الاثنين، 31 مارس 2014

لماذا منعت باريس السيارات؟


إجراءٌ حازمٌ وحاسم اضطرت العاصمة الفرنسية باريس إلى اتخاذه وتنفيذه، وتَمثل هذا الإجراء في السماح فقط لبعض السيارات الخاصة من الدخول في وسط باريس، فلا بد إذن وأن تكون هناك أسباب وجيهة وقوية، ومبررات مقنعة جداً ألزمت الجهات المعنية إلى تطبيق مثل هذا الإجراء الجريء والشجاع الذي عادة ما لا يلقى تجاوباً وقبولاً من فئات المجتمع المختلفة ويؤثر على النشاط الاقتصادي في المدينة.

 

فقد جاء هذا الإجراء من أجل حماية الصحة العامة ومنع الضرر الصحي من أن يقع على الجميع بدون استثناء، وتجنيب الناس خطر الوقوع في الأمراض المزمنة والحادة، فمدينة باريس، كغيرها من المدن الحضرية العريقة، تُعاني بشكلٍ مزمن ومنذ أكثر من قرن من ضيفٍ ثقيل يجثم فوق صدور الناس، وتقاسي طويلاً من تلوث الهواء الجوي ونزول الضباب الضوئي الكيميائي على رؤوس المواطنين بين الحين والآخر، ففي بعض الأوقات ينزل هذا الضيف الثقيل ليومٍ واحد على الناس، ثم ينقشع ويرحل بعد أن يوقع خسائر صحية محدودة وفي نطاقٍ ضيق، وفي أوقاتٍ أخرى، كما حدث مؤخراً في باريس، يبقى هذا الضيف فترة طويلة من الزمن دون أن يتزحزح من مكانه شبراً واحداً، فيُخيم فوق قلوبهم ويصيب عامة الناس بالفزع والهلع، ويُسقط الكثير من الضحايا البشرية بين مريضٍ يدخل المستشفى وهو يعاني من آلامٍ في الصدر، وضيقٍ في التنفس، أو مشكلات في القلب، وبين صريعٍ يهوى إلى الأرض فيلقى نحبه ويدخل القبر.

 

ولذلك في هذه الأيام بعد أن استمر هذا الضباب القاتل فوق رؤوس الناس وأبى أن ينقشع، اضطرت باريس إلى تقنين الحركة المرورية في وسط المدينة وخفض أعدادها من حيث السماح لبعض السيارات الشخصية من الدخول، إضافة إلى حافلات النقل الجماعي وسيارات الأجرة والسيارات التي تعمل بالوقود النظيف مثل السيارات والكهربائية، كما سمحت بدخول السيارات التي بها أكثر من ثلاثة أفراد. وعلاوة على هذا الإجراء فقد أعلنت باريس بأن القطارات وحافلات النقل الجماعي ستكون مجانية لتشجيع الناس على تجنب استعمال سياراتهم الشخصية، كما حثت الناس على البقاء في منازلهم وعدم ممارسة الأنشطة الخارجية.

 

فهذه الحالة التي أصابت باريس هي في الحقيقة ظاهرة دولية عامة تنكشف في معظم المدن الحضرية، مثل بكين وشنجهاي في الصين، ولندن، ولوس أنجلوس، ونيويورك، وطوكيو، وفي جميع هذه الحالات فإن هذه الظاهرة تنعكس سلباً ليس على الوضع البيئي فحسب، وإنما على الوضع الصحي لعامة الناس، والوضع الاقتصادي، والسياسي على حدٍ سواء، مما يحتم علينا دراسة احتمال وقوع هذه الظاهرة في البحرين وأخذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لمنع وقوعها، فالمؤشرات التي أراها أمامي تؤكد بأننا لسنا بمنأى عنها، وأنها ستنزل علينا قريباً.  

 

الأحد، 23 مارس 2014

طائرة بدون طيار للتجسس على المصانع


بلغت شدة التلوث في بعض المدن الصينية إلى درجةٍ لا تُحتمل ولا تُطاق حسب اعترافات أحد مستشاري الحكومة الصينية، وقد وصل التلوث ذروته، وبلغ هذا المدى الخطير الذي هدد الصحة العامة وعَرْقل عملية النمو في الصين بسبب الإهمال المتعمد للبيئة وثرواتها الحية وغير الحية والتجاهل التام لأمنها الصحي وسلامتها لأكثر من ستين عاماً.

 

فالتركيز الأحادي الجانب على النمو الاقتصادي البحت ووضع كل موارد البيئة وثرواتها تحت التصرف الكامل لهذا النمو، أدى إلى وقوع هذا التطرف الشديد والتدهور الكبير في حالة البيئة، كما أدى إلى ظهور أمراضٍ غريبة ومزمنة بين أفراد المجتمع الصيني، منها انكشاف ظاهرة عامة غريبة على المجتمع الدولي، وهي وجود أكثر من 500 قرية سرطانية، حيث ترتفع في هذه القرى المنكوبة أعداد المصابين بالسرطان بدرجة ملحوظة مقارنة بالقرى والمدن الصينية الأخرى.

 

ونظراً لهذا الوضع البيئي والصحي الخطيرين الذي أصاب الصين، أعلن رئيس الوزراء مؤخراً "الحرب على التلوث"، واضطرت الحكومة الصينية الآن ممثلة في جهاز البيئة إلى اتخاذ إجراءات غريبة غير تقليدية وغير مسبوقة في المجال البيئي، ولم نشهدها من قبل لمواجهة غزو التلوث لأجواء الصين الهوائية وذلك من خلال استخدام الأساليب والأجهزة والمعدات التي تُستعمل عادةً عند شن الحروب واحتدام المعارك بين الجيوش، وبالتحديد أجهزة المخابرات الأمنية من أجل التجسس على المصانع، وجمع المعلومات عن التلوث المنبعث منها، ومن هذه الأجهزة التجسسية تصميم طائراتٍ خاصة بدون طيار، كُلفة الواحد منها قرابة مليون دولار، للقيام بهذه المهمة البيئية الشاقة، والتحليق فوق المصانع ومحطات توليد الكهرباء في المدن الصينية للبحث والتفتيش عن هذه المصادر للتلوث، وقياس درجة وتركيز الملوثات، إضافة إلى جمع الأدلة المادية المحسوسة من خلال التقاط الصور الفوتوغرافية لتثبيت التهمة على الجهات المخالفة لأنظمة التلوث البيئي، ثم محاكمتها.

 

ومن الإجراءات الأخرى التي تبنتها الحكومة الصينية لمكافحة التلوث، وبخاصة تلوث الهواء، والتصدي للضباب القاتل الذي يضرب مدن الصين بين الحين والآخر، هي إحداث تغييرات جذرية وشاملة في سياسة الطاقة الصينية من حيث تنويع مصادر الطاقة وأنواع الوقود المستخدمة لتوليد الكهرباء وتشغيل الأفران الصناعية والمحركات، والتوجه مستقبلاً نحو مصادر الطاقة البديلة والمتجددة والنظيفة.

 

فمن المعلوم أن الصين تعتمد بشكلٍ كبير على الفحم كمصدر رئيس لتوليد الكهرباء، وكما يعلم الجميع أن الفحم يعتبر من أشد أنواع الوقود تلويثاً للهواء الجوي، فهناك الكثير من الملوثات السامة والمسرطنة التي تنبعث عن حرق الفحم، مثل الجسيمات الدقيقة، وأكاسيد النيتروجين، وأكاسيد الكبريت، وهذه الملوثات هي التي تُكَوِّن ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، أو الضباب القاتل الذي لا يَخْفى على أي إنسان يعيش في المدن الصينية العريقة المكتظة بالسيارات والمصانع. وعلاوة على هذا، فإن حرق الفحم ينجم عنه غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو المتهم الرئيس في رفع درجة حرارة الكرة الأرضية وإحداث التغير المناخي، والصين كغيرها من دول العالم ملتزمة بخفض انبعاثاتها من هذا الغاز وعليها يقع العبء الكبير في هذه القضية، فهي تُعد ثاني دولة في العالم من حيث حجم انبعاثاتها للغازات المسئولة عن التغير المناخي.

 

ولذلك اضطرت الصين إلى التوجه نحو البديل عن الفحم، مثل الطاقة النووية، حيث تعمل الآن على إنشاء أول محطة نووية للطاقة على المستوى الدولي تعمل بوقود عنصر الثوريم بدلاً من اليورانيوم.

 

ومن حسن الحظ أننا في البحرين نعتمد على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وتشغيل الأفران المنزلية والصناعية، ومن المعلوم أن الغاز الطبيعي يعتبر نسبياً أنظف من الناحية البيئية من أنواع الوقود الأخرى كالفحم والديزل وغيرهما، ولكن في الوقت نفسه علينا أن نبحث عن بدائل أخرى أكثر جدوى من الناحية البيئية، وأقل ضرراً لصحة الإنسان، مثل أنواع الطاقة البديلة والمتجددة والنظيفة وعلى رأسها الطاقة الشمسية.

 

الخميس، 20 مارس 2014

ما مصير مخلفات السفن الموجودة في مياه الخليج؟



قبل أكثر من 20 عاماً أثناء حرب الخليج وتزامناً مع ازدياد أعداد السفن في مياه الخليج العربي، كتبتُ مقالاً في جريدة أخبار الخليج حول كمية ونوعية المخلفات التي تنتجها السفن الحربية العملاقة القابعة في مياه الخليج العربي، والتي يُعد بعضها مدناً عائمة تحتوي على كافة المرافق التي توجد في المدن، وينزل على ظهرها الآلاف من البشر، وتساءلت في هذا المقال عن مصير هذه المخلفات الصلبة والسائلة وكيفية التخلص منها، ومازالت منذ ذلك الوقت في انتظار الإجابة عن هذه الأسئلة!

وفي السياق نفسه نَشَرَتْ صحيفة الإندبندنت البريطانية في العدد الصادر في 15 مارس من العام الجاري تحقيقاً صحفياً حصرياً تحت عنوان: "المياه الدولية الأكثر نظافة تتلوث بمياه المجاري من سفن البحرية الأمريكية"، وقلتُ في نفسي لعلي أجد في هذا التحقيق الإجابة الشافية عن تساؤلاتي التي طرحتها قبل أكثر من عقدين من الزمان.

فقد أكد هذا التحقيق على أن سفن البحرية الأمريكية تَصْرف مياه المجاري شبه المعالجة ومخلفات سائلة أخرى في المياه العذراء البكر المعروفة بنظافتها العالية ونقاوتها وخلوها كلياً من الملوثات البشرية، وبالتحديد في المياه التي تحتوي على الشعاب المرجانية في الجزر والقواعد التي تمتلكها بريطانيا في منطقة دياجو جارسيا(Diego Garcia) الواقعة بين مجموعة جزر شاجوز(Chagos Islands) في المحيط الهندي.

كما أفاد التحقيق الصحفي أن مثل هذه الممارسات الخاطئة والتي فيها في الواقع ارتكاب لجرائم تَنْهتك حرمات البيئة البحرية والحياة الفطرية، مستمرة منذ نحو 30 عاماً، وبالتحديد بدأت عند إنشاء قاعدة أو محطة بحرية أمريكية في مطلع الثمانينيات في هذه الجزر العذراء، علماً بأن بريطانيا أعلنت منذ أربع سنوات هذه الجزر البكر كأكبر محمية بحرية في العالم.

وجدير بالذكر أن وزارة الخارجية البريطانية كانت على علمٍ مسبق بمثل هذه التصرفات المخالفة للقانون البريطاني والتي تتعارض مع الأنظمة الدولية والاتفاقيات الأممية المتعلقة بحماية البحار والحفاظ على بيئاتها والحياة الفطرية التي تعيش تحت ظلها، ومنها على سبيل المثال اتفاقية رامسار حول الأراضي الرطبة(Ramsar Convention on wetlands). فقد أرسل مكتب الخارجية ودول الكومن ولث في وزارة الخارجية في أبريل من عام 2013 خطاباً إلى مجلس العموم البريطاني حول هذه القضية، وورد فيه: "بَلَغَنا بأن السفن الأمريكية تصرف مخلفات سائلة في البحيرات في المنطقة منذ إنشاء محطة بحرية أمريكية في مطلع الثمانينيات"، وأن هذه المخلفات السائلة عبارة عن "مياه مجاري معالجة ومياه ناجمة عن عمليات التنظيف والطبخ".

ومن المعروف أن مخلفات مياه المجاري، حتى لو تمت معالجتها جزئياً، فإنها تسبب نوعين من التلوث. النوع الأول هو التلوث الحيوي، حيث إن مخلفات مياه المجاري تحتوي على العديد من الكائنات الدقيقة بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها من بكتيريا وفيروسات، وهذه تؤدي إلى ظهور مشكلاتٍ كبيرة تنعكس سلباً على الكائنات البحرية الدقيقة كالبلانكتونات النباتية والحيوانية التي تعتبر أساس السلسلة الغذائية البحرية، وبعبارةٍ أخرى هذه الكائنات الصغيرة والبسيطة هي التي تعيش عليها الأسماك والكائنات البحرية الأخرى الأكبر حجماً، فلا حياة في البحر بدون هذه البلانكتونات.

أما النوع الثاني من التلوث فهو التلوث الكيميائي الناجم عن المركبات الكيميائية الخطرة الموجودة في مخلفات مياه المجاري، والتي قد تؤدي مع الوقت وتراكم الملوثات وزيادة تركيزها إلى انكشاف ظاهرة الإثراء الغذائي أو المد الأحمر، وهي تحول البيئة البحرية إلى اللون الأخضر والأحمر، وهذه ظاهرة لو وقعت فستهدد الحياة الفطرية البحرية في تلك المنطقة، ولها مردودات خطرة على البيئات البحرية، مثل الشعاب المرجانية، وبيئة الحشائش والطحالب.

ولذلك فإنني أستنتج بأن صرف السفن الحربية الأمريكية للمخلفات السائلة أو الصلبة في البيئات البحرية ليس من الممارسات الغريبة التي لا تقع منهم، فالتقارير الحالية منها والسابقة تؤكد قيامهم بمثل هذه الممارسات غير القانونية، وبناءً عليه يجب علينا أخذ الحيطة والحذر والتأكد من قيام هذه السفن بإدارة مخلفاتها بطريقة بيئية وصحية سليمتين.

الثلاثاء، 18 مارس 2014

مصائب قوم عند قوم فوائد



التلوث الشديد والمدقع الذي أصاب هواء بعض المدن الصينية العريقة ليس شراً كله، وليس فساداً جُله، وإنما نزل بالخير العَمِيم على بعض التجار ورجال الأعمال، وأدى إلى ازدهار ونمو ورواج بضائعهم، وإحداث طفرة غير مسبوقة في أعداد الناس المقبلين على شرائها.

فتلوث الهواء الذي يخيم على المدن الصينية الكبيرة ويجثم فوق قلوب ونفوس الناس ويدخل في أعماق الجهاز التنفسي، أَوْقَعَ الملايين من الضحايا البشرية، فمنهم من أُدخل الطوارئ وهو يعاني من آلامٍ في الصدر، وضيقٍ في التنفس، ومشكلاتٍ في القلب، ومنهم من وقع صريعاً وقضى نحبه بسبب استنشاقه للسموم والدخان الملوث. 

وتجنباً للوقوع في هذه الأمراض والتعرض للموت البطيء أو الموت المباغت، اضطر الناس إلى اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لمنع هذه التأثيرات الصحية القاتلة، وتدافعوا إلى شراء الأجهزة والمعدات والأدوات التي تقيهم من شر هذه الملوثات الخانقة، وتمنع دخولها في أجسامهم.

فعلى سبيل المثال، ارتفعت مبيعات أجهزة تنقية وترشيح الملوثات من الهواء الجوي المستخدمة في المنازل والمكاتب والمحلات التجارية وصفوف المدارس، حيث بلغت في عام 2013 نحو 468 مليون دولار وبنسبة نمو فاقت الـ90% مقارنة بعام 2012، كما أكدت التقارير أن مبيعات هذه الأجهزة تتناسب مع درجة التلوث في الهواء وتركيز الملوثات، فكلما ارتفعت نسبة التلوث، هَرَعَ الناس أكثر لشراء أجهزة تنظيف الهواء الجوي.

كذلك زادت أعداد الناس الذين أقبلوا على شراء الكمامات، أو الأقنعة الواقية التي تُغطي الفم والأنف وتمنع دخول السموم إلى الجسم عن طريق الأنف، حيث تم شراء 217 ألف كمامة عن طريق الإنترنت خلال أسبوع واحد فقط في الأيام التي انكشف فيها الضباب القاتل، كما أن هذه الأقنعة نفدت من الأسواق خلال بعض الفترات.   

فهذه الحالة الصينية تؤكد أن قضية التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص يجب أن لا يستهان بها، والحكومة الصينية أيقنت الآن هذه الحقيقة، وانعكس هذا على تصريحات المسئولين وعلى رأسهم رئيس الوزراء الصيني الذي أعلن مؤخراً الحرب على التلوث في كلمةٍ ألقاها في حفل افتتاح المجلس الشعبي الصيني قائلاً: "الحكومة ستعلن الحرب على الضباب الملوث للهواء في المدن".

وأتمنى أن نعلن نحن أيضاً الحرب على التلوث قبل أن يغزونا حتى نقلل من الضرر والخسائر البشرية.


السبت، 15 مارس 2014

إعلان الحرب على التلوث



لأول مرة في تاريخ الصين تدخل البيئة بقوة ضمن الهموم والشئون اليومية لقادة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، ولأول مرة في تاريخ الصين تستخدم لهجة شديدة لإدارة الهم البيئي وحماية كافة مكونات البيئة الحية وغير الحية، حيث بلغت هذه اللهجة ذروتها عندما تم الإعلان عن "الحرب على التلوث البيئي".

فالرئيس الصيني كساي جينبينج(Xi Jinping) نفسه أعترف مؤخراً قائلاً بأننا يجب أن نعالج "الأعراض والأسباب الحقيقية للتلوث البيئي"، وأضاف بأن التلوث في بكين يُعد "التحدي الأكبر"، وفي السياق نفسه جاءت تصريحات رئيس الوزراء الصيني لي كيكيانج (Li Keqiang) متناغمة ومتطابقة مع تصريحات الرئيس، حيث ألقى كلمة في الخامس من مارس في الاجتماع السنوي الثاني عشر للكونجرس أو المجلس الصيني الشعبي الوطني في العاصمة بكين وأمام 3000 نائب، بَيَّنَ فيها برنامج الحكومة وأهدافها لعام 2014، ولأول مرة حظت البيئة بالأولوية والرعاية والاهتمام إلى جانب النمو الاقتصادي، حيث قال: "التلوث مشكلة رئيسة، والحكومة ستعلن الحرب على الضباب الملوث للهواء في المدن من خلال التخلص من السيارات الملوثة للبيئة وإغلاق الأفران التي تعمل بالفحم"، وأضاف قائلاً أن: "التلوث هو التحذير والضوء الأحمر للطبيعة بسبب النمو غير الفاعل وغير الكفوء والأعمى في بلادنا، ولذلك فإن تبني سياسة النمو البيئي المعقول ضروري وهام لحياة الناس ومستقبل أمتنا".

ولكن ما الأسباب التي أدت إلى هذا الاهتمام السياسي غير المسبوق بالبيئة، وذلك بعد أن أهملتها عمداً عقوداً طويلة من الزمن، وغفلت كلياً عن شئونها، وتوغلت بعمق في أبواب النمو الاقتصادي البحت؟

هذا الاهتمام الآن بالبيئة ومواردها لم يأت من فراغ، ولكن في تقديري لقد اضطرت الصين إليها اضطراراً، وأُجبرت على رعايتها وحمايتها رغماً عن أنفها وليست طواعية منها وحباً في صيانتها. فالهم البيئي لم يَعُد بيئياً خالصاً فحسب، والهم البيئي لم يعد عند عددٍ قليلٍ من علماء البيئة والنشطاء يدافعون عنه، وإنما تحول إلى همٍ شعبي عام وعلى نطاقٍ واسعٍ جداً، تَحركتْ له كل فئات وطبقات الشعب الحكومية وغير الحكومية الرسمية وغير الرسمية، الأُمية والمثقفة، الفقيرة والغنية، الصغيرة والكبيرة، الضعيفة والمتنفذة، كما تحولت في الوقت نفسه إلى قضية رأي عامٍ محلي ودولي تناولتها كل صحف العالم بدون استثناء، وبدأت تضر وتؤثر على سمعة الصين في المحافل الإقليمية والدولية.

فالهم البيئي تحول في الصين إلى قضية أمنية وسياسية، حيث نُظمت المظاهرات في شتى مدن الصين في السنوات الماضية، وبعضها كانت مظاهرات واحتجاجات عنيفة وأعمال شغب من أجل حماية البيئة ومنع إنشاء مصانع ملوثة لمكونات البيئة.

والهم البيئي في الصين تحول إلى قضيةٍ صحيةٍ عامة، حيث تم الإعلان رسمياً من جهاتٍ حكومية عن أكثر من 500 قريةٍ سرطانية، أي أن أعداد المصابين بالسرطان تزيد بدرجةٍ ملحوظة في هذه القرى مقارنة بالقرى الأخرى، إضافة إلى انتشار أمراض القلب والجهاز التنفسي في المدن التي تعاني من ظاهرة الضباب القاتل الذي يخيم فوقها طوال العام، وقد لَخصَ أحد كبار مستشاري الحكومة الصينية الوضع البيئي والصحي في بلاده قائلاً :"إن التلوث لا يحتمل".

والهم البيئي في الصين أصبح قضية اقتصادية من الدرجة الأولى، حيث إن كُلفة علاج التلوث البيئي للهواء الجوي والأنهار والبحيرات بلغت المليارات من الدولارات وبدأت ترهق كاهل ميزانية الصين وتؤثر على نموها، كما أن تلوث الهواء في المدن الصينية التجارية جعل الكثير من رجال الأعمال والقادة التنفيذيين للشركات متعددة الجنسيات والشركات الصينية الكبيرة يعزفون عن العمل في هذه المدن ويهربون من الصين بحثاً عن الهواء العليل والسليم، والماء العذب الزلال، والبحر الصافي والنظيف.      

ولهذه الأسباب الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، والصحية، طَفَا الهم البيئي فوق سطح أولويات الحكومة الصينية، وبدأت الاهتمام به، وإنني لا أريد أن نصل في بلادنا بالبيئة إلى هذا المستوى السيء الذي وصلت إليه في الصين لكي نفزع لحمايتها ورعايتها، فلنعمل من الآن سريعاً وبجدية قبل أن تتفاقم المشكلات البيئة وتستفحل، وتتعاظم انعكاساتها وتداعياتها السلبية.  


الأربعاء، 12 مارس 2014

التغير المناخي وارتكاب الجريمة


عندما تُرتكب أية جريمة مهما كان نوعها وحجمها، وفي أية بقعة كانت من بقاع الأرض، فإن أسبابها تعزى إلى الجانب السياسي أو الدوافع السياسية، وإما تعزى إلى الدوافع الاجتماعية والاقتصادية، فكل التفسيرات للقيام بالجرائم وأعمال العنف تصب دائماً في هذه الجوانب التقليدية الثلاثة المعروفة.

 

ولكن اليوم ومع استفحال القضايا البيئية وتعمقها في أعماق جذور المجتمعات البشرية وتغلغل الملوثات بشتى أنواعها وبمستويات مرتفعة في الإنسان والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني وفي مكونات البيئة غير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، فإن البيئة أصبحت عاملاً جديداً مهماً في كافة مناحي حياتنا وفي جميع شئوننا، وتحولت إلى بعدٍ خطير يُهدد أمننا ويُعيق استدامة حياتنا ونوعية معيشتنا على وجه الأرض.

 

فمن المعروف منذ عقود أن للتلوث أبعاداً سلبية تنعكس على صحة الإنسان الجسمية والفسيولوجية، وهناك الكثير من الأمراض المزمنة التي انكشفت مؤخراً في مجتمعاتنا البشرية وعلى رأسها السرطان وأمراض القلب والجهاز التنفسي ترجع أسبابها إلى التعرض للملوثات الكيميائية والفيزيائية والحيوية.

 

ولكن لم يخطر على بال أحد بأن للتلوث البيئي أبعاداً اجتماعية وسلوكية على الفرد والمجتمع، وبالتحديد من ناحية ارتكاب الجرائم والميل نحو العنف والقيام بأعمال الشغب، ولذلك قام الباحثون في السنوات الماضية بسبر غور هذه العلاقة بين التلوث والجريمة، وإجراء الدراسات الميدانية للتحقق من صحتها.

 

وقد جاءت آخر دراسة في هذا المجال من جامعة هارفرد الأمريكية، ونُشرت في مجلة إدارة واقتصاديات البيئة(Environmental Economics and Management) في فبراير من العام الجاري تحت عنوان: "الجريمة، والطقس، والتغير المناخي".

 

فهذه الدراسة هدفت إلى بيان العلاقة والرابطة بين تلوث الهواء من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يسبب ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية ويُحدث التغير المناخي وميول الأفراد والجماعات إلى الوقوع في الجريمة وأعمال العنف بشتى أنواعها في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قامت الدراسة بتقدير تأثيرات التغير المناخي وعلاقته بانتشار الجريمة في أمريكا من خلال تحليل أعداد وأنواع الجرائم التي ترتكب في كل شهر وتغيرات الطقس خلال ثلاثين عاماً في 2997 مدينة أمريكية. وتمخضت عن هذه الدراسة عدة استنتاجات منها أن هناك علاقةً قوية ومباشرة بين درجة الحرارة وارتكاب الجريمة، كما قَدَّرتْ الدراسة أن التغيرات المناخية خلال الفترة القادمة من 2010 إلى 2099 ستؤدي إلى زيادة وقوع الجرائم عن المعدلات المعروفة على النحو التالي: 22 ألف جريمة قتل، و 180 ألف جريمة اغتصاب، و 2.3 مليون حالة اعتداء، و 1.3 حالة سرقة عامة، و 580 ألف سرقة سيارات.

 

أما الكُلفة الاقتصادية لزيادة معدلات ارتكاب الجرائم بسبب التغير المناخي الناجم عن ارتفاع تركيز الملوثات في الهواء الجوي فتتراوح بين 38 إلى 115 بليون دولار.

 

ونظراً لواقعية هذه العلاقة بين الجريمة والعنف والاستقرار الأمني والسياسي للدول وبين ارتفاع درجة حرارة الأرض والتغير المناخي، فقد اهتمت جهات أمنية وسياسية، وليست جهات بيئية فحسب بهذه القضية المتشابكة، حيث قامت الـ سي آي إيه، أو وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بتمويل بحثٍ علمي للتحقق من هذه العلاقة، وبيان دور تلوث الهواء والتغير المناخي في إحداث حالة عدم الاستقرار الأمني على مستوى الدولة الواحدة وعلى مستوى الدول. وعلاوة على هذا، فقد حظت هذه القضية باهتمام عدة معاهد بحثية أمريكية متخصصة في مجال التغير المناخي والبيئة والقضايا الأمنية الدولية، منها مركز التنمية الأمريكي(Center for American Progress)، ومركز المناخ والأمن(Center for Climate & Security)، ومركز ستيمسون(Stimson Center) وعَقدت عدة مؤتمرات لمناقشتها.

 

ولذلك علينا في مملكة البحرين الاهتمام أيضاً بهذه القضية البيئية المعقدة لما لها من علاقةٍ مباشرة بأمننا واستقرارنا من ناحيتين. الأولى خفض انبعاث الملوثات التي تؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض وعلى رأس القائمة غاز أول أكسيد الكربون الذي ينتج عن حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء والمصانع والسيارات، والناحية الثانية فهي قيام الجهات المعنية بالبحرين، وفي مقدمتهم هيئة الكهرباء والماء في اتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لتجنب انقطاع الكهرباء ومنع شعور الناس بالحر والقيظ وارتفاع درجة الحرارة، فالحرارة العالية تؤدي تلقائياً إلى الشعور بالانزعاج والضيق وأعمال العنف وارتكاب الجرائم.