الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

هواؤنا مسرطن


عجباً أن نجرؤ فنقول بأن الهواء الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بقدرٍ واتزان من الناحيتين الكمية والنوعية والذي لا يمكن أن يستغني عنه أي كائنٍ حي من إنسانٍ أو حيوانٍ أو نبات، صغيراً كان أم كبيراً، يعيش في البر أو في أعماق البحار، أن يكون هذا الهواء هو نفسه الآن من الأسباب الرئيسة التي تصيب الإنسان بأخطر داءٍ عرفه الإنسان منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وهو الإصابة بالسرطان.

 

فقد تواترت الدراسات وأجمعت أن هناك الآلاف من الملوثات السامة والمشعة والمسببة للسرطان التي تلج في مكونات بيئتنا من ماءٍ وهواءٍ وتربة في كل ثانية منذ أكثر من قرنين من الزمان ومن مصادر كثيرة لا تعد ولا تحصى، كوسائل النقل، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، إضافة إلى الكوارث التي تنزل علينا بين الحين والآخر ككارثة تشرنوبيل بسبب انفجار المفاعل الرابع في محطة تشرنوبيل للطاقة النووية في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، وكارثة احتراق محطة دايشي لتوليد الكهرباء في فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، وفي كلتي الحالتين انطلقت إلى الهواء كميات ضخمة جداً من الملوثات المشعة والمسرطنة والتي ستبقى خالدة مخلدة في بيئتنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

فكل هذه الدراسات العلمية الميدانية التي أجريت في كل أنحاء العالم أكدت على تلوث الهواء الجوي للكرة الأرضية برمتها، وتدهور وفساد نوعيتها، بحيث إن الملوثات المسرطنة ضربت أطنابها بقوة في أعماق طبقات الجو من أسفلها إلى أعلاها حتى وصلت إلى طبقة الإستراتسفير وطبقة الأوزون التي هي فوق رؤوسنا على ارتفاع يبلغ قرابة 50 كيلومتراً فوق سطح الأرض، كما أجمعت هذه الأبحاث على العلاقة الوطيدة التي تربط بين نوعية الهواء الجوي وارتفاع احتمال الإصابة بالسرطان، أي أن استنشاق الهواء الجوي يؤدي مع مرور الوقت إلى الوقوع في شر مرض السرطان.

 

فهذه الحقيقة البيئية الصحية اضطرت المجتمع الدولي الرسمي ممثلاً في إحدى منظمات الأمم المتحدة وهي منظمة الصحة العالمية إلى تبني موقفٍ محدد وواضح حول نوعية الهواء الذي يستنشقه الإنسان، والذي يتعرض له في كل ثانية وعلاقته بمرض السرطان المنتشر بشكلٍ مرعب في كل دول العالم بدون استثناء، والذي يقدر بنحو 1.3 مليون حالة جديدة بالنسبة لسرطان الرئة فقط، يموت منهم سنوياً قرابة 220 ألف.

 

وهذا الموقف تَحَدد بوضوح وبقوة في 17 أكتوبر من العام الجاري، بعد أن قامت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية بحصر وتقييم ألف دراسة بحثية حول علاقة تلوث الهواء في البيئات الداخلية والخارجية والإصابة بالسرطان، حيث أكدت على وجود أدلة علمية دامغة لا شك فيها تؤكد على أن تلوث الهواء الجوي يسبب السرطان للإنسان، ليس في الدول الصناعية الكبرى المعروفة تاريخياً بتلوث هوائها الجوي، وإنما في كافة دول العالم.

 

وبناءً على هذا الاستنتاج من هذه الوكالة العلمية المتخصصة في أمراض السرطان، قامت منظمة الصحة العالمية بالإعلان رسمياً يوم الخميس عن تصنيفٍ جديد لتلوث الهواء الجوي وهو أنه “مسرطن للإنسان”.

 

وهذا التنصيف لتلوث الهواء بأنه يصيب الإنسان بالسرطان يضيف سبباً آخر وعاملاً جديداً بصفة رسمية دولية إلى العوامل الأخرى المعروفة بعلاقتها بأمراض السرطان المختلفة، مثل التدخين بكافة أنواعه سواء للمدخن نفسه أو الجالسين من حوله، وشرب الخمر، والتعرض لدخان البخور والعود، وعوادم السيارات التي تحتوي على مواد مسرطنة معروفة مثل البنزين ومركب البنزوبيرين والجسيمات الدقيقة، وتناول الأغذية المعلبة التي تحتوي على مضافات ونكهات وألوان لا يعرف أحد هويتها ونوعيتها، ونوعية حياة الإنسان من ممارسة الرياضة والحالة النفسية التي يعيش فيها.   

 

فهذا التصنيف الجديد من منظمة أممية، والتي تكون في بعض الأحيان قراراتها “مسيسة”، أو دبلوماسية وتوافقية تأخذ في الاعتبار الظروف السياسية والاقتصادية للدول الأعضاء فيها، يجب أن تؤكد لنا جميعاً بأن علاقة تلوث الهواء بالإصابة بمرض السرطان وطيدة وواضحة كوضوح أشعة الشمس أثناء فترة الظهيرة، بحيث لا يمكن إخفاؤها أو التستر عليها وتغطيتها، وأخذ قرارات “وسطية” ترضى كافة الأطراف في المنظمة.  

 

كما أن هذا التنصيف الجديد يجب أن يكون حافزاً لنا لبذل المزيد من الجهد لمنع دخول الملوثات إلى عناصر بيئتنا، وتبني الإجراءات الحازمة والرادعة لمنع انبعاث الملوثات من مصادرها المختلفة إلى الهواء الجوي بصفة خاصة.

 

 

الخميس، 17 أكتوبر 2013

اجتماع لـ 140 دولة من أجل الزئبق





عندما زرتُ اليابان قبل 22 عاماً، وبالتحديد في نوفمبر 1991، لتقديم بحثٍ بيئيٍ في مؤتمرٍ دولي حول الملوثات في البيئة البحرية، وبعد الانتهاء من أعمال المؤتمر، قام المنظمون بترتيب زياراتٍ سياحية للمشاركين للإطلاع على بعض المعالم الرئيسة في اليابان والموجودة بالقرب من مدينة كيوتو العريقة، ولكن هذه الزيارات السياحية لم تكن جولات تقليدية إلى المواقع السياحية المعروفة عند عامة الناس، كالمتنزهات والحدائق العامة، أو المواقع الأثرية، أو حدائق الحيوانات، وإنما كانت إلى المواقع التي أُطلقُ عليها “سياحة الكوارث البيئية”، أي زيارة المناطق التي وقعت فيها كوارث بشرية، وسقط الكثير من الضحايا البشرية بسبب أيدي الإنسان الآثمة التي سمحت للملوثات السامة والخطرة من الدخول في مكونات البيئة من ماءٍ أو هواءٍ أو تربة.

وكانت الزيارة السياحية إلى واحدة من أخطر الكوارث البيئية التي شهدتها الإنسانية، وأشدها وطأة عليه وعلى صحة بيئته، ليس على مستوى اليابان فحسب، وإنما على مستوى الكرة الأرضية برمتها، وهي مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا(Minamata Bay) في مقاطعة كوماموتو(Kumamoto Prefecture)، حيث لقي هناك الآلاف مصرعهم في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وسقط آلافٍ آخرين مرضى مصابين بوباءٍ غريب لم يعرف له المجتمع الطبي مثيلاً، ووقف الأطباء في الشرق والغرب حائرين أمام الأعراض المرضية التي نزلت على سكان مدينة ميناماتا فجأة واحدة، وكأنها صاعقة قاتلة ضربت هذه المدينة من الكرة الأرضية.

وهذه الجولة شملت متحفاً يُخلد هذه الكارثة، ويُذكر الناس دائماً وأبداً بوقوعها، ويسطر عن كثب آلام ومعاناة الأطفال والرجال والنساء الذين أصابهم المرض، ومازلت أتذكر حتى يومنا هذا آلاف القصص الواقعية التي جاء بها المتحف بالصور الفوتوغرافية المؤلمة، ومنها لطفلة قد وُلدت في يوليو عام 1956 في إحدى قرى مدينة ميناماتا، وبعد ولادتها بفترة بسيطة جداً أحس والداها بأنها غير طبيعية، وأنها تعاني من أمرٍ غامض، فحركاتها وتصرفاتها ونموها لم يكونوا في الوقت الطبيعي، والأعضاء والأطراف كانت مشوهة وبها إعاقات مختلفة، حتى إنها بلغت ثلاث سنوات ومازالت لم تتمكن من المشي، فأدخلوها مركزاً صحياً خاصاً لمدة أربع سنوات لتعلم المشي وحركة اليدين، ولكنها بعد كل هذه الجهود الطبية لم تتعاف فماتت من هذا المرض الغامض.

ومن حسن الحظ أنني أثناء هذه الزيارات تعرفتُ على بعض الأطباء الذين عاصروا هذا المرض منذ بداياته وشاركوا في تشخيصه والتعرف على أسبابه، وطلبت منهم بعض الصور لضحايا هذا المرض، فوضعتها في كتابي تحت عنوان “كوارث وضحايا: قصص بيئية واقعية”، حيث خصصت فصلاً واحداً لهذا المرض الذي أُطلقَ عليه مرض ميناماتا.

فقد كانت تصرفات الإنسان هي السبب في وقوع هذه الكارثة، وتمثلت في عمل بسيطٍ جداً وهو قيام مصنع شيسو(Chisso Corporation) بصرف مخلفات سائلة تحتوي على عنصر الزئبق السام إلى خليج ميناماتا، والزئبق من الملوثات التي لا تتحلل ولها القدرة على التراكم في السلسلة الغذائية، ولذلك بعد دخوله إلى البيئة البحرية، انتقل مع الوقت من التربة إلى الكائنات النباتية والحيوانية العالقة في الماء، ثم إلى الأسماك الصغيرة والكبيرة، وأخيراً إلى الحيوانات مثل القطط والطيور البحرية والإنسان حيث وصل تركيزه إلى مستويات عالية جداً. كما أن خطورة الزئبق تكمن في أنه ينتقل من الأم إلى جنينها، أي أنه ينتقل عبر الأجيال من جيلٍ إلى آخر، ولذلك لم ينته المرض في جيل الخمسينيات الذي تعرض مباشرة لهذا السم، وإنما هناك المئات الذي يصابون بهذا المرض حتى يومنا هذا، أي بعد أكثر من ستين عاماً على اكتشافه. وعلاوة على ذلك، فإن الزئبق ينتقل من منطقة إلى أخرى عبر الحدود الجغرافية سواء عن طريق التيارات المائية أو الرياح، فقد أكد الباحثون من جامعة شيجا( Shiga Prefectural University) في الخامس من أكتوبر من العام الجاري عن اكتشاف الزئبق في قمة جبل فوجي الياباني المعروف عالمياً(Mount Fuji)، وعلى ارتفاع أعلى من أربعة كيلومترات فوق سطح البحر.

فهذه الحقائق المخيفة المتعلقة بالزئبق، ودوره الخطير في قتل الإنسان في كافة أرجاء العالم، اضطر المجتمع الدولي وعلى رأسهم اليابان، المتضرر الأول من هذا الملوث، إلى مواجهة الزئبق بشكلٍ جماعي والتعاون مع بعض على التخلص منه مع الوقت، وبذل الجهود المشتركة على إدارة ما هو موجود حالياً بطريقة بيئية وصحية سليمتين، وقد تُوج هذا الجهد الجماعي المشترك في 11 أكتوبر من العام الجاري عندما وافقت دول العالم تحت مظلة الأمم المتحدة على اتفاقية ميناماتا للزئبق(Minamata Convention on Mercury)، والتي أكدت على تقنين استخدام واستيراد الزئبق بين دول العالم من أجل منع التداعيات البيئية والصحية التي تنجم عن تعرض الإنسان للزئبق، كما أفادت إلى ضرورة أخذ كافة الاحتياطات والإجراءات اللازمة عند إنتاج، وتصدير أو استيراد الزئبق أو مركباته أو المنتجات التي تحتوي عليه مثل مصابيح الفلوروسينت.

فإذا كان هذا الملوث البسيط وهو الزئبق قد دوخ اليابان ودول العالم لأكثر من سبعين عاماً، وأنزل على الإنسان كوارث خطيرة أودت بحياة عشرات الآلاف، فماذا عن آلاف الملوثات السامة والخطرة والمشعة التي تدخل بيئتنا في كل ثانية منذ أكثر من قرن؟                        

قناديل البحر(الجيلي فيش) تغلق محطة نووية





يتهاون الكثيرون ويُحَقرون من قدرة هذا المخلوق الهلامي الضعيف والمعروف بالجيلي فيش أو قنديل البحر على إحداث كوارث خطيرة للإنسان وبيئته.

فبالرغم من جسمه الهزيل، وحجمه الصغير، إلا أنه بدأ يتصدر قائمة الأخبار المهمة في الكثير من دول العالم، وأصبح يشكل تهديداً مشهوداً لصحة الإنسان والحياة الفطرية والمنشئات الحيوية الشاطئية، ويلقي الرعب والخوف في قلوب الناس عندما يظهر في المناطق البحرية الساحلية، ويسبب تدميراً فورياً للحركة السياحية في تلك المنطقة.

فهذا الكائن البسيط نَقلتْ أخباره جميع وسائل الإعلام الغربية، فقد تسبب في الأول من أكتوبر من العام الجاري في شلِّ أكبر وأول محطة نووية في السويد لتوليد الكهرباء على بحر البلطيق، وأدى إلى إغلاقها بصورة مفاجئة، وكاد هذا المخلوق الهش أن يُوقع كارثة نووية لا يعرف أحد عواقبها وانعكاساتها على الإنسان والكرة الأرضية برمتها.

وهذه التهديدات التي يشكلها الجيلي فيش بدأت تُشكل ظاهرة عامة يشاهدها الجميع في كل أنحاء العالم، وبخاصة في المناطق الساحلية، وباتت تمثل مشكلة بيئية وصحية واقتصادية خطيرة تتزايد كل سنة. 

والمهم هنا أن نؤكد على أننا نحن بني البشر قد خلقنا لأنفسنا هذه المشكلة، وأيدينا الآثمة التي أفسدت في مكونات البيئة الحية وغير الحية ولعبت فيها عقوداً طويلة من الزمن هي التي أوصلتنا إلى هذه الدرجة الكبيرة المشهودة من التدهور الشديد والمدقع الذي عَمَّ كل أرجاء الأرض، براً وبحراً وجواً، بعيداً كان أم قريبا.

فالصيد الجائر واستخدام كافة الوسائل والأدوات المشروعة وغير المشروعة في استنزاف ثروات البيئة البحرية الحية، أودت بحياة الكثير من أنواع الأسماك التي كانت تتغذى على قنديل البحر، مما ترك الباب مفتوحاً لهذا النوع من الكائنات في التكاثر والنمو بدرجةٍ كبيرةٍ وفي مناطق واسعة من البيئة البحرية، وبخاصة غزو المناطق الساحلية وتهديد الناس من خلال عضهم وإصابتهم بالموت الفوري أو جروح بليغة، إضافة إلى سد فتحات أنابيب مياه التبريد للمفاعلات في محطات توليد الطاقة، كما حدث في المحطة النووية في السويد. ومن جانب آخر هناك مياه التوازن من البارجات وناقلات النفط العملاقة التي تَنْشُر قناديل البحر وكائنات بحرية أخرى في بيئةٍ لا توجد فيها أصلاً، فتهلك الكائنات الفطرية المستوطنة في تلك المنطقة وتقضي عليها. كما أن التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الهواء ومياه البحر أدى إلى خلق بيئة دافئة مناسبة لتكاثر هذا النوع من الكائنات.

ونظراً لحدة هذه الظاهرة وانعكاساتها الخطرة، قام الإنسان نفسه والذي كان سبباً وراء ظهور هذه المشكلة، في التفكير في القضاء عليها، ومنها صناعة إنسانٍ آليٍ بحري(روبوت)، يجوب المناطق البحرية التي توجد فيها مستعمرات للجيلي فيش، فيقوم بهرس وتفتيت هذه التجمعات، حيث قام المعهد الكوري للعلوم والتقنية بصناعة أول إنسان آلي أطلق عليه(Jellyfish Elimination Robotic Swarm).

وهنا أجد أمراً لا أعرف تفسيراً له، وهو أن الإنسان هو الذي يسبب المشكلة، ثم هو نفسه يقوم بعلاجها ويصرف الملايين على ذلك.

لذلك أليس من الأولى أن يتجنب خلق هذه المشكلة والمشكلات البيئية الأخرى من البداية؟   


الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

قناديل البحر تغلق محطة نووية



يتهاون الكثيرون ويُحَقرون من قدرة هذا المخلوق الهلامي الضعيف والمعروف بالجيلي فيش أو قنديل البحر على إحداث كوارث خطيرة للإنسان وبيئته.

فبالرغم من جسمه الهزيل، وحجمه الصغير، إلا أنه بدأ يتصدر قائمة الأخبار المهمة في الكثير من دول العالم، وأصبح يشكل تهديداً مشهوداً لصحة الإنسان والحياة الفطرية والمنشئات الحيوية الشاطئية، ويلقي الرعب والخوف في قلوب الناس عندما يظهر في المناطق البحرية الساحلية، ويسبب تدميراً فورياً للحركة السياحية في تلك المنطقة.

فهذا الكائن البسيط نَقلتْ أخباره جميع وسائل الإعلام الغربية، فقد تسبب في الأول من أكتوبر من العام الجاري في شلِّ أكبر وأول محطة نووية في السويد لتوليد الكهرباء على بحر البلطيق، وأدى إلى إغلاقها بصورة مفاجئة، وكاد هذا المخلوق الهش أن يُوقع كارثة نووية لا يعرف أحد عواقبها وانعكاساتها على الإنسان والكرة الأرضية برمتها.

وهذه التهديدات التي يشكلها الجيلي فيش بدأت تُشكل ظاهرة عامة يشاهدها الجميع في كل أنحاء العالم، وبخاصة في المناطق الساحلية، وباتت تمثل مشكلة بيئية وصحية واقتصادية خطيرة تتزايد كل سنة. 

والمهم هنا أن نؤكد على أننا نحن بني البشر قد خلقنا لأنفسنا هذه المشكلة، وأيدينا الآثمة التي أفسدت في مكونات البيئة الحية وغير الحية ولعبت فيها عقوداً طويلة من الزمن هي التي أوصلتنا إلى هذه الدرجة الكبيرة المشهودة من التدهور الشديد والمدقع الذي عَمَّ كل أرجاء الأرض، براً وبحراً وجواً، بعيداً كان أم قريبا.

فالصيد الجائر واستخدام كافة الوسائل والأدوات المشروعة وغير المشروعة في استنزاف ثروات البيئة البحرية الحية، أودت بحياة الكثير من أنواع الأسماك التي كانت تتغذى على قنديل البحر، مما ترك الباب مفتوحاً لهذا النوع من الكائنات في التكاثر والنمو بدرجةٍ كبيرةٍ وفي مناطق واسعة من البيئة البحرية، وبخاصة غزو المناطق الساحلية وتهديد الناس من خلال عضهم وإصابتهم بالموت الفوري أو جروح بليغة، إضافة إلى سد فتحات أنابيب مياه التبريد للمفاعلات في محطات توليد الطاقة، كما حدث في المحطة النووية في السويد. ومن جانب آخر هناك مياه التوازن من البارجات وناقلات النفط العملاقة التي تَنْشُر قناديل البحر وكائنات بحرية أخرى في بيئةٍ لا توجد فيها أصلاً، فتهلك الكائنات الفطرية المستوطنة في تلك المنطقة وتقضي عليها. كما أن التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الهواء ومياه البحر أدى إلى خلق بيئة دافئة مناسبة لتكاثر هذا النوع من الكائنات.

ونظراً لحدة هذه الظاهرة وانعكاساتها الخطرة، قام الإنسان نفسه والذي كان سبباً وراء ظهور هذه المشكلة، في التفكير في القضاء عليها، ومنها صناعة إنسانٍ آليٍ بحري(روبوت)، يجوب المناطق البحرية التي توجد فيها مستعمرات للجيلي فيش، فيقوم بهرس وتفتيت هذه التجمعات، حيث قام المعهد الكوري للعلوم والتقنية بصناعة أول إنسان آلي أطلق عليه(Jellyfish Elimination Robotic Swarm).

وهنا أجد أمراً لا أعرف تفسيراً له، وهو أن الإنسان هو الذي يسبب المشكلة، ثم هو نفسه يقوم بعلاجها ويصرف الملايين على ذلك.

لذلك أليس من الأولى أن يتجنب خلق هذه المشكلة والمشكلات البيئية الأخرى من البداية؟   


الأحد، 13 أكتوبر 2013

ولادة تقرير الأمم المتحدة حول التغير المناخي



كان العالم كله ومنذ أكثر من ست سنوات في انتظار ولادة التقرير الخامس لهيئة الأمم المتحدة شبه الحكومية حول التغير المناخي(Intergovernmental Panel on Climate Change)، حتى ظهر أخيراً المولود في نهاية سبتمبر من العام الجاري وخرج إلى العالم من رحم العاصمة السويدية ستوكهولم، ولكن بعد أيامٍ من المفاوضات والمناقشات الحادة والموسعة ومخاضٍ صعبٍ وطويل، وولادةٍ عسيرةٍ شاقةٍ وقيصرية.

فهذا التقرير الذي يتكون من 2000 صفحة وصَدَرَ الآن، يُمثل المجلد الأول من سلسلة من المجلدات التي ستَصدُر لاحقاً، حيث بدأ نشر مثل هذه التقارير حول ظاهرة التغير المناخي منذ عام 1990. واليوم انتظر الجميع بحماسٍ شديد ومنذ عام 2007 هذا التقرير الأخير، أي بعد صدور التقرير الرابع، سواء من المدافعين والمؤيدين لوقوع ظاهرة التغير المناخي والمؤمنين بارتفاع درجة حرارة الأرض بفعل الأنشطة البشرية، أم من المعارضين لواقعية هذه الظاهرة والمشككين في دور الإنسان ومسئوليته في رفع سخونة الأرض.

فقد جاء التقرير هذه المـَرة أكثر جزماً وثقة بدور الإنسان ومسئوليته الرئيسة في حدوث التغيرات المناخية على مستوى الكرة الأرضية ورفع درجة حرارة الأرض، حيث أكد التقرير على أن الملوثات التي تنبعث من حرق الوقود، سواء في محطات توليد الطاقة، أو من وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، أو في المصانع، أو من الأنشطة الزراعية، هي المتهمة في زيادة سخونة الأرض، وعلى رأس قائمة المتهمين غازات يُطلق عليها بغازات الدفيئة أو غازات البيت الزجاجي، مثل ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وأكسيد النيتروز، والتي لها القدرة الكامنة على حبس وتراكم الحرارة في طبقات الجو التي تقع فوق رؤوسنا مباشرة، فتمنع انتشار هذه الحرارة المتجمعة فوقنا فلا تتمكن من التشتت والانتقال إلى طبقات الجو الأعلى، وبالتالي تعمل على زيادة درجة حرارة الكرة الأرضية.

وكَشَفَ التقرير الجديد عن بعض التنبؤات الحديثة المتعلقة بارتفاع درجة حرارة الأرض خلال هذا القرن، إضافة إلى ارتفاع مستوى سطح البحر. أما بالنسبة للتغيرات المستقبلية المتوقعة في درجة الحرارة فقد اختلفت عن التقرير الرابع لعام 2007، حيث إن التقرير الحالي أفاد بأن حرارة الأرض سترتفع بين 0.3 إلى 4.8 درجة مئوية بنهاية القرن الجاري، في حين أن التقرير السابق تنبأ بارتفاع أكبر في الحرارة ويتراوح بين 1.1 إلى 6.4 درجة مئوية.

كذلك هو الحال بالنسبة للتنبؤات الخاصة بارتفاع مستوى سطح البحر، حيث إن التقرير الحالي يتنبأ بارتفاع سطح البحر من 26 إلى 82 سنتيمتراً بحلول عام 2100، في حين أن التقرير السابق توقع بأن التغير في مستوى سطح البحر سيتراوح بين 18 إلى 59 سنتيمتراً، علماً بأن الارتفاع الفعلي بلغ 20 سنتيمتراً خلال القرن الماضي منذ عام 1901.

وفي المقابل واجه مؤلفو التقرير معضلة علمية وظاهرة فريدة وغريبة تحتاج إلى تفسيرٍ دقيقٍ ومنطقي، حيث استغل المشككون لحدوث التغير المناخي هذه المعضلة، وادعوا بأن التغير المناخي قد توقف حالياً، ولا توجد ارتفاعات فعلية في درجة الحرارة. فالتقرير نفسه أفاد بأنه بالرغم من ازدياد انبعاث الغازات المعنية بارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل مطرد منذ عام 1998 حتى عام 2012، أي لمدة 15 عاماً، إلا أن معدلات الحرارة لم ترتفع بالقدر نفسه أو الدرجة نفسها، حيث إن الأرض لم تسخن خلال هذه الفترة، وبعبارة أخرى فإن سرعة الارتفاع في الحرارة تباطأت كثيراً ولا تتوافق أو تواكب سرعة الانبعاث في حجم الملوثات. وقد عزوا هذه الظاهرة الشاذة إلى عدة أسباب منها ثوران البراكين، وبخاصة البركان في الفلبين والآخر في المكسيك وانبعاث أحجاماً ضخمة جداً من الجسيمات الدقيقة والرماد التي حجبت ومنعت أشعة الشمس من الوصول إلى الأرض، وبالتالي تسببت في برودة الأرض، ومنها قدرة الأحجام الهائلة من مياه المحيطات على امتصاص الملوثات ونقل الحرارة إلى طبقات المياه السفلى في قاع المحيط، إضافة إلى الدوران الطبيعي للمناخ وتذبذب قوة الأشعة الشمسية.

والآن بعد صدور هذا التقرير العلمي والموضوعي والذي استنتج بكل وضوح إلى دور ومسئولية الإنسان الرئيسة في التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، فقد انتهى دور العلماء ورجال البيئة والمناخ، وانتقلت الكرة من ملعب العلماء إلى ملعب رجال السياسة. ومع الأسف فإن ملعب رجال السياسة يمتلأ بلاعبين لا يعرفون شيئاً عن الجوانب العلمية للتقرير والانعكاسات البيئية والصحية للتغير المناخي، كما أن الملعب يمتلأ برجال السياسة الذين يختلفون في توجهاتهم وأفكارهم ويرعون فقط مصالح بلدانهم وأحزابهم التي ينتمون إليها، كما أن رجال السياسة هؤلاء يهتمون بالجانب الاقتصادي والتنموي أكثر من اهتمامهم بالبيئة وصحة وأمن الكرة الأرضية ومن يعيشون عليها. 

فكيف بعد تجارب مريرة شاهدناها في السنوات الماضية نأتمن رجال السياسة على سلامة وأمن كرتنا الأرضية ونضمن استدامة عطائها؟