الخميس، 30 أغسطس 2012

إذا أردتَ معرفة الوضع الاقتصادي فابحث في وضع المخلفات


هناك مؤشرات وضعها علماء الاقتصاد ليتعرفوا فيها على الوضع الاقتصادي للدول، ويدرسوا من خلالها حالة الاقتصاد من حيث تحسنها أو تدهورها على مستوى الدولة نفسها أو على المستوى العالمي.

وفي المقابل هناك مؤشرات بيئية يمكن أيضاً عن طريقها دراسة الحالة الاقتصادية للدولة والناس والتعرف على صحتها وازدهارها ونموها، أو انكماشها وركودها وضعفها على المستويين الفردي والجماعي.

ومن هذه المؤشرات البيئية التي تعطي معلومات موثقة عن حالة الاقتصاد هي كمية ونوعية المخلفات التي تَنتج من الأنشطة المختلفة للدولة برمتها سواء أكانت أنشطة تجارية أم صناعية أم تعميرية، إضافة إلى كمية ونوعية المخلفات الصلبة أو القمامة المنزلية التي تنتج من المواطن نفسه. فكمية ونوعية المخلفات الصلبة التي ينتجها الفرد من منزله، أو مكتبه، أو مؤسسته، وكمية ونوعية المخلفات التي تنتج عن الدولة بمجموعها هي دليل ملموس على الوضع الاقتصادي للدولة ومستوى أدائها العام ومدى قوتها أو ضعفها، كما هي مؤشر مفيد جداً لقياس درجة النشاط الاقتصادي في الدولة، إضافة إلى أنها مؤشر صحيح يقيس الحالة الاقتصادية التي يعيشها الناس أيضاً في تلك الدولة وأسلوب حياتهم وأنماط استهلاكهم اليومي.

فالدراسات الميدانية تؤكد على أنه كلما تحسن الوضع الاقتصادي للدولة وزاد الدخل المادي للفرد وارتفعت وتيرة التنمية وزادت الأنشطة التي تقوم بها الدولة، كلما زاد إنتاج الفرد والدولة للمخلفات، أي أن هناك علاقة طردية بين الأداء الاقتصادي للدولة وتحسن الحالة الاقتصادية للفرد وكمية المخلفات التي تُلقي في مواقع الدفن.

وقد أشار إلى هذه الحقيقة العالم الاقتصادي المعروف مايكل ماكدونف(Michael McDonough) الذي نشر مقالاً في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في 20 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان "ماذا تُخبرنا القمامة عن الاقتصاد الأمريكي؟"، ووضع في المقال رسماً بيانياً يؤكد العلاقة بين الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية(GDP)، وهو المؤشر الذي يقيس النمو والأداء الاقتصادي وقوة اقتصاد الدولة، وبين كمية المخلفات التي تنتجها الدولة وتنتهي في نهاية المطاف في مواقع دفن المخلفات، حيث أفاد بأنه كلما نما الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا وتحسن الأداء الاقتصادي، كلما زادت تبعاً له أحجام المخلفات التي تنقل إلى مواقع الدفن، وفي المقابل كلما انخفض الناتج المحلي الإجمالي وضعف الاقتصاد وأصابه الركود، كلما قلت كمية المخلفات الصلبة.

كذلك فإن نوعية المخلفات التي تنتج من الفرد والدولة دليل آخر على الوضع الاقتصادي، ومؤشر على مدى قوة أو ضعف الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، كلما زادت كمية المخلفات الالكترونية وعلى رأسها مخلفات أجهزة الحاسب الآلي أو الكمبيوتر، سواء أكان الكمبيوتر المنزلي أو الكمبيوتر المحمول، إضافة إلى أجهزة الطباعة وأجهزة الآي باد وغيرها، كلما أشر ذلك ودَل على ازدهار الاقتصاد وتحسن الأحوال المالية والمعيشية للأفراد. فمن المعروف أن الأجهزة الإلكترونية، وبخاصة أنواع الكمبيوتر المختلفة، تُعد من المستلزمات الغالية الثمن والباهظة التكاليف، والدولة الفقيرة أو الفرد ذو الدخل البسيط والمحدود لا يستطيع شراء هذه الأجهزة وامتلاكها، وإذا ما تمكن من شرائها فإنه سيحافظ عليها ولن يلقيها مع المخلفات إلا بعد أن تخرب نهائياً، وييأس من إمكانية إصلاحها، أو أن تصبح لا فائدة علمية منها.

فالمخلفات إذن كنز علمي وثروة متجددة يجب الاستفادة منها وتجنب دفنها كلما أمكن ذلك، فهي مؤشر على الوضع الاقتصادي والسلوكيات الاجتماعية للمجتمعات والأفراد، وهي في الوقت نفسه مواد خام يمكن أن تقوم عليها العديد من الصناعات.

الجمعة، 24 أغسطس 2012

ظاهرة نُفوق القطط



لو كان الموضوع يخص نفوق بعض القطط في منطقة البسيتين في البحرين، ما أعطيت أي اهتمام في الموضوع، وما كتبت عنه، فأعداد القطط في معظم مدن وقرى البحرين كثيرة وهي تسبب مشكلة بيئية تتمثل في شق أكياس القمامة ونثر المخلفات بداخلها، أو الولوج في أعماق الحاويات وبعثرة المخلفات في الطرقات، إضافة إلى أنها تسبب إزعاجاً للمواطنين، فلذلك موت بعض هذه القطط هو من الأمور المطلوبة لتقنين أعدادها وخفض تأثيراتها على النظافة العامة في الشوارع والطرقات، ولكن نفوق القطط بالنسبة لي يعتبر مؤشراً حيوياً على وجود خللٍ ما في البيئة، واكتشاف ومشاهدة هذه الظاهرة غير طبيعية وغير المألوفة للناس تعني ضرورة النظر فيها بعمق وتشخيصها وتحليل أسبابها، فقد تكون هذه الظاهرة كشفاً لمشكلة بيئية وصحية خطيرة قد تصيب الإنسان.

فأي خللٍ في الظواهر البيئية المألوفة والتي تعودنا على رؤيتها آلاف السنين، تعني أن طامة كبرى ستنزل علينا، وأن هناك مشكلة من نوعٍ ما ستصيبنا. فارتفاع درجة حرارة الأرض هي ظاهرة بدأنا نراها ونستشعر بها منذ أكثر من عشرين عاماً، وهذه الظاهرة البسيطة تحولت الآن إلى أكبر معضلةٍ دولية تصيب البشرية، حتى أن رؤساء دول العالم اجتمعوا عدة مرات لمناقشة هذه الظاهرة، وإيجاد الحلول الناجعة لها، كذلك التغير في مواسم هجرة الطيور، أو التغير في أوقاتها هي أيضاً ظاهرة تعني وقوع مشكلة بيئية من نوعٍ ما لا ندري تفاصيلها حتى الآن، وتفتح الأزهار أو سقوط أوراق الأشجار في غير موعدها هي أيضاً ظاهرة تنذر بوقوع معضلة بيئية خطرة، وهكذا بالنسبة لأي تغيرٍ يحدث في الظواهر البيئية التي ألفنها وشاهدها آباؤنا من قبل.

وظاهرة نفوق القطط أيضاً هي قد تعني وجود خللٍ ما في البيئة، وهذا الخلل قد يتعدى القطط فيضرب بالبشر.

وفي الحقيقة فإنني عندما قرأت الخبر المنشور في جريدة أخبار الخليج في 20 أغسطس تحت عنوان "مرض غامض يقتل القطط في البسيتين"، حيث جاء فيه أن بعض القطط لقيت حتفها فجأة بعد أن ظهرت عليها الضعف والهزال في جسمها وأصبحت حركتها بطيئة لا تستطيع الوقوف فتسقط بعدها ميتة.. فإن هذا الخبر أيقظ عندي خبراً قد كتبت عنه مراراً، وأحيى في ذاكرتي المآسي البشرية التي وقعت عندئذٍ، فالخبر يحكي قصة أعظم كارثة بيئية وصحية وقعت في اليابان، بل وفي العالم المعاصر برمته. فالمشهد الأول للخبر يشابه نفوق القطط في البسيتين، حيث لاحظ سكان قريةٍ واقعةٍ على البحر في مدينة ميناماتا في اليابان في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم ظاهرة غريبة انكشفت على القطط في القرية، حيث إنها كانت تقوم بحركات ملفتة للنظر فتدور حول نفسها وتتعثر في مشيتها وكأنها سكارى، ثم تسقط فجأة وتموت، حتى أن سكان القرية أطلقوا عليها برقص القطط، ولم تدم هذه الظاهرة طويلاً حتى بدأت الطامة الكبرى تنزل على سكان القرية عندما شاهدوا أعراضاً مرضية غريبة تصيب الناس، مثل الحمى، وعدم القدرة على الحركة، والشلل الكلي ثم الموت، حتى مات الآلاف منهم، ومرض عشرات الآلاف، مما حيَّر الأطباء والباحثين، وأدخل اليابان في نفق حربٍ عالمية ثالثة أشد وطأة، وأكثر من خسارتها القاسية في الحرب العالمية الثانية.

فهذه الحرب كانت نفسية وصحية جسدية لم يعرف أحد شيئاً عن ماهية العدو، وكيف يضرب، ومتى يُنزل صواريخه وقنابله، وبقي المجتمع الياباني عشرات السنوات ليكتشف أسرار هذا العدو القاهر، حتى حَلَّ اللغز الغامض وكشف خفايا المرض الغريب، فقد تأكد لهم أن أحد المصانع كان يلقي مخلفاته السائلة لسنوات طويلة في خليج ميناماتا، وهذه المخلفات كانت تحتوي على نسبٍ ضئيلة من عنصر الزئبق السام الذي كان يتراكم في الكائنات البحرية مع الوقت، حتى وصل إلى الأسماك، ثم إلى قطط القرية، وأخيراً إلى الإنسان، ولذلك فوجود هذه الظواهر الغريبة على القطط كانت مؤشراً ودليلاً مشهوداً على وجود خللٍ في البيئة، وكانت الإنذار الأول للإنسان لوقوع كارثة بيئية وصحية إلى حدٍ سواء. 

وبالرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على هذه الكارثة إلى أن جذورها الخبيثة ضربت أطنابها في المجتمع الياباني حتى كتابة هذه السطور، وانعكاساتها البيئية والصحية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية يكتب عنها المهتمون، وآخرها المقال المنشور في صحيفة اليابان تايمز في 18 أغسطس تحت عنوان "دروس كارثة ميناماتا مازالت مستمرة".

ولذلك فإن ظاهرة نفوق القطط في البسيتين، أو أي ظاهرة بيئية غريبة نشاهدها أمامنا، يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام، وإنما يجب أن نقف عندها ونسبر غورها لنتعرف على كافة أسرارها، فنتأكد من أسبابها وانعكاساتها على صحة الإنسان وبيئته.


الثلاثاء، 21 أغسطس 2012

الهاتف النقال يَطْرق أبواب الكونجرس الأمريكي



لم تعد قضية الهواتف النقالة وانعكاساتها الصحية تُناقش فقط في أروقة المؤتمرات العلمية، أو تبحث في مراكز الدراسات والبحوث، أو تهتم بها المنظمات والجمعيات الصحية، وإنما ولجت الآن بقوة في أعلى سلم الهرم التشريعي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، بل وإن بعض رجال الكونجرس، وبالتحديد النائب الجمهوري عن ولاية أوهايو دينس كوسينيش(Dennis J. Kucinich) أخذ على عاتقه التصدي للجانب الصحي لاستخدام الهواتف النقالة وسن التشريعات المناسبة لمنع أي تأثيرات صحية قد يتعرض لها الإنسان ووقايته من الأسقام التي قد تصيبه في المستقبل.

وقد جاء هذا الاهتمام من الكونجرس استجابة للضغوط المستمرة من عدة جهات، منها الجمعيات الأمريكية والمنظمات الدولية المهتمة بأبعاد استعمال الهواتف النقالة على الصحة العامة، وبخاصة صحة الأطفال، كمنظمة الصحة العالمية، حيث قرر الفريق العلمي المنبثق من الوكالة الدولية لأبحاث السرطان(International Agency for Research on Cancer (IARC)) التابع لمنظمة الصحة العالمية في 31 مايو 2011، بعد أن قام بحصرٍ شامل وتحليلٍ دقيق للأبحاث المنشورة في مجال الانعكاسات الصحية المحتملة للتعرض للأشعة المنبعثة من الهاتف النقال، بأن هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن هناك علاقة بين الاستخدام المُسرف وغير العادي للهاتف النقال واحتمال ظهور نوعين من الأورام النادرة في المخ، منها ورم سرطاني يعرف بالجليوما (glioma)، والثاني ورم غير سرطاني يُطلق عليه بأكوستيك نيوروماس( acoustic neuromas)، واستناداً إلى هذه النتائج تم تصنيف الهاتف النقال كجهاز من “المحتمل أن يصيب الإنسان بالسرطان”، أو ما يُعرف بمجموعة الصنف ب 2.

كما جاء اهتمام الكونجرس بالهاتف النقال تجاوباً مع تقريرٍ رسمي صَدر من المكتب الحكومي للمحاسبة(Government Accountability Office)، والذي أكد فيه أن الأنظمة الموضوعة من قبل الهيئة الاتحادية للاتصالات(Federal Communications Commission) وهي قانون الاتصالات في 7 أغسطس 1996، قد أكل عليه الدهر وشرب، حيث إن عدد المستخدمين للهاتف في ذلك الوقت كان محدوداً جداً وليس من بينهم الأطفال مقارنة بالبلايين من البشر الذين يستخدمونه في كل ساعة، كما أن القانون لا يتماشى حالياً مع المستجدات العلمية ونتائج الأبحاث حول مخاطر استخدام الهواتف النقالة، ولذلك أوصى هذا المكتب الحكومي بضرورة مراجعة هذه الأنظمة والتشريعات الخاصة بالهواتف.

 وفي الحقيقة أن بعض الولايات الأمريكية لم تنتظر تشريعات الكونجرس، والتي عادة تستغرق سنوات طويلة من الجدل العقيم بين الجمهوريين والديمقراطيين ويدخل فيها على الخط جماعات الضغط وشركات التمويل والتسويق والتصنيع المُعارضة لوضع أية أنظمة حول الهواتف النقالة، فقد سبقت هذه الولايات الكونجرس في اتخاذ إجراءات قانونية ونظامية وقائية لتقنين استخدام الهواتف النقالة وتوعية جمهور الناس بمخاطرها وبنسبة الأشعة التي يتعرضون لها بشكلٍ مباشر من الاستخدام اليومي لها.

فعلى سبيل المثال، سَنَّت كل من ولاية كاليفورنيا، وولاية مين(Maine)، وأوريجن(Oregon)، تشريعاً أَلزمتْ فيه الشركات المصنعة والمنتجة للهواتف إلى وضع علامات تحذيرية واضحة يُكتب عليها ما يُعرف بـ“نسبة الامتصاص”( Specific Absorption Rate—SAR)، أي نسبة الإشعاع الذي ينبعث من الهاتف النقال فيمتصه الجسم وينفذ إلى داخل أعضاء الإنسان.

فالنقطة المهمة التي أرغب في التأكيد عليها ويجب أن لا نغفل عنها عند دراسة آثار الهاتف النقال على الصحة، هي أننا لا نتعرض في اليوم والليلة على مدى العام كله للإشعاعات التي تنطلق من الهواتف النقالة فحسب، وإنما نعيش الآن في ظلماتٍ في بحرٍ لُجِّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض من الأمواج المتلاطمة التي نتعرض لها في كل ثانية على مدى السنة كلها، فهناك الإشعاعات من شبكات الواي فاي(Wi-fi) أو الانترنت اللاسلكي، وأبراج الهواتف النقالة، وهناك الأمواج التي تنبعث من أجهزة الميكروويف المنزلية، والهواتف المنزلية اللاسلكية، والكمبيوتر، والتلفزيون، إضافة إلى الأمواج التي تنطلق من الأقمار الصناعية ومن المصادر الأخرى العسكرية غير المعروفة، فكل هذه الأمواج التي تعصف بأجسادنا دون أن نحس بها، أو أن نشعر بوجودها، يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند دراسة الجوانب الصحية لهذه الإشعاعات، فالتأثير سيكون تراكمياً ومجموعياً وستظهر آثاره بعد فترة من الزمن.

الأربعاء، 15 أغسطس 2012

450 مليون دولار لتصفية العميل البرتقالي



ما أن انتهيتُ من كتابة ونشر مقالي في صحيفة أخبار الخليج تحت عنوان العميل البرتقالي يلاحق أمريكا، وإذا بوسائل الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة على المستويين الأمريكي والدولي، تنشر خبراً يُسند ويدعم تحليلاتي التي ذكرتها في المقال.    

فقد أَكدتُ في مقالي أن المبيد القاتل الذي صنعته الشركات الأمريكية بأيديها في مطلع الستينيات والذي هو مُنتج أمريكي خالص لم يصنعه أحد لا من قبل ولا من بعد، وعليه ختم صُنع في أمريكاوأُطلق عليه بالعميل البرتقالي واستخدم لضرب المحاربين الفيتناميين وكشف ملاجئهم ومخابئهم أثناء مقاومتهم للاستعمار الأمريكي، هو نفسه يعود إلى أمريكا ليضرب جنودها ومصالحها الاقتصادية بعد قرابة 50 عاماً. وهذه الضربات المتلاحقة للحكومة الأمريكية لن تنته بانتهاء استخدام العميل البرتقالي بعد الحرب، فهو عميل مُخلد لا يموت، ولا يمكن تصفيته والقضاء عليه مهما فعلت أمريكا، وسيظل يضرب أمريكا إلى ما شاء الله، ويلاحقهم في يقظتهم ومنامهم وأحلامهم.

وتأتي هذه الضربات على جبهتين. الأولى هي الجبهة الصحية، وتتمثل في إصابة الملايين من الجنود الأمريكيين بمرضٍ عضال ومزمن مثل السرطان وأمراض غريبة أخرى وتشوهات وإعاقات جسمية لم تُعرف من قبل ليس على الجندي نفسه فحسب وإنما على أبنائه وأحفاده إلى حدٍ سواء، ولهذه الحالات المرضية الجسيمة انعكاسات اقتصادية عظيمة تُهدد بيت المال الأمريكي المريض من حيث تكاليف العلاج الباهظة لهؤلاء الجنود المتضررين.

أما الجبهة الثانية فهي قضائية وتتمثل في آلاف القضايا المرفوعة ضد الحكومة الأمريكية من الجنود الأمريكيين الذين تعرضوا للعميل البرتقالي أثناء الحرب، ومن سكان جزيرة أوكيناوا اليابانية التي اُستخدمت غاباتها وأدغالها من قبل الأمريكيين كحقل تجارب للعميل البرتقالي قبل استعماله في فيتنام للتأكد من فاعليته القاتلة والمدمرة للغابات والأعشاب، ثم استخدمت بعد ذلك لدفن وتخزين قرابة 25 ألف من براميل العميل البرتقالي في أراضيها، وأخيراً تنهال القضايا على الحكومة الأمريكية من الشعب الفيتنامي الذي تعرضت أجسامهم لهذا السم القاتل وتدمرت بيئاتهم من ماءٍ وهواء وتربة عند رش زهاء عشرين مليون جالون من هذا المبيد ولمدة عشر سنوات على جنوب فيتنام وكمبوديا، حيث قَدَّرت التقارير العلمية أن هناك ثلاثة ملايين فيتنامي قد تعرضوا للعميل البرتقالي وهناك أكثر 150 ألف طفل ولدوا مشوهين خَلقياً، ولكل هذه القضايا ضد الحكومة الأمريكية مردودات اقتصادية ستكسر كاهل الحكومة الأمريكية التي ترهقها أصلاً ديونها المتراكمة.

فالخبر الذي تَنَاولته وسائل الإعلام الرئيسة يصب في هذا الجانب. فقد نشرت النيويورك تايمس مقالاً في 9 أغسطس عنوانه أربعة عقود وأمريكا تبدأ بتنظيف العميل البرتقالي من فيتنام، كما نشرت صحيفة (The Christian Science Monitor) تقريراً تحت عنوان “تنظيف العميل البرتقالي الأمريكي يقدم نموذجاً”، كذلك أوردت قناة سي إن إن الإخبارية خبراً في 10 أغسطس عنوانه “أمريكا تقوم بأول عملية تنظيف للعميل البرتقالي في فيتنام”. وفي الجانب الآخر من المحيط نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية مقالاً في 12 أغسطس تحت عنوان “الإرث المرعب للعميل البرتقالي: بعد 40 عاماً من انتهاء الحرب، تبدأ واشنطن بتنظيف المناطق الأشد تأثراً في فيتنام”. 

وتؤكد هذه التقارير الإعلامية أن أمريكا امتنعت لعقود طويلة من الاعتراف بذنبها من استخدام العميل البرتقالي ومن الأمراض المستعصية التي صاحبت استعماله، كما إنها تنصلت عن مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الشعب الفيتنامي وتجاه البيئة الفيتنامية وحياتها الفطرية في الغابات، خوفاً من تكاليف هذا الاعتراف الاقتصادية، ولكن القضايا التي رُفعت ضدها في محاكم أمريكا، واليابان، وفيتنام، هي التي أركعت أمريكا للاعتراف ببعض ذنوبها وتحمل جزءٍ يسير مما ارتكبتها أيديهم الآثمة أثناء الحرب، وهذه هي بداية المشوار، وستأتي قضايا أخرى كثيرة سنشهدها في القريب العاجل، ولا أدري كيف ستتمكن الحكومة الأمريكية من دفع فواتير هذه القضايا الثقيلة؟  



الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

ضوضاء السيارات تسبب السكتة القلبية


يستهين الكثير من الناس من التلوث الضوضائي والأصوات الحادة والمرتفعة التي تصدر من السيارات والمحركات والمكيفات وغيرها من المصادر التي نتعرض لها بشكلٍ يومي، وربما لساعات طويلة.

فالخطورة تكمن من التعرض لهذه الأصوات في أننا عادةً ما نتجاهلها ونتهاون في انعكاساتها السلبية على أمننا الصحي، ويعزى السبب في ذلك إلى أننا لا نحس أو نشعر بشكلٍ فوري ومباشر بتأثيراتها ومردوداتها على صحتنا وسلامتنا، فهي تعمل في الخفاء وبسرية تامة، وتضرب مرة واحدة وتكون عادة الضربة القاضية.

فقد أكدت الدراسات الحديثة على هذه الحقيقة، حيث أفادت إلى أنه كلما زادت درجة الضوضاء وارتفعت الأصوات المزعجة في محيط الإنسان، زادت تبعاً لها احتمال الإصابة بالذبحة الصدرية المفاجئة(heart attack). ومن هذه الأبحاث دراسة دنمركية نشرت في 20 يونيو 2012 في مجلة بلوس وان العلمية (PLoS ONE)، وقامت بها الجمعية الدنماركية للسرطان وأجرتها على 50 ألف مشارك، واستمرت عشر سنوات. فقد استنتجت هذه الدراسة الطبية إلى أن زيادة درجة الإزعاج والضوضاء بقدر 10 ديسيبل(الديسيبل وحدة لقياس الصوت)، تؤدي إلى زيادة الإصابة بالذبحة الصدرية بنسبة 12%، وبخاصة الضوضاء الناجمة عن السيارات أثناء الليل. وأفاد الباحثون أن السبب في ذلك هو أن الأصوات المرتفعة تعيق النوم فيبذل الإنسان مجهوداً ليحاول أن يخلد إلى النوم، مما يؤدي إلى تعكير المزاج الإنسان والتعب النفسي والجسدي وارتفاع في إفراز هرمونات الاجهاد(stress hormones) في الجسم، ثم الإصابة بمشكلات حادة في القلب.


وفي الجانب الآخر، فإن الحياة الفطرية، وبخاصة الطيور تتأثر أيضاً بالضوضاء وينعكس سلباً على تكاثرها ونموها، استناداً إلى الدراسة المنشورة في يونيو من العام الجاري في مجلة علم أحياء الطيور(Journal of Avian Biology). فقد أكدت الدراسة على أن الإزعاج والأصوات المرتفعة من المصانع والسيارات والمولدات الكهربائية في المدن الحضرية تؤثر على عملية التواصل بين الطيور، وبخاصة بين الطيور وصغارها عندما تكون في أعشاشها أو عندما تتدرب على الطيران، فهذه الأصوات تؤثر على سماع الطيور لأصوات صغارها فتموت جوعاً.

ولذلك لا بد من التحذير من هذا القاتل الصامت الذي يحيط بنا وبالكائنات الحية في كل مكان، والعمل على اتخاذ الإجراءات الوقائية للحد من تأثيراته السلبية علينا وعلى الذين يعيشون معنا.

الجمعة، 10 أغسطس 2012

العميل البرتقالي يُلاحق أمريكا



العملاء يموتون ويفنون بعد حينٍ من الزمن مهما طال، ولكن العميل البرتقالي مُخلدٌ وحي لا يموت. فهذا العميل عليه بصمة الولايات المتحدة الأمريكية، فهو من إنتاج أمريكي وصناعة أمريكية خاصة، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي استغلت هذا العميل أثناء حرب فيتنام.       

فأمريكا ممثلة في إدارة مشاريع الأبحاث المتطورة التابعة لوزارة الدفاع، وبالتحديد مركز أبحاث المواد الكيميائية والحيوية للجيش ، شرعت في مطلع الستينيات من القرن المنصرم بتنفيذ مشروعٍ سري أُطلق عليه مشروع أجيل، يهدف إلى تطوير طرق ووسائل متطورة ومبتكرة، واختراع أسلحة غير تقليدية  يمكن استخدامها في الحرب لمواجهة المد الشيوعي في فيتنام ودول آسيا الشرقية.

ومن الوسائل المبتكرة التي اكتشفتها أمريكا هي إنتاج مبيدات خاصة بالقضاء على الأعشاب والحشائش التي تنمو في الغابات ويلجأ إليها المقاتل الفيتنامي ويختبئ فيها، وحسب نوعية كل مبيد قام الجيش بوضع أشرطة ذات ألوانٍ مختلفة على البراميل التي تحتويها، كاللون البرتقالي للعميل البرتقالي، واللون الوردي، والأخضر، والأبيض، والأزرق. وفي عام 1962 قامت بتجربة المبيد الحشري الذي اشتهر اسمه بالعميل البرتقالي في مستعمرة جزيرة أوكيناوا اليابانية، وبخاصة في الغابات والأدغال الواقعة شمال الجزيرة بالقرب من قرية(Kunigami and Higashi) لأنها مناطق وبيئات استوائية تشبه البيئة الفيتنامية. وبعد نجاح التجربة دشَنَّتْ أمريكا رسمياً عملية رانش هاند، وهي رش غابات فيتنام وكمبوديا ولمدة عشر سنوات بهذه المبيدات، حيث تم استخدام قرابة 76 مليون لتر منها بالرش اليدوي، أو بالشاحنات، أو بالطائرات المروحية وغير المروحية، أو السفن.

ولكن هذا العميل البرتقالي لم تنته مهمته في القضاء على غابات فيتنام، وإنما تحول إلى لعنةٍ تطارد الأمريكيين وكابوسٍ مرعب يلاحقهم منذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور، وسيظل يجثم فوق صدورهم إلى ما شاء الله. فما قامت به أمريكا بالشعب الفيتنامي ارتد عليها بشكلٍ مباشر وانكشف في جانبين رئيسين. أما الجانب الأول فهو إصابة كل جندي تورط في استخدام هذا العميل بمرضٍ عضال لا يُرجى شفاؤه من أمراض السرطان والأمراض الأخرى الغريبة. فكل جندي قام بفتح البراميل البرتقالية، أو حملها، أو نقلها، أو شحنها، أو فتحها، أو رش المبيد على الغابات، أو نقل مخلفات هذه البراميل بعد استعمالها، أو دفنها، تعرض مباشرة لهذه الأمراض المستعصية التي عانى منها طوال سنوات حياته، فأصابته لعنة استخدام هذا العميل.

أما الجانب الثاني فهو قضائي ويتمثل في آلاف القضايا المتعلقة بالعميل البرتقالي والمرفوعة ضد الحكومة الأمريكية، في أمريكا نفسها ومن الجنود الأمريكيين أنفسهم، وفي فيتنام من الشعب الفيتنامي، وفي اليابان، وبالتحديد من سكان جزيرة أوكيناوا، وهذه القضايا ستلاحق أمريكا أيضاً لسنواتٍ طويلة قادمة.

فأمريكا عندما أنتجت هذا العميل، قامت بنقله إلى ميناء وايت بيتش في أوكيناوا اليابانية في عدة سفن مَدنية منها سفينة(SS Schuyler Otis Bland)، ثم نقلها إلى أرض المعركة في فيتنام، وبعد الانتهاء من استعمالها نُقلت مرة ثانية إلى جزيرة أوكيناوا ودفنت في مواقع محددة في جنح الليل وبسرية تامة. وهذا التاريخ المظلم، وهذه الجريمة النكراء التي ارتكبت في صمتٍ وخفاء في حق سكان الجزيرة، انكشفت هذا العام الجاري، أي بعد خمسين عاماً، وبدأت خيوطها تنفضح يوماً بعد يوم. فقد نشرت صحيفة(Japan Times) عدة تقارير وثائقية آخرها في 17 مايو 2012 و 15 يونيو 2012 ، كما نشرت صحيفة(Japan Daily Press) في 28 يونيو 2012، وتؤكد جميعها على قيام أمريكا بالتجارب الميدانية للعميل البرتقالي في جزيرة أوكيناوا قبل نقله إلى فيتنام، إضافة إلى دفن هذه البراميل السامة بعد الانتهاء منها، والتي هددت حياة السكان بالخطر الشديد طوال العقود الماضية، ومازالت قنبلة موقوتة لم تنفجر بعد في وجه أمريكا.

وبالرغم من هذه الأدلة المحسوسة والوثائق المعتمدة وشهادات الجنود الأمريكيين الذين عملوا في أوكيناوا وقاموا بتفريغ شحنة العميل البرتقالي ودفنه، إلا أن أمريكا لم تعترف حتى الآن بنقل ودفن العميل البرتقالي في أراضي جزيرة أوكيناوا، ولذلك فالصراع الدبلوماسي والقضائي والصحي سيحتدم أكثر بين اليابان وأمريكا لكشف أسرار هذه القضية، وسيلاحق هذا العميل أمريكا نفسها التي قامت بإنتاجه واستخدامه ضد الآخرين، ولن تستطيع التخلص منه وتصفيته، كما تفعل في هذه الحالات بالعملاء الذين تنتهي صلاحيتهم ودورهم. 

السبت، 4 أغسطس 2012

أشجار القرم مسألة حياة أو موت



نحن في البحرين قضينا كلياً على أشجار القرم، وقُمنا بعملية إبادةٍ جماعية لجميع مستعمراتها، وبالتحديد تلك التي كانت موجودة في خليج توبلي، فلم نُقدر قيمتها وأهميتها البيئية والاقتصادية والجمالية والسياحية.

ولكن في المقابل هناك دولاً تعيش على هذه الشجيرات، فهي بالنسبة لها مسألة بقاءٍ أو فناء، وحياةٍ أو موت. فعلى سبيل المثال، أشجار القرم المنتشرة في سواحل دول آسيا الشرقية، مثل الفلبين وفيتنام، أو دول أمريكا الجنوبية كالبرازيل، تعتبر الحاجر المنيع والسد القوي الذي يمنع وصول العواصف والأعاصير البحرية والتيارات المائية القوية إلى القرى التي تعيش على السواحل، فهي خط الدفاع الأول الذي يحمي سكان القرى من هذه الكوارث الطبيعية. فالدراسات الميدانية تؤكد على أن هذه الأشجار لها القدرة على كسر قوة الأمواج العاتية وتهدئة طاقة التيارات البحرية بنسبة تصل إلى قرابة 75% عندما تمر عليها، فتجعلها أليفة فاقدة لقوتها عندما تصل في نهاية المطاف إلى بيوت الناس وممتلكاتهم الساحلية.

وفي الوقت نفسه فلهذه الشجيرات والنظام البيئي في منطقتها، فوائد اقتصادية وبيئية واجتماعية عظيمة لا تقدر بثمن، فهي البيئة الحميمة الهادئة التي تعيش عليها وتنمو في ربوعها صغار الأسماك والربيان، حيث إن الأسماك والربيان والقباقب والكائنات البحرية الأخرى تضع بيضها في هذه البيئات الساكنة والوديعة.

فهذه الدول عرفت القيمة الإنتاجية العالية لهذه الشجيرات وأيقنت أن استدامة حياتها مرتبطة بوجودها، فأصبحت تنميها وترعاها في المناطق الساحلية كحماية طبيعية للسكان، ومصدر رزقٍ وغذاء يقتاتون عليه.       



وفي الحقيقة فإن هذه الشجيرات الساحلية تُدخلنا في قضية عصرية هامة جداً تقع تحت عنوان:القيمة النقدية للموارد البيئية الحية وغير الحية وللأنظمة البيئية، وهذه تعني أننا يجب أن نُثَمِّن هذه الموارد الطبيعية، ونعتبرها سلعاً كالسلع الأخرى يتم التداول معها، فنُحدد مبلغاً مالياً نقدياً لكل منها، سواء أكانت أشجار القرم، أو الشعاب المرجانية، أو السواحل البحرية بشكلٍ عام، أو المناطق البرية والصحراوية، فلا يجوز أن نتعامل مع مكونات البيئية الحية وغير الحية بأنها سلع مجانية لا قيمة لها، وبالتالي لا ضير من بترها وهدمها والتأثير على نوعيتها.

وهناك دول أيقنت هذه الحقيقة وقامت بمحاولات علمية بتحديد مبلغٍ مالي لهذه الثروات الطبيعية، حيث أكدت هيئة حكومية بريطانية اسمها تقييم الأنظمة الطبيعية بأن البيئات الخضراء والغابات في بريطانيا تساوي 30 بليون جنيه إسترليني في السنة للاقتصاد. كما نشرت الأمم المتحدة تقريراً تحت عنوان: “اقتصاديات الأنظمة البيئية والتنوع الحيوي”، أكدت فيه على البعد الاقتصادي والبيئي لحماية ثرواتنا ومواردنا الطبيعية الحية وغير الحية، كما قام التقرير بوضع مبلغ نقدي للشعاب المرجانية للكرة الأرضية وهو نحو 110 مليارات جنيه سنوياً، لما تقدمه من خيرات سمكية يعيش عليها الإنسان، وتحمي السواحل من الأعاصير والفيضانات، وتجذب ملايين السياح.

وفي تقديري فإن هذه البيئات الطبيعية والكائنات التي تعيش عليها هي رأس المال البشري الحقيقي الذي لا ينضب ويتجدد عندما نقوم برعايتها وحمايتها، وبالتالي لا بد من تحديد قيمة نقدية لها عندما نعتزم إنشاء أي مشروع على هذه البيئات، سواء أكانت المناطق الساحلية، أو بيئات الشعاب المرجانية وأشجار القرم أو غيرها من البيئات الحيوية المُنتجة في البر والبحر، ثم بعد ذلك نقوم بحساب وتحليل التكاليف والأرباح من إقامة المشروع.