الاثنين، 30 يونيو 2014

الحذر من بِرَكْ السباحة






أتذكر عندما كنت صغيراً، ويشتد بنا القيظ، وترتفع درجات الحرارة فيصب العرق صباً على أجسامنا، أُنشد فأقول: "إن جاء حَرُ الدار رُحنا إلى عذاري سبحنا في المياه"، ولكن اليوم ليس هناك عذاري وماؤها العذب الفرات وبيئتها الصافية والنظيفة والمزدهرة والمتنوعة بالحياة الفطرية الجميلة من نباتاتٍ وحيوانات نادرة الوجود، فليس هناك اليوم سوى برك السباحة الجماعية التي فيها من المخاطر الصحية والبيئية ما يجب التنبيه إليها والحذر منها.


 


فمن المخاطر التي توجد في برك السباحة وتهدد صحتنا هي أولاً الكلورين الذي يضاف إلى الماء للتعقيم والتخلص من الميكروبات والجراثيم المرضية المعدية، فهذا العنصر السام يقتل الجراثيم ويخلصنا من البكتيريا الضارة والقاتلة، إلا أنه في حد ذاته وفي الوقت نفسه يسبب مشكلات صحية أخرى يجب الحذر منها والتنبه إليها. فعنصر أو مركبات الكلورين التي تُوضع في برك السباحة تتفاعل مع المركبات العضوية التي تدخل في برك السباحة من إفرازات جسم الإنسان أثناء السباحة من عرق وبول وأوساخ على الجلد وعلى الشعر، فينتج خليط من الملوثات الكيميائية العضوية المكلورة يزيد عن 600 ملوثٍ عضوي سام وخطر، منها مجموعة من مركبات الفينول التي تحتوي على عنصري الكلورين والبرومين، ومنها عدد كبير من ملوثات الميثان التي تحتوي على أكثر من ذرة من الكلور، ومنها ملوثات عضوية حمضية كأحماض الخليك، وجدير بالذكر أن بعض هذه الملوثات يصنف كمركبات تسبب السرطان للإنسان.


 


ومن المخاطر أيضاً التي تنجم عن عدم الاستخدام السليم لبرك السباحة هي الملوثات الحيوية من جراثيم معدية وبكتيريا ضارة والتي تنتج من الإنسان نفسه، وبالتحديد من الأنف والفم والجلد، فكل هذه المناطق في جسم الإنسان تُعد مصدراً لهذه الكائنات الدقيقة التي تسبب مشكلات صحية خطرة.


 


ولذلك إذا أردنا أن نتمتع بالسباحة في البرك ونستمتع بصيفٍ صحيٍ وجميل، وبخاصة بالنسبة لبرك السباحة الجماعية فعلينا توخي الحذر والأخذ بالأسباب، وهي كما يلي: أولاً وَضْعْ الكلور أو مركباته في برك السباحة بقدرٍ معلوم وبأحجام محددة، أي باتخاذ الوسائل والأدوات العلمية اللازمة لهذا الغرض، فلا زيادة ولا نقصان في كمية الكلور، فالزيادة ضارة وسامة وتسبب الحكة والتهاب العينين والإغماء، والنقصان قاتل ويسبب عدوى مهلكة. وثانياً الاستحمام قبل الدخول في البركة لإزالة الملوثات التي تلتصق بالجسم من عرق وأوساخ ودهون وغيرها من الإفرازات التي تنتج عن الجسم. وثالثاً الامتناع عن التبول أو إدخال أية مواد غريبة في برك السباحة، وتجنب شرب ماء البركة. وأخيراً الاستحمام بعد الخروج لإزالة أية آثار لمواد كيميائية قد التصقت بالجسم.  

الخميس، 26 يونيو 2014

الأراضي المسمومة



بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي، قُمتُ بزيارة للكويت للاطلاع على أكبر كارثة بيئية فريدة من نوعها شهدها التاريخ البشري، ولا أظن بأن الإنسان سيشهد مثل هذه الطامة البيئية الكبرى مرة ثانية.

فقبيل انسحاب الجيش العراقي من الكويت في نهاية شهر فبراير عام 1991، قام بتدمير زهاء 1073 بئراً نفطياً، وحرق أكثر من 737 من هذه الحقول النفطية، وكَوَّن عندئذٍ مشهداً نارياً مرعباً فأضاء مدينة بأكملها في ظلمات الليل السوداء الكالحة، وكأنها مصابيح جبارة ضخمة متناثرة في أطراف الصحراء القاحلة، وهذا المنظر الغريب والمهيب كان يمكن رؤيته بكلِ جلاءٍ ووضوح من مسافاتٍ طويلةٍ على الأرض، بل ومن خلال صور الأقمار الصناعية في أعالي السماء.

فهذا الاحتراق لهذا الكم الهائل من الآبار النفطية خلق مظاهر بيئية ومناخيةلم تكن في الحسبان ولم يفكر بوقوعها إنسٌ ولا جَانْ، فلم ترَ العيون مثلها، ولا سمعت الآذان بها، ولا خطر على قلب بشر، فتداعياتها من تلوث الهواء الجوي بالدخان الأسود والخليط السام والمسرطن من الملوثات بلغت البر والبحر والجو ووصلت إلى مناطق بعيدة جداً تعدت العشرة آلاف كيلومتر، كما كَونَتْ ظاهرة لم ير التاريخ لها مثيلاً وهي ما أُطْلِقَ عليها بالبحيرات أو البرك النفطية التي وصل عددها نحو 246 بحيرة عمقها تراوح بين 5 إلى 30 سنتيمتراً، وغطت مساحة من البر قُدرت بنحو 114 كيلومتراً مربعاً. وفي الوقت نفسه فإن هذه البحيرات كَونتْ ما يُطلق عليه علمياً بالمواقع الملوثة(contaminated land)، أو الأراضي المسمومة، فلوثت التربة وسممت المياه الجوفية وقضت على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

ومشكلة المواقع الملوثة تحولت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين إلى ظاهرة عالمية خطيرة موجودة في كل دول العالم، ولكن لأسباب متعددة، وبدرجات ومستويات متفاوتة، وأنواع من التلوث تختلف من دولة إلى أخرى، فبعضها مواقع لمصانع أو محطات قديمة لتوليد الكهرباء، وبعضها مواقع لدفن المخلفات، وأخرى محطات أُغلقت للتجارب والأبحاث، أو مواقع لتسربات نفطية وكيميائية.

فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بحصر هذه المواقع التي بلغت أكثر من 1300 وجعلتها في قائمة واحدة أُطلق عليها بمواقع السوبر فيند(Superfund)، وخصصت مليارات الدولارات لمعالجتها والتخلص من سمومها وإعادتها تدريجياً إلى وضعها الطبيعي خلال المائة سنة القادمة. ومن أشهر هذه المواقع المسمومة والملوثة بالمواد المشعة والتي تعتبر قنابل الدمار الشامل المـَوْقُوتة هي منطقة هانفورد(Hanford Nuclear Reservation) في ولاية واشنطن التي كانت من المواقع السرية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى لإنتاج أول قنبلة ذرية، والآن تُعد من المواقع الأخطر والأشد تلوثاً على المستوى الدولي، حيث تـُخزن في بطنها في أعماق الأرض نحو 53 مليون جالون من المخلفات شديدة الإشعاع والتي بدأت في التسرب إلى سطح الأرض. وهناك في المقابل المواقع الملوثة بمخلفات الحروب كالحربين العالميتين الأولى والثانية وحرب فيتنام، مثل الذخائر والمعدات المستهلة أو القديمة أو القنابل الكيميائية والحيوية والنووية، فهذه المخلفات مازالت موجودة حتى الآن في بعض المواقع لا يعرف أحد عن مصيرها، وستظل جاثمة فوق صدور الأمريكيين إلى أجلٍ غير مسمى.

وفي الصين فقد أكدت التقارير الحكومية أن قرابة أن 19.4% من الأراضي الزراعية مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية وهي العناصر الثقيلة مثل الكادميوم والنيكل والزرنيخ والزئبق والملوثات العضوية، ولذلك فهي تدخل ضمن المواقع المسمومة.

وفي الكثير من الدول الأفريقية مواقع ملوثة بالمخلفات الصلبة، وبخاصة المخلفات الإلكترونية الخطرة التي تحتوي على الزئبق والرصاص والكادميوم وغيرها من العناصر السامة التي تُسمم التربة والإنسان والحياة الفطرية.

واليابان اليوم تعاني من أزمة خانقة تهدد حياة الناس، وتتمثل في المواقع التي تسممت بالإشعاع الذي نجم عن انفجار مفاعلات فوكوشيما، إضافة إلى حيرة اليابان في كيفية التعامل مع مئات الآلاف من الأطنان من التربة والحمأة المشعة المخزنة حالياً في بعض المواقع.

ولذلك نجد أن المواقع الملوثة المسمومة أصبحت مشكلة واقعية تُسبب قلقاً شديداً، وهَمَّاً مستداماً للمعنيين من علماء وسياسيين وصُناع القرار، ففي بعض الحالات الحلول الناجعة والسليمة غير موجودة، فلم يتوصل العلم الحديث حتى الآن إلى علاجها وسبل التخلص الآمن منها، ولذلك عليها الانتظار إلى أي يحين موعدها!

الثلاثاء، 24 يونيو 2014

كيف تُريد لون بَشَرَتك: مشوية، أم مقلية؟






عندما تَذهبْ إلى مطعمٍ خاص لتقديمالستيك، أو شرائح اللحم البقرية، يأتيك النادل ويسألك كيف تريد أن نَطبخ ونُقدم لك الستيك أو شريحة اللحم، فهل ترغب في أن تكون مقلية أم مشوية، وإذا كانت مشوية، فكيف تحبذ أن تكون، مطبوخة قليلاً، أم كثيراً، أم وسط.


 


والآن هذه التساؤلات نفسها قد تُطرح عليك إذا ذهبتَ إلى صالونات التانينج، أو صالونات تغيير لون ومظهر البَشَرة والجلد. فمصطلح التانينج“ مستخلص من عملية الدِباغة، وهي تحويل جلد الحيوان إلى منتجٍ مفيد باستخدام مادة التانين (tannin)، وهي مادة حمضية تُستخرج من الأشجار، وتُعتبر جزءاً من محلول الدباغة القديم.


 


فإذن نحن فعلياً أمام عملية دباغة الجلد، أو دباغة بَشَرة الإنسان، ولكن باستخدام ما يُطلق عليه بأَسِرةْ التانينج(Tanning Beds)، أو ما أُطلق عليه شخصياً بأسرة الدباغة وأسرة المرض والموت، ولكن المادة المستعملة هنا هي المصابيح التي تنبعث منها الأشعة فوق البنفسجية المـُهلكة للإنسان، فتعمل هذه الأشعة الضارة والمـُسرطنة على تحويل لون البشرة حسب الطلب، وبناءً على الرغبة الشخصية، فهناك في القائمة أو "المانيو" البشرة المشوية قليلاً وهي البرونز، وهناك البشرة المطبوخة قليلاً وهي الذهبي الفاتح، وهناك البشرة المطبوخة أو المحمصة كثيراً وهي اللون البني القاتِم وبدرجاته المتفاوتة.


 


ومع الأسف أننا في المشرق نتبع ونلحق ونلهث دون أي تفكير وراء كل "موضة" أو ظاهرة حديثة تُصَدَّر مُعلبة جاهزة إلينا من الغرب، سواء أكانت مفيدة أم ضارة، فاسدة أم مصلحة، خبيثة أم طيبة، تتنافى مع عاداتنا وثقافتنا أم تتماشى معها، فنحن أصبحنا كما وصَفَنَا الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام عندما قال:"لَتَتْبَعُنَّ سنَنَ من قبلكم شِبراً شبراً وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ تَبِعتُموهم، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن".


 


فالغرب هو نفسه الآن يعاني منذ سنوات من تبعات هذه الظاهرة غير الصحية المنتشرة في مجتمعاتهم، ويصرخ بصوتٍ عالٍ من ويلاتها التي شملت الملايين من الناس، وبخاصةٍ المراهقون وصغار السن، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من يقاسي من آلام المرض نتيجة للإسراف الشديد في عملية التانينج أو دباغة الجلد. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال هناك قرابة 30 مليون أمريكي يستخدمون مصابيح الدباغة سنوياً، ونحو مليونين من المراهقين في ريعان الشباب، وأكدت دراسة منشورة في مجلة المعهد الوطني للسرطان في العدد الصادر في مايو من العام الجاري على ارتفاع احتمال إصابة هؤلاء الناس بسرطان الجلد، حيث يموت منهم نحو 9000 أمريكي سنوياً، كما أشار بحث منشور في مجلة أبحاث السرطان البريطانية في أبريل أن حالات الإصابة بسرطان الجلد الآن أعلى من حقبة السبعينيات بخمسة أضعاف، حيث بلغ العدد 13 ألف في السنة مقارنة بـ 1800 في 1975. 


 


كل هذه الإحصاءات المخيفة اضطرت الجهات الحكومية المعنية في الدول الغربية إلى تشديد الرقابة على صالونات التانينج، ووضع أنظمة وإجراءات واضحة تقنن استخدامات أسرة التانينج. فقد أعلنت إدارة الأغذية والدواء الأمريكية في 29 مايو من العام الجاري عن أنظمة أكثر صرامة من قَبْلْ حول عملية دباغة جلد الإنسان، منها إجبار منتجي أسرة الدباغة أو التانينج على وضع تحذيرٍ يُفيد بمنع استخدامها من قبل الذين تقل أعمارهم عن 18 عاماً والمخاطر الصحية التي تنجم عن استعمالها، إضافة إلى التأكد من كمية الأشعة التي يتعرض لها الإنسان، كما رَفَعتْ من درجة خطورة تصنيفها لهذه الأسرة من "منخفضة الخطورة" إلى "متوسطة الخطورة" أو من أجهزة الدرجة الثانية من حيث خطورتها. وعلاوة على هذه الأنظمة الاتحادية الأمريكية، فقد قامت 20 ولاية بسن الأنظمة الخاصة بها، حيث منعت الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة من الدخول في صالونات المرض والموت.


 


ولذلك فنصيحتي الشخصية إلى المواطنين عدم تبني "النموذج والنظرة الغربية للجَمال" وعدم اتخاذ "باربي" قُدْوَة لنا من حيث الأناقة وهيئة الجسم من الطول والعرض، ولون ونوعية الشعر، ولون الجلد، وعرض الخصر، فالجمال أولاً هو جمال الأخلاق والسلوك والمعاملة الرفيعة والأفكار النيرة والسمحة التي يحملها الإنسان ويطبقها في حياته، ثم يأتي جمال الجسم الذي أساسه الحفاظ على صحة وسلامة أعضاء هذا الجسم وتبني كافة الوسائل للعيش بعيداً عن الأمراض والأسقام.


 

الخميس، 19 يونيو 2014

صورة وقصة حزينة



قبل أيام شاهدتُ صورة مفزعة ومحزنة في الوقت لنفسه، لا تغيب عن مخيلتي ولا أستطيع نسيانها، فقد كانت صورة فوتوغرافية لامرأةٍ بَلغتْ من العُمر عِتيا، واشتعل رأسها شيباً، وأكل الدهر في جسدها وعمرها، فوجهها يشع حُزناً وألماً ويحكي قصة حياتها المـُـبْكية والمخيفة والمليئة بالمآسي والآلام، وتجاعيد وجهها تؤكد قساوة الحياة التي مَرَّت بها، وتبين مرارة الأيام التي عاشتها، والساعات والدقائق المضنية التي قضتها طوال سنين عمرها.

هذه الصورة لامرأة سليمة الوجه والشعر والعينين والأذنين والفم والأنف، ولكن عندما تنزل بعينيك قليلاً إلى أسفل الصورة، فستشاهد هنالك المأساة الحقيقة التي واجهتها هذه المرأة المسكينة، سترى جزءاً غير مكتملِ النمو من الذِّراعَينْ فقط، ولكنهما ليس كذراع الإنسان الطبيعي العادي، فالذراع مشوه، ولا يبدو كذراع بشرٍ سليم، وفي نهاية الذراع، وبالتحديد إلى المـِرْفق تجد نمو بعض الأطراف الشاذة الغريبة التي لم أشهدها من قبل لا في إنسان ولا حيوان، وأما اليدان فلا أثر لهما ولا وجود لهما كلياً، أي أن هذه المرأة عاشت طوال هذه السنوات الطويلة من عمرها فاقدة نعمة اليدين، فهي لا تتحسس الأشياء ولا تستطيع لمسها والإمساك بها أو الشعور بوجودها، ولا تتمكن من التواصل مع الناس عند الحديث معهم، والتعبير باستخدام اليدين عند الكلام، كما حُرِمت طوال سنوات حياتها من القيام بالأعمال اليدوية من الكتابة، والرسم، والطباعة على الكمبيوتر، واستخدام الهاتف النقال، وغيرها من الأدوات والوسائل الحديثة التي هي في متناول كل إنسانٍ صغيرٍ أو كبير.

فهذه المرأة الطاعنة في السن الآن، والتي مازالت على قيد الحياة تَشْهَدُ على كارثة بشرية من صنع الإنسان نفسه، وتحكي قصة الآلاف من الذين عانوا من هذه الحالة المرضية المرعبة في معظم دول العالم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويقاسي يومياً من شدة ما أصابهم.

فقد بدأ المشهد الأول من هذه المسرحية الواقعية في الخمسينيات من القرن المنصرم، وفُتح الستار على مشهد نساءٍ حوامل يعانين من الصداع وآلام الحمل في الصباح الباكر فيتناولن دواءً صنع في ألمانيا خصيصاً لمثل هذه الحالات المرضية من مجموعة جرونثال(Grünenthal Group)، ويُسوق تجارياً على شكل كبسولة بيضاء اللون تحت اسم كونترجن (Contergan)، وهذا الدواء عبارة عن مركبٍ عضوي اسمه الثاليدوميد    (Thalidomide)، ونظراً لخصائصه الفريدة وفاعليته في العلاج فقد أُطلق عليه بالدواء الأعجوبة(wonder drug)، حيث يتميز بأنه مُهدئ ومسكن قوي، ويساعد على النوم، ويستخدم لعلاج الصداع، والكحة، والأرق. ثم يُسدل الستار على هذا المشهد ليفتح على مشهد ولادة عشرات الآلاف من الأطفال المشوهين خَلْقِياً الذين وُلِدَ بعضهم بلا أطرافٍ كُلياً، أو أطرافٍ ناقصة، كنصف رِجل، أو نصف يد، أو ولدوا بأيدٍ ناقصة تشبه بعض الحيوانات البحرية، أو ولدوا بتشوهات في العين، والأذن، والقلب، والكلى، والجهاز الهضمي. وهنا تأتي الحيرة والدهشة معاً من واقع هؤلاء الأطفال المعوقين جسدياً وبأشكال لم يشهد لها الإنسان مثيلاً، فاستغرق العلماء والأطباء في البحث عن الحقيقة والوصول إلى الأسباب الخفية التي تقف وراء هذه الطامة البشرية الكبرى، فاتجهت أصابع اتهام الجميع نحو هذا الدواء السحري، الذي أصلح وأفسد في الوقت نفسه، وقَدَّم العلاج وأصاب بالمرض في آنٍ واحد، فشفى إنساناً من علته وأصاب آخرين بإعاقات مزمنة دائمة ومعاناة نفسية وعضوية.

وبعد سنواتٍ عجاف طويلة من الشد والجذب والمعارك الخفية والعلنية بين الضحايا من هذا الدواء وبين الشركة الألمانية المنتجة للدواء، والتي استغرقت قرابة خمسين عاماً، اعترفت هذه الشركة بمسؤوليتها عن وقوع هذه الكارثة الصحية العامة وأبدت أسفها للمتضررين، وقامت ببناء تمثالٍ في مدينة ستولبرج(Stolberg) الألمانية لطفلٍ صغيرٍ لا أطراف له ليُخَلد ذكرى هذه الواقعة الأليمة. 

فمثل هذه الكوارث يجب أن لا تـَمُر علينا دون أن نتعظ بها ونتعلم منها، فالأدوية شر لا بد منه، ومعظم الأدوية له آثار جانبية، بل وفي بعض الحالات يكون الضرر أشد وأقسى، فمن الضروري إذن على الشركات المصنعة للأدوية التعرف عن كثب وبدراسات ميدانية معمقة على جميع هذه الآثار والأعراض الجانبية ونشر نتائجها للناس، وعدم تسويق الأدوية الجديدة قبل التأكد منها كلياً، وعلى دولنا من جانبها طلب الشهادات والإثباتات التي تؤكد سلامتها.


الخميس، 12 يونيو 2014

المثوى الأخير لمخلفاتنا

لا يخطر قط على بال البشر أن المخلفات التي نُلقيها في غير مكانها قد تصل في أغلب الأحيان إلى قاع البحار والمحيطات، وتنتقل مع الوقت وعبر أوساط متعددة إلى أن تجثم في نهايةِ مطاف رحلتها الماراثونية إلى أعماقٍ سحيقةٍ ومظلمة تزيد عن 5000 آلاف مترٍ، بل وفي بعض الأحيان يكون المثوى الأخير لهذه المخلفات في أعماق المحيطات النائية والبعيدة عن المناطق البَرْية وعن أنشطة الإنسان.

فعلى مستوى الخليج العربي وفي المياه الإقليمية لمملكة البحرين، فقد أَجريتُ دراسة مستفيضة وميدانية بالتعاون مع فريق الغوص البحريني في مطلع القرن الحادي والعشرين، وبالتحديد عام 2002، حول كمية ونوعية المخلفات الصلبة الخفيفة والثقيلة المدفونة في قاع البحر في 18 منطقة بحرية غطت كل المياه الإقليمية.

وقد توصلنا إلى عدة اكتشافات لم تكن في الحسبان، فلم ترَ العيون مثلها، ولا سمعت الآذان بها، ولا خطر على قلب بشر، فقد وجدنا في قاع البحر أنواعاً مختلفة من المخلفات التي لم نتوقع وجودها في تلك البقع النائية من البيئة البحرية وبأعدادٍ كبيرة جداً، منها وجود أعدادٍ كبيرة من السيارات قابعة في العمق وكأنك في موقف بحري للسيارات، ومنها زجاجات الخمر المملوءة، وقدور الطبخ، ودلة الشاي، وأشواك وملاعق بلاستيكية، وعبوات زجاجية، وعلب الألمنيوم للمشروبات الغازية، ومن بين هذا الخليط المعقد من المخلفات، جاءت المخلفات البلاستيكية في المرتبة الأولى بنسبة 44%.

واليوم أُجريتْ دراسة مشابهة على المخلفات في البحار والمحيطات حول قارة أوروبا، مثل المحيط الأطلسي والقطب الشمالي والبحر الأبيض في الفترة من 1999 إلى 2011، حيث حصرت المخلفات الصلبة في 32 موقعاً في قاع هذه المحيطات وفي أعماق زادت عن 4500 مترٍ، وشملت 588 عينة سُحبت من القاع، ونُشرت نتائج هذه الدراسة الشاملة في مجلة بلاس ون(PLOS ONE) في 30 أبريل 2014 تحت عنوان"انتشار وكثافة القمامة في البحار الأوروبية". ومن أبرز الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة التأكيد على أن البيئة البحرية، حتى ولو كانت بعيدة عن حياة البشر وعن أعمالهم التنموية وفي مواقع تبعد عن اليابسة أكثر من ألفي كيلومتر، قد وصلت إليها المخلفات الصلبة بكل أحجامها وأنواعها وأشكالها، وأن أعماق البحر تحولت إلى مقابر جماعية تَرقُد فيها المخلفات بأمنٍ وسلام خالدة مخلدة في بطنها. كما توصلت الدراسة إلى نتيجة تطابق النتيجة التي حصلتُ عليها في دراستي، وهي أن أغلب أنواع المخلفات وأكثرها شيوعاً وانتشاراً كانت مصنوعة من البلاستيك، وبنسبة بلغت 41%، ومعظم هذه المخلفات البلاستيكية كانت شباك وخيوط وأدوات الصيد المهجورة، والأكياس، والعبوات، والحبال المصنوعة من البلاستيك.

وهذه النسب العالية للمخلفات البلاستيكية في بحارنا تؤكد التهديد الشديد الذي تتعرض له البيئات البحرية والكائنات التي تعيش وتستظل تحتها، فخطورة البلاستيك تتمثل في عدة نقاط رئيسة. الأولى هي أن المخلفات البلاستيكية لا تتحلل كما تتحلل المخلفات العضوية، وإنما تتراكم في البيئة البحرية وتتعاظم أحجامها مع الوقت، فبعضها يطفو فوق سطح الماء والبعض الآخر يكون مثواه الأخير في قاع البحر. والنقطة الثانية فهي أن بعض المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم تلتهمها السلاحف والكائنات البحرية الأخرى والطيور المائية فتختنق وتموت. وأما الثالثة فهي أن المخلفات البلاستيكية مع الوقت تتكسر وتتفتت إلى قطعٍ صغيرة جداً بفعل الحرارة والضوء وماء البحر المالح، وبعضها لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، وهذه القطع المتناهية في الصغر أو المعروفة بالميكروبلاستك تدخل مباشرة في أجسم الكائنات البحرية النباتية منها والحيوانية ويكون لها تأثيرات خطره تهدد حياتها بالموت البطيء. والنقطة الرابعة فهي أن من ضمن مكونات المخلفات البلاستيكية مواد خطرة تترشح مع الوقت وتدخل في البيئة البحرية وتصبح مع الوقت جزءاً من السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي في نهاية الهرم الغذائي بالإنسان. وأما النقطة الخامسة والأخيرة المتعلقة بخطورة المخلفات البلاستيكية فهي أن هذه المخلفات تمتص وتتشرب ملوثات موجودة في مياه البحر وفي التربة القاعية، فتَحْمِلُ معها هذه الملوثات وتتراكم فيها، ثم منها تنتقل إلى الكائنات البحرية بشقيها النباتي والحيواني فتدخل في السلسلة الغذائية للنظام البيئي البحري، ثم أخيراً تصل إلى الإنسان.

ولذلك أستطيع أن أُجزم على وجود حقيقة وظاهرة موجودة في كل بحار العالم، مهما كانت بعيدة عن أيدي البشر وعن أنشطته اليومية، وهي أن المخلفات الصلبة التي نتخلص منها بطرق غير سليمة تصل في نهاية الأمر إلى البيئة البحرية، وبالتحديد فإنها تمكث في قاع البحر إلى أجلٍ غير مسمى، فتُسمم الإنسان والحيوان والطير دون أن ندري، مما يحتم علينا التأكد من تبني الأساليب البيئية الصحيحة والمستدامة في إدارة المخلفات الصلبة، والعمل على إزالة المخلفات الجاثمة حالياً في قاع بحارنا ومحيطاتنا.