السبت، 27 سبتمبر 2014

تلوث الهواء أثناء الحج



لا شك بأن نوعية الهواء الجوي في مكة، وبالتحديد في منطقة الحرم الشريف، تختلف من موسم إلى آخر، فتتغير حسب أعداد البشر الموجودين في المنطقة وكثافة الحركة المرورية وأعداد السيارات في ذلك الوقت، حيث تبلغ الذروة والحد الأقصى أثناء موسم الحج.

فهذه الملايين من المسلمين الذين يَشُّدون الرحال متجهين إلى مكة المكرمة، فيجتمعون كل سنة في هذا الشهر الفضيل لأداء فريضة الحج، وهذه الأعداد الهائلة من السيارات، وبخاصة الحافلات الكبيرة والصغيرة التي تعمل بوقود الديزل الشديد التلوث، لها آثار سلبية على الهواء الجوي من ناحية تدهور نوعيته وارتفاع تركيز الملوثات في بدنه.

فمناسك وشعائر الحج تُقام في مساحة جغرافية محدودةٍ وضيقةٍ نسبياً، ولذلك فهذه الأعداد الضخمة من البشر ينتقلون بسياراتهم وحافلاتهم في هذه المساحة الصغيرة وخلال زمنٍ قصير وأيامٍ معدودات، مما يعني أن الملوثات التي تنبعث من هذه الحافلات تتركز في هذا الزمن القصير والمساحة البسيطة فتتراكم مع الوقت وترتفع نسبتها، فتنعكس بشكلٍ مشهود على أمن وسلامة الهواء الجوي وعلى الحجاج الذين يتعرضون مباشرة لهذه الملوثات.

وهذه الأزمة المتمثلة في فساد نوعية الهواء تتفاقم في مناطق معينة لا تسمح بانتشار الملوثات وتخفيفها وانخفاض تركيزها، وبالتحديد في منطقة الأنفاق الطويلة، وبخاصة عندما تنشل الحركة المرورية أو عند توقفها لساعاتٍ طويلة من الزمن، حيث إن الملوثات التي تنطلق من السيارات لا تجد منفذا واسعاً، أو مخرجاً كبيراً يسمح بتشتتها ومنع تراكمها، مما يؤدي إلى أن تكون هذه الملوثات محصورة ومسجونة في بيئة هذه الأنفاق شبه المغلقة، ومع الزمن يزداد تركيزها وترتفع خطورتها على الصحة العامة.

وقد نُشرت عدة دراسات ميدانية تهدف إلى التعرف عن كثب على وضع الهواء الجوي في منطقة الحرم المكي أثناء فترة الحج من ناحية قياس نوعية وكمية الملوثات الموجودة في الهواء، ومنها بحث منشور في مجلة تقنية وعلوم البيئة الأمريكية(Environmental Science & Technology) في الأول من يوليو من العام الجاري تحت عنوان:"جودة الهواء في مكة والمناطق المحيطة بالأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية أثناء الحج".

فهذه الدراسة ركزت على جودة الهواء في موسم الحج لعام 2012،حيث تم تقدير عدد الحجاج بقرابة أربعة ملايين، وقامت بقياس عدة ملوثات تقليدية معروفة منها غاز أول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، ومجموعة الملوثات التي يُطلق عليها المركبات العضوية المتطايرة، حيث كشفت الدراسة عن مستويات مرتفعة لغاز أول أكسيد الكربون بلغت 57 جزءاً في المليون بالحجم في بيئة الأنفاق، وهذا التركيز في منطقة الحرم كان أعلى بعشرة أضعاف عن المناطق البعيدة عن حركة الناس وحركة السيارات، أي خارج منطقة مِنا وعرفات ومزدلفة،كما أكدت الدراسة ارتفاع تركيز غاز البنتين(pentane) والذي وصل إلى مستويات كبيرة بلغت 1200 جزءٍ في البليون في الحجم، وبخاصة في الأنفاق قليلة التهوية، كذلك وصل تركيز البنزين إلى أعلى المستويات حيث بلغ 185 جزءاً في البليون بالحجم، وكل هذه المستويات تزيد عن المعدلات المسموح بها حسب المواصفات والمعايير الخاصة بجودة الهواء الجوي.

وبالتالي لا بد من أخذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لحماية صحة حجاج بيت الله الحرام، وحسب تقديري يمكن تلخيص هذه الإجراءات في النقاط التالية، أولاً تقوية وتحسين التهوية في الأنفاق مما يساعد على تجدد الهواء ومنع تراكم الملوثات في هذه البيئة شبه المغلقة. ثانياً العمل على انسياب الحركة المرورية في هذه الأنفاق وتجنب توقف السيارات لفترةٍ طويلةٍ من الزمن. ثالثاً تعميم الاعتماد على القطارات كوسيلة للنقل بين المشاعر المقدسة.رابعاً إيقاف السيارات التي تنبعث من عوادمها كميات غير طبيعية وغير عادية من الملوثات، وأخيراً على الحجاج الذين يعانون من مشكلات في الجهاز التنفسي وقاية أنفسهم بوضع الكمامات وتجنب المشي في الأنفاق، مع تمنياتي لجميع الحجاج بحجٍ مبرور وذنبٍ مغفور وحجة آمنة وسليمة.



الخميس، 25 سبتمبر 2014

انفجار قنبلة المخلفات في روسيا



كنتُ أظن بأن الحادثة التي وقعت في 14 فبراير من العام الجاري في موقعٍ للمخلفات النووية بالقرب من مدينة(Carlsbad) الواقعة في منطقة صحراوية نائية جنوب شرق ولاية نيو مكسيكو الأمريكية، وكتبتُ عنها قبل أيام، هي الوحيدة من نوعها في التاريخ البشري، ولكنني عندما قُمتُ ببحثٍ دقيق لقضية المخلفات النووية المتكدسة في الدول الصناعية، أو مخلفات الدمار الشامل، والتي تُهدد حياة كل كائنٍ حي يعيش على سطح الأرض، وجدتُ أن هناك كارثة عظيمة وقعت في روسيا أو الاتحاد السوفيتي سابقاً في مثل هذا الشهر، وبالتحديد في 29 سبتمبر 1957، وأُطلق عليها بكارثة كيشتيم(Kyshtym disaster)، وتم تصنيفها الآن على الدرجة السادسة على المقياس الدولي للحوادث النووية، وتُعد ثالث أكبر كارثة بيئية نووية بعد فوكوشيما عام 2011 في اليابان،وتشرنوبيل 1986 في أوكرانيا.

فتبدأ قصة هذه الكارثة بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد عام 1945، عندما وجد الاتحاد السوفيتي نفسه متأخراً كثيراً عن التطور الأمريكي المشهود في صناعة وإنتاج أسلحة وقنابل نووية، فقامت في عجالة شديدة في بناء مجمعٍ سري لإنتاج الأسلحة النووية بجميع أنواعها وأحجامها، وأُطلق عليه مصنع ماياك(Mayak) في مدينة أزيورسك(Ozyorsk)، ونتيجة للتكتم الكبير على هذه العملية، والسرية التامة التي أُحيطت بإنشائه، فقد تم إزالة هذه المواقع من خارطة روسيا كلياً، أي أنها في الواقع الرسمي وعلى الأرض غير موجودة، ولذلك فأقرب مدينة رسمية موجودة في الخارطة هي منطقة كيشتيم عند جبال أورال(Ural Mountains) في سيبيريا.

ولذلك كان جُل الاهتمام منصباً على سرعة التصنيع والإنتاج للأسلحة الذرية واللحاق بأمريكا، بل والتفوق عليها، وأما ما ينتج عن هذه العمليات من مخلفات مشعة سائلة أو شبه صلبة فلم تلق أي رعاية، أو عناية، وكانت آخر قضية يفكر فيها العسكريون والعلماء في ذلك الوقت، حيث إن هذه المخلفات المشعة صُرفت مباشرة وبدون أية معالجة إلى المسطحات المائية، مثل نهر تيشا(Techa River) من جهة، وبحيرة كاراشاي(Lake Karachay) من جهةٍ أخرى والتي استعملت كمدفن مفتوح للتخلص من هذه المخلفات المشعة والقاتلة، وبعد سنوات تم تخزين الجزء الآخر من هذه المخلفات في براميل حديدية ووضعت في قالبٍ من الخرسانة المسلحة، ودفنت في الموقع على بعد نحو ثمانية أمتار تحت سطح الأرض.

وظن علماء الاتحاد السوفيتي أنهم فعلاً قد تخلصوا من هَمِّ هذه المخلفات المشعة والقنابل الموقوتة التي كانت تجثم فوق صدورهم وتتكدس في مواقعهم يوماً بعد يوم، فهذه القنابل والمواد المشعة بدأت مع الوقت تفقد جزءاً من نشاطها الإشعاعي، أي أنها أخذت في التحلل رويداً رويدا ونجمت عنها حرارة عالية دمرت ومزقت الخزانات الحديدية والإسمنتية وفجرت الموقع برمته، ونتيجة لشدة الانفجار الذي قُدرت قوته بانفجار مائة طنٍ من الـ تي إن تي، انطلق صاروخ أرض جو من الخرسانة يزن 160 طناً إلى الهواء الجوي، كما انبعثت الملوثات المشعة إلى الهواء، فكونت سحباً مشعة قاتلة، لوثت مساحة أكبر من مساحة البحرين بنحو 25 مرة، وانتقلت إلى مناطق أخرى تبعد أكثر من 350 كيلومتراً من موقع الكارثة. وبعد أكثر من أسبوع من الكارثة، تم إخلاء سكان قرابة 248 قرية ولكن دون إشعارهم بأسباب هذا الإخلاء وهجر منازلهم!

واستمرت هذه الكارثة في طي النسيان والكتمان، فالعالم الداخلي في الاتحاد السوفيتي والعالم الخارجي لم يعلموا شيئاً عن هذه الكارثة حتى 13 أبريل 1958، أي بعد سبعة أشهر من وقوعها، عندما نُشرت تقارير غربية غير مؤكدة عن وقوع حادثة ما في الاتحاد السوفيتي، ولكن تفاصيل الكارثة تم نشرها على الملأ عام 1976 في مجلة نيو سينتس(New Scientist)، ثم قامت روسيا بتحرير الوثائق السرية حول الكارثة عام 1989، ومع ذلك مازال الغموض حتى يومنا هذا يلف بهذه الكارثة، فعدد الذين تعرضوا للإشعاع غير معروف، وعدد المتضررين من مرضى وموتى مجهول، والمساحات التي تسممت بالإشعاع في البيئات المائية من أنهار وبحيرات وبيئة التربة لا يعلمها إلا الله!

فكما أن هذه الكارثة أُحيطت بالسرية التامة لعقودٍ من الزمن بعد وقوعها، فربما تكون هناك كوارث مماثلة وقعت أثناء الظلام الدامس في روسيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو بريطانيا، أو غيرهما من الدول النووية التي تعاني حتى يومنا هذا من عشرات الآلاف من الأطنان من مخلفات الدمار الشامل المخزنة في أراضيها، ولم يجدوا حتى الآن الحلول المناسبة للتعامل معها، فهي إذن قنابل موقوتة انفجرت من قبل، وستنفجر مستقبلاً في أية لحظة.

وبالرغم من معرفة دول العالم ومجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى المختصة عن التداعيات الأمنية، والبيئية، والصحية لهذه القنابل على الكرة الأرضية برمتها، إلا أن الصمت هو سيد الموقف، والتجاهل وغض الطرف هي السياسة التي تتبعها هذه المنظمات، ولن تتغير هذه السياسة إلا بعد وقوع كارثة جديدة تدمر الحرث والنسل وتأكل الأخضر واليابس.

الجمعة، 19 سبتمبر 2014

عائلة "الثاليدوميد"



 
مهما أَكونُ بارعاً ومحترفاً في مجال الكتابة والبلاغة اللغوية، ومهما أكون موهوباً وماهراً في وصف وتصوير دقائق الصور الفوتوغرافية، فلن أتمكن من إعطاء الصور التي رأيتها أمامي حقها ودلالاتها الحقيقية المخيفة، ولن أستطيع أن أُقدم لكم بشاعة هذه الصور من خلال قلمي الضعيف إلا إذا رأيتم بأنفسكم وشاهدتم بأعينكم فظاعتها ورعبها، فيعجز بديع وعظيم لغتنا العربية عن بيانها ووصفها والتعبير عنها.

فهذه الصور التي نُشرتْ مؤخراً في صحيفة الجارديان البريطانية عبارة عن ألبوم خاص لأفراد عائلة بريطانية، فتشاهد في هذا الألبوم الخاص صور أفراد هذه العائلة المنكوبة منذ ولادتهم وحتى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر مصيره وقَدَره، وهذه العائلة التي تعيش حالياً في بريطانيا في مدينة (Cheltenham) أُطلق عليها اسم غريب، ولقب غير مألوف، وهو عائلة الثاليدوميد، وهو يرمز إلى العائلة المـُشوهة والمعوقة خَلْقياً وجسدياً منذ ولادتها، والتي تعاني عشرات السنين من هذه التشوهات الخَلْقية الغريبة والنادرة في عالم البشر.

فإحدى هذه الصور التي تشاهدها في ألبوم العائلة لطفلة اسمها لويس مديس(Louise Medus)، وهي البِنتْ الأخيرة التي وُلدت مشوهة في عائلة الثاليدوميد في 23 يونيو 1962 في مدينة (Enfield) وقد تأثرت بشكلٍ مشهود بتداعيات استخدام دواء "الثاليدوميد" الذي تم وصفه لوالدتها الحامل بهذه الطفلة لعلاج الآلام والقيء الشديد أثناء فترة الصباح، وهذه الأعراض النادرة التي تصيب المرأة الحامل عند الصباح تُعرف بمرض (hyperemesis gravidarum)، وفي نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم كان "الدواء السحري" لعلاج هذا المرض هو كبسولة الثاليدوميد البيضاءالتي كانت تباع تحت مسمى تجاري هو ديستافال(Distaval)، وتنتجها شركة ألمانية متخصصة في صناعة العقاقير هي جرونينثال(Grünenthal)، وجدير بالذكر أنالأميرة كَيت زوجة الأمير ويليام وهي في حملها الثاني الآن مصابة بهذا المرض.

ولكن هذا الدواء السحري الذي كان يُعالج آلام المرأة الحامل، كان له في الوقت نفسه انعكاسات خطيرة جداً لم يعرفها الإنسان في تلك الفترة، فصورة هذه الطفلة وهي صغيرة، ثم صورتها وهي كبيرة ومشوهة عضوياً، تثبت واقعية هذه التداعيات المزمنة والمؤلمة جسدياً وعقلياً ونفسياً للطفلة المصابة نفسها ولكافة أفراد الأسرة.

ولكي تعرف فظاعة هذه الحالة والأثر العميق والمستدام الذي يحفره في النفس البشرية، أرجو أن تتخيل معي هذا المشهد. فتصور أنت والدٌ تنتظر بفارغ الصبر مولوداً جديداً يحمل اسمك، ويرفع شأنك، ويواسيك عندما تكبر ويضعف بدنك ويشتعل رأسك شيباً، ثم تسمع خبر الولادة فتذهب سريعاً لإلقاء النظرة الأولى على فلذة كبدك، وإذا بك تفاجأ بطفلٍ غير الأطفال العاديين، ومولودٍ غريب، فلا يد له، أو لا أرجل كاملة له، أو له أطراف غريبة كأطراف الحيوانات، وله جسم غير مكتمل يختلف عن جسم الطفل الطبيعي، فماذا ستكون نفسيتك عندما تشهد بعينيك هذا المنظر الغريب، الذي هو لابنك المعوق والمشوه؟ وكيف ستكون حالتك بعد هذا المشهد الدراماتيكي المؤلم؟ لا شك بأنك ستصاب بإحباط واكتئابٍ شديدين، وهمٍ وغمٍ عظيمين لا يمكن وصفه، وستقاسي من جرحٍ عميق لا يندمل، وستعاني منه طوال سنوات حياتك، فبعد هذا الانتظار الطويل، وبعد هذا الأمل المعقود على ولادة طفلٍ سليم، تُرزق بمثل هذا "المخلوق الغريب".

فهذا المشهد الذي وصفته لكم لم يحدث لعائلة واحدة فقط في بريطانيا، وإنما وقع لعشرات الآلاف من الأسر في أكثر من 46 دولة، أي أن هذا الألم العميق، وهذه الكارثة النفسية والعضوية ألمت بالإنسان في معظم دول العالم، مما يستدعي منا وقفة متأملة وطويلة لتجنب نزول مثل هذه الطامة الكبرى علينا وعلى أحفادنا، والعمل على تبني وتنفيذ كافة الاحتياطات والإجراءات اللازمة لمنع وقوعها في بلادنا. ويمكن تلخيص هذه الإجراءات في عدم الاستعجال في إدخال الأدوية الجديدة إلى بلادنا إلا بعد التحقق والتثبت من الآثار الجانبية الطويلة المدى لهذه الأدوية وأضرارها المتوقعة على الإنسان نفسه وعلى الأجيال اللاحقة.



الجمعة، 12 سبتمبر 2014

هل تَنْبَعثْ الملوثات من الكائنات الفضائية؟



هناك هوس شديد ومستمر عند أفراد المجتمع الأمريكي خاصة من كُتاب وعلماء للبحث عن كائنات حية تشبه الإنسان وتعيش في مكانٍ ما في الفضاء الشاسع خارج كوكب الأرض، وربما هذا الاهتمام العميق ينبع من حب الإبداع عند الأمريكيين والبحث عن غير المألوف، والرغبة نحو استكشاف الجديد والغريب، والميل إلى المغامرة المحسوبة بشكلٍ دقيق وعلمي وتقني عالي المستوى من ناحية التخطيط والتنفيذ، وهذا الهوس انعكس بشكلٍ مشهود وملموس على هوليود، مصنع الأفلام الأمريكية والدولية، حيث أَنْتجت أفلاماً كثيرة منذ أكثر من قرن، وقدمت تصوراتٍ وتخيلات مختلفة ومتعددة عن هذه الكائنات الفضائية الدخيلة وغزوها للكرة الأرضية وقضائها على الجنس البشري.

وقد برزت خلال العقود الماضية عدة وسائل وطرق للبحث عن هذه الكائنات الفضائية والتعرف عليها، وتقصي آثارها، ومراقبة ومتابعة مؤشرات وجودها، وتركزت هذه الطرق أولاً على البحث عن كائنات حية بسيطة وغير معقدة في تركيبها من أسماك وبكتيريا وغيرهما وتعيش في ظروفٍ غير عادية وقاسية وصعبة ولا يمكن للإنسان أن يعيش فيها، مثل أعماق البحار والمحيطات على عمقِ كيلومتراتٍ طويلة تحت سطح البحر، حيث الظلام الدامس، والنقص المدقع في الأكسجين، والبرودة الشديدة، أو تحت سطح البحيرات المتجمدة في القطبين الشمالي والجنوبي، حيث البرودة القارسة غير الطبيعية وغير المناسبة لحياة البشر، أو في المياه الجوفية شديدة الحرارة والغليان التي لا يمكن أن تُعين أي كائن على الحياة والنمو والتكاثر، فوجود أي كائنٍ حي، مهما كان نوعه أو حجمه في مثل هذه البيئات والظروف القاسية قد يشير إلى احتمال وجود كائنات حية أيضاً في الكواكب الكونية التي لها ظروف مشابهة وبيئات قريبة منها.

وفي هذا الإطار، نَشَرتْ مجلة الطبيعة(Nature) في العدد الصادر في 20 أغسطس من العام الجاري بحثاً علمياً ميدانياً يؤكد اكتشاف 4000 نوعٍ من البكتيريا التي تعيش في بحيرات القطب الشمالي المتجمدة، وبالتحديد في بحيرة ويلانز(Lake Whillans)، وفي أعماق تحت سطح ماء البحيرة المتجمد تبلغ نحو 2600 قدم، أي قرابة 790 متراً، فتحيا في تلك البقعة النائية والشديدة البرودة من الكرة الأرضية والأكثر بعداً عن المدنية والتحضر وأنشطة البشر، فلم يتوقع العلماء أن تكون هناك حياة مزدهرة في مثل هذه البيئة القاسية، ولذلك فإن هذا الاكتشاف قد يؤشر على احتمال وجود حياةٍ في كواكب أخرى تعيش في الظروف والبيئة نفسها.

كما إن هناك طُرقاً أخرى تم استخدامها لدراسة إمكانية وجود كائنات فضائية مثل البحث عن غاز الأكسجين أو الميثان أو غيرهما في الكواكب خارج الكرة الأرضية، وهذه الغازات تعد مؤشرات حيوية تفيد بوجود نوعٍ ما من الكائنات الحية.

واليوم ابتكر علماء أحياء الفضاء العاملون في مركز سميثونين لفيزياء الفضاء في جامعة هارفورد آلية ووسيلة جديدة للبحث عن كائنات حية في الكون الفسيح خارج حدود كوكبنا، ونشروا هذه الآلية والفكرة الجديدة من خلال بحثٍ علمي متكامل وشامل في 24 يوليو من العام الجاري في مجلة الفيزياء الفلكية (Astrophysical Journal) تحت عنوان: "البحث عن تلوث الهواء من الكائنات الفضائية".

وهذه الفكرة الإبداعية تختلف عن الآليات والوسائل التقليدية التي كانت تُركز في بحثها على العمليات الحيوية الطبيعية للكائن الحي، وبخاصة الغازات العادية المعروفة التي تنبعث عن التفاعلات الحيوية داخل جسم الكائن الحي، فهذا الابتكار الفكري يتلخص بشكلٍ أساس في فرضية وجود كائنات حية ذكية كالإنسان في مكانٍ ما خارج كوكب الأرض، ووجود مثل هذه الكائنات الذكية يعني بالضرورة وجود مرافق وأنشطة ومصانع لهذه المجتمعات الفضائية، ووجود هذه المصانع الفضائية لا بد وأن تنبعث عنها ملوثات غازية تشبه الملوثات الغازية التي تنطلق من الأنشطة البشرية كالمصانع ووسائل النقل والمواصلات.

ومن أبرز الملوثات المعروفة للإنسان منذ الثمانينيات من القرن المنصرم هي مجموعة من مركبات الكلوروفلوروكربون(CFCs) التي نستخدمها منذ عقودٍ من الزمن في عملية التبريد في الثلاجات والمكيفات ومواد إطفاء الحريق، وبالتحديد رباعي فلورو الميثان وثلاثي كلوروفلورو الميثان، فالبعض من هذه الملوثات قد يبقى آلاف السنين في بيئتنا وفي الهواء الجوي بالتحديد دون أن يتغير أو يتحلل، ولذلك فاكتشاف هذه المجموعة من الملوثات في الكون مؤشر إيجابي وقوي على احتمال وجود كائنات فضائية ذكية مثل الإنسان. وهناك تلسكوب تابع لوكالة الفضاء الأمريكية(ناسا) سيدشن عام 2018 واسمه تلسكوب "جيمس وِبْ الفضائي" (James Webb Space Telescope) وله القدرة على الكشف عن هذه الملوثات في الفضاء خارج الغلاف الجوي لكوكب الأرض.  

فهل سينجح العلماء في اكتشاف ملوثاتٍ صناعية منبعثة من المجتمعات والكائنات الفضائية؟