الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

احذروا، فالقرى السرطانية قادمة


 كتبتُ مؤخراً عن وجود أكثر من 450 ”قرية سرطانية“ في الصين، أي وجود قرى يعاني السكان فيها من أمراض السرطان المختلفة أكثر من غيرهم من القرى الصينية الأخرى بسبب التلوث البيئي وتَجَذُر الملوثات المسرطنة في أعماق مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة.

 

وقد نُشرتْ دراسة ميدانية شاملة في الثامن من أغسطس من العام الجاري تؤكد حقيقة وواقعية هذه القرى السرطانية، وتأتي أهمية هذه الدراسة في مصداقيتها، حيث إنها دراسة حكومية رسمية، والحكومات عادة لا تتهم نفسها باتهامات خطيرة تتعلق بالأمن الصحي والبيئي للمواطنين، بل وفي أغلب الأحيان تبرئ نفسها في أن تكون السبب في وقوع أية مشكلة بهذا الحجم. فقد قام رئيس الوزراء الصيني السابق(Wen Jiabao) في عام 2004 بتكليف عِدة وزارات من بينها وزارة حماية البيئة، والصحة، والموارد المائية، إضافة إلى الحكومات المحلية بإجراء بحثٍ متخصص حول مزاعم وسائل الإعلام عن وجود ما أَطلقت عليه بـالقرى السرطانية“.    

 

فقد أفادت الدراسة التي قام بها المركز الصيني في منع والتحكم في الأمراض بالتعاون مع الوزارات المعنية أن معظم هذه القرى السرطانية يمكن مشاهدتها على طول نهر(Huaihe River) الذي يعد من أهم وأطول أنهار الصين ويبلغ طوله قرابة ألف كيلومتر، ويعتبر من أهم شرايين الحياة للملايين الذي يعيشون على ضفاف هذا النهر. ولكن هذا النهر العذب الزلال الذي من المفروض أن يعين الإنسان على الاستمرار في الحياة والقيام ببناء وإعمار الأرض، تحول نفسه إلى عامل هدمٍ وإفساد لصحة الإنسان، وأدى إلى إصابة سكان القرى التي تعتمد عليه للشرب والاحتياجات المنزلية بالسرطان، حيث ارتفعت النسبة في هذه القرى إلى 50% أعلى من المعدل الوطني ومقارنة بالقرى الأخرى البعيدة عن النهر.

 

وقد توصلت الدراسة إلى نتائج خطيرة وهامة جداً نستفيد منها في البحرين. أما النتيجة الأولى فهي أن مياه النهر التي تلوثت بسبب المخلفات السائلة من مصانع الجلد، والورق، والبلاستيك هي التي سببت إصابة المواطنين بمرض السرطان، مما يؤكد لنا ضرورة منع المخلفات السائلة من الوصول إلى المياه السطحية أو الجوفية، أو في الأقل معالجتها قبل صرفها في البيئة.

 

والنتيجة الثانية فهي علاقة ارتفاع نسبة السرطان في القرى والمدن الواقعة على النهر بالنمو الاقتصادي، وبخاصة من ناحية التنمية الصناعية، حيث شهدت هذه القرى نمواً اقتصادياً ملموساً بلغ نحو 10%، وهذه القرى نفسها هي التي وقعت فريسة سهلة لأمراض السرطان، مما يعني أهمية أن لا تكون التنمية الاقتصادية على حساب صحة وسلامة البيئة، وأن لا ندفع بصحة الإنسان ثمناً لهذه التنمية.   

 

 

 

السبت، 24 أغسطس 2013

العنف



تصور وأنت في منزلك مساءً تحاول أن ترتاح قليلاً فتأخذ قسطاً من النوم بعد يومٍ شاقٍ وطويل من الشغل والعمل في الأجواء الحارة، وإذا بالكهرباء تنطفئ فجأة واحدة، فلا مُكيف يبرد عليك جسمك، ولا إنارة تنير لك الطريق، فتحاول جاهداً وأنت تتلمس طريقك في هذا الظلام الكالح لتعرف موقع الخلل وتكشف أسباب انطفاء الكهرباء فتصلح العطل الموجود، فعندها تأخذ حذرك في كل خطوة تخطوها يميناً أو يساراً، إلى الأمام أو إلى الخلف مخافة أن تقع على الأرض فتصاب بجروحٍ أو كسور. وأنت في هذه الحالة العصيبة والمربكة تبدأ درجة حرارة الجو في المنزل بالارتفاع رويداً رويداً، ومع هذا الارتفاع لدرجة حرارة المنزل ومع طول فترة الانقطاع للكهرباء، ترتفع معها درجة حرارة جسمك وأعصابك، وسرعان ما تبدأ بالغضب وفقدان التحكم في تصرفاتك، وقد يستفزك أو يثيرك أي أمرٍ بسيط وتافه فتميل نحو التوتر والعنف والقيام بسلوكيات وأعمال غير حكيمة وطائشة لا تفكر في عواقبها المستقبلية.

هذه الحالة الفردية البسيطة كانت موضوع دراسة شاملة أُجريت في الولايات المتحدة الأمريكية من فريقٍ بحثي متعدد التخصصات من جامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة برستون الشهيرة، ونُشرت نتائج هذه الدراسة في مجلة علمية مرموقة هي مجلة العلوم الأمريكية(Science) في الثاني من أغسطس تحت عنوان:دراسة كمية لتأثيرات التغير المناخي على النزاعات البشرية”. ونظراً لأهمية موضوع هذه الدراسة المتعلق بالجانب الأمني للأفراد واستقرار الشعوب والدول، فقد نقلتها كل وسائل الإعلام الشرقية والغربية واهتمت كثيراً في تغطيتها، ووضعتها في صدر صفحاتها الأولى.

فهذه الدراسة حاولت معرفة العلاقة بين ارتفاع درجة الحرارة، أو ما نُطلق عليه الآن بظاهرة التغير المناخي وقيام الأفراد والجماعات بأعمال العنف والشغب. وبالتحديد طَرَحَتْ الأسئلة التالية: هل التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض له علاقة بسلوك الإنسان وتصرفاته مع أخيه الإنسان في المجتمع، بحيث إنه مع زيادة حرارة الجو، يزيد ميله نحو العنف والصراعات؟ وهل سخونة الهواء وحرارتها لها علاقة بارتكاب أعمال إجرامية وعنيفة ووقوع نزاعات مسلحة على كافة المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية؟

وجاءت نتائج الدراسة واضحة لا لَبْس ولا غموض فيها، حيث أكدت على أن هناك علاقة مباشرة بين التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض ونشوب واندلاع أعمال العنف ووقوع الصراعات المسلحة، كما أفادت أن التغير المناخي خطر حقيقي يهدد الأمن والسلم على المستويين القومي والدولي، أي أن التغير المناخي يُعد وقوداً يُشعل فتيل العنف والنزاعات المسلحة على كافة المستويات. وبالتحديد فإن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية من درجتين إلى أربع درجات بحلول عام 2050 أي خلال الـ 37 سنة القادمة،  يزيد من احتمال النزاعات بين المجموعات الكبيرة بنسبةٍ تتراوح بين 28% إلى 56%، وبين الأفراد والمجموعات الصغيرة في المجتمع الواحد بنسبة تتراوح بين 8% إلى 16%، ومن أكثر الدول تأثراً بالتغير المناخي هي الدول الحارة والتي ترتفع درجة حرارتها في الأيام والظروف الطبيعية العادية، كالدول الاستوائية ودول الخليج.

 وجدير بالذكر أن علاقة التغير المناخي بالعنف أو الأمن والاستقرار حظت باهتمام عدة معاهد بحثية أمريكية متخصصة في مجال التغير المناخي والبيئة والقضايا الأمنية الدولية، منها مركز التنمية الأمريكي(Center for American Progress)، ومركز المناخ والأمن(Center for Climate & Security)، ومركز ستيمسون(Stimson Center)، حيث عقدت مؤتمراً متخصصاً في مارس من العام الجاري لمناقشة قضيةٍ محددة هي علاقة أعمال العنف وثورات الربيع العربي بالتغير المناخي، وأكد المجتمعون على وجود علاقةٍ وطيدة بين الانتفاضات الشعبية في العالم العربي والتغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، أي أنهم استنتجوا أن التغير المناخي قضية أمنية، وليست بيئية ومناخية فحسب، وأن حدوث التغير المناخي يُسهم في أعمال العنف وزعزعة الأمن وتدهور الاستقرار.

وهذه الاستنتاجات التي تمخضت عن هذه الأبحاث تؤكد أهمية منع انبعاث الملوثات المتهمة بالتغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، وفي مقدمتها ثاني أكسيد الكربون والميثان، حتى نُبعد عن بلادنا كل العوامل التي تسهم في وقوع أعمال العنف والشغب، وننعم بالأمن والأمان في بلادنا.  

الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

الزَاري عَتيج



أتذكر عندما كنت صغيراً في السن في مسقط رأسي بالحورة، يَمُر علينا أشخاص في الحي يقومون بجمع المخلفات الصلبة من المنازل، وبخاصة تلك المخلفات التي يمكن إعادة استعمالها أو تدويرها، فكان الناس يَجْمعون هذه المخلفات في منازلهم ولا يلقونها مع القمامة المنزلية حتى يأتي هؤلاء الأشخاص وينادون بأعلى صوتهم ”زاري عتيج، مَوعتيج“، فتُستبدل هذه المخلفات بأدوات جديدة، معظمها كانت من الأواني المنزلية التي تستخدم في المطبخ.

وفي ذلك الوقت لم نكن نعرف أهمية مثل هذه الممارسات والأعمال البسيطة والبدائية التي يقوم بها جامعو المخلفات الصلبة، ولم نعرف أنها تعتبر الآن في المجتمعات المتحضرة والمتطورة من الممارسات الراقية التي تفتخر بها المدن التي تقوم بها، ولم نعرف أيضاً أنها من الممارسات التي حثت عليها الأمم المتحدة من خلال ما أُطلق عليها بـ ”جدول أعمال القرن الحادي والعشرين“، أو أجندة 21،وذلك بهدف تحقيق التنمية المستدامة في كافة دول العالم في مجال الإدارة البيئية السليمة للمخلفات الصلبة.

فهذه الممارسة كانت فطرية ومنطقية ومجدية اقتصادياً، فالكل مستفيد منها، فالمواطن الذي يجمع المخلفات في منزله يستفيد من خلال الحصول على بضاعة جديدة، والذي يجمع المخلفات مستفيد من ناحية بيعها ثم إعادة استعمالها أو تدويرها، وهذا يؤكد لي حقيقة تكلمتُ عنها عدة مرات وهي علاقة سلوك الإنسان وممارساته اليومية بالجانب المالي الاقتصادي، فتوافر هذا الجانب يشجع المواطن ويحفزه على القيام بممارسات محددة، مثل جمع المخلفات من المنزل وفصلها في حاويات خاصة بكل نوع.

وهنا أريد أن أشيد ببلدية المحرق التي ذكرتني بهذه العادات ”البيئية الفطرية“ التي كانت تمارس قديماً في المجتمع البحريني، متمنياً تعميم هذه التجربة على كافة محافظات البحرين، وتقنينها بأسلوب علمي منهجي لكي تتوافق مع الممارسات والأنظمة الحديثة في مجال إدارة المخلفات المنزلية الصلبة.

ولكي تنجح هذه التجربة من الضروري التفكير في آليةٍ تربط بين هذه الممارسات والبعد الاقتصادي، حتى يتفاعل الجمهور معها ويتشجع في القيام بها، فيخرج الجميع رابحين ومستفيدين من هذه العملية، البيئة، والدولة، والمواطن.

الاثنين، 12 أغسطس 2013

"الفراكينج": كلمة السر في مجال الطاقة



ربما سمعتَ أو قرأت هذه الأيام عن الاعتصامات والمظاهرات التي خرجت في بعض المدن الأوروبية والأمريكية، وكان آخرها المظاهرة التي خرجت في مدينة بالكومب(Balcombe) البريطانية في الثاني من أغسطس بهدف رفض المتظاهرين لقيام السلطات بعملية الحفر عن الغاز الطبيعي والبترول في تلك المنطقة.

وهذه المظاهرة ومثيلاتها من المظاهرات لا تعترض على استخراج الغاز الطبيعي أو البترول من باطن الأرض، وإنما تعترض على التقنية والطريقة الجديدة المستخدمة في عملية الحفر والتنقيب، وهي تُعرف بتقنية الحفر الأفقي وشق وكسر الصخور، وبالتحديد صخور الشيل أو طبقة الشيل(shale rock) الموجودة تحت الأرض باستخدام محلول مائي(hydraulic fracturing)، وباختصار تُعرف هذه الطريقة في الحفر بـ الفراكينج( fracking).

وهذه المظاهرات انتقلت الآن إلى أروقة البرلمانات ومجالس النواب، ودارت حواراتٍ معمقة بين رجال السياسة والبيئة والطاقة بين مؤيدٍ ومعارض، فرئيس حزب الديمقراطيين الأحرار في بريطانيا حَذَّر في الثالث من أغسطس من أن هذه العملية ستدمر البيئات الريفية لعشرات السنين، في حين أن وزير المالية جورج أوزبورن دافع عن عملية الفراكينج ووجه رسالة قوية في الخامس من أغسطس قائلاً إنه من ”الخطأ الفادح أن تُفَوِّتَ بريطانيا فرصة الثورة في الغاز الصخري والوظائف التي يكونها للمجتمع“.

فهذه التقنية الجديدة خلقت ثورة عارمة وواسعة النطاق في مجال الطاقة، وتتمثل في استخراج البترول والغاز الطبيعي المحبوس في أعماق سحيقة في بطن الأرض تصل إلى ثلاثة كيلومترات بتقنية الحفر الأفقي تحت الأرض وباستخدام محلول مائي تحت ضغطٍ عالٍ جداً يحتوي على الماء والرمل وعددٍ كبيرٍ من المواد الكيميائية السرية التي لم يتم الكشف عنها حتى الآن، ولذلك فإن هذه الطريقة الحديثة خلقت معارضة قوية من الناحيتين البيئية ومن ناحية الأمن والسلامة.

أما من الناحية البيئية فإن التحفظات على هذه الطريقة يمكن إيجازها في النقاط التالية. فالنقطة الأولى هي تسرب الغاز الطبيعي أو الميثان من شقوق الصخور إلى الهواء الجوي، والتسبب في تلويث الهواء وتعميق مشكلة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث إن الميثان يعتبر من الغازات المتهمة في ارتفاع سخونة الأرض. كما أن الغاز في بعض الحالات قد يتسرب إلى طبقات المياه الجوفية فيصل في نهاية المطاف إلى مياه الشرب، فيشرب الناس مياهاً ملوثة بالميثان والملوثات الأخرى الموجودة في الغاز الطبيعي. وهناك دراسات أكدت على هذه الحقيقة، منها دراسة منشورة في يونيو من العام الجاري في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، حيث أكدت على وجود الميثان وملوثات أخرى في مياه الشرب بسبب عمليات الحفر في تلك المنطقة، وبالتحديد في تكوين صخور مارسيلس الجوفية(Marcellus Formation) الذي يقع تحت ولاية نيويورك وبنسلفانيا وغرب فيرجينيا وأوهايو، كما أكدت الدراسة على أنه كلما تم الاقتراب من آبار الحفر، زاد تركيز هذه الملوثات. والنقطة الثانية المتعلقة بالجانب البيئي لتقنية الفراكينج هي ملايين الجالونات من المخلفات السائلة الناجمة عن الحفر، حيث إنها تكون بأحجام ضخمة جداً ومن الضروري منعها من الوصول إلى المياه الجوفية، أو السماح لها بتلويث التربة والمياه السطحية. والنقطة الثالثة فهي أن عمليات الحفر والتنقيب واستخراج الغاز أو النفط تدمر وتهلك البيئة الطبيعية والحياة الفطرية الموجودة في تلك المنطقة.

والجانب الأمني فهو حدوث الزلازل في مناطق الحفر، وهناك دراسات ومشاهدات عملية أكدت على ذلك، منها الزلازل التي وقعت في مدينة بلاكبول(Blackpool) الساحلية البريطانية في شهري أبريل ومايو 2011.    كذلك كشفت دراسة منشورة في مجلة العلم(Science) الأمريكية في مايو من العام الجاري أن معدل وقوع الزلازل في أمريكا له علاقة مباشرة بعمليات الحفر، حيث إن المعدل ارتفع بشكل ملحوظ مع بدء العمليات في مناطق شرق ووسط أمريكا.

وبالرغم من هذه التحفظات والسلبيات المصاحبة لعملية الشق الصخري لاستخراج الغاز الطبيعي والنفط، إلا أن الحكومات لا تُعير هذه السلبيات أي اهتمامٍ ملحوظ، فكل الدول، وبخاصة الدول الغربية والصين والهند متعطشة لأي مصدرٍ للطاقة، وتلهث وراء أي مصدرٍ للطاقة يوجد محلياً، ولذلك لن تتوانى، أو تتردد في استخراجه حتى ولو كان على حساب الأمن البيئي، فتحقيق أمن الطاقة في الدول فوق كل اعتبار، ويحظى بالأولوية في البرامج الحكومية، فالطاقة هي عصب التنمية وتحقيق الازدهار المعيشي والنمو الاقتصادي، وهو أساس تثبيت ودعم الاستقرار السياسي والأمني القومي.

ولذلك نجد الآن أن كل دول العالم تَجري سريعاً لكسب سباق استخراج الغاز والنفط الصخري باستخدام عملية الفراكينج“، فهي تفتح الباب على مصراعيه لتنمية اقتصادية كبيرة ومستدامة تحتاج إليها الدول بعد أن عانت سنواتٍ عِجاف من الكساد والركود وشل عجلة التنمية.

الأحد، 11 أغسطس 2013

"الفراكينج": كلمة السر في مجال الطاقة



ربما سمعتَ أو قرأت هذه الأيام عن الاعتصامات والمظاهرات التي خرجت في بعض المدن الأوروبية والأمريكية، وكان آخرها المظاهرة التي خرجت في مدينة بالكومب(Balcombe) البريطانية في الثاني من أغسطس بهدف رفض المتظاهرين لقيام السلطات بعملية الحفر عن الغاز الطبيعي والبترول في تلك المنطقة.

وهذه المظاهرة ومثيلاتها من المظاهرات لا تعترض على استخراج الغاز الطبيعي أو البترول من باطن الأرض، وإنما تعترض على التقنية والطريقة الجديدة المستخدمة في عملية الحفر والتنقيب، وهي تُعرف بتقنية الحفر الأفقي وشق وكسر الصخور، وبالتحديد صخور الشيل أو طبقة الشيل(shale rock) الموجودة تحت الأرض باستخدام محلول مائي(hydraulic fracturing)، وباختصار تُعرف هذه الطريقة في الحفر بـ الفراكينج( fracking).

وهذه المظاهرات انتقلت الآن إلى أروقة البرلمانات ومجالس النواب، ودارت حواراتٍ معمقة بين رجال السياسة والبيئة والطاقة بين مؤيدٍ ومعارض، فرئيس حزب الديمقراطيين الأحرار في بريطانيا حَذَّر في الثالث من أغسطس من أن هذه العملية ستدمر البيئات الريفية لعشرات السنين، في حين أن وزير المالية جورج أوزبورن دافع عن عملية الفراكينج ووجه رسالة قوية في الخامس من أغسطس قائلاً إنه من ”الخطأ الفادح أن تُفَوِّتَ بريطانيا فرصة الثورة في الغاز الصخري والوظائف التي يكونها للمجتمع“.

فهذه التقنية الجديدة خلقت ثورة عارمة وواسعة النطاق في مجال الطاقة، وتتمثل في استخراج البترول والغاز الطبيعي المحبوس في أعماق سحيقة في بطن الأرض تصل إلى ثلاثة كيلومترات بتقنية الحفر الأفقي تحت الأرض وباستخدام محلول مائي تحت ضغطٍ عالٍ جداً يحتوي على الماء والرمل وعددٍ كبيرٍ من المواد الكيميائية السرية التي لم يتم الكشف عنها حتى الآن، ولذلك فإن هذه الطريقة الحديثة خلقت معارضة قوية من الناحيتين البيئية ومن ناحية الأمن والسلامة.

أما من الناحية البيئية فإن التحفظات على هذه الطريقة يمكن إيجازها في النقاط التالية. فالنقطة الأولى هي تسرب الغاز الطبيعي أو الميثان من شقوق الصخور إلى الهواء الجوي، والتسبب في تلويث الهواء وتعميق مشكلة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث إن الميثان يعتبر من الغازات المتهمة في ارتفاع سخونة الأرض. كما أن الغاز في بعض الحالات قد يتسرب إلى طبقات المياه الجوفية فيصل في نهاية المطاف إلى مياه الشرب، فيشرب الناس مياهاً ملوثة بالميثان والملوثات الأخرى الموجودة في الغاز الطبيعي. وهناك دراسات أكدت على هذه الحقيقة، منها دراسة منشورة في يونيو من العام الجاري في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم، حيث أكدت على وجود الميثان وملوثات أخرى في مياه الشرب بسبب عمليات الحفر في تلك المنطقة، وبالتحديد في تكوين صخور مارسيلس الجوفية(Marcellus Formation) الذي يقع تحت ولاية نيويورك وبنسلفانيا وغرب فيرجينيا وأوهايو، كما أكدت الدراسة على أنه كلما تم الاقتراب من آبار الحفر، زاد تركيز هذه الملوثات. والنقطة الثانية المتعلقة بالجانب البيئي لتقنية الفراكينج هي ملايين الجالونات من المخلفات السائلة الناجمة عن الحفر، حيث إنها تكون بأحجام ضخمة جداً ومن الضروري منعها من الوصول إلى المياه الجوفية، أو السماح لها بتلويث التربة والمياه السطحية. والنقطة الثالثة فهي أن عمليات الحفر والتنقيب واستخراج الغاز أو النفط تدمر وتهلك البيئة الطبيعية والحياة الفطرية الموجودة في تلك المنطقة.

والجانب الأمني فهو حدوث الزلازل في مناطق الحفر، وهناك دراسات ومشاهدات عملية أكدت على ذلك، منها الزلازل التي وقعت في مدينة بلاكبول(Blackpool) الساحلية البريطانية في شهري أبريل ومايو 2011.    كذلك كشفت دراسة منشورة في مجلة العلم(Science) الأمريكية في مايو من العام الجاري أن معدل وقوع الزلازل في أمريكا له علاقة مباشرة بعمليات الحفر، حيث إن المعدل ارتفع بشكل ملحوظ مع بدء العمليات في مناطق شرق ووسط أمريكا.

وبالرغم من هذه التحفظات والسلبيات المصاحبة لعملية الشق الصخري لاستخراج الغاز الطبيعي والنفط، إلا أن الحكومات لا تُعير هذه السلبيات أي اهتمامٍ ملحوظ، فكل الدول، وبخاصة الدول الغربية والصين والهند متعطشة لأي مصدرٍ للطاقة، وتلهث وراء أي مصدرٍ للطاقة يوجد محلياً، ولذلك لن تتوانى، أو تتردد في استخراجه حتى ولو كان على حساب الأمن البيئي، فتحقيق أمن الطاقة في الدول فوق كل اعتبار، ويحظى بالأولوية في البرامج الحكومية، فالطاقة هي عصب التنمية وتحقيق الازدهار المعيشي والنمو الاقتصادي، وهو أساس تثبيت ودعم الاستقرار السياسي والأمني القومي.

ولذلك نجد الآن أن كل دول العالم تَجري سريعاً لكسب سباق استخراج الغاز والنفط الصخري باستخدام عملية الفراكينج“، فهي تفتح الباب على مصراعيه لتنمية اقتصادية كبيرة ومستدامة تحتاج إليها الدول بعد أن عانت سنواتٍ عِجاف من الكساد والركود وشل عجلة التنمية.