريو الذي تمخض عن قمة الأرض التاريخية التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، ثم في عام 1995 وقَّعت اتفاقيةْ تعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهي الجهة الأممية المعنية بالبيئة. وفي يوليو 1996 وافقت الحركة الأولمبية على تعديل الدستور الأولمبي ليتضمن بُعداً وركناً ثالثاً جديداً هو الركن البيئي، إضافة إلى الركنين السابقين، وهما الرياضة والثقافة. وفي ديسمبر 1995 شكَّلتْ اللجنة الأولمبية الدولية لجنة دولية متخصصة للاهتمام بالركن البيئي تحت اسم "لجنة الرياضة والبيئة"، حيثُ قمتُ بتشكيل هذه اللجنة أيضاً في البحرين كإحدى اللجان العاملة في اللجنة الأولمبية البحرينية عام 1998 وكنتُ رئيساً لها، كما قمتُ بتأليف كتاب متخصص يشمل جميع الجوانب المتعلقة بتأثير الرياضة على البيئة من جهة، وتأثير نوعية وجودة البيئة على الرياضة وعلى أداء الرياضي أثناء المنافسات، حيث صدر الكتاب في يناير 1999 تحت عنوان: "الرياضة والبيئة".

كذلك من الجهود التي قامت بها اللجنة الأولمبية الدولية هي اصدار دليل خاص يساعد الدول عند تقديمها للملف الخاص باستضافة البرامج الأولمبية، ويشتمل على خمسة محاور في البيئة ومواردها، كما يلي:

أولاً: ترشيد استهلاك الطاقة واستعمال مصادر متجددة ونظيفة للطاقة.

ثانياً: ترشيد استهلاك الثروة المائية، وحمايتها من التدهور من الناحيتين الكمية والنوعية.

ثالثاً: منع وخفض وتدوير المخلفات الصلبة.

رابعاً: حماية صحة الإنسان من خلال وضع معايير خاصة لنوعية الهواء والماء والتربة.

خامساً: حماية الثروات البيئية والثقافية الطبيعية.

وبعد هذه المبادرات البيئية التي تبنتها اللجنة الأولمبية الدولية وعمَّمتها على كل دول العالم، أصبحت الدول الآن عند تقديمها لطلب استضافة أي حدث رياضي على كافة المستويات، تتنافس وتتسابق في تقديم ما هو الأفضل للبيئة والأكثر حماية لمواردها وثرواتها الطبيعية الحية وغير الحية، فالمحافظة على البيئة، وبالتحديد جودة الهواء تُعتبر من أهم عوامل نجاح الدورة الرياضية بسبب توفير البيئة الخالية من التلوث، والتي تؤدي إلى تحطيم المتسابقين للأرقام القياسية السابقة.

الثلاثاء، 5 مارس 2024

الحدائق وصفة طبية لعلاج الأمراض

 

استغربتُ كثيراً من قرار مجلس بلدية الشمالية في 8 يناير 2024 بتحويل قطعة أرض مخصصة لإنشاء حديقة ومنطقة خضراء يتنفس فيها الناس الهواء العليل الصافي، ويقضون وقتاً ممتعاً صحياً مع الطبيعة وجمالها ونقائها إلى مواقف ميتة صماء للسيارات، لا روح فيها ولا حياة، فتُصلب القلب، وتؤذي النفس، وتتعب البدن.

 

وهذا القرار يشير إلى أن البحرين وكأنها تحولت إلى مروجٍ خضراء، وحدائق غناء مترامية الأطراف وواسعة وموجودة في كل محافظات البلاد، بحيث إننا يمكننا الاستغناء عن أية قطعة أرض لتحويلها إلى استخدام آخر، فقد اكتفينا الآن من إنشاء المتنزهات والمساحات الخضراء ولا داعي لحديقة أخرى تُضاف إلى باقي الحدائق.

 

وهذا القرار ليس له مردودات بيئية وجمالية سلبية فحسب، وإنما انعكاسات صحية تهدد أمننا الصحي، وتفاقم من تعرضنا للأسقام الجسدية والنفسية والعقلية، وبخاصة عندما يتربى الأطفال في بيئة لا يرى فيها سوى الخرسانات المسلحة الإسمنتية الصماء، والأعمدة الحديدة الجوفاء، والمباني البكماء، ولا يتعرض إلا لملوثات السيارات السامة والمسببة للسرطان.

 

وليس هذا من باب المبالغة أو المزايدة في أهمية الحدائق وضرورة وجودها في مناطق البحرين المختلفة، وإنما أجمعتْ الدراسات العلمية قديماً وحديثاً، ووثقتْ أهميتها الصحية الواقعية من خلال الدراسات الميدانية والسريرية، ودورها في استدامة حياة سليمة خالية من الأمراض المزمنة للناس.

 

فهناك دراسة نُشرت في 4 يناير 2024 وتؤكد دور المساحات الخضراء بمختلف أنواعها من حدائق ومتنزهات وسواحل بحرية في تنمية واستدامة الصحة العامة للناس، وبخاصة الأطفال. وهذه الدراسة الحديثة تناولت جانباً مهماً وحيوياً متعلقاً بصحة الطفل، فركزت على قياس كثافة المعادن في العظام عند الأطفال الذين هم في عمر يتراوح بين 4 و 6 سنوات. فمن المعروف أن كتلة العظام تتكون من حجم العظم والكثافة المعدنية، وهما يحددان قوة العظم على مدى حياة الإنسان، وهذه الكتلة تصل إلى ذروة نموها وبنائها وقوتها في سن المراهقة، أي تقريباً سن العشرين. وقد أفادت الدراسات الطبية على أن هناك عدة عوامل لها علاقة ببناء ونمو العظام أثناء فترة الطفولة والمراهقة، وهي نوع وكمية الغذاء، وبخاصة الأنواع التي تحتوي على العنصر الرئيس في بناء العظام القوية وهو الكالسيوم، إضافة على العامل المتعلق بممارسة الأنشطة الرياضية، والجينات الوراثية التي يحملها الطفل.

 

وهذه الدراسة الحديثة هدفت إلى التعرف على دور عامل آخر في بناء العظام القوية والمستدامة وهو أن يعيش الإنسان فترة الطفولة في بيئة طبيعية فطرية، فتُحيط به المساحات الخضراء الغناء المريحة للقلب والنفس، من حدائق، وغابات، ومتنزهات، وسواحل بحرية. فحاولت الدراسة الإجابة عن السؤال التالي: هل هناك علاقة بين العيش في بيئة خضراء ومنطقة أشجار وحشائش في سن الطفولة وكثافة المعادن في العظام، والتي تعتبر من المؤشرات الأساسية لقوة العظام؟

 

وقد نُشرت نتائج وتفاصيل الدراسة في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية(الشبكة المفتوحة)(Journal of American Medical Association) تحت عنوان: "التعرض للمساحات الخضراء في موقع السكن وكثافة المعادن في العظام لدى الأطفال الصغار". وقد أُجريت الدراسة في بلجيكا واستغرقت قرابة سبع سنوات وشملت 327 طفلاً من الذكور والإناث.

 

وقد توصلت إلى عدة استنتاجات مهمة، كما يلي:

الأول: أن هناك علاقة إيجابية بين أن يعيش الطفل مراحل حياته الأولى في مناطق خضراء تحفها الأشجار الغناء وارتفاع كثافة المعادن في عظامه، أي زيادة كتلة العظام في جسمه، مما يعني قوتها ومقاومتها للكسور وهشاشة العظام في السنوات القادمة من عمره.

ثانياً: كلما ابتعد الطفل في حياته اليومية عن التعرض لهذه البيئات الطبيعية والمساحات الخضراء، انخفضت عنده كثافة المعادن في العظام، مما يعني ضعفها وهشاشتها مع الوقت، وانعكاسها مستقبلاً على صحته ومخاطر التعرض والسقوط في أمراض مزمنة.

ثالثاً: قضاء أوقات يومياً منذ الطفولة في المناطق الخضراء والحدائق له مردودات طويلة الأمد تنعكس ايجابياً على الصحة العقلية والنفسية والجسمية. 

 

وعلاوة على هذه الدراسة فإن هناك أبحاثاً أخرى سابقة دخلت في مجال العلاقة بين الطبيعة والمناطق الخضراء والبيئات الفطرية وأحد الجوانب الصحية للإنسان، سواء أكان الجانب الجسدي الفسيولوجي، أو الجانب النفسي والعقلي والذهني، وجميع هذه الأبحاث أجمعت على وجود علاقة بين أن يعيش الإنسان فترة من حياته اليومية في المواقع الخضراء واستدامة سلامة صحته الجسمية والنفسية والعقلية.

 

فعلى سبيل المثال، هناك دراسة منشورة في أكتوبر 2021 في مجلة "استدامة الطبيعة"(Nature Sustainability) وشملت عينة من 3568 مراهقاً تتراوح أعمارهم بين 9 و 15 عاماً يعيشون في لندن، واستغرقت الدراسة 4 سنوات. وقد أثبتت بأن الأطفال الذين يعيشون بالقرب من المتنزهات والغابات الخضراء يتمتعون بصحة عقلية وذهنية وإدراكية أفضل من غيرهم من الذين يعيشون بعيداً عن الحدائق والمساحات الخضراء.  كذلك يكون هؤلاء الأطفال أفضل في التحصيل الدراسي، والنمو الذهني والعقلي، وتنخفض عندهم مخاطر التعرض للمشكلات العاطفية والسلوكية. فكلما تعرض الطفل لساعات أكثر وقضاها في المناطق والمساحات الخضراء ارتفعت عنده القدرات الذهنية وانخفضت مشكلاته السلوكية والعاطفية.

 

كذلك هناك الدراسة المنشورة في أكتوبر 2021 في مجلة اللانست الطبية الدولية المرموقة(THE LANCET Planetary Health) تحت عنوان: " تقييم العلاقة بين التعرض مدى الحياة للمساحات الخضراء وتنمية الطفولة المبكرة وتأثيرات تلوث الهواء والضوضاء في كندا: دراسة أترابية للمواليد على أساس السكان". وقد تكونت عينة الدراسة من 37745 طفلاً يعيشون في مدينة فانكوفر الكندية وتم متابعتهم لمدة 5 سنوات. وأما الاستنتاجات العامة التي تمخضت عن الدراسة فتصب في أن هناك علاقة بين تحسن نمو الطفل ذهنياً وعقلياً وهو في سنٍ مبكرة والعيش بالقرب من مساحات خضراء، فزيادة المساحة الخضراء بالقرب من السكن، رفعت من القدرات الذهنية للطفل عند أدائه للامتحانات التي تقيس هذه القدرات، وهذه المساحات الخضراء تخفف من التأثيرات السلبية الناجمة عن التعرض لتلوث الهواء، وبخاصة غاز ثاني أكسيد النيتروجين. وأوصت الدراسة بضرورة تخصيص مواقع كثيرة ومساحات واسعة ضمن المنطقة الحضرية للحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء الأخرى لما لها من تأثيرات صحية كبيرة على الأمن الصحي للأطفال والكبار على حدٍ سواء.

 

 فجميع هذه الدراسات تُقدم الدليل الشافي والكافي بأن كثرة وجود الحدائق والمساحات الخضراء بالقرب من المجمعات السكنية لها تأثيرات على كافة الجوانب الصحية للإنسان، فهي تعتبر وصفة طبية دوائية لعلاج أمراض كثيرة، وتبدأ من المهد إلى اللحد. فعلى كافة الوزارات والهيئات الحكومية، سواء أكانت وزارة الصحة، أو البيئة، أو التخطيط الحضري والبلديات، أو الهيئات الرياضية إعطاء قضية تخصيص مساحات خضراء في البحرين في كل المحافظات أهمية كبيرة وعدم التهاون فيها وتجاهلها.