الخميس، 31 يوليو 2014

المبيدات تُحير الإنسان



معضلةٌ حقيقية يواجهها الإنسان منذ سنوات، ولا يعلم حتى الآن المـَخْرج الآمن منها والعلاج الناجع والمستدام لها، فقد أوقعت هذه المعضلة الإنسان في حيرةٍ عظيمة، وأزمةٍ مزمنة وخانقة.


 


ففي القرون المظلمة كانت الأمراض المعدية كالطاعون والملاريا ومرض النوم والتيفوس تضرب بالإنسان ضربة قاضية مُوجِعة، فتنهش وتأكل بعمق في جسم المجتمع البشري، وتؤدي إلى هلاك الملايين من الناس في سنواتٍ قليلة، حتى تمكن الإنسان في مَعْمَله من إنتاج مواد كيميائية خارقة وفاعلة تقضي على مسببات ومصادر هذه الأوبئة من بعوض وبكتيريا وغيرهما، وأَطلق عليها بالمبيدات، وفي مقدمتها المبيد الحشري المشهور الـ دي دي تي.


 


فمع ظهور هذه المبيدات واستخدامها على نطاقٍ واسع وكبير، تمَكن الإنسان من القضاء كلياً على هذه الأمراض المعدية والمستعصية، حتى أصبحت من أمراض القرون الغابرة التي مضى عليها الدهر، فارتاح الإنسان بُرهة من الوقت، واحتفل بهذا النصر الكبير وتحقيق هذا الإنجاز التاريخي الصحي غير المسبوق في تاريخ البشرية.  


 


ومضت الأيام والسنون والإنسان في غفلة لا يدري ما يدور حوله وفي بيئته من تخريبٍ ودمار غير مسبوقٍ أيضاً. فهذه المبيدات التي أدخلها بيديه في بيئته، وبالتحديد الـ دي دي تي، هي مركبات عضوية متعددة الحلقات وتحتوي على عنصر الكلور السام، وكان الإنسان يجهل الخصائص البيئية لهذه المركبات من حيث مصيرها النهائي عندما تدخل في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة. فمن صفات هذه الملوثات التي لم يعلم عنها الإنسان شيئاً، أنها مركبات ثابتة ومستقرة، أي أنها لا تتحلل في البيئة، ولذلك فإن تركيزها زاد وارتفع مع الوقت، ثم بدأ يتراكم شيئاً فشيئاً وعبر السنين في أجسام الكائنات الحية من إنسان ونبات وحيوان، حتى أصبح هذا المبيد جزءاً لا يتجزأ من كل عضو في أجسامنا بما في ذلك حليب الأم، وفي الوقت نفسه تراكم هذا السُم القاتل أيضاً في المياه السطحية وفي أجسام الطحالب والأعشاب المائية ومن ثم انتقل إلى الأسماك، وأخيراً وصل إلى الطيور المائية والإنسان، فأدى إلى انقراض أعدادٍ كبيرة من هذه الطيور التي تتغذى على الأسماك، وأصاب الإنسان نفسه بأمراضٍ خطيرة ومزمنة، ولذلك فإن هذا المبيد الذي أنقذ البشرية من أمراضٍ معدية قديمة، هو نفسه أوقع الإنسان والحياة الفطرية في أمراضٍ جديدة لم يعرفها الإنسان من قبل!


 


فاضطر الإنسان عندئذٍ من مراجعة موقفه من هذا المبيد، فقام الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندى في الستينيات من القرن المنصرم بتشكيل هيئة خاصة تسبر غور هذه القضية وتقدم خارطة طريق جديدة للتوفيق بين حسنات هذا المبيد وسيئاته، فقامت أمريكا بمنعه وتقنين استعماله في أضيق المجالات.


 


واليوم أقفُ معكم مع مبيدٍ آخر، ومشهدٍ جديد، ولكن يحكي القصة نفسها، وكأن الإنسان لا يريد أن يتعظ من أخطائه ولا يريد أن يتعلم من زلاته. ففي الثمانينيات أنتج الإنسان مجموعة جديدة من المبيدات أَطلق عليها نيونيكوتينويد(neoni­cotinoid)، كبديل أقل دماراً من الـ دي دي تي ومجموعة المبيدات القديمة السامة، وبعد عقودٍ من استخدامها تبين أنها أيضاً سامة وقاتلة للحياة الفطرية التي يعتمد عليها الإنسان في حياته. فقد نشرت مجلة "الطبيعة" الموثوق بها عالمياً بحثاً في يوليو من العام الجاري يؤكد فيه أن هذه المبيدات تؤثر على مستعمرات نحل العسل من الناحيتين النوعية والكمية، وأدت بالفعل إلى انخفاض أعدادها بدرجة ملحوظة، وبالتالي فهي تنذر بانقراض الطيور التي تتغذى على النحل والحشرات الصغيرة، وقد توصل هذا البحث إلى هذا الاستنتاج من خلال مراقبة 15 نوعاً من الطيور في الحقول والأراضي الزراعية التي تُستخدم فيها هذه المبيدات، إضافة إلى أن هذه المبيدات تدمر السلسلة الغذائية برمتها، فهي تدخل في التربة والمياه السطحية فتتراكم فيها، ثم تنتقل إلى الكائنات الحية التي تعيش ضمن النظام البيئي من ديدان وحشرات وطيور صغيرة فتؤثر على سلامتها وأمنها الصحي وتخفض من إنتاجها الحيوي مع الوقت، وفي نهاية المطاف تؤثر على صحتنا وسلامتنا.


 


فهذه المبيدات، الجيل القديم منها والحديث، أَوقعتْ الإنسان في حيرةٍ شديدة، وورطةٍ كبيرة، فهو يحتاج إليها في قتل الآفات كالأعشاب الضارة، والحشرات، والفطريات، والقوارض، والطحالب، ولكنها في الوقت نفسه ومع مرور الزمن تُعرض الإنسان وبيئته لمخاطر صحية لا يمكن علاجها، فماذا سيفعل الإنسان في المستقبل لفك رموز هذه المعضلة، وتصميم معادلة متوازنة ودقيقة يمكن من خلالها الاستفادة من المبيدات دون إلحاق الضرر بنفسه وبيئته والكائنات الحية التي تعيش معه؟


 

السبت، 26 يوليو 2014

شركات التبغ تتحد لقتل البشرية



إمبراطورية جديدة تكونت قبل أيام، ولكنها ليست إمبراطورية لخير البشرية، ورفاه الناس، وتحسين أحوالهم وتطوير سبل معاشهم، وليست إمبراطورية لإعمار الأرض وتشييدها وبنائها، ولكنها إمبراطورية شيطانية لنَشر الشر بين بني البشر، وإنزال الأمراض المستعصية والمزمنة عليهم، وتعريضهم للهلاك والموت المبكر.


 


فقد نقلت وسائل الإعلام مؤخراً خبراً مهماً جداً يتلخص في أن شركة رينولدز الأمريكية العملاقة للتبغ(Reynolds American Inc's)، وهي ثاني أكبر شركة أمريكية لصناعة السجائر ستقوم بشراء ثالث أكبر شركة عملاقة أمريكية أخرى للتبغ هي لوريلارد(Lorillard Inc) وبمبلغ مالي كبير هو 25 بليون دولار، أي بعبارةٍ أخرى اندماج واتحاد أكبر شركتين للتبغ وإنتاج السجائر في أمريكا، بعد مجموعة ألتريا(Altria) التي تُعد أكبر شركة حالياً في السوق الأمريكية وتصنع السيجارة المعروفة منذ مئات السنين وهي مالبورو.



 



وبهذه الصفقة تستحوذ شركة رينولدز على السجائر التي تحتوي على نكهة المنثول(menthol)، أو النعناع ذات الشعبية العالية والمتزايدة في أمريكا، إضافة إلى الحصول على حصة الأسد من سوق بيع السجائر الإلكترونية.



 



وفي السياق نفسه قامت شركة بريطانية هي إمبريل بريطانيا للتبغ(Imperial Tobacco of Britain) والتي تُصنَّف رابع أكبر شركة على المستوى العالمي بشراء شركات أخرى صغيرة منها المـُصنعة للسجائر الإلكترونية مثل شركة بلو(Blu) الأمريكية، وهي أفضل شركة لإنتاج السجائر الإلكترونية.



 



وعند النظر بعمق إلى عمليات الدمج والاتحاد بين شركات التبغ والسجائر، أجد أنها تأتي ضمن إستراتيجية واحدة تتمثل في مواجهة الانخفاض المستمر في تدخين السجائر التقليدية بأنواعها المختلفة على المستوى الدولي، والذي بلغ 4% عام 2013، إضافة إلى تعويض الخسائر الكبيرة التي تعاني منها شركات التبغ بسبب عزوف الناس عن التدخين في مجالات أخرى جديدة، ومن خلال فتح أبوابٍ ومشاريع حديثة، وإبداع منتجات حديثة تواكب إنسان القرن الحادي والعشرين، وتتماشى مع التطور التقني الذي يشهده الإنسان. كذلك فإن خسائر شركات التدخين تأتي من جانبٍ آخر وهو عشرات الآلاف من القضايا المرفوعة ضدها في المحاكم في كل دول العالم والتي تُكبدها مبالغ مالية طائلة، آخرها القضية التي رفعتها أرملة في ولاية فلوريدا الأمريكية لموت زوجها من مرض السرطان بسبب التدخين، حيث أمرت المحكمة شركة رينولدز للتبغ بدفع تعويضات مالية بلغت 23.6 بليون دولار. 



 


ونتيجة لهذه المتغيرات الجديدة والمستجدات الحديثة في واقع التدخين عند الناس، جاءت عملية الدمج والاتحاد بين الشركات كواقع مفروض عليهم ليستمروا في البقاء على قيد الحياة وتحقيق النمو الاقتصادي والأرباح الوفيرة، فعلميات الدمج هذه تقلل بشكلٍ مشهود من المصاريف والنفقات العامة، وتُخفض بدرجةٍ ملموسة من كُلفة التشغيل.


 


وفي السياق نفسه كان لا بد أيضاً من تقديم منتجات إبداعية حديثة للناس وتصويرها أنها "موضة القرن الحادي والعشرين"، وأنها آخر صيحةٍ في عالم السجائر وتساعد المدخن على العزوف عن التدخين ولا تسبب له الأضرار الصحية والبيئية التي كانت تسببها السجائر التقليدية. فكان هذا المـُنتج السحري هو "السجائر الإلكترونية"، حيث بلغت مبيعاتها قرابة بليونين دولار سنوياً في أمريكا، ونحو عشرة بلايين على المستوى الدولي، وهذه السجائر تُقدَّم إلى الناس بأكثر من 7764 طعماً ونكهةً ورائحة مختلفة حسب الأذواق والرغبات والميول الأهواء الشخصية المتنوعة، منها النعناع والفواكه بكل أنواعها والشكولاتة والفانيلا والحلويات والقهوة والشاي، وهذه الأرقام من ناحية عدد أنواع السجائر والنكهات الفريدة من نوعها في ازدياد مطرد يصل إلى 250 نكهة جديدة شهرياً وليس سنوياً!


 


فشركات التبغ الآن تستغل الفرصة السانحة لها لوجود فراغٍ تشريعي لإبداع ونشر الإعلانات المؤثرة على فئة الشباب خاصة في كل أنحاء العالم وجذبهم وتحفيزهم نحو تدخين السجائر الإلكترونية،حسب المقال المنشور في النيويورك تايمس الأمريكية في 22 يوليو، حيث إن كل دول العالم تسمح حتى الآن بعرض الدعايات الخاصة بهذا النوع الجديد من السجائر.


 


فكما أن شركات التبغ تُوحد قواها لمواجهة التحديات التي تقف في طريقها، علينا نحن أيضاً أن نُشدد الرقابة عليها، ونَكُون أشد حزماً في سَن وتنفيذ التشريعات المتعلقة بالتدخين.


 


 

الجمعة، 25 يوليو 2014

هل للتلوث علاقة بمرض السكري؟



إذا سألتَ طبيباً مختصاً بأمراض الغدد الصماء والسكري عن أسباب وقوع الإنسان في مرض السكري، فسيكون الجواب حتماً هو قلة الحركة والنشاط البدني وعدم ممارسة أي نوعٍ من أنواع الرياضة الجسمية، إضافة إلى البدانة والسمنة المفرطة وزيادة الوزن ونوعية وكمية المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان بشكلٍ يومي.

فهذه هي الأسباب التقليدية المعروفة منذ سنوات لتعرض الإنسان لمرض السكري، ولكن في السنوات القليلة الماضية انكشف عامل آخر، وسبب جديد يؤدي إلى الإصابة بهذا المرض المزمن، وفي الحقيقة فإنه سبب لم يكن في الحسبان، ولم يخطر قط على بال أحد، وهو الملوثات البيئية الموجودة في الهواء الجوي والتي يتعرض لها الإنسان في كل ثانية من حياته، فلم يتوقع أحد أن بعض هذه الملوثات يحفز الإصابة بداء السكري الواسع الانتشار في مجتمعنا.

فالتلوث تحول الآن إلى رقمٍ صعب لا يمكن تجاهله وغض الطرف عنه، وأصبح عاملاً رئيساً في إصابة الإنسان بشتى أنواع الأمراض المزمنة والمستعصية من التعرض للسكتة القلبية وأمراض القلب الأخرى، أو أمراض السرطان بشتى أنواعها، أو الأسقام القاتلة التي تصيب الجهاز التنفسي وأعضاء الجسم الأخرى.

واليوم اكتشف العلماء حقيقة جديدة، وهي أن البعض من الملوثات التي نستنشقها كل ساعة ويتعرض لها كل إنسان كالجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم وثاني أكسيد النيتروجين وغيرهما المنبعثة من السيارات والمصانع، يزيد من احتمال إصابة الإنسان بمرض السكري من النوع الثاني، أي أن "التلوث" الآن يُضاف إلى العوامل التقليدية المعروفة للإصابة بالسكري.

وأضرب لكم عدة أمثلة من بين أمثلة كثيرة تؤكد وجود علاقة قوية وثابتة بين التعرض لفترة طويلة للملوثات وارتفاع احتمال الإصابة بالسكري. فهناك دراسة نُشرت في مجلة شؤون صحة البيئة الأمريكية(Environmental Health Perspective) في يناير 2014، وتبين أن التلوث، وبالتحديد الدخان أو الجسيمات الدقيقة يصيب الإنسان بحالة تُعرف بمقاومة الإنسلين(Insulin resistance)، وهي فشل خلايا الجسم في التجاوب مع وظيفة وعمل هرمون الإنسلين الموجود في الجسم، فالجسم يُنتج الإنسلين ولكن بعض الخلايا لوجود خللٍ في أحد أجزائه ومكوناته يقَاوم الإنسلين ويمنع القيام بوظيفته الطبيعية، وهي تنظيم نقل الجلوكوز أو السكر من مجري الدم إلى داخل الخلايا لتزويدها بالطاقة اللازمة للإنسان، وتَكُون النتيجة هي ارتفاع الجلوكوز أو السكر في الدم عن الحد العادي، مما يسبب مشكلات صحية متعددة، منها مرض السكري من النوع الثاني.

ودراسة ثانية نشرت فييوليو2013في مجلة شؤون صحة البيئة الأمريكية تحت عنوان:" مخاطر الإصابة بالسكري عند التعرض المستمر للجسيمات الدقيقة في مدينة أونتاريو الكندية"، وأُجريت على نحو نصف مليون إنسان يعيشون في مدينة أونتاريو بكندا، حيث أكدت أن التعرض لسنواتٍ طويلة للجسيمات الدقيقة يزيد من الوقوع في حالة مقاومة الإنسلين، وبالتالي الوقوع في فخ الإصابة بالسكري. كذلك نُشرت دراسة في يوليو 2013 في المجلة نفسها تحت عنوان:"تقييم العلاقة بين الملوثات العضوية الثابتة والمستقرة ومرض السكري"، حيث قامت بتقييم وتحليل الدراسات الوبائية السابقة المتعلقة بالموضوع، وعددها 72 وتَبَين أن هناك علاقة بين بعض الملوثات العضوية الثابتة التي تحتوي على عنصر الكلور والإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.

ولذلك نجد أن "تلوث الهواء" أصبح الآن مصدراً وسبباً جديداً لتعرضنا للكثير من الأمراض المعروفة والمستجدة، حيث أدى، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى هلاك قرابة 3.7 إنسان في عام 2012، مما اضطر هذه المنظمة الدولية المعنية بصحة الإنسان إلى تصنيف الهواء "كمادة مسرطنة"، وأنه"أهم سبب لتدهور صحة بني البشر وإصابته بأمراض مختلفة".

الاثنين، 21 يوليو 2014

أُكسفورد سِتريت



كل سائح يذهب إلى بريطانيا، وبالأخص العاصمة لندن، فإنه لا بد من أن يمشي ويتجول ويتسوق في أهم شارع في لندن وهو شارع أكسفورد، والمعروف عند الجميع بأكسفورد ستريت.


 


فهذا الشارع يُعد القلب التجاري والسياحي النابض بالحياة طوال اليوم وعلى مدى العام كله، ولكن ما لا يعلمه هذا السائح، وربما يستغرب ويندهش منه هو أن هذا الشارع يُعتبر من أكثر الشوارع في بريطانيا، وربما على المستوى الدولي تلوثاً، وأشدها فساداً من ناحية ارتفاع تركيز الملوثات، وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين، حيث أكد الخبراء في جامعة كينجز(King's College) في لندن أن "مستويات ثاني أكسيد النيتروجين تُعد الأسوأ في العالم".


 


فهذا الوضع البيئي والصحي السيء خلق عدة مشكلات لبريطانيا، غير تلك المتعلقة بتدهور البيئة وفساد نوعية الهواء الجوي وتدمير صحة الإنسان وموت أكثر من 4300 من سكان لندن كل عام ونحو 29 ألف بريطاني سنوياً، حيث وضع بريطانيا في موقفٍ قانوني حرجٍ جداً مع الاتحاد الأوروبي وقوانينه المتعلقة بجودة الهواء. فمنذ سنوات طويلة وجودة الهواء في بعض المدن العريقة كلندن، وبيرمينجهام، وليدز تتجاوز فيها نسبة بعض الملوثات عن الحدود المسموح بها، وتزيد مستوياتها بشكلٍ فاضحٍ مشهود عن المعايير الأوروبية المتعلقة بجودة الهواء، مما اضطر الاتحاد الأوروبي بعد سنواتٍ طويلة من الصبر والتهديد والوعيد إلى رفع قضية ضد بريطانيا في محاكم العدل الأوروبية لكي تقوم بريطانيا بتوفيق أوضاعها البيئية والتعهد بالتزامها بالمواصفات الأوروبية، ولذلك تواجه بريطانيا الآن موقفاً صعباً جداً يتمثل في غرامة مالية فُرضت عليها ويجب دفعها خلال السنوات القليلة القادمة وتبلغ 300 مليون جنيه إسترليني كل عام. 


 


ولو حَللنا الوضع البيئي في لندن خاصة لنتعرف على أسباب ومصادر هذا التلوث الشديد الذي يعاني منه سكان هذه المدينة التاريخية العريقة لوجدنا أن المتهم الرئيس هو سيارات الأجرة والحافلات التي تملأ شوارع لندن وتعمل بوقود الديزل، ولذلك فالحل يكمن في تغيير أو تحسين نوعية الوقود الذي يُسير هذه المركبات، ومن بين الحلول المطروحة هي استخدام السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية.


 


وانطلاقاً من تجربة وخبرة لندن مع السيارات، فإنني أحذر من تكرارها في البحرين، فإن مقوماتها وأسباب وقوعها موجودة ومرئية للجميع، فالسيارات الآن في كل مكان، وأعدادها في ارتفاع مطرد لا تخفى على أحد، فهل نعمل على تفادي تجربة لندن، أم ننتظر حتى تنزل علينا، ثم نتحرك؟  


 

الجمعة، 18 يوليو 2014

كيف تَقْتُل أدويتُنا الإنسان والطير؟



قصةٌ واقعية حدثت مؤخراً وتحتاج مِنا إلى وقفة تأملٍ وتفكر، فقد قام الأطباء البيطريون في بعض دول جنوب آسيا مثل الهند وباكستان وبنجلادش والنيبال باستخدام دواءٍ معروف للبشر اسمه دايكلوفِينَك(diclofenac) يستخدم لعلاج الالتهابات والآلام التي تصيب الحيوانات والمواشي بشكلٍ عام، وبعد أقل من عشر سنوات من حقن الحيوانات بهذا الدواء، انخفضت أعداد العِقْبانٌ في هذه الدول، وبخاصة في باكستان بنسبةٍ مخيفة بلغت 99.9%، أي أنه حدث انهيار شامل، وتدمير كامل ومفاجئ لطائر العقاب من هذه البلدة، فأدخله ضمن قائمة الطيور شبه المنقرضة!

فماذا وقع لهذا الطائر الجميل الفريد من نوعه؟ وهل وقعت مذبحة جماعية بسبب قنبلة تدمير شامل أُنزلت على هذه الطيور؟

إن ما حدث بالفعل يؤكد جهل الإنسان العميق بالكثير من شؤون دنياه، ويبين قِلة علمه بمصير المواد الكيميائية التي يستعملها بشكلٍ يومي، سواء أكانت على شكل أدوية وعقاقير تُستخدم للإنسان والحيوان، أو على شكل مواد كيميائية ومنتجات نستعملها في منازلنا ومكاتبنا، أو كملوثات تنبعث من المصانع ومحطات توليد الكهرباء والسيارات والطائرات.

فهذه الكارثة التي نزلت على هذا النوع من الطيور تثبت أن على الإنسان إجراء دراسات معمقة وشاملة ومتكاملة لكل مادة كيميائية قبل أن يُسمح له باستعمالها، أو إدخالها في بيئته.

فما حدث في دول جنوب آسيا هو أمر بسيط جداً في مظهره الخارجي، وممارسة عادية يقوم بها أي طبيب بيطري، ولكن كانت تداعياتها الواقعية كارثية وخطيرة جداً، فقد استعمل الأطباء البيطريون هذا الدواء المضاد للالتهابات والمسكن للألم لأعدادٍ كبيرة من المواشي، وبعد موت هذه الحيوانات ترُكت جثثها في المزارع والحقول الواسعة الانتشار، فجاءت طيور العقبان لتأخذ وجبتها اليومية وتتغذى عليها، حيث إن هذه الطيور تعمل في هذه الحالة بشكلٍ طبيعي فطري كعمل البلديات في المدن، أو كمكنسة كهربائية سريعة وفاعلة، وهي إزالة المخلفات من الشوارع والطرقات والحقول وتنظيفها بشكلٍ كامل، فكل حيوان يموت طبيعياً في البراري والغابات، تأتي هذه الطيور وتلعب دورها ضمن النظام الطبيعي البيئي فتأكل هذه الجثث قبل أن تتعفن وتتحلل وتكون مصدراً للأوبئة والأمراض لمجتمع الحياة الفطرية والناس إلى حدٍ سواء.

فعندما أكلت هذه الطيور الحيوانات التي عولجت بدواء الدايكلوفِينَك، دخل هذا الدواء في أجسامها فأُصيبتْ مباشرة بأمراضٍ متعلقة بالكلية، مما أدى إلى سقوطها صريعة ميتة بأعدادٍ مهولة لا يمكن تجاهلها، بحيث إنها خلال سنوات معدودة كتب اسمها في قوائم الطيور التي توشك على الانقراض.

وفي السياق نفسه فهناك الأدوية والهرمونات بأنواعها المختلفة الكثيرة التي تُعطي للحيوانات مثل المضادات الحيوية وهرمونات النمو وغيرهما، فهذه المواد الكيميائية، أو بقايا تحلل هذه المواد الكيميائية تنتقل إلينا مباشرة عند تناولنا للحوم والدواجن، وتأثيراتها وانعكاساتها السلبية لا شك بأنها عظيمة على أمننا الصحي ولا يمكن في هذه المرحلة معرفتها بدقة من ناحية حجم ونوعية الضرر الصحي الذي سيلحق بنا وبأولادنا وأحفادنا، فالدراسات العلمية بدأت تـُحذر منذ زمنٍ قريب وبشدة من الإفراط والإسراف في استخدام الأدوية والعقاقير والهرمونات، وتؤكد هذه الأبحاث الطبية والبيئية على أهمية إجراء دراسات مستفيضة وشاملة حول تأثير هذه المواد على أعضاء جسم الإنسان المختلفة، سواء أكانت هذه التداعيات مباشرة وقصيرة المدى، أو أنها ستكون تداعيات غير مباشرة وسنعاني منها بعد فترة طويلة من الزمن من حياتنا أو حياة الأجيال اللاحقة.

وإنني على يقين من التجارب والخبرات السابقة أن هذه الأدوية والمواد الكيميائية الأخرى التي تعطي للحيوانات تحت مسميات مختلفة ستنعكس علينا عاجلاً أم آجلاً، كما انعكست على العقاب، وستكون تداعياتها أمراضاً مزمنة لا يعلمها إلا رب العالمين.

الاثنين، 14 يوليو 2014

دراسة أمريكية عن الشيشه


من العادات السيئة صحياً واجتماعياً وبيئياً التي نقلها وصدَّرها الشرق إلى الغرب، وبالتحديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية هو تدخين الشيشة أو ما يُطلقون عليه الهوكه(hookah)، فهذه العادة اليومية أخذت في التوسع في أمريكا وانتشرت في ولاياتها كانتشار النار في الهشيم، حتى أصبحت الآن ظاهرة مخيفة وآفة مرضية جذبت أنظار الباحثين والعلماء، سواء أكانوا علماء البيئة، أو الأطباء، أو علماء الاجتماع.

 

وبدأت الدراسات العلمية تُنشر لسبر غور هذه الظاهرة المستجدة، ومعرفة أبعادها ودرجة انتشارها بين فئات وطبقات المجتمع الأمريكي، وكان آخر هذه الدراسات تلك التي صَدَرَتْ في الأول من يوليو تحت عنوان:"استعمال الهوكه بين طلاب الثانوية في أمريكا" في مجلة طب الأطفال(Pediatrics)، وقد خلصت إلى عدة استنتاجات هامة منها أن تدخين الشيشة أصبح أكثر شعبية بين طلاب المدارس الثانوية من تدخين السجائر التقليدية المعروفة التي تدنت شعبيتها بدرجة مشهودة في السنوات الماضية، حيث ارتفعت نسبة مدخني الشيشة في عام 2013 إلى  18%،أي طالب واحد مدخن للشيشة من بين خمسة طلاب، مقارنة بـ 4.1% في عام 2011، ومعظم الطلاب المتعاطين للشيشة يكونون من الطبقة الاجتماعية الغنية والرفيعة المستوى.

 

فهذه الدراسة المنشورة في أمريكا تدق ناقوس الخطر ليس في أمريكا وحدها وإنما في الدول الأخرى، وبخاصة دول الخليج وفي مقدمتهم البحرين، حيث انتشرت هذه الظاهرة السيئة بشكلٍ ملحوظ لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها، ومع الأسف تزداد حدتها وشدتها في شهر رمضان المبارك في ما يُطلق عليها بالخيام الرمضانية، علماً بأن الكثير منها لا يحمل ترخيصاً لتقديم الشيشة.

 

فكما أنني حذرت مراراً وتكراراً لسنوات من خطورة تدخين السجائر التقليدية ثم السجائر الإلكترونية على الصحة العامة، فإنني أكرر تحذيري من تدخين الشيشة، وأُلفت انتباه الجميع إلى تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2005 حول الشيشة والذي خلص فيه إلى استنتاجٍ هام يؤكد على أن مدخن الشيشة يستنشق من السموم والمواد المسرطنة في جلسةٍ واحدة أكثر من الذي يدخن مائة سيجارة!   

السبت، 12 يوليو 2014

حرق صهاريج النفط وسياسة الطاقة



تكررت حوادث حرق وتفجير صهاريج أو سيارات نقل النفط في أفغانستان وباكستان منذ سنوات، ومؤخراً شهدنا قيام طالبان بحرق زهاء 200 صهريج تابعة لقوات حلف شمال الأطلسي(ناتو) تنقل النفط ومشتقاته من جازولين وديزل وكيروسين إلى القوات الأمريكية وقوات الناتو على الحدود العاصمة الأفغانية كابول، وتهدف هذه العمليات إلى قطع وتجفيف خطوط إمدادات النفط والوقود التي تحتاجهما القوات الأمريكية والقوات الأخرى الموجودة في أفغانستان.

وهذه المعضلة المتمثلة في نقل وتوصيل الوقود إلى الجنود الأمريكيين ليست في أفغانستان فحسب، وإنما كانت موجودة في العراق إلى حدٍ سواء، ولذلك كان لا بد من التفكير عن البديل لهذا الوقود واستحداث طرق إبداعية أخرى أكثر أمنناً وسلامة لتوصيله من أجل ضمان توافر أي نوعٍ آخر من الوقود لهؤلاء الجنود وبشكل مستمر ودائم لا ينقطع.

وهذه الحوادث التي نراها أمامنا من حرق لصهاريج الوقود تجبرنا على الولوج في قضيةٍ خطيرة تهدد أمن واستقرار الدول، ألا وهي "أمن الطاقة" أو "سياسة الطاقة" التي تتبناها الكثير من دول العالم. فلو بحثنا وتعمقنا في القضية على النطاق الضيق، وهو تأمين خط إمداد الوقود للجيش الأمريكي في أفغانستان، أو غيرها من الدول التي تحتلها أمريكا، فقد اتجهت أنظار الجيش الأمريكي وجل أبحاثه ودراساته الميدانية نحو الطاقة النظيفة والمتجددة، وفي مقدمتها الطاقة الشمسية. فقد صنع الجيش الأمريكي الكثير من المنتجات والمعدات التي يحتاج إليها الجنود في الميدان تعمل وتشتغل بالطاقة الشمسية، مثل صناعة بطانيات متنقلة يمكن حملها بسهولة ويسر لشحن البطاريات، أو مصابيح الطاقة الشمسية، أو الكمبيوتر الذي يعمل على طاقة الشمس، أو مخيمات تعتمد على الألواح الشمسية لتوليد الكهرباء، وبهذه المعدات يخفض الجيش من اعتماده وحاجته إلى الوقود الأحفوري الذي ينقل عبر الصهاريج والشاحنات، وتكون عادة أهدافاً سهلة جداً يمكن تدميرها والقضاء عليها، ومنع وصول الوقود الذي يحتاج إليه الجنود بشكلٍ يومي ولا يمكن الاستغناء عنه.

وهذه المنتجات التي تعمل بالطاقة الشمسية تقع ضمن استراتيجية واضحة، وسياسة طويلة الأمد تتبعها أمريكا كجزء من أمن الطاقة وخفض الاعتماد مستقبلاً على مصادر الوقود الأجنبية، سواء أكانت من الدول العربية أو غيرها، وبالتالي تحقيق الاستقلالية التامة في مجال الطاقة.

وعلينا هنا أن نتعلم من خبرات وتجارب أمريكا في ميدان الطاقة، ونعمل على تصميم وإعداد سياسةٍ خاصة بنا، تتلاءم وتتوافق مع ظروفنا المحلية، وتتماشى مع أوضاعنا الحالية والمستقبلية. وفي تقديري فإنني ألخص هذه السياسة في النقاط التالية:
أولاً: رفع وزيادة كفاءة وفاعلية حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء وفي المفاعلات الصناعية باستخدام أحدث الأجهزة والتقانات المتوافرة في السوق، وذلك بهدف خفض الاستهلاك من جهة، وتقليل انبعاث الملوثات القاتلة من جهةٍ أخرى.
ثانياً: استخدام كافة الوسائل والسبل لترشيد وخفض استهلاك الطاقة على مستوى المصانع والمحطات الحكومية وعلى مستوى المصانع الخاصة، إضافة إلى رفع مستوى الوعي الشعبي العام بضرورة وأهمية ترشيد الاستهلاك على المستوى الفردي في المنازل والمكاتب والمحلات التجارية.
ثالثاً: تقليل الاعتماد تدريجياً على الوقود الأحفوري الناضب وغير المتجدد والملوث للبيئة، سواء أكان هذا الوقود هو البترول ومشتقاته الكثيرة، أو الغاز الطبيعي، والولوج من الآن بقوة في ساحة مصادر الطاقة البديلة والمتجددة والنظيفة، سواء أكانت الطاقة الشمسية، أو طاقة الرياح، أو أي نوعٍ من أنواع الطاقة المتجددة التي تتناسب مع ظروفنا المحلية وواقعنا الخاص بنا.