السبت، 27 ديسمبر 2014

اجتماعات التغير المناخي تُراوح في مكانها


الهدف الرئيس من أي اجتماع، أو مؤتمر على مستوى منظمات الأمم المتحدة هو الوصول إلى حلولٍ توافقية ومتزنة وملزمة، تُراعِي مصالح جميع الدول الأعضاء، وتتمثل هذه الحلول في أداة يُطلق عليها "الاتفاقيات والمعاهدات الدولية"، حيث تُسهم كل دولة في الحل وعلاج القضية موضع النقاش والتفاوض، ولذلك فنجاح الاجتماع، أو فشله يعتمد أساساً على تحقيق هذا الهدف والوصول إلى الحل الجماعي المشترك والملزم للجميع.

 

ودعونا نطبق هذا المعيار على الاجتماع الأممي العشرين الذي عقد في مدينة ليما في بيرو في الفترة من الأول من ديسمبر إلى الرابع عشر من العام الجاري لمناقشة قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، فقد تمخضت عن الاجتماع عدة قرارات "طوعية" أي "غير ملزمة" على الدول، أُطلق عليها نِداء ليما للعمل للمناخ(Lima Call for Climate Action)، وفي جوهرها لا تختلف عن اجتماعات التغير المناخي التي عُقدت في السنوات الماضية، منها الاجتماع الذي عُقد في مدينة كنكون في المكسيك عام 2010، وديربن في جنوب أفريقيا عام 2011، والدوحة 2012، ووارسو في بولندا 2013.

 

ومن القرارات التي اتخذت في اجتماع ليما وتكررت نفسها في الاجتماعات السابقة هي قيام جميع الدول بتحديد تعهداتها والتزاماتها تجاه خفض الانبعاث سنوياً من الغازات المتهمة بإحداث التغير المناخي بعد عام 2020، أي بعبارةٍ أخرى تقوم كل دولة حسب ظروفها وإمكاناتها المالية والتقنية بتقديم تصوراتها حول نسبة خفضها للإنبعاثات، ولذلك فاجتماع ليما لم يتخذ قراراً جماعياً يلزم فيه الدول على خفض انبعاثاتها من الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض، وتم إرجاء مثل هذا القرار إلى قمة باريس في ديسمبر عام 2015، فاجتماع ليما إذن فشل في تحقيق الهدف الرئيس، وكل ما قام به هو الحفاظ على ماء وجه الآلاف من الوفود المشاركة بإعلانٍ لا قيمة فعلية له بدلاً من الحفاظ على كوكب الأرض.

 

والسؤال الذي أطرحه الآن هو: هل تستطيع قمة باريس المرتقبة للتغير المناخي من عقد صفقةٍ مناخية دولية ملزمة لكافة دول العالم؟

 

لكي أجيب عن هذا السؤال لا بد لي من التطرق إلى الوضع السياسي القائم في الولايات المتحدة الأمريكية فدورها هو الأساس والمحوري في نجاح أو إفشال أية اتفاقية دولية، وهذا الدور تأكد في إفشالها لبروتوكول كيوتو لعام 1997 الذي ألزم الدول الصناعية الغنية على خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة، حيث وافقت أمريكا في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلنتون على البروتوكول ثم جاء عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش فأبطل البروتوكول ورفض الكونجرس المصادقة عليه.

 

وهذا المشهد السياسي يتكرر من جديد فالرئيس أوباما وهو الآن في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، متحمس لمعاهدة دولية ملزمة للجميع، ولكنه في الوقت نفسه لا يمتلك حق اتخاذ القرار النهائي والمصادقة على أية اتفاقية دولية، فهذه الحق مكفول للكونجرس الذي يسيطر عليه أعداء ومنكرو ظاهرة التغير المناخي وهو الحزب الجمهوري. وجدير بالذكر أن لجنة البيئة والأشغال العامة المعنية مباشرة بقضايا البيئية يرأسها أحد الغلاة والمتطرفين والمنكرين لدور الإنسان في وقوع ظاهرة التغير المناخي وهو الجمهوري من ولاية أوكلاهوما جيمس إنهوف(James M. Inhofe). وعلاوة على هذا فقد كشفت صحيفة النيويورك تايمز في 6 ديسمبر 2014 عن أن جماعات الضغط في مجال الطاقة الذين يمثلون شركات الطاقة ورجال الكونجرس الجمهوريين عملوا تحالفاً سرياً لمواجهة القوانين الاتحادية في مجال البيئة والتي قد تضر بمصالحهم، وبالتحديد التغير المناخي. كما أكدت صحيفة الواشنطن بوست في 7 ديسمبر 2014 على وجود هذا التحالف السري من أن جماعات الضغط المتعلقة بالوقود الأحفوري وبالتعاون مع الجمهوريين يعملون على مواجهة الأنظمة البيئية وبخاصة المتعلقة بالتغير المناخي والإنبعاثات من محطات توليد الكهرباء، فشركات النفط والفحم والغاز أنفقت الملايين لانتخاب الجمهوريين في الكونجرس والآن جاء دورهم لدفع الديون التي عليهم.

 

فهذه المعطيات والحقائق التي أراها أمامي لا تجعلني أرى أية بارقة أمل في هذا النفق المظلم الذي تسير فيه قضية التغير المناخي منذ أكثر من 22 عاماً، ولذلك فإنني لا أتوقع وصول دول العالم في قمة باريس إلى اتفاقية مشتركة تتعد بها كافة دول العالم.

 

 

الخميس، 25 ديسمبر 2014

كارثةٌ جَفَّت أقلامها وطُويتْ صُحفها



لو وقعتْ هذه الكارثة البليغة التي سقط ضحيتها مئات الآلاف بين قتيلٍ وجريح في سويعات قليلة في الدول الصناعية، أو الدول المتقدمة لتغير الاهتمام بها، ولتسابقت وسائل الإعلام في تغطيتها ونشر تفاصيلها يومياً، وإحياء ذكراها كل سنة، ولتمت ملاحقة المتهمين والجناة إلى يوم القيامة، ولكن هذه الطامة الكبرى دخلت في غياهب ظلمات التاريخ، ورفعت أقلامها وطويت صحفها، وغابت عن رعاية الناس والدول ومنظمات الأمم المتحدة، وسقطت من قائمة أولوياتهم لأنها نزلت في دولةٍ نامية وعلى الفقراء والمستضعفين منهم الذين لا حول لهم ولا قوة، وليست لديهم الإمكانات المالية والعلمية للدفاع عن أنفسهم وعن من سقطوا ضحايا في هذه الكارثة.

هذه النكبة البشرية العظمى هي كارثة بوبال التي وقعت قبل نحو ثلاثين عاماً في مثل هذا الشهر، وصُنفَت في حينها كأسوأ كارثة كيماوية صناعية في تاريخ البشرية، ومازالت حتى الآن تحتل المرتبة الأولى في قائمة الكوارث البيئية، ولا ينافسها في هذه المرتبة إلا كارثة تشرنوبيل النووية.

ففي مطلع السبعينيات من القرن المنصرم بدأ مصنع هندي أمريكي هو يونيون كاربيد(Union Carbide plant) والذي تملكه الآن شركة داو للكيماويات(Dow Chemical) بإنتاج مبيدٍ يعرف تجارياً تحت اسم سيفن (Sevin) في مدينة بوبال التي يسكنها 1.8 مليون نسمة. وكما هو الحال في معظم الدول النامية، اعتبرت الحكومة هذا المصنع شريان الحياة للفقراء والمحتاجين، فيُوفر لهم الوظيفة الآمنة، ويحسن أحوالهم ومعاشهم، فيحول حياتهم من بؤسٍ وشقاء إلى سعادةٍ وهناء، ومن فقرٍ وضعف إلى غنىً وثراء، ومن جهلٍ وتخلف إلى علمٍ وتقدم.

فشرع هذا المصنع المـُـنقذ لحياة الناس بإنتاج أطنانٍ من المبيد، وكدسه في خزانات في موقع المصنع بطرقٍ بدائية رخيصة، لا تلتزم بأدنى معايير الأمن والسلامة، وتفتقد إلى أسس الرعاية السليمة، ومع هذه الممارسات الخاطئة التي استمرت عدة سنوات، كأنهم بدأوا بتشغيل ساعة انفجار قنبلةٍ موقوتة، فدقت عقاربها وبدأ العد التنازلي حتى وصل إلى دقيقة الصفر وهي ليلة الثاني من ديسمبر 1984، حيث كانت السماء صافية، والنجوم تتلألأ في الأعالي، والأجرام تُزين السماء الدنيا بالأنوار الجميلة والساطعة التي تتغلغل كالسهام فتضيء ظلمة الليل، وما هي إلا لحظات حتى تحول فيها الأمن والسكون إلى جحيمٍ مسعور يلتهب ناره على النائمين والآمنين في منازلهم، فقد تسرب من الخزانات زهاء 27 طناً من أشد الغازات سمية وفتكاً بالإنسان والحيوان والطير وهو المبيد ميثيل أيسو سينيت(methylisocyanate)، فانطلق كالقنبلة الكيميائية إلى الهواء مكوناً سحباً قاتلة نزلت على الناس وهم في غفلةٍ ونومٍ عميقين، فقضت فوراً على قرابة عشرة آلاف من البشر، حتى أن الطيور تسممت فسقطت صرعى من أشجارها، فقد تحولت المدينة فجأة إلى ساحة حرب، ترى فيها الناس صرعى كأنهم أعجازٍ نخل خاوية، فالجثث البشرية منتشرة في كل شارع، وفي كل طريق، وفي كل منزل، والمصابون والجرحى الذين بلغ عددهم نحو 200 ألف يركضون في الطرقات من شدة الوقع والألم الذي باغتهم فجأةً بدون سابق إنذار، وكأنهم حُمرٌ مستنفرة فرَّت من قَسْوَرة، فامتلأت المستشفيات والمراكز الصحية، حتى أن الآلاف من الناس افترشوا الأرض وتلحفوا السماء انتظاراً للعلاج والدواء، ولم ينته الأمر هنا وفي ذلك اليوم الكئيب، وإنما انتقلت آثار التعرض للسم إلى الأجيال اللاحقة، ومازالت المعاناة حتى يومنا هذا، فالكثير من النساء وضعن أجنة مصابة بعاهات جسدية، وعيوب خَلْقية منها فقدان للبصر أو السمع، أو التخلف العقلي، أو تغير لون الجلد، أو التشوه في بعض الأعضاء، أو الولادات المبكرة.

فبعد هذا المشهد المهيب، والمنظر المحزن والمخيف الذي لم نر مثله إلا في الحروب العالمية، لم تعترف الشركة الأمريكية، وحتى كتابة هذه السطور بمسئوليتها لوقوع هذه الكارثة، فكل ما قامت به هو دفع مبلغ زهيد ومُهين يؤكد الاستهانة بأرواح البشر ومعاناتهم، وقدره 470 مليون دولار للحكومة الهندية لسد أفواه الفقراء، ومنعهم من رفع أية قضايا جنائية ضدهم. ولكي تتأكدوا الآن الفرق والتمييز المتعمد والفاضح بين بني البشر على أساس الحالة الاقتصادية، والوضع الاجتماعي، والبلد الذي يعيش فيه هو أن حصة كل هندي فقد عزيزاً له، ابناً كان، أم زوجاً، أم زوجة من هذا المبلغ الإجمالي هو 1600 دولار فقط، أي نحو 600 دينار بحريني لا غير، وكل مصاب منهم استلم 500 دولار، أي نحو 190 ديناراً فقط.

فمن الواضح إذن أن دم الإنسان الغربي الغني الذي ينتمي إلى دولة صناعية متقدمة يساوى أكثر آلاف الأضعاف من دم الإنسان الفقير من دولة نامية، والدليل هو أنه في عام 2011 أمرت محكمة أمريكية شركة يونيون كاربيد بدفع مبلغ وقدره 18 مليون دولار لمواطن أمريكي واحد فقط سقط ضحية الإصابة بمرض الأسبستوسس أو السرطان الذي سببه التعرض للأسبستوس، وفي حالةٍ أخرى أمرت محكمة أمريكية في عام 2006 في ولاية فلوريدا إحدى شركات التبغ بتعويض مواطن أمريكي واحد فقط أصيب بسرطان الرئة مبلغ وقدره 41 مليون دولار!

الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

درسٌ أمريكي للصين


أزمة خانقة ومزمنة تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد مدينة لوس أنجلوس، مدينة هوليود وصناعة الأفلام بولاية كاليفورنيا منذ مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، ومنذ ذلك الوقت ومدينة لوس أنجلوس تقاسي من غزوٍ خارجي، وتواجه عدواً صنديداً مُقاوم، وتخوض حرباً شرسة طويلة الأمد لإيقاف هذا الغزو، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة لهزيمته، فتكسب جولة من المعارك وتخسر جولة أخرى، وهي مازالت على هذه الحالة من الكر والفر، والنجاح والفشل.

 

هذه الحرب التي تخوضها مدينة لوس أنجلوس تتمثل في ظهور السحب البنية الصفراء اللون، أو ما يُطلق عليه الآن بالضباب الضوئي الكيميائي المليء بالملوثات السامة والمشحون بالمركبات القاتلة، وهي عندما تنكشف في السماء تدق أجراس الإنذار، وتصيح وسائل الإعلام منذرة الناس إلى عدم الخروج من منازلهم وتجنب ممارسة الأنشطة في البيئات الخارجية، حتى إن هذه الأزمة الخانقة عندما تشتد وتصل ذروتها تغلق المدارس أبوابها وتتوقف وتنشل حركة السيارات والطائرات. 

 

ويصف عمدة لوس أنجلوس، إرك جارسيتي(Eric Garcetti) هذه الظاهرة البيئية والصحية الخطيرة وهي في مهدها في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان الظهور الأول للضباب القاتل أثناء الحرب العالمية الثانية، فقال: "لقد كان مشهد الهواء الجوي سيئاً، والضباب كثيفاً لدرجةٍ كبيرة انعدمت فيها الرؤية، حتى أن الناس ظنوا أن لوس أنجلوس قد تعرضت لهجومٍ كيميائي من قنبلةٍ كيميائية يابانية"، وأضاف العمدة قائلاً: "أننا في تلك الحقبة الزمنية كُنا نستنشق ونتنفس أقذر هواء، وأشُده تلوثاً في العالم، فالأطفال مُنعوا من اللعب في الخارج، وغرف الطوارئ امتلأت بالمرضى".

 

واليوم هذه الأزمة نفسها تظهر وتنكشف في مدينة أخرى في الضفة الشرقية من كوكبنا، وبالتحديد العاصمة الصينية بكين، فتكشر عن أنيابها وتهدد صحة وسلامة الناس وتصيبهم بالموت المبكر والأمراض المزمنة والمستعصية.

 

فبكين بدأت تعاني من هذا الضباب القاتل منذ سنواتٍ معدودة، فتجربتها قليلة، وخبرتها بسيطة مع هذه الحرب البيئية الشرسة، ولذلك هي بأمس الحاجة لتلقي الدروس من المدن التي عانت من هذا الضباب، والتعلم من سبل وطرق مواجهة هذا العدو وخوض معارك رابحة ضده، فالمـُعلم الأول، والخبير الأوحد الذي التحم مع هذا العدو وخاض معارك طويلة ضده، ومازال حتى يومنا هذا هو مدينة لوس أنجلوس.

 

فاضطر عمدة لوس أنجلوس إلى شد الرحال إلى بكين في ديسمبر من العام الجاري لإلقاء محاضرة عن كيفية خوض هذه الحرب الماراثونية، وإعطاء الدروس للصينيين لاستراتيجيات كسب هذه الحرب التي لا تميز بين فقيرٍ أو غني، صغيرٍ أو كبير، وزيرٍ أو غفير، فالجميع مستهدف، وقد يقع فريسة سهلة لتداعياتها ومخاطرها.

 

وقد لخص العمدة الدروس والعبر التي تعلمتها لوس أنجلوس من معاركها الطويلة والمستمرة مع هذا العدو في نقطتين رئيستين. الأولى هي الاعتراف الرسمي بوجود هذا العدو وواقعتيه على الأرض، ثم الاعتراف بالتهديدات البيئية والصحية الحادة والمزمنة التي يلحقه بالهواء الجوي وبصحة الناس، فالصين منذ سنواتٍ طويلة كانت لا تعترف بوجود هذا العدو وتنكر واقعيته، وكانت تؤكد بأن هذه السحب التي تنكشف بشكلٍ يومي طبيعية وما هي إلا الضباب العادي الذي ينكشف في كل دول العالم، ولذلك لا توجد أية أضرار من وقوعه. والهدف من الاعتراف هو حث وتشجيع كافة أجهزة الدولة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، إضافة إلى الجمعيات الأهلية والجامعات ومراكز الأبحاث للعمل يداً واحدة لمكافحة هذا العدو المشترك للبلاد، والإسهام الجماعي في خطط مواجهته والتصدي له. والثانية فهي سن تشريعاتٍ صارمة لخفض كافة الانبعاثات التي تؤدي إلى تكوين هذه السحب من مصادرها المتعددة، والعمل على تشديد تنفيذ هذه التشريعات على الجميع، سواء أكانت مصانع حكومية أو خاصة.

 

أما الدرس الذي تعلمته شخصياً من هاتين الحالتين هو أننا يجب في البحرين أن ننمي بلادنا اقتصادياً واجتماعياً دون أن ندمرها بيئياً وندمر صحتنا معها، وأن نقوم بتعميرها دون إفسادها، فالمطلوب هو التوازن الدقيق والتوافق بين كل متطلبات الحياة، من اقتصادٍ مزدهر، ومعيشة كريمةٍ، وهواءٍ سليم، وماءٍ نقي وصافي، وبحر منتجٍ ومعطاء.

الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

وأخيراً حَكَمَتْ المحكمة


من عجائب هذه القصة التي سأرويها لكم أن جمعية أهلية بريطانية أعضاؤها من المحامين والحقوقيين ورجال القانون اسمها "زبون الأرض"(ClientEarth) تَرفع شكوى بيئية وصحية في الوقت نفسه في محكمة العدل الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي ضد حكومتها، أي ضد الحكومة البريطانية!

 

ولكن هذه الجمعية البريطانية لم تلجأ إلى الشكوى للغريب والبعيد ضد حكومتها بين عشيةٍ وضحاها، ودون إعطاء الحكومة الفرصة الكافية والوقت المناسب للنظر في دعواها والتداول في حيثيات شكواها، وإنما انتظرت سنواتٍ طويلة عجاف، وصبرت كثيراً على المعاناة والمرض لعل حكومتها تحرك ساكناً، وتعمل على علاج مشكلاتها، ولكن بعد أن نفد الصبر، وتفاقمت الأزمة، وفشلت الحكومة في علاج المشكلة، اضطرت هذه الجمعية إلى الذهاب إلى محكمة العدل الأوروبية.

 

وقد جاءت مبررات رفع الدعوى ضد الحكومة البريطانية على لسان محامي الجمعية الذي قال:"إن من حق كل مواطن أن يستنشق هواء نظيفاً وعليلاً ونقياً وأن يعيش في بيئةٍ صحيةٍ وسليمة، وعندما تفشل الحكومة في حمايتنا من التلوث الضار بصحتنا وصحة بيئتنا، فنحن لدينا الحق في اللجوء إلى المحاكم للمطالبة بحقوقنا، وكلما تأخرت الحكومة في اتخاذ الإجراءات المناسبة، كلما زاد أعداد المرضى والموتى".

 

فالقضية إذن تأتي في باب "حقوق المواطن الأساسية"، وبالتحديد "الأمن البيئي والصحي"، والدول والحكومات واجبها إعطاء هذه الحقوق وتأمينها للمواطن، وفي حالة عدم القيام بهذا الواجب، أو التقصير فيه ، أو فشلها في برامجها، فيجب محاسبتها بكل الوسائل القانونية المتاحة. فإحصاءات منظمة الصحة العالمية المتعلقة بتلوث الهواء، وبالتحديد من الجسيمات الدقيقة، تؤكد الموت المبكر لنحو سبعة ملايين إنسان سنوياً على المستوى الدولي، كما تفيد تقارير الاتحاد الأوروبي عن الموت المبكر لأكثر من 40 ألفسنوياً على مستوى الاتحاد الأوروبي بسبب تلوث الهواء، وفي بريطانيا عدد الهالكين من فساد الهواء يبلغ قرابة 29 ألف، وعلاوة على هذه الأعداد المرتفعة من البشر الذين يسقطون ضحايا سنوياً، فإن تلوث الهواء حسب إحصاءات وكالة البيئة الأوروبية المنشورة في 25 نوفمبر يُكبد بريطانيا خسائر مالية تقدر بأكثر من عشرة بلايين جنيه، كما اعترف علماء بريطانيا بأن "شارع أكسفورد" والمعروف بأكسفورد ستريت هو الأسوأ في العالم بالنسبة لتركيز الملوثات في هوائها.

 

ولذلك فالقضية مسألة حياةٍ أو موت، مسألة أن يعيش الإنسان بصحة وعافية وسعادة، أو أن يعيش طوال حياته في بؤس وشقاء وهو يعاني من الأسقام والعلل المزمنة، وقد تم رفع قضايا عدة ضد الحكومة لأكثر من عشر سنوات لعلاج هذه الظاهرة المدمرة لصحة الإنسان، ولكن دون جدوى، كما أن الاتحاد الأوروبي هدد بريطانيا وحذرها مراتٍ كثيرة على تجاوزها للحدود المسموح بها لتركيز بعض الملوثات في الهواء الجوي وأنذرها بضرورة التقيد والالتزام بالمعايير والمواصفات الأوروبية المتعلقة بجودة الهواء الجوي، وبالرغم من كل هذه الجهود إلا أن الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تفعل بجدية وفاعلية لتلبية هذا الحق الدستوري للمواطن.

 

فجاء أخيراً وبعد طول انتظار، وانتهت وقائع هذه القصة في19 نوفمبر من العام الجاري، عندما صدر الحُكم لصالح الجمعية الأهلية البريطانية، حيث اتخذت محكمة العدل الأوروبية قراراً حاسماً وواضحاً وهو أن على بريطانيا اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة فوراً وبصفة مستعجلة لخفض مستوى الملوثات في الهواء الجوي والالتزام بأنظمة الاتحاد الأوروبي، ويُعد هذا الحكم تاريخياً في مسيرة الاتحاد الأوروبي، فيعتبر الأول من نوعه في مجال تنفيذ القانون الأوروبي حول جودة الهواء.

 

وأتمنى من دول مجلس التعاون أن يقتدوا بالاتحاد الأوروبي في وضع قوانين صارمة مشتركة لجودة الهواء، ويحددوا آلية واضحة لتطبيقها ومعاقبة من لا يلتزم بها، حتى يكون هواؤنا دائماً سليماً ونقياً ويحمي صحتنا من الأمراض والأسقام.  

 

الجمعة، 5 ديسمبر 2014

حوار المنامة



حوار المنامة الذي يُنظم سنوياً في البحرين ويشارك فيه العديد من قادة العالم لمناقشة التحديات الأمنية الراهنة والمستقبلية على المستويين الإقليمي والدولي، نجده كالمعتاد يركز على العوامل التقليدية المعروفة المتعلقة بقضايا الأمن والحفاظ على الاستقرار القومي والإقليمي.

وفي المقابل يتجاهل الحوار كلياً، أو يغيب من جدول أعماله، الجانب والبعد الجديد الذي له علاقة مباشرة بالأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، وأثبتت الأيام دور هذا العامل في إحداث أعمال العنف والشغب، والتسبب في عدم استقرار الدول والحكومات، ويؤدي إلى زعزعة الأمن على كافة المستويات.

وقد اعترفت الحكومة الأمريكية مؤخراً بواقعية هذا العامل ودوره في الإخلال بالأمن القومي الأمريكي، وهذا العامل الجديد هو "البيئة"، ممثلة في مشكلة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. فقد أكد تقرير منشور من البنتاجون، أو وزارة الدفاع الأمريكية في 24 نوفمبر 2014 تحت عنوان: "خارطة الطريق لعام 2014 للتكيف مع التغير المناخي:"إن التغير المناخي يُشكل تهديداً فورياً وآنياً للأمن القومي"، وأنه يُعد "تهديداً مركباً، ويفوق تأثيره التحديات التي نتعامل معها اليوم"، كما أكد التقرير أن تداعيات وانعكاسات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، مثل ارتفاع مستوى سطح المياه يُهدد سلامة القواعد العسكرية الأمريكية، كذلك فإن ارتفاع درجة الحرارة والأجواء القاسية كلها تؤدي إلى عدم الاستقرار، والمجاعة، والفقر، والنزاعات والصراعات، وتؤدي إلى نقص المياه والغذاء ووقوع أمراضٍ وبائية وتنتج عنها مشكلة اللاجئين البيئيين"، كذلك جاء في التقرير " إن التغير المناخي يُعد عاملاً مساعداً لنشوب النزاعات، وأنه عامل من عوامل عدم الاستقرار، ويشكل بذرة خصبة لنشؤ العنف والحروب".

كما قال وزير الدفاع الأمريكي المستقيل تشيك هيجل في الخطاب الذي ألقاه في بيرو في 13 أكتوبر في مؤتمر وزراء دفاع الدول في القارة الأمريكية والمكون من 34 دولة، "إن التغير المناخي مشكلة عالمية، وتأثيراتها لا تحترم الحدود الوطنية، ولذلك فالسياسة والأفكار يجب أن لا تقف أمام التخطيط السليم لمواجهته". كما أضاف الوزير في خطابه قائلاً: إن وزارة الدفاع الأمريكية تأخذ المخاطر الناجمة عن التغير المناخي بجدية بالغة، وهي اليوم تُدشن خارطة طريق جديدة للتكيف مع التغير المناخي، كما تضع الخطوات الرئيسة لمواجهة التحديات التي تنجم عن التغير المناخي، وستدمج هذه التحديات ضمن خطة وبرامج الوزارة"، وختم وزير الدفاع خطابة قائلاً: "يجب علينا أن نضع نصب أعيننا التهديدات الأمنية التي يسببها التغير المناخي، ويجب أن نتخذ خطوات استباقية لمواجهته".

وفي السياق نفسه ألقى كيري وزير الخارجية خطاباً في 16 فبراير من العام الجاري في العاصمة الإندونيسية جاكرتا أمام حشدٍ من الطلاب حذر فيه إلى أن التغير المناخي بسبب أنشطة الإنسان من المصانع والسيارات ومحطات توليد الطاقة يُهدد أسلوب ونمط حياته، ويُعد خطراً شديداً لا بد من مواجهته بشكلٍ جماعي مشترك وبصورة عاجلة، لأنه يعتبر، حسب وصف كيري "التحدي الأعظم لجيلنا هذا". كما أضاف قالاً بأن التغير المناخي يُعد "سلاحاً آخر من أسلحة الدمار الشامل، وربما السلاح الأخطر والأكثر فزعاً من بين أسلحة الدمار الشامل". وعلاوة على ذلك فقد صنَّف وزير الخارجية الأمريكي قضية التغير المناخي مع القضايا المصيرية والرئيسة الأخرى التي تتصدي لها أمريكا منذ سنواتٍ طوال، كقضية الإرهاب، والفقر، وأسلحة الدمار الشامل. 

ولذلك وبعد كل هذه الأدلة الدامغة التي تؤكد العلاقة الوطيدة بين المشكلات البيئية عامة، ومشكلة التغير المناخي خاصة، واستتاب الأمن والاستقرار على المستوى القومي والإقليمي والدولي، يأتي "حوار المنامة" سنة تلو الأخرى ليتجاهل هذا العامل الخطير المهدد للأمن، ويغيبه تماماً من مناقشاته وحواراته، فهل يجوز هذا؟ 

الاثنين، 1 ديسمبر 2014

وصفة غذائية لمواجهة التغير المناخي


هوس التغير المناخي والدعوة إلى مواجهته وإيجاد الحلول للحد من تأثيراته على الإنسان وصل حتى إلى وصفات الطبخ، وإعداد الطعام في المنزل، والوجبات الغذائية التي نتناولها بشكلٍ يومي، وأُطلق عليها بــ" وصفات صديقة للمناخ"، أو "وصفات بيئية للطبخ"، حسب المقال الذي نُشر مؤخراً في صحيفة الجارديان البريطانية، وفي كتابين نشر أحدهما تحت عنوان: "وجبات غذائية لكوكبٍ ساخن"، والثاني عنوانه: "وجبات غذائية لكوكبٍ صغير".

 

وهذه "الوصفات" تعتمد أساساً على فكرة تجنب استخدام كل مادة غذائية من فواكه، وخضروات، أو لحوم، أو غيرها، والتي تأتي إما من مصادر تنبعث منها ملوثات تؤدي إلى رفع درجة حرارة الأرض وإحداث التغير المناخي للكرة الأرضية، أو إن عملية إنتاجها تنطلق منها هذه الملوثات الضارة بكوكب الأرض.

 

فمعظم هذه الوصفات المتعلقة بطبخ الوجبات الغذائية تُؤكد على تناول السمك أولاً، ثم الدجاج، وأخيراً لحم البقر أو الغنم أو غيرهما من اللحوم الحمراء، فالأولوية تُعطى للسمك لعدم وجود أية تأثيرات بيئية ومناخية ملموسة تنجم عن صيده ونقله واستهلاكه مقارنة باللحوم. فمن المعروف أن القطاع الزراعي ممثلاً في اللحوم أو الإنتاج الحيواني من أشد القطاعات وطأة على البيئة وإسراعاً في وقوع ظاهرة التغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض. فالأبقار على سبيل المثال تنبعث من العمليات الحيوية في أجسامها أحجام كبيرة من الملوثات التي تؤدي إلى رفع درجة حرارة كوكبنا، وبالتحديد غاز الميثان الذي يعتبر من أشد الغازات رفعاً لدرجة حرارة الأرض وتهديداً لإحداث التغير المناخي، حتى أن الكثير من العلماء يُطلقون على الأبقار بأنها "قنبلة مناخية".

 

وفي الجانب الآخر تؤكد هذه الوصفات الغذائية على اختيار المواد الغذائية المنتجة محلياً والقريبة منك، سواء أكانت خضروات وفواكه، أو أسماك ولحوم من مختلف أنواعها، وذلك بهدف خفض نسبة انبعاثات الملوثات التي تَصدر من وسائل النقل من طائرات وباخرات وشاحنات، فكلما كانت مسافة النقل أقصر وأقل زمناً كلما وفَّرنا في استهلاك الطاقة وقَللنا من تركيز الملوثات في الهواء الجوي، وبالتالي حمينا كوكبنا من ارتفاع درجة حرارتها.

 

ولذلك تذكر دائماً بأنك على المستوى الشخصي تستطيع المساهمة فعلياً في تقليل تأثيرات وتداعيات التغير المناخي من خلال الوجبة الغذائية التي تتناولها يومياً.

 

الجمعة، 28 نوفمبر 2014

دراسة حول "البيئة" في البرامج الانتخابية للمترشحين


أَجريتُ دراسة سريعة لمحتوى البرامج الانتخابية للمترشحين لمجلس النواب، من حيث تضمين البعد والهم البيئي في قائمة البرامج التي طرحها كل مترشح، فقد قُمتُ بجمع عينة عشوائية من البرامج الانتخابية لمائة مترشح من المحافظات الأربع، وهي العاصمة، والمحرق، والشمالية، والجنوبية.

وقد هَدفتْ هذه الدراسة البسيطة إلى الإجابة عن عدة أسئلة، كما يلي:
أولاً: كم مرة وردت كلمة "البيئة" في البرنامج الانتخابي لكل مترشح لمجلس النواب؟
ثانياً: ما هي القضايا البيئية المطروحة في البرنامج الانتخابي لكل مترشح لمجلس النواب؟ وهل هذه القضايا ذات أولوية ومرتبطة بالواقع المحلي؟
ثالثاً: هل هناك علاقة بين الاهتمام بالقضايا البيئية وبين المحافظات، وبخاصة المحافظات التي توجد بها مناطق صناعية ومصانع ثقيلة؟

وبعد إجراء تحليل المضمون للبرامج الانتخابية للمترشحين في عينة الدراسة، وصلتُ إلى النتائج التالية:
أولاً: ذُكرتْ كلمة "البيئة" 11 مرة فقط في كافة البرامج الانتخابية لمائة مترشح، حيث إن 90 مترشحاً لم يتطرقوا كلياً إلى قضية البيئة وشؤونها التي تخص كل إنسان يعيش على هذه الأرض الطيبة.
ثانياً: بالنسبة للمترشحين الذي تنالوا قضية البيئة في برامجهم الانتخابية، فلم يطرح معظمهم قضية بيئية محددة، وإنما ورد ذكر عبارة "حماية البيئة من التلوث"، أو "حماية السواحل"، أو غيرهما من العبارات العامة التي لم تُعرَّف مشكلة محددة ذات أولوية نعاني منها في المجتمع البحريني، كما إنهم لم يقدموا برنامجاً واضحاً وعملياً لمواجهة وعلاج أية قضية بيئية.
ثالثاً: لم أجد هناك علاقة بين المحافظات التي تعاني من مشكلة بيئية كوجود المناطق الصناعية والمصانع الثقيلة والملوثة للبيئة واهتمام المترشح بهذه المشكلة الموجودة في محافظته.

وانطلاقاً من هذه النتائج أستطيع أن أقول بأن البعد البيئي جاء ضعيفاً في البرامج الانتخابية، ولم يرق إلى المستوى المطلوب، ولم يتناسب مع أهمية وأولوية القضايا البيئية المتعلقة بشكلٍ مباشر بالصحة العامة. فالاهتمام بالجانب المعيشي والاقتصادي للمواطن نال حيزاً كبيراً من الاهتمام والرعاية من جميع المترشحين، وهذه قضية حيوية تعتبر من هموم الشعب البحريني اليومية ولا يختلف عليها أحد.

ولكن دعوني أطرح سؤالاً جوهرياً على الجميع وهو: ما فائدة "المال" إذا كانت البيئة ملوثة وتحيط بها السموم والملوثات من كل مكان؟ وما فائدة "المال" إذا كانت البيئة غير صحية وتُعرض الإنسان للأمراض المستعصية والمزمنة؟

فهذا "المال" الذي قد يحصل عليه الإنسان سيصرفه كله على علاج نفسه وأسرته من الأسقام والعلل التي تنزل عليه بسبب وجود الملوثات المسببة للأمراض في الهواء أو التربة أو ماء البحر.

فمن المفرض إذن أن تكون البرامج الانتخابية للمترشحين متوازنة ومتكاملة بحيث إنها لا تركز وتهتم كلياً بجانب واحد يحتاج إليه الإنسان، وهو الجانب الاقتصادي، وينسى كلياً هموم وشؤون الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية وأولوية بالنسبة للمواطن، ولا سيما الجانب البيئي الصحي.

ولا بد لي هنا لأبين وأدلل على أهمية الجانب البيئي أن أُلفت عناية كافة المترشحين إلى وثيقتين معتمدتين من الشعب، وهما الدستور وميثاق العمل الوطني. أما الدستور فقد قدَّم الفصل الثاني منه تحت عنوان "المقومات الأساسية للمجتمع" وبالتحديد المادة التاسعة ح أن "تأخذ الدولة التدابير اللازمة لصيانة البيئة والحفاظ على الحياة الفطرية"، وميثاق العمل الوطني أورد في الفصل الثالث، المادة الخامسة تحت عنوان: "البيئة والحياة الفطرية" ما يلي: "نظراً للضغط المتزايد على الموارد الطبيعية المحدودة فإن الدولة تسعى للاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والتنمية غير الضارة للبيئة وصحة المواطن...".

ولذلك أتمنى أن لا نتجاهل هموم البيئة، فصلاحها صلاح وتنمية للإنسان.