الثلاثاء، 27 مارس 2012

حماية البيئة ترف يمكن تأجيله


جورج أوزبورن، وزير المالية البريطاني والذي يعتبر مَنصبه من أعرق وأهم المناصب الحكومية بعد رئيس الوزراء، يُصرح تصريحاً غريباً لا يتناسب مع القرن الحادي والعشرين ولا يليق بدولة كبريطانيا العظمى، وأَعتَبرهُ من التصريحات البالية التي قد يُدلي بها مسئول حكومي في العقد الرابع من القرن العشرين وليس في القرن الحادي والعشرين.

فقد قال مؤخراً: “إن السياسات البيئية ترف يمكن تحمله فقط عندما تكون الظروف جيدة”، كما أضاف قائلاً:"إنني قلق من التأثيرات المُركبة للسياسات البيئية على بريطانيا والاتحاد الأوروبي.... وهذه السياسات تؤدي إلى تدهور الاقتصاد وفقدان الوظائف وستصبح بريطانيا أكثر فَقْراً”، ثم زاد وزير المالية البريطاني من انتقاده للأنظمة والسياسات البيئية واعتبرها "عبئاً” على الاقتصاد والشركات والمصانع البريطانية، وقال بأنها كُلفة سخيفة” تتحملها هذه الشركات.

ولا شك بأن هذه التصريحات الخطرة من رجل يَرسم السياسات المالية لدولة عظمى مثل بريطانيا لا تنعكس فقط على السياسات البيئية البريطانية، بل تتعدى المستوى الوطني إلى المستوى الإقليمي المتمثل في الاتحاد الأوروبي والمستوى الدولي من خلال المعاهدات البيئية الدولية التي تأتي تحت مظلة الأمم المتحدة.

أما على المستوى المحلي، فإن هذه التصريحات أعطت الضوء الأخضر لمائة نائب بريطاني من حزب المحافظين للتوقيع على عريضة رُفعت إلى رئيس الوزراء، يدعون فيها إلى رفع الدعم عن برامج طاقة الرياح والطاقة الشمسية، مما يشير إلى تغير سياسة بريطانيا نحو برامج الطاقة النظيفة ومصادر الطاقة المتجددة التي لا تلوث البيئة.

كما أن هذه التصريحات والعريضة البرلمانية انعكست أيضاً على المستثمرين في مجال الطاقة النظيفة المتجددة في بريطانيا وخارج بريطانيا، فهم الآن في ترددٍ وتخوف من وضع أموالهم للاستثمار في هذا المجال، مما قد ينجم عنه مع الزمن عزوف رؤوس الأموال عن الاستثمار في مصادر الطاقة الخضراء، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي لا تنبعث عنها الملوثات.

وأما على المستوى الأوروبي فقد نقلت صحيفة الجاردين في 19 مارس 2012 خبراً عن قيام ألمانيا بخفض الدعم الحكومي عن مشاريع وبرامج الطاقة الشمسية بنحو 30%، وتبعتهم الآن في هذه السياسة فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.


كذلك فإن هذا التوجه في خفض الدعم عن مصادر الطاقة النظيفة وفي وصف السياسات البيئية بأنها عبء على الاقتصاد، نسمعها أيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية. فالتصريحات التي جاءت عبر المحيط، وبخاصة من القادة الجمهوريين تسير على المنهج نفسه من اعتبار الأنظمة البيئية مُقيدة لرجال الأعمال وتفرض عليهم أعباء إضافية لا يستطيعون تحملها. فقد وصف الكثير من رجال السياسة التشريعات البيئية بأنها “قاتلة للوظائف” وتؤدي إلى تدهور الاقتصاد في جميع ولايات أمريكا، بل وأنهم وصفوا وكالة حماية البيئة بأنها “منظمة أمريكية تقتل الوظائف”.

وهذه التوجهات على المستوى الدولي تشير إلى الإنسان بدأ يتقهقر في دفاعه عن القضايا البيئية الرئيسة، وأخذ يرجع إلى الوراء أكثر من قرن في رؤيته تجاه البيئة وقضاياها المصيرية، وهذه الحالة التي أشاهدها أمامي تؤكد لي أن رجل السياسة لا يهتم بالجانب البيئي بقدر اهتمامه بالجانب الاقتصادي، فالاقتصاد هو المحرك الأول الذي يحدد سياساته العامة، والاقتصاد هو الحافز لكل برنامج يضعه عندما يكون في منصبٍ سياسي في أية دولة من الدول، غربية كانت أم شرقية، متقدمة كانت أم نامية.

فكما كان للبعد الاقتصادي الأولوية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فستكون الأولوية أيضاً للجانب الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين والقرون القادمة.

الأربعاء، 21 مارس 2012

التهديد بالقتل


بالرغم من أن أننا قد ولجنا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والذي من المفروض أن يرتقي الإنسان بفكره وسلوكه فيرفع من درجة تحمله للآخرين وللرأي الآخر، إلا إن ما أشاهده هو عكس ذلك.

فكلما اختلف الإنسان مع أخيه الإنسان في الفكر والرأي، تَلقى تهديدات بالقتل والتصفية الجسدية له ولأسرته، أو في الأقل تشويه سمعته وإعلان الحرب الكلامية والنفسية عليه، وليس هذا في المجالين الديني والسياسي فحسب، وإنما بلغ هذا الأسلوب في التعامل المجال البيئي والعلمي إلى حدٍ سواء.

فأحد علماء تغير المناخ الأمريكيين يقع اليوم ضحية للإرهاب الفكري فيتلقى مكالمات تهدد سلامة حياته وحياة أسرته، ويتعرض لأبشع أنواع الحملات الإعلامية ضد مواقفه العلمية، وتَصل إليه بين الحين والآخر رسائل الحقد والكراهية، بل ومُورست عليه حرب اقتصادية تمثلت في قطع المعونات التي يحصل عليها لإجراء الأبحاث والدراسات المناخية. وعلاوة على ذلك كله فقد تلقى في أحد الأيام ظرفاً بريدياً يحمل بداخله مسحوقاً مجهول الهوية، مما اضطره إلى الاتصال بمكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) لفتح الظرف والتحقق من المسحوق الموجود فيه.
   
هذا العالِم هو مايكل مان الذي أكد على مصداقية كل التهديدات والمضايقات المستمرة التي يتعرض لها من خلال مقابلة صحفية أُجريتْ معه في جريدة الجاردين في 3 مارس 2012، حيث قال بأن أبحاثه التي أثبت فيها ارتفاع درجة حرارة الأرض، لم تعجب بعض الفئات المعارضة للتغير المناخي والتي تنكر مساهمة أنشطة الإنسان في رفع درجة حرارة الأرض، فتحول إلى فريسة لهم يريدون التهامها وهدفاً لحملاتهم الإعلامية.   

هذا العالم هو صاحب نظرية مضرب أو عصا الهوكي، وألف كتاباً ليثبت آراءه ومعتقداته تحت عنوان: “عصا الهوكي وحروب المناخ”، حيث بين فيه المضايقات والتهديدات التي يلقاها العالم الذي يبحث عن الحقيقة العلمية فيقدمها للمجتمع البشري دون مجاملة أو محاباة لأحد أو تحوير للنتائج لتتوافق مع السياسات. كما يقول هذا العالم في كتابه أن من بين الأساليب المُشينة وغير الأخلاقية التي استخدمت ضده هي سرقة بعض الرسائل الإلكترونية ومحاولة تحويرها ونشرها عبر وسائل الإعلام، وبالتحديد قبيل مؤتمرات الأمم المتحدة حول التغير المناخي، وذلك من أجل تغيير آراء واتجاهات الحكومات حول التغير المناخي وصدهم عن الوصول إلى اتفاقيات دولية ملزمة، ويصف العالم هذا العمل بأنه:“جريمة ضد الإنسانية، جريمة ضد كوكبنا ”.

والجدير بالذكر أن هناك سياسيين وشركات صناعية كبرى كشركات البترول والفحم التي تقف ضد كل عالِمٍ يُثبت دور المصانع في رفع درجة حرارة الأرض، وهذه الشركات تدفع بسخاء إلى كل من يقوم بأبحاث مضادة تثبت عكس ذلك، كما تُنظم المؤتمرات بهدف زعزعة ثقة الناس بواقعية التغير المناخي. وإضافة إلى ذلك، تقوم هذه الشركات بدعم بعض المؤسسات العلمية للعمل على إثارة الشكوك حول دور الإنسان في رفع درجة حرارة الأرض، وقد قام مؤخراً معهد هارتلند الأمريكي المعروف بإنكاره للتغير المناخي وبشكلٍ سري بتخصيص زهاء 14 مليون دولار لتصميم مناهج دراسية موجهة للتلاميذ، تهدف إلى زرع الشكوك في نفوس الناشئة والأجيال القادمة، وترسيخ الرأي عند عامة الناس بعدم وجود دورٍ مشهود للإنسان في التغير المناخي. 

وهكذا نجد أن الشركات الكبرى في كل مكان لا يهمها إلا الربح الكثير والسريع وعلى حساب كل شيء، وقد يلجئون في تحقيق ذلك إلى استخدام العنف والاغتيال إذا لزم الأمر ذلك.


الخميس، 15 مارس 2012

العميل البرتقالي


العميل البرتقالي تلألأ نجمه وذاعت شهرته أثناء الحرب الأمريكية على فيتنام، ولكن نجومية هذا العميل لم تأْفل بعد، فهذا العميل مازال على لسان المسئولين في الدول التي شاركت في الحرب، ومازالت وسائل الإعلام تتذكره وتكتب عنه، ومازالت المحاكم الأمريكية تكتظ بالدعاوى المرفوعة ضد العميل البرتقالي حتى يومنا هذا.

فالعميل البرتقالي أُطلق على نوعٍ من المبيدات استخدمه الجيش الأمريكي، ورش بالطائرات ملايين الجالونات فوق الغابات الكثيفة التي كان يختبئ بداخلها المقاومين الفيتناميين، فيقوم هذا المبيد بالقضاء على هذه الغابات فينكشف المحارب الفيتنامي من تحتها، فيقومون بقتله بالطائرات العمودية أو الجنود الأمريكيين المشاة الذين يتربصون خروجه من مخبئه.

وتتمثل خطورة هذا العميل في احتوائه على ملوثٍ خطير جداً، ويُعد هذا الملوث الذي يُعرف علمياً بمركبات “الديكسين” من أشد المركبات الكيميائية سُمية وتدميراً لصحة الإنسان، فهي ملوثات ثابتة لا تتحلل، وبالتالي لها القدرة على التراكم في مكونات البيئة ثم الانتقال إلى أعضاء جسم الإنسان والتركيز في الشحوم والدهون وإصابته بأمراض مزمنة.

ولذلك فإن هذا العميل الذي قتل الفيتنامي أثناء الحرب، أصبح الآن يُمِيت الأمريكي بعد انتهاء الحرب ولكنه موتاً بطيئاً وبعد معاناة طويلة مع المرض، وبات هذا العميل يُشكل كابوساً مرعباً يلاحق أمريكا والجنود الذين تعرضوا له، سواء أكانوا محاربين أو جنود آخرين يقومون بعمليات فتح براميل العميل البرتقالي أو التخلص منه بعد الانتهاء من استعماله في قواعد عسكرية في اليابان أو الفيتنام، بل وإن هذا العميل البرتقالي شكل تهديداً لصحة المواطنين الأمريكيين الذين كانوا يعيشون بالقرب من المصنع الذي ينتج هذا المبيد الخطر.

أما في اليابان فقد كشفت الصحف اليابانية مثل صحيفة اليابان تايمس عن أقوال شهود عيان من الجنود الأمريكيين عن وجود براميل العميل البرتقالي التي تم شحنها من فيتنام ودفنها في مواقع عسكرية أمريكية في جزيرة أوكيناوا اليابانية في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، عندما كانت تحت الاحتلال الأمريكي.

وقد قام هؤلاء الجنود الذين تعرضوا للديكسين أثناء تفريغ ونقل ودفن مئات البراميل من العميل البرتقالي برفع دعوى قضائية لتعويضهم للأضرار الصحية التي لحقت بهم، حيث وافقت وزارة شؤون المحاربين القدماء الأمريكية على تعويضهم مالياً وعلاجهم صحياً. ونظراً لكثرة الدعاوى المرفوعة حول هذه القضية، فقد قامت أمريكا بسن قانونٍ خاص تحت عنوان “قانون العميل البرتقالي”.

ومن جانب آخر، هناك قضية قد رُفعت من سكان منطقة نايترو المعروفة بصناعة القنابل في القرن المنصرم والواقعة في ولاية وست فيرجينيا، حيث تعرض هؤلاء السكان بشكلٍ مباشر للعميل البرتقالي عندما كانوا يعيشون بالقرب من مصنع لشركة مونسانتو في الفترة من 1949 إلى 1971، وكان هذا المصنع يُنتج العميل البرتقالي الذي استخدم في حرب فيتنام.

وقد كسب سكان المدينة هذه القضية في 24 فبراير 2012، ووافقت مونسانتو على إنشاء صندوق بمبلغ إجمالي قدره 93 مليون دولار لتأسيس برنامج صحي شامل للسكان لمدة ثلاثين عاماً.

ولذلك نجد أنه بالرغم من انتهاء حرب فيتنام قبل قرابة أربعين عاماً، إلا أن تداعياتها الصحية، والبيئية، والاجتماعية، والاقتصادية، والنفسية ستبقى تُلاحق ضمير ووجدان الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل يوم تنكشف قضية جديدة لها علاقة مباشرة بالحرب.



الجمعة، 9 مارس 2012

إلقاء بقايا الأمريكيين مع المخلفات

أَجمعتْ الصحف الأمريكية والبريطانية ومحطات التلفاز الرئيسة في 29 فبراير 2012 على التعليق على خبرٍ جاء تحت عنوان: “بقايا ضحايا كارثة الحادي عشر من سبتمبر تم التخلص منها في مواقع دفن المخلفات”. وقد تم نقل هذا الخبر عبر المؤتمر الصحفي الذي دعا إليه الجنرال المتقاعد في الجيش الأمريكي جون أبي زيد القائد المعروف للقوات الأمريكية أثناء حرب الخليج.

وهذا الخبر الجديد مرتبط بمقالٍ كتبته في 27 نوفمبر 2011 حول مصير بقايا الجنود الأمريكيين الذين قاتلوا في العراق وأفغانستان، حيث كانت تُحرق في قاعدة دوفر للقوات الجوية العسكرية، ثم تقوم إحدى الشركات المتخصصة في التخلص من المخلفات برميها في موقعٍ لدفن القمامة.

فبعد فضح هذه الممارسات اللامسؤولة وغير الإنسانية التي كانت تجري في قاعدة دوفر من قبل صحيفة الواشنطن بوست في 10 نوفمبر 2011 من خلال المقال تحت عنوان:“الخـِزْي، الجيش الأمريكي يرمي أجسام الموتى من الجنود في مواقع الدفن”، اضطر وزير الدفاع ليون بانيته في 22 نوفمبر إلى تشكيل لجنة مستقلة برآسة جون أبي زيد تهدف إلى التحقيق في الممارسات التي كانت تجري في القاعدة الجوية في كيفية التعامل مع بقايا جثث الجنود.

وقبل انتهاء هذه اللجنة من مهمتها، ثارت الشكوك أيضاً حول أسلوب التعامل مع بقايا ضحايا كارثة الحادي عشر من سبتمبر، فقام العديد من أعضاء الكونجرس بالضغط على وزير الدفاع للكشف عن مصير ضحايا الكارثة، ومن بينهم النائب الديمقراطي رش هولت، الذي أرسل خطاباً إلى وزير الدفاع في 6 فبراير من العام الجاري وقال فيه: “هل تستطيع القوات الجوية التأكيد على أن بقايا ضحايا الحادي عشر من سبتمبر لم يتم حرقهم وخلطهم مع المخلفات الطبية، ثم دفنهم في مواقع دفن المخلفات؟”.

والآن كشفت اللجنة المختصة بالتحقيق في ممارسات قاعدة دوفر الجوية، أن مثل هذه التصرفات المشينة ببقايا الجثث شملت أيضاً ضحايا كارثة الحادي عشر من سبتمبر، حيث تم حرقهم والتخلص منهم برميهم مع المخلفات، كما أكدت اللجنة المستقلة أن المسئولين في القاعدة يتعاملون مع بقايا جثث الجنود وغيرهم منذ أكثر من ثمانية أعوام بهذا الأسلوب السيء الذي لا يعطي أي احترامٍ أو تقدير لبقايا الجنود الذين ضحوا بأجسادهم وأرواحهم فداءً للوطن ودفاعاً عن حرماته.

ونظراً لهول هذه القضية واستياء الرأي العام الأمريكي بها، وبخاصة عوائل وأصدقاء الضحايا، فقد اعترف وزير القوات الجوية مايكل دونلي بهذه التصرفات الخاطئة وقال: “نحن نعبر عن أسفنا على الأسى الذي سببناه للعوائل بعدم التعامل مع بقايا الجثث بطريقة مثالية أو بما لا يتوافق مع المعايير”.

كما أن البيت البيض الأمريكي لم يكن بعيداً عن هذه الفضيحة واضطر أن يبدي رأيه فيها، حيث قال الرئيس أوباما عبر بيانٍ للبيت الأبيض نشر في 28 فبراير، عَبَّر فيه عن قلقه العميق، وجاء فيه اعتراف واضح عن ما أَطلق عليه:“التعامل غير المقبول لبقايا المواطنين في قاعدة دوفر الجوية”، كما ورد في البيان أيضاً أنَّ: “هناك مسؤولية على الولايات المتحدة الأمريكية في العناية بشكلٍ مهني وعاطفي مع الجنود الذين يسقطون أثناء تأدية مهماتهم، ومع الذين فَقَدناهم أثناء كارثة الحادي عشر من سبتمبر”.

وهكذا وبين الحين والآخر تكشف وسائل الإعلام الأمريكية نفسها عن فضائح وممارسات مشينة يرتكبها رجال السياسة والعسكريين في واشنطن دي سي، ليس على شعوب العالم فحسب وإنما على الشعب الأمريكي نفسه، فهل ينتظر الحكام والشعوب من البيت الأبيض معاملة خاصة تقف مع مصالحهم وقضاياهم؟