الأحد، 24 فبراير 2013

السياسات المُتطرفة لدول العالم النامي: ألمنيوم البحرين كمثال


في الثمانينيات من القرن المنصرم، وعند الشروع في المراحل الأولى من إنشاء مصنع صهر الألمنيوم في البحرين، قُمتُ بزيارةٍ إلى المصنع للإطلاع على الجوانب المتعلقة بالبيئة، وبخاصة جودة الهواء في البيئة الداخلية للمصنع، وقد صُعقت عندها بالوضع البيئي السيئ وفساد الهواء الجوي، فالرؤية في الداخل كانت شبه منعدمة، بحيث أنك لا تستطيع مشاهدة الشخص الذي يقف أمامك وعلى بعد أمتارٍ بسيطة منك. وفي الجانب الآخر، وفي البيئة الخارجية للمصنع، كانت الملوثات تنبعث إلى الهواء الجوي بدرجةٍ كثيفة جداً وبأحجامٍ لا تخفى على أحد.

وعند زيارتي الثانية للمصنع، وبعد مُضي نحو عقدٍ من الزمن على الزيارة الأولى، وجدتُ بوناً واسعاً واختلافاً جذرياً واضحاً في الوضع البيئي العام في البيئة الداخلية والخارجية للمصنع، فالرؤية في داخل المصنع كانت واضحة لا غبار عليها، حتى أنك بإمكانك مشاهدة العمال على بعد مئات الأمتار، والبيئة الخارجية تحسنت أيضاً بدرجة ملموسة من حيث الانخفاض الشديد في نوعية وكمية الملوثات التي كانت تنبعث إلى الهواء الجوي.

هذا التغير العميق والجذري في الوضع البيئي، والتحسن الكبير في جودة الهواء في مصنع الألمنيوم هو في الحقيقة مثال نموذجي يعكس ويترجم السياسة التي اتبعتها الدول في تلك الفترة الزمنية، وبخاصة الدول النامية عند البدء في عملية التنمية، وبالتحديد التنمية الصناعية.
 
فقد أكدت قراءاتي لتاريخ التنمية الصناعية أنه كلما أرادت دولة أن تبدأ في اتخاذ الخطوات الأولى في النمو الاقتصادي وتضع اللبنات الأولى للولوج في العمليات التنموية، فإنها كانت تتبع سياسة متطرفة ومتعجلة تحاول قطف الثمار قبل نضوجها وجني الأرباح على حساب كل شيء آخر، فتفتح الباب على مصراعيه للنمو الصناعي بكافة أشكاله وأحجامه، وتُقدم التسهيلات الكبيرة والدعم المجزي للتوسع في هذا المجال واستقطاب وتشجيع أكبر عددٍ ممكن من المستثمرين، دون النظر في نوعية هذه المصانع من حيث استهلاكها للطاقة والوقود، أو استنزافها للثروة المائية، أو تدميرها للثروات الطبيعية الأخرى من الناحيتين النوعية والكمية. ومن الجانب الآخر، غض النظر والتجاهل كلياً عن كل ما ينطلق عن هذه المصانع من انبعاثات إلى الهواء الجوي، أو مخلفات سائلة تُصرف في المسطحات المائية، أو مخلفات صلبة يكون مصيرها في موقع هذه المصانع، أو في المدافن دون إتباع الطرق الصحية والبيئية المستدامة للتخلص منها.

ثم بعد فترة من الزمن من تبني هذه السياسة الأحادية الجانب والمُعَوقة للتنمية، تَرْجِعُ هذه الدول نفسها لتغير سياساتها من جديد فتدمج البعد البيئي في عملياتها التنموية، ولكن بعد أن أدت سياساتها القصيرة الأمد والمتطرفة إلى إحداث تدميرٍ عميقٍ في جميع مكونات البيئة، وتدهورٍ شديد في صحة الناس وتفاقم الأمراض المستعصية واستفحالها في المجتمع. وعلاوة على ذلك كله، فهذه السياسات الخاطئة نجمت عنها زعزعة في الأمن والاستقرار وضجر الناس وغضبهم من الوضع البيئي والصحي الذي يعانون منه، أي أن هذه السياسة المعوقة أدت إلى مشكلات بيئية، وصحية، واجتماعية، واقتصادية، وأمنية، وسياسية لا تحمد عقباها.

وهناك الكثير من الدول التي مَرَّت بهذه المراحل، فكانت في البداية الدول الصناعية المتقدمة الكبرى، كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي واليابان، ثم لحقتها بعد عقود الدول النامية، كالصين والهند وبعض الدول العربية، والتي اتبعت منهج وخطوات الدول المتقدمة شبراً بشبر وذراعاً بذراع ودخلوا جحر الضب نفسه الذي دخلت فيه الدول المتقدمة، فارتكبتْ الأخطاء نفسها، ووقعت في السلبيات نفسها، دون أن تستفيد شيئاً وتتعظ من زلات وهفوات الدول التي سبقتهم في مجال التنمية.

ولذلك أليس من الأولى أن تتبع الدول النامية المنهج المعتدل والوسطي في التنمية فتتعلم من تاريخ الصناعة في الدول المتقدمة، وتُجنب شعوبها وبيئتها ويلات وسلبيات التنمية الصناعية المعوقة وغير المستدامة، وتُبعد عن نفسها شبح السقوط في الكوارث الصحية والبيئية التي نزلت على الدول الصناعية الكبرى؟ 


الأربعاء، 20 فبراير 2013

مازالت الأبحاث تنهمر عن التدخين


منذ أن دخلت السجائر إلى الأسواق على نطاقٍ واسع وكبير في مطلع العشرينيات من القرن المنصرم، لم تتوقف الأبحاث والدراسات الميدانية البيئية والطبية المتعلقة بالجوانب البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية للتدخين، وهذه الأبحاث أجمعت كلها وأكدت على حقيقة واحدة هي أن التدخين شديد الضرر على صحة الفرد والمجتمع وأن التدخين هو السبب الرئيس للإصابة بالسرطان والموت الجماعي للناس، وهذه الدراسات والجهود العلمية لسبر غور التدخين ستستمر ما دام هذا السم القاتل والآفة المرضية موجودة بين الناس، ولن تتوقف حتى توقف آخر سيجارة من البيع في الأسواق.

وفي كل يوم يكتشف العلماء أبعاداً خطيرة جديدة للتدخين، سواء أكان التدخين عن طريق السجائر مباشرة أو الشيشة أو غيرهما، وفي كل يوم يتعرف الباحثون على حقائق حول التدخين أكثر تهديداً لصحة المدخن ومن يعيشون معه عن الحقائق السابقة.

ومنها الدراسة المنشورة في يناير 2013 في المجلة الأمريكية الطبية المعروفة وهي مجلة نيو إنجلد الطبية(New England Journal of Medicine)، حيث غطت هذه الدراسة فترة زمنية طويلة جداً بلغت خمسين عاماً وشملت عينة من الناس وصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف من المدخنين وغير المدخنين.

ويمكن تلخيص أهم الاستنتاجات في النقاط الربع التالية:
أولاً: التدخين يسبب وفاة 25% من النساء والرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 35 إلى 69 سنة.
ثانياً: عدد الموتى بين المدخنين وصل إلى قرابة ثلاثة أضعاف عددهم من بين غير المدخنين.
ثالثاً: التدخين أدى إلى انخفاض معدل عمر الإنسان قرابة عشر سنوات، أي أن التدخين قلل من عمر الإنسان عقداً من الزمن.
رابعاً: التوقف عن التدخين كلياً قبل أن يبلغ الإنسان الأربعين من العمر، يُخفض من احتمال موت المدخن بسبب التدخين، وهذا يشير إلى أن الموت بسبب التدخين يمكن منعه إذا عزف المدخن عنه في الوقت المناسب. 

وختاماً، إذا أردت أن تُعَمِّر فتعيش طويلاً فعليك بالتوقف فوراً عن التدخين.


الخميس، 7 فبراير 2013

لماذا هذا الاهتمام الدولي بالزئبق؟


ما هو الشيء الفريد والخاص بالزئبق لكي تترك دول العالم همومها وشؤونها اليومية ومشكلاتها الاقتصادية الخانقة فتجتمع مراتٍ كثيرة في دولٍ مختلفة من أجل الوصول إلى إجماعٍ دولي حول التحكم في هذا العنصر وتشديد الرقابة على مصادره؟

فقد خَتَمَتْ 140 دولة في 19 يناير اجتماعها الأخير في جنيف بعد أربع سنوات من المفاوضات الماراثونية الشاقة والمرهقة، وانتهت من كتابة الفصل الأخير لهذا الكتاب الطويل، حيث توصلت الآن إلى اتفاقية تاريخية تعتبر هي أول اتفاقية دولية ملزمة للأمم المتحدة تهدف إلى تحقيق الإدارة المستدامة للزئبق، وإلى أن تقوم كل دولة بخفض انبعاثاتها إلى الأوساط البيئية المختلفة، كما اتفقت الدول المُجتمعة على مراسم التوقيع على الاتفاقية في مدينة ميناماتا المشهورة في مقاطعة(Kumamoto Prefecture) في اليابان في أكتوبر من العام الجاري.

فلماذا إذن هذه الرعاية غير العادية من المجتمع الدولي برمته لهذا العنصر؟

إنَّ لهذا العنصر تاريخياً مظلماً ومخيفاً هَدَّدَ لعقودٍ طويلة من الزمن، ومازال، الصحة العامة للإنسان ولبيئته، فقد سقط بسبب الزئبق عشرات الآلاف من الضحايا البشرية بين صرعى لقوا حتفهم وقضوا نحبهم ووارى جثمانهم الثرى، وبين مرضى يصارعون الموت في كل ثانية، ويعانون من سكراته الشديدة، ويقاسون من أنواعٍ غريبة من التشوهات الخَلقية والعقلية التي لم يشهدها الإنسان من قبل.

فقد كتب هذا العنصر تاريخه بدماء الناس الذين تعرضوا له، وسطر كلماته من دموع وآهات وصرخات المرضى الذين تسممت دماؤهم وأعضاؤهم به، حيث انكشف الفصل الأول من كتاب تاريخ الزئبق في مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم في مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا في اليابان، عندما سمحت شركة (Chisso) لصناعة البلاستيك والمواد الكيميائية الأخرى بصرف المخلفات السائلة الصناعية التي تحتوي على عنصر الزئبق بالدخول في مياه خليج ميناماتا، وبهذه الممارسة الخاطئة وقعت واحدة من أكبر الكوارث البيئية والصحية التي سببتها أيدي الإنسان.

فبعد أن دخل الزئبق في مياه البحر، ترسب مع الوقت وبسرية تامة وخفاء إلى التربة القاعية، وهناك حولت البكتيريا الزئبق من الحالة العنصرية إلى الحالة العضوية، وهو مركب ميثيل الزئبق الذي يُعد أشد فتكاً وخطورة بالإنسان، ومنها تحرك هذا السم القاتل إلى النباتات العالقة في الماء، ثم الحيوانات والأسماك، وأخيراً، وبعد سنوات طوال استكمل دورته، فرجع إلى الإنسان نفسه عندما تناول الأسماك الملوثة بالزئبق، فأصابه بأعراضٍ مرضية مميتة، تمثلت في تلفٍ مزمن في الخلايا العصبية، والإصابة بالشلل، وفقدان الذاكرة، والأدهى من هذا والأمَّر، والأشد خطورة على المجتمع برمته هو انتقال هذا الملوث من الأمهات إلى الأطفال عبر الأجيال المتلاحقة، ولذلك وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً على هذه الكارثة المروعة مازالت هناك حالات تُكتشف حتى يومنا هذا مُصابة بهذا المرض.

ونتيجةً لهول وَقْعِ هذه الكارثة على المجتمع الياباني خاصة، والمجتمع الدولي عامة، فقد اعتذر رئيس وزراء اليابان أكثر من مرة للشعب الياباني، وأبدى أسفه الشديد واعتذاره لعدم قدرة الحكومة اليابانية على السيطرة على هذا الوباء القاتل.  

فلا غرابة إذن أن يثب المجتمع الدولي، فيقف وقفة رجلٍ واحد لمواجهة هذا المارد القاتل الذي تغلغل في كافة عناصر بيئتنا من ماءٍ وهاءٍ وتربة، وضرب أطنابه قوية في أعضاء أجسامنا فتراكم فيها، فكان لا بد بعد كل هذا وبعد أن كَشَفَتْ الكوارث البيئية والبشرية تاريخه الأسود الطويل من وضع القيود الملزمة دولياً على كافة تحركاته، ومراقبة جميع مصادره ومنتجاته، والعمل بجهدٍ جماعي مشترك من إلقاء القبض عليه أينما وجد.