الجمعة، 28 فبراير 2014

التغير المناخي سلاح للدمار الشامل



بعد أن جمَّدت الحكومة الأمريكية الولوج بجدية وحزم في قضية التغير المناخي على المستويين القومي والدولي منذ عهد الرئيس الأسبق جورج بوش قبل أكثر من عقدٍ من الزمن، وعطَّلت كافة أعمال ومبادرات وأنشطة دول العالم المناخية، فجأةً يستيقظ وزير الخارجية الأمريكي الآن جون كيري من غفوته ليُلقي تصريحات نارية وقوية حول التداعيات المميتة والمهلكة للتغير المناخي على مستوى الكرة الأرضية جمعاء، ويدعو دول العالم إلى خفض انبعاثاتها من الغازات المـُتهمة برفع درجة حرارة الأرض وإحداث التغيرات المناخي.

فقد ألقى كيري خطاباً في 16 فبراير في العاصمة الإندونيسية جاكرتا أمام حشدٍ من الطلاب حذر فيه إلى أن التغير المناخي بسبب أنشطة الإنسان من المصانع والسيارات ومحطات توليد الطاقة يهدد أسلوب ونمط حياته، ويُعد خطراً شديداً لا بد من مواجهته بشكلٍ جماعي مشترك وبصورة عاجلة لأنه يعتبر، حسب وصف كيري "التحدي الأعظم لجيلنا هذا". كما أضاف قالاً بأن التغير المناخي يُعد "سلاحاً آخر من أسلحة الدمار الشامل، وربما السلاح الأخطر والأكثر فزعاً من بين أسلحة الدمار الشامل". وعلاوة على ذلك فقد صنَّف وزير الخارجية الأمريكي قضية التغير المناخي مع القضايا المصيرية والرئيسة الأخرى التي تتصدي لها أمريكا منذ سنواتٍ طوال، كقضية الإرهاب، والفقر، وأسلحة الدمار الشامل. 

ولكي يؤكد كيري على مصداقية تصريحاته، ويبين جدية أمريكا في العمل على مواجهة التغير المناخي، قال بأننا قبل يوم، أي في 15 فبراير، قُمنا بعقد اتفاقية تعاون وشراكة بيننا وبين الصين، وهما أكبر مصدرين لانبعاث غازات الدفيئة على مستوى دول العالم وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون وبنسبة تصل إلى 40%، حيث أفاد بأن اتفاقية التعاون المشترك شملت عدة جوانب هي العمل على خفض الإنبعاثات التي تنطلق من السيارات، ورفع فاعلية وكفاءة تشغيل حرق الوقود في المصانع، وترشيد وخفض استهلاك الكهرباء في المباني والعمارات الشاهقة الكبيرة، إضافة إلى التعاون في مجال تخزين غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي وجمع وتوفير المعلومات الموثقة حول انبعاث هذه الغازات على مستوى الدولتين.

وبالرغم من تصريحات وزير الخارجية الأمريكي حول نيتها في التصدي لظاهرة التغير المناخي، إلا أنني أشك كثيراً في واقعية هذه النوايا وصمودها عند التنفيذ الفعلي.

فأمريكا لن تفعل شيئاً ملموساً من أجل عيون البيئة، أو من أجل أهدافٍ بيئية بحتة خالصة لوجهها، فالهاجس الأول لأي رئيسٍ أمريكي، ولأي حزبٍ يحكم البيت الأبيض الآن ومن قبل، هو التنمية الاقتصادية وخلق وتوفير الوظائف للأمريكيين من أجل المحافظة على الكرسي والبقاء في البيت الأبيض لأطول فترة ممكنة، فمن المعروف عملياً وواقعياً أن التنمية البيئية لوحدها لا تُمَكِّنْ الرئيس الحاكم، أو حزبه من الاستمرار في الحكم، ولذلك فالأولوية في العمل والتنفيذ دائماً تكون في تعزيز الاقتصاد وتنميته والعمل على ازدهاره وتطويره وإتاحة فرص العمل للأمريكيين وخفض نسب البطالة.

كما أن مما يثير شكوكي وعدم قناعتي أيضاً بخطبة وزير الخارجية الأمريكي حول التغير المناخي هو عزم أمريكا على عمل وبناء أطول خط أنابيب يُطلق عليه بخط أنابيب كيستون( Keystone XL pipeline) لنقل الزيت، أو البترول الثقيل من الزيت الرملي من مدينة ألبرتا بكندا في أقصى شمال القارة، مروراً بعدة ولايات أمريكية حتى خليج المكسيك في ولاية تكساس في أقصى الجنوب من أجل تكريرها وإنتاج مشتاق النفط. ومن المعروف بيئياً أن بناء هذا الخط العملاق وتكرير النفط تنبعث عنهما أحجام كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسئولة عن رفع درجة حرارة الأرض والتغير المناخي. وعلاوة على ذلك فقد اتجهت أمريكا منذ سنواتٍ بقوةٍ وعلى نطاق واسع في استخراج الغاز الطبيعي المحصور بين الصخور في أعماق الأرض والتي يُطلق عليه بغاز الشيل(shale-gas) باستخدام تقنية الفراكينج (Frackingوهي تقنية جديدة نسبياً تقوم بالحفر في أعماق الأرض وشق الطبقات الأرضية التي تحتها الغاز الطبيعي باستخدام أحجام كبيرة من سائل يحتوي على الماء وخليط غير معروف من المواد الكيميائية والرمل. وهذه العملية أيضاً لها مردودات بيئية خطيرة منها انبعاث غازات الدفيئة المسببة للتغير المناخي، كغاز الميثان وثاني أكسيد الكربون، ووقوع الزلازل نتيجة للحفر العميق، إضافة إلى استهلاك كميات ضخمة من الماء والرمل وتلويثها للمياه الجوفية والسطحية بالمواد الكيميائية التي لا يعرف أحد هويتها وتركيزها.

فكل هذه النقاط التي ذكرتها تُبرر لي التشكيك في النوايا المـُـعْلنة للسياسة الأمريكية الجديدة حول التغير المناخي.

الثلاثاء، 25 فبراير 2014

رجل سيجارة مالبورو يموت


مازالتُ أتذكر عندما كنتُ طالباً في ولاية تكساس في أمريكا في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم منظر ذلك الرجل الوسيم والكبير، راعي البقر، لابساً الجينز الأزرق المتين، وهو يركب حصانه بهدوء واطمئنان، ويبدأ في تدخين سيجارة مارلبورو الشهيرة.

 

لا شك بأنه مشهد يدخل في أعماق النفس، وقد أثَّر علي شخصياً عندما رأيته، كما أثر على ملايين البشر داخل وخارج أمريكا ممن شاهدوا هذه اللوحة الإعلانية المتقنة في إبداع التصميم، والتمثيل، والإخراج، فهذه الدعاية أدخلت الملايين من هؤلاء البشر في الولوج في عالم التدخين والبقاء عبيداً تحت تأثيره والإدمان عليه، وهذه الدعاية وضعت اللبنة الأولى الفاسدة المدمرة لسلامة الإنسان والمهلكة للأمن الصحي للإنسانية جمعاء.

 

فمنذ أن بدأ الإنسان في التدخين والدراسات تأتي تترا، كل دراسة تكشف الجديد عن المضار الصحية للتدخين، وكل دراسة تقدم دليلاً جديداً لا غبار عليه عن الأمراض المزمنة والمستعصية عن العلاج التي تنجم عن التدخين، ليس على المدخن نفسه فحسب، وإنما على الجالسين من حوله.

 

ورجل مالبوروا نفسه الذي كان السبب الرئيس في قيام الملايين من الناس في إشعال السيجارة الأولى والوقوع في شباك التدخين، ذهب هو ضحية لهذه الدعاية الآثمة، فمات مؤخراً من مرضٍ مزمن له علاقة بالتدخين، وبالتحديد نوع من أنواع سرطان الرئة.

 

فهناك إجماع علمي وطبي الآن أن التدخين بأنواعه وأشكاله المتعددة يؤدي إلى الإصابة بثلاثين نوعاً من الأمراض الفتاكة التي تُعَجِّل من وصول أَجَلْ الإنسان وتدخله في القبر مبكراً. فمنذ التقرير الأمريكي الأول الذي نشر عام 1964 وأكد على أن التدخين يسبب سرطان الرئة، نُشرت تقارير وأبحاث كثيرة تؤكد على إصابة التدخين لأمراض جديدة، منها سرطان القولون، والكبد، والمثانة، والعنق، والثدي، ومرض السكري من النوع الثاني، والسل، وضعف الجهاز المناعي، وأمراض والتهابات المفاصل، وفقدان البصر، وأمراض القلب المختلفة، إضافة إلى الولادة المبكرة وانخفاض وزن الجنين وولادة أولاد معوقين ومشوهين خَلْقياً بالنسبة للمرأة الحامل التي تدخن، أو التي تتعرض بشكلٍ مستمر للملوثات التي تنطلق من المدخنين أثناء الجلوس معهم.

 

وهذه الدراسات حول التدخين لن تنتهي، فإنني على يقين بأن المستقبل القريب سيكشف لنا عن أبحاثٍ لأمراضٍ جديدة تنجم عن التدخين.

 

 

الجمعة، 21 فبراير 2014

المد السرطاني يكتسح العالم



مرضٌ عضال مستعصي على العلاج، يضرب فجأةً ومرةً واحدة دون سابق إنذار، فيأتيك من حيث لا تحتسب ويقلب حياتك رأساً على عقب، ومازال الطب الحديث يقف عاجزاً وحائراً عن تقديم الشفاء الكامل والعلاج الدائم لهذا المرض الخبيث.

هذا المرض هو السرطان الذي أخذ ينتشر في مجتمعاتنا بسرعةٍ كبيرةٍ كانتشار النار في الهشيم، فلا يعرف صغيراً أو كبيراً إلا وقد نزل عليه حتى الجنين في بطن أمه، ولا يميز بين قويٍ صِحياً أو ضعيفْ إلا وقد أَلَّـم به وأصابه دون أية مقدمات.

فهل هذا المرض يقتصر على مجتمعٍ دون الآخر، أو ينتشر في دولة دون الأخرى؟
أم إنه مرض العصر، يصيب الجميع دون استثناء؟

والإجابة عن هذه الأسئلة تأتي من الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية في التقرير الصادر في 3 فبراير من العام الجاري، والذي يُحذر فيه بقوة إلى أن "المد السرطاني سيكتسح العالم خلال العشرين سنة القادمة".

وهذا التحذير نابع من الإحصاءات الدولية المنشورة في كل دول العالم، ومن واقع انتشار مرض السرطان بمعدلات مخيفة ومتزايدة تجعل العلماء والأطباء يدقون ناقوس الخطر ويصفون هذا المرض بالوباء العام.

فالتوقعات العلمية التي وردت في تقرير منظمة الصحة العالمية الحالي تشير إلى أن عدد الإصابات والحالات الجديدة بمرض السرطان في سنة واحدة سيرتفع من 14.1 مليون في عام 2012 إلى 24 مليون بحلول عام 2035، وعدد الموتى سيتضاعف في الفترة نفسها من 8.2 مليون إلى 14.6 مليون، كما أن التقرير يشير إلى أن هذا الارتفاع سيظهر وينكشف بصورة أشد وأعم في الدول الفقيرة، والتي من المتوقع أن تزيد فيها نسبة الإصابة بالسرطان 44% مقارنة بالدول الغنية وهي 20%. كذلك أفاد التقرير بأن حالات السرطان التي تم تشخيصها في عام 2012 كانت على النحو التالي:سرطان الرئة وهو الأكثر شيوعاً في العالم 1.8 مليون وبنسبة 13%، والثدي 1.7 مليون وبنسبة 11.9%، والأمعاء 1.4 مليون وبنسبة 9.7%، أما بالنسبة للموتى من السرطان فكان سرطان الرئة 1.6 مليون 19.4%، والكبد 0.8 مليون 9.1%، والأمعاء 0.7 مليون 0.8%.

وقد أكد أحد مؤلفي التقرير، وهو الدكتور برنارد ستيوارت من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا، أن مكافحة هذا الوباء ومنعه يكمن في تحول الإنسان من بعض الممارسات والسلوكيات والعادات اليومية الخاطئة التي يقوم بها بشكلٍ مستمر إلى عادات صحيةٍ وممارسات سليمة تُقوي الجسم وتمنع عنه التعرض للمركبات والملوثات الخطرة والمسرطنة. فقد أفاد هذا الخبير في مرض السرطان أن تغيير الإنسان لبعض سلوكياته وعاداته اليومية مثل "شرب الخمر" سيكون له دور رئيس ومحوري لمكافحة موجة مرض السرطان التي نراها تزحف في كل دول العالم، وأكد هذا العالِـم على ضرورة معالجة قضية شرب الخمر التي انتشرت في الدول الصناعية والغربية على نطاقٍ واسع، والتصدي لكافة الأبعاد المتعلقة بها من ازدياد الحوادث، والمشكلات الاجتماعية والصحية والاقتصادية التي تنجم عن شربها.

وفي الوقت نفسه أكد تقرير منظمة الصحة العالمية على ضرورة تغيير الإنسان لأسلوب ونمط حياته، وتجنب أنماط الحياة في الدول الغربية والغنية من عدة مناحي، من أجل الابتعاد عن السقوط في هذا المرض. أما الأولى فهي العادات الغذائية من حيث كمية ونوعية الغذاء التي يستهلكها الإنسان، فمن الضروري تجنب الإفراط والإسراف في الأكل من جهة، والابتعاد عن تناول المأكولات الدهنية وغير الطازجة التي تحتوي على مبيدات، ومواد حافظة من جهةٍ أخرى. والناحية الثانية فهي تجنب التدخين بكافة أنواعه وشرب الخمر، فكلاهما من الأسباب الرئيسة للإصابة بأنواع كثيرة من السرطان. أما الناحية الثالثة فهي ممارسة الإنسان للرياضة والتمارين البدنية بشكلٍ يومي، حتى ولو كانت لسويعات قليلة. وأخيراً محاولة تجنب التعرض للملوثات البيئية التي تنبعث من السيارات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء.

فالقيام بهذه الممارسات البسيطة بصورة يومية من شأنها إبعاد كافة المخاطر التي تُعرض الإنسان الوقوع في شر هذا المرض، فلنبدأ من الآن بالتنفيذ.

الجمعة، 14 فبراير 2014

الطائرات بدون طيار



سُمعة الطائرات بدون طيار سيئة للغاية ويتشاءم الإنسان عند سماعها، فهي كما نرى ونسمع تُستخدم لاغتيال الناس دون تهمة أو محاكمة في أفغانستان وباكستان واليمن والصومال وفلسطين، أو تستعمل لانتهاك حرمات وسيادة الدول بالتجسس عليها وعلى مرافقها ومصالحها الحيوية.

ولكن هذا الأمر ينطبق على كل أدوات ووسائل التقنية الحديثة، فهي سلاح ذو حدين، وأدوات يمكن أن تستخدم للخير أو الشر، للبناء أو الهدم، وللإعمار في الأرض أو للإفساد فيها، ولرعاية الإنسان وحمايته أو لهلاكه والقضاء عليه، فالإنسان نفسه هو الذي صنعها وأنتجها وهو الذي يحدد مجالات وكيفية ووقت ومكان استخدامها.

فاليوم نسمع عن استخدامٍ مفيد ونافع لهذه الطائرات بدون طيار في مجال حماية البيئة والحفاظ على نوعية الهواء الجوي ومراقبة محتوياتها ومكوناتها، وبالتحديد في مجال قياس نسبة الملوثات الإشعاعية النووية في الهواء الجوي في منطقة كارثة انصهار مفاعلات دايشي النووية(Daiichi) في فوكوشيما باليابان في 11 مارس2011.

فهذه الطامة الكبرى التي زادت وفاقت تداعياتها البيئية والصحية عن كارثة انفجار المفاعلات النووية في تشرنوبيل بأوكرانيا في 26 أبريل 1986، تُشكل منذ وقوعها معضلة معقدة وخطيرة تهدد صحة وبيئة الإنسان الياباني خاصة، وبيئة وصحة الإنسان في كافة أرجاء الكرة الأرضية، فلا بد إذن من مراقبة هذه الانعكاسات لسنواتٍ طويلةٍ قادمة والتعرف على تركيز الملوثات التي تراكمت مع الوقت في أحشاء الأوساط البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وفي أعضاء أجسام الكائنات الفطرية من نباتات وحيوانات، إضافة إلى قياس تضخم تركيزها في أعضاء جسم الإنسان والمنتجات اليومية التي يستهلكها داخل اليابان، أو يصدرها إلى جميع دول العالم.

وقد قامت وكالة الطاقة الذرية اليابانية بالتعاون مع وكالة استكشاف الفضاء في اليابان بتصميمِ وتطوير طائرةٍ خاصة بدون طيار لقياس تركيز الإشعاع النووي حول المحطة في مدينة نامي(Namie)، بحيث يتم تشغيلها عن بعد، ولها القدرة على الطيران في ارتفاعات متفاوتة لا تقل عن 300 مترٍ، فتقوم الطائرة بالمراقبة المستمرة وجمع المعلومات الإشعاعية حول المحطة، ثم نقل هذه المعلومات إلى المختبرات لتحليلها ومعرفة نتائج ونسبة الإشعاع في الهواء الجوي.

وهذه المراقبة الدائمة لبيئة منطقة الكارثة يجب أن تستمر عقوداً طويلة من الزمن، فمصادر الإشعاع مازالت حتى يومنا هذا جاثمة على صدور اليابانيين، فتَبْعث بسمومها المشعة القاتلة إلى البر والبحر والمياه الجوفية والتربة، حتى أن المدينة التي يقع فيها المفاعل المنكوب قد تم إغلاقها كلياً، فهي تجدها الآن مدينة كاملة بكافة مرافقها وبنيتها التحتية، من شوارع، ومنازل، ومكاتب، ومحلات تجارية، وآلاف السيارات المتوقفة التي بدأ الصدأ يأكل وينخر في جسمها، ولكنها مع ذلك خالية تماماً من جنس البشر، فأصبحت خاوية على عروشها، وتحولت إلى مأوى خصب للأشباح وبيئة مثالية ستعشش فيها الطيور الليلية التي عادةً ما تعيش في مناطق نائية هادئة وبعيدة عن إزعاج البشر وضجيج المدن وضوضائها المرتفعة الصاخبة، مثل البوم والخفاش لسنواتٍ طويلة.   

وقد أكدت التقارير الحكومية الرسمية أن هذه المدينة ستكون مغلقة بالشمع الأحمر على بني البشر، ويُـمنع أي إنسانٍ من دخولها لمدة لا تقل عن أربعين عاماً، أي أن السكان الأصليين لهذه المدينة الذين ولدوا فيها وترعرعوا تحت ظلها أجيالاً متلاحقة قد يَلقَوا نحبهم قبل أن يتمكنوا من الرجوع إلى ديارهم التي ارْغِموا على هجرتها وتحولوا إلى لاجئين بعد نزول هذه المصيبة العظيمة.

ولذلك سيكون اسم مدينة فوكوشيما معنا لقرون من الزمن، كما هو بالنسبة لاسم مدينة تشرنوبيل، فمثل هذه الكوارث الإشعاعية النووية إذا وقعت ستظل في ذاكرة الإنسان منقوشة ومحفورة لا يمكن نسيانها، وستخلدها كتب التاريخ البيئي ليتعظ منها من يريد أن يتعظ، ويستفيد منها من يريد أن يتعلم، ليُجنب نفسه وبيئته أخطار وتهديدات التلوث البيئي.


السبت، 8 فبراير 2014

شهادة طبيب قلبٍ بحريني



قابلتُ قبل أيام أحد الأطباء البحرينيين المختصين في أمراض القلب، وممن أَشهدُ لهم بالعلم والخبرة والكفاءة، وقدَّم لي معلومة صحية خطيرة جداً تحتاج إلى وقفة متأنية ومعمقة من العلماء والباحثين والأطباء في البحرين.

هذه المعلومة تتكون من نقطتين، الأولى هي أن أعداد المصابين البحرينيين بأمراض القلب بمختلف أنواعها في ارتفاع مطرد ومشهود، والثانية هي أن بعض أمراض القلب التي هي معروفة تقليدياً بأنها تصيب كبار السن والمتقدمين في العمر ومن الذين بلغوا من العمر عِتياً واشتعل رأسهم شيباً، تحولت الآن إلى ظاهرة حديثة على المجتمع البحريني فأصبح الذين يتعرضون لمثل هذه الأمراض هم من الشباب وصغار السن.

ولست هنا في هذه المقالة بصدد معالجة هذه القضية الصحية الملحة، فأتركها للمهتمين بمثل هذه القضايا، فهي لا شك بأنها معقدة ومتشابكة وذات أسباب كثيرة منها اجتماعية متعلقة بعادات المواطن اليومية وسلوكياته وأسلوب حياته وممارساته من القيام بالرياضة والأعمال العضلية والبدنية، ومنها ما هي متعلقة بعاداته الغذائية وكمية ونوعية الوجبات التي يتناولها كل يوم وكمية ونوعية المشروبات التي يشربها، ومنها ما هي مرتبطة بالصحة النفسية والضغوط التي يتعرض لها يومياً في المنزل والعمل والمجتمع بشكلٍ عام من قلق واكتئاب وغيرهما.

ولكنني أستطيع أن أُفْتِي في بعدٍ واحد له علاقة مباشرة بالإصابة بأمراض القلب وهو الجانب البيئي من حيث التعرض لتلوث الهواء الجوي واستنشاق آلاف الملوثات السامة والمسرطنة التي تنبعث من السيارات التي اكتظت وامتلأت شوارعنا بها، أو من محطات توليد الكهرباء، أو من مئات المصانع التي تنفث سمومها في هوائنا، أو من الطائرات التي تحلق فوق رؤوسنا، وكل هذا المصادر للتلوث والملوثات التي تنبعث منها نعاني منها في البحرين وموجودة في بيئتنا وبين أظهرنا وأمام أعيننا، مما يشير إلى احتمال وقوع تأثيراتها السلبية على صحتنا، وبالتحديد ما لها علاقة بأمراض القلب.

وسأُقدم هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض الدراسات التي تبين علاقة التعرض بالملوثات على المدى البعيد بالإصابة بالسكتة القلبية وأمراض القلب الأخرى. فهناك دراسة واسعة وشاملة شارك فيها 41 باحثاً يمثلون 28 جامعة ومركزاً للأبحاث الطبية والبيئية، واستغرقت 12 عاماً، وشملت مائة ألف مواطن أوروبي، ونُشرت في العدد الصادر في 21 يناير2014 في مجلة جمعية الأطباء البريطانيين تحت عنوان "التعرض طويل الأمد لتلوث الهواء وحوادث أمراض القلب الحادة"، حيث أكدت على أن العيش في المدن الحضرية يرفع من مخاطر التعرض للسكتة القلبية والإصابة بأمراض القلب بنسبة 13%، حتى ولو كانت نسب الملوثات التي يتعرض لها منخفضة وأقل من المعايير الأوروبية لجودة الهواء الجوي، واتهمت الدراسة عدة ملوثات تسبب هذه الحالات المرضية، وعلى رأس القائمة الدخان أو الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين.

ومن جانب آخر هناك دراسات لها علاقة بنوعٍ آخر من التلوث وهو التلوث الضوضائي الناجم عن حركة الطائرات والسيارات، حيث أفادت دراسة منشورة في المجلة الطبية البريطانية في أكتوبر 2013 وشملت نحو 3.6 مليون من البريطانيين الساكنين بالقرب من مطار هيثرو أن السكن بالقرب من هيثرو يزيد من مخاطر التعرض لأمراض القلب والأوعية القلبية والدخول للمستشفيات بسبب الإصابة بالسكتة القلبية بنسبة 10 إلى 20%، إضافة إلى ازدياد مخاطر الموت المبكر، وفي المقابل أشارت دراسة مماثلة شملت ستة ملايين أمريكي يعيشون بالقرب من 89 مطاراً على وجود علاقة قوية بين السكن بالقرب من المطارات وارتفاع أعداد الداخلين للمستشفيات بسبب أمراض القلب، وبخاصة بالنسبة عن كبار السن.

ولذلك أجد أن أحد مسببات الإصابة بأمراض القلب نعيش معه بشكلٍ يومي، ونتعرض له في كل دقيقةٍ من حياتنا، فلا شك إذن بأنه يؤثر علينا صحياً، وبالتالي هناك حاجة لدراسات معمقة في قضية إصابتنا وفي سنٍ مبكرة بأمراض القلب وانتشارها بين الشباب، بحيث تأخذ في الاعتبار كل الأبعاد ذات العلاقة، ولا سيما الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والبيئي لكي نمنع شبابنا من السقوط في شباك هذه الأمراض القاتلة، ونقيهم من الموت المبكر.