الخميس، 28 أغسطس 2014

وأخيراً رَضَختْ الصين لهموم البيئة



بعد عقودٍ طويلةٍ من النمو الاقتصادي الأحادي الجانب، والذي ركز فقط على البعد الاقتصادي البحت، ووجه جُل اهتمامه ورعايته إلى رفع الـ جي دي بي، أو الناتج المحلي الإجمالي، اقتنعتْ الصين بأن هذا النمط من التنمية غير مستدام، أي أن هذا النوع من التنمية لن يستمر طويلاً، وسيأتي اليوم الذي سيتوقف فيه ويصيبه الشلل الكلي فيسقط جثة هامدة ميتة.

ولذلك تَنَبَهتْ الصين إلى هذه السياسة التنموية المعوقة غير الرشيدة التي كانت تُبصر بعينٍ واحدة وضَحتْ بكل شيء من أجل تحقيق الرفاه الاقتصادي، فأخذت تتراجع عنها في الوقت المناسب قبل فوات الأوان، فهناك الكثير من المؤشرات الواقعية التي ظهرت في السنوات الماضية وانكشفت أمام الناس بكل جلاءٍ ووضوح بحيث لا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها، مما أجبرت الحكومة الصينية إلى إجراء محاسبة شاملة وكاملة لسياساتها واستراتيجياتها  في النمو.

وأستطيع أن أُلخص هذه المؤشرات في عدة قطاعات، منها مؤشرات تدخل ضمن القطاع البيئي والصحي، وأخرى مؤشرات اقتصادية واجتماعية، ومن أخطر هذه المؤشرات والتي كان لها الأثر الملموس في تحريك الحكومة الصينية ودفعها نحو تغيير سياساتها هي المتعلقة بالجانب السياسي والأمني.

أما المؤشر البيئي فقد تمثل في تدمير شاملٍ وعلى نطاقٍ واسع لكافة مكونات البيئة الحية وغير الحياة، من هواءٍ ومياهٍ سطحية وجوفية وتربة وحياة فطرية نباتية وحيوانية، فلم يبق شبر من الصين إلا وتسمم بالمواد الكيميائية الخطرة، ولم تبق بقعة صغيرة أو كبيرة، قريبة من مصادر التلوث أو بعيدة عنها إلا وأصابها داء التلوث. فقد جاء في التقرير الحكومي الذي قامت بإعداده وزارة حماية البيئة بالتعاون مع وزارة الأرض والموارد في الصين، أن معظم الأراضي تلوثت بالعناصر الثقيلة والملوثات العضوية وأصبحت غير صالحة للزراعة، فقد أكد أن 19.4% من الأراضي الزراعية، أي نحو 3.33 مليون هكتار، مسمومة بملوثات خطرة تهدد صحة الإنسان والكائنات الفطرية النباتية والحيوانية ، وانعكس هذا التلوث على نوعية المحاصيل وجودتها وصلاحيتها لاستهلاك الإنسان، فزهاء 12 مليون طنٍ من الحبوب والرز التي تم إنتاجها كانت مسمومة بهذه الملوثات، مما يعني أن المواطن الصيني كان يأكل طوال السنوات الماضية حبوباً ورزاً مسموماً، إضافة إلى ملايين البشر في الدول الأخرى التي كانت تستورد هذه المحاصيل الصينية. وعلاوة على هذا التدهور الشديد للتربة، فقد أكد التقرير على أن نحو 60% من المياه الجوفية مسمومة وغير صالحة للشرب والاستهلاك الآدمي أو الحيواني أو النباتي، إضافة إلى أن 85% من أنهار الصين غير صالحة للشرب.

وعلاوة على تلوث التربة والمياه، فإن صحة الهواء الجوي أكثر تدهوراً وأشد فساداً منهما، فحوادث تلوث الهواء في المدن الصينية الكبرى نشهدها كل يوم، ووسائل الإعلام الصينية وغير الصينية غطت هذه القضية بكل إسهابٍ وتفصيل، حتى تم وصف الهواء في هذه المدن بأنه "الأشد تهديداً لصحة الناس".

هذا المؤشر البيئي الخطير انعكس بشكلٍ مباشر ومفضوح على الأمن الصحي للصينيين، حيث اعترفت التقارير الحكومية عن وجود نحو 400 قرية سرطانية، أي ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان.

وقد انفجرت تداعيات المؤشرات البيئية والصحية في وجه الحكومة الصينية المركزية لأنها بلغت درجة رهيبة مأساوية لا يمكن السكوت عنها أو تجاهلها، فثار الشعب الصيني على سياسات حكومته، وقام بمظاهرات عفوية عارمة في شتى المدن الصينية، وتحولت البعض من هذه الاحتجاجات إلى ساحة عنفٍ وشغبٍ وتخريب، وأدى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني.

وهذا الوضع الأمني الذي هدد استقرار الصين هو الذي دفع الحزب الشيوعي إلى تبني سياسات جديدة تضع للبيئة اعتباراً ولهمومها اهتماماً، فقد أعلن رئيس الوزراء الصيني(Li Keqiang) في مارس 2014 ولأول مرة في تاريخ الصين في خطابه أمام مجلس الشعب الوطني الصيني "الحرب على التلوث"، وخصص مبلغاً مالياً قدره 270 بليون دولار على مدار خمس سنوات لتحسين نوعية الهواء.

ونحن في البحرين فقد سِرنا على نهج الصين القديم في التنمية، ولذلك فالمياه الجوفية تحولت إلى ملحٍ أجاج وعيوننا جفت ونضبت، والبحر أصبح عملة صعبة وكائناته الحية ضاقت بها الحياة، والهواء تشبع بجسمه بعض الملوثات، والناس في قلقٍ شديد ودائم حول تدهور صحة بيئتنا، فهل نُعلن نحن أيضاً الحرب على التلوث كما فعلت الصين؟

الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

السجائر الإلكترونية قد تُسقط طائرة!



تداعيات التدخين والسجائر بكل أنواعها وأشكالها لا تُعد ولا تحصى، فهناك انعكاسات أَجْمَعَ عليها المجتمع البشري، حتى شركات التبغ وصناعة السجائر نفسها اعترفت بأخطارها وأضرارها القاتلة على الصحة العامة وعلى إصابة المدخن وغير المدخن بعدة أنواع من السرطان، ولكن اليوم نشهد بعداً جديداً للسجائر، وبالتحديد السجائر الإلكترونية الجديدة، لم يكن في الحسبان، ولم يفكر فيه أحد، ولم يخطر على بال بشر.


 


فهل تَوقعتَ يوماً بأن تكون للسجائر والسجائر الإلكترونية خاصة بعداً أمنياً يُعرض حياة الناس للخطر؟ بل وقد يحدث كارثة بشرية؟


 


فقد وقعت في الآونة الأخيرة عدة حوادث أكدت على هذا البعد الأمني الجديد للسجائر الإلكترونية وأنها قد تكون سبباً في سقوط طائرة، حيث نقلت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 13 أغسطس من العام الجاري خبراً غريباً تحت عنوان: "السجائر الإلكترونية يمكن وضعها ضمن قائمة المواد الخطرة على الطيران"، وجاء في الخبر أن العاملين في مطار لوجان الدولي في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستس الأمريكية سحبوا حقيبة لأحد المسافرين وأخرجوها من منطقة جمع الحقائب عندما شمَّوا رائحة الدخان تنبعث منها، فقاموا بإطفاء الحريق المشتعل فيها فوراً، وبعد تفتيش محتويات الحقيبة تأكد لهم أن السبب هو بطاريات أيونات الليثيوم القابلة للشحن، والتي هي أحد المكونات الرئيسة للسجائر الإلكترونية.


 


فهذه الحادثة التي اُتهمتْ فيها السجائر الإلكترونية ليست الأولى من نوعها، ففي أغسطس 2009 تسببت شحنة من ألف سيجارة إلكترونية في اندلاع الحريق في طائرة للشحن في مطار مينابوليس بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي يناير 2013 اشتعلت بطارية أيون الليثيوم في طائرة الخطوط اليابانية بوينج 787، كما أن هذه السجائر الإلكترونية أدت إلى نشوب حرائق في بعض المنازل في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا نتيجة لارتفاع الحرارة أثناء شحن البطارية، وفي بعض الحالات وقعت ضحايا بشرية نتيجة لذلك، ومنها موت بريطاني عمره 62 عاماً في الثامن من أغسطس من العام الجاري في منطقة والاسي (Wallasey) في مدينة ليفربول البريطانية بعد انفجار السيجارة الإلكترونية أثناء شحنها، ثم نشوب الحريق في غرفة نومه.


 


 


ونتيجة لهذه الحوادث التي عَرَّضت أمن الإنسان والمنشئات للخطر، وبخاصة أمن الطائرات بعد تحليقها في الجو، فقد جاءت توصيات من خبراء الحريق في المطارات تؤكد أن السجائر الإلكترونية قد تكون مصدراً للحريق، وبالتالي يجب تصنيفها من ضمن "المواد الخطرة".


 


وربما قد يكون هذا العامل الأمني المتعلق بحياة الناس وسلامتهم مُقنعاً للجميع ودافعاً قوياً لمنع هذا المنتج الشيطاني الجديد الذي ابتدعته شركات التبغ والسجائر لتعويض خسائرها المالية الناجمة عن عزوف الناس عن السجائر التقليدية القديمة، إضافة إلى المبالغ الطائلة التي تدفعها هذه الشركات لصالح آلاف الدعاوى القضائية التي رُفعت ضدها، إِما كغرامات أو تعويضات نقدية للمتضررين عن التدخين.


 


فهذه السجائر الإلكترونية تتكون أساساً من محلول أو سائل يحتوي على عدة مواد كيمائية، أساسها مركب النيكوتين الخالص الذي يسبب الإدمان عند الإنسان، إضافة إلى بطارية لتوليد الطاقة اللازمة لتسخين السائل وتحويله من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية التي يستنشقها المدخن.


 


وجدير بالذكر أن شركات التبغ تُسوق هذا المنتج الجديد على أنه "المنتج المـُنقذ" للمدمنين على التدخين، فهي تعمل على إقناع الناس وتشجيعهم على تعاطي السجائر الإلكترونية كبديل "غير ضار" للسجائر التقليدية القديمة، وتحفزهم على هذا النوع الجديد من التدخين ليتوقفوا مستقبلاً بشكلٍ كلي عن "التدخين"!

الخميس، 21 أغسطس 2014

رَفْع البطاقة الحمراء ضد سرطان الجلد



رئيس الخدمات الصحية العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يُطلقُ عليه تقليدياً لقب "الجراح العام"، حَذَّر وبشدة في تقريرٍ شامل نشره في يوليو من العام الجاري من انتشار سرطان الجلد على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، وعلى المستوى الدولي عامة.

فقد جاء في التقرير أن سرطان الجلد يُعد الآن في الولايات المتحدة الأمريكية "مشكلة صحية عامة رئيسة تتطلب إجراءات فورية"، كما أضاف التقرير بأن "معدلات الزيادة في سرطان الجلد تُسبب قلقاً صحياً شديداً لا يمكن تجاهله، فلا بد من وجود خطةٍ شاملةٍ لمنع سرطان الجلد تشترك في وضعها كافة قطاعات وشرائح المجتمع من الجمعيات العلمية المهنية، ورجال الأعمال، والأجهزة الحكومية، والمنظمات الأهلية وجمعيات المجتمع المدني".

وقد وصل التقرير إلى هذه الاستنتاجات المرعبة استناداً إلى الأرقام والإحصاءات المخيفة حول معدلات الإصابة بالسرطان، والتي تؤكد انتشاره بدرجةٍ مخيفة، ونسبٍ عالية تُـهدد الصحة العامة للأمريكيين، وتُنذر بكارثةٍ صحية لا مثيل لها.

فهناك قرابة خمسة ملايين أمريكي يُعَالجُـون سنوياً من هذا المرض الخبيث، معظمهم من فئة الشباب والمراهقين، يموت منهم زهاء 9000 سنوياً من أخطر نوعٍ من أنواع سرطان الجلد وهو الميلانوما، والخطورة تكمن في أن هذه النسب من الإصابة بالسرطان في ارتفاع مطرد سنوياً، حيث تؤكد الإحصاءات أن الزيادة السنوية بلغت200% خلال الفترة من 1973 إلى 2011، كما تفيد الدراسات أن الحالات الجديدة لسرطان الجلد من نوع الميلانوما والتي تُشخص سنوياً تصل إلى 63 ألف حالة، يموت منهم 9 آلاف معظمهم من قطاع الشباب وصغار السن، علماً بأن هذا المرض وتداعياته على المجتمع تُكلف الخزانة الأمريكية قرابة8.1 بليون دولار سنوياً.

وبالرغم من هذه الإحصاءات التي تثير القلق الشديد في نفوسنا والخوف في قلوبنا، فإن الأمر بأيدينا، فلحسن الحظ فإن هذا المرض يمكن تجنبه ومنعه عن طريق اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية والعلاجية اللازمة،  وبالأخص تفادي التعرض للملوثات المسببة له.

فتؤكد الأبحاث أن السبب الرئيس الذي يقف وراء الإصابة بهذا المرض هو الملوثات الطبيعية، وبالتحديد الأشعة البنفسجية التي تأتي إِما من مصادر طبيعية من الشمس والأشعة الكونية، وإما من مصادر نحن بأنفسنا وبمحض إرادتنا وطواعية مِنَّا، نُعرض جلدنا لها.

فأما المصدر الأول وهو الشمس، فالوقاية من أشعتها أمر سهل ولا يكلف شيئاً لنا. فأولاً يجب ارتداء الملابس المناسبة عند التعرض للشمس، وبخاصة الملابس البيضاء التي تعكس الأشعة البنفسجية المنبعثة من الشمس وتمنع وصولها إلى سطح الجلد، وإذا كان لا بد من التعرض فيجب وضع الدهون والكريمات على الجلد التي تعمل كسطح واقي وطبقة تمنع ولوج الأشعة القاتلة إلى الجلد.

وأما المصدر الثاني فهو عملية "دباغة الجلد" أو ما يُطلق عليه "التانينج"، حيث إن الغرب أدخل في عقليتنا وأقنع نفوسنا بأن مقياس الجمال هو أن يكون لون جِلْدكَ برونزياً أو ذهبياً، وعندها تكون قد واكبت الموضة ولحقت بقافلة الحداثة والتطور، ولكي تغير لون جلدك حسب المتطلبات العصرية للجمال والأناقة، فعليك أن تعرض نفسك للأشعة البنفسجية، إما عن طريق المصابيح الشمسية التي تنطلق منها جرعات مكثفة وعالية من الأشعة البنفسجية، أو من خلال أسرة التانينج، أو عن طرق غرف التانينج التي تَتَعرض فيها لهذه الأشعة بشكلٍ مباشر.

فالغرب هو الذي أدخل هذه البدعة السيئة إلى المجتمع البشري، وهو الآن نفسه من أشد المعانين من ويلاتها وانعكاساتها المرضية على فلذات أكبادهم، مما اضطرهم ممثلاً في إدارة الدواء والغذاء الأمريكية إلى الإعلان في أبريل من العام الجاري عن إجبار مصنعي أسرة التانينج إلى وضع علاماتٍ تحذيرية عن أضرارها الصحية القاتلة، إضافة إلى منع استخدامه من الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، كما قامت منظمة الصحة العالمية في عام 2009 بتصنيف أسرة ومصابيح التانينج  من ضمن النوع الأول من المواد "المسرطنة للإنسان".

الخميس، 14 أغسطس 2014

رشوة لتصدير المخلفات إِلَينا



قبل أيام نشرتُ مقالاً تحت عنوان"رشوة بيئية"، حيث تطرقت إلى قضية التخلص من المخلفات الخطرة والمشعة والتي تُعد الآن كابوساً مرعباً يُراود المعنيين في الدول الغربية من علماء ورجال سياسية، فهي تحولت إلى حلمٍ مزعج ينزل عليهم في نومهم ويقظتهم، فهم لا يجدون ملجأً آمناً ومخبئاً سليماً لتخزين ودفن ملايين الأطنان من هذه المخلفات التي تكدست في مواقع مختلفة وباتت تـُهدد حياة الملايين من البشر في هذه الدول الصناعية الكبرى.

فاضطرت هذه الدول إلى تقديم "الرشاوى المالية" للمواطنين وتحفيزهم وتشجيعهم وإغرائهم بالمال للموافقة على دفن هذه المخلفات في مدنهم وقراهم بشكلٍ رسمي مقنن ومدروس.

واليوم أقفُ معكم أمام نوعٍ آخر من الرشاوى الحقيقية وليست المجازية التي تحاول بعض الشركات وعصابات المافيا والجماعات الإجرامية المنظمة استخدامها لشراء ضمائر بعض الناس في الحكومات من أجل نقل هذه المخلفات سراً وفي جنح الليل إلى أراضيهم، أو تقديم تصاريح "غير رسمية" ومزورة لتصدير هذه المخلفات السامة والخطرة إلى دولهم.

فقد نقلت صحيفة الجارديان البريطانية في الأول من أغسطس خبراً من أروقة المحاكم البريطانية تحت عنوان:"رجل أعمال يُقدم رشوة لمسئولين أجانب لاستيراد مواد كيميائية سامة"، حيث جاء في الخبر أن بعض المسئولين التنفيذيين في شركة إينوسبك الصناعية(Innospec) في مدينة تيشر(Cheshire) ببريطانيا اعترفوا بقيامهم بتحويل ملايين الجنيهات الإسترلينية وصلت إلى قرابة 17 مليون كرشوة لمسئولين أجانب للموافقة على التعامل مع مخلفات صلبة شديدة السمية وممنوعة في الدول الغربية لنقلها أخيراً إلى دول العالم الثالث الفقيرة، مثل اندونيسيا والعراق وفنزويلا ودولة جنوب أفريقيا.

هذه المخلفات ناجمة عن صناعة رباعي إيثيل الرصاص(tetraethyl lead)، وهي المادة الكيميائية الممنوعة دولياً الآن، والتي كانت تُستخدم في الماضي التليد كمُضافات لرَفْع رقم الأكتان في الجازولين المستخدم في السيارات وتحسين أداء المحرك، وتُعرف هذه المخلفات منذ أكثر من خمسين عاماً بخطورتها الشديدة وسُميتها العالية، وبخاصة على الأطفال لأنها تحتوي على عنصر الرصاص الذي لا يتحلل وله القدرة على التراكم في مكونات البيئة وفي أعضاء جسم الإنسان، حيث يُعرض الناس لمخاطر صحية كثيرة، منها خفض مستوى الذكاء عند الأطفال، وإحداثِ تلفٍ في خلايا المخ، وتغيير السلوكيات ورفع مستوى العنف وارتكاب الجرائم عند الشباب.

وقد تم الكشف عن هذه الفضيحة الأخلاقية، والعمل اللاإنساني، والجريمة البيئية والصحية عن طريق فريقٍ سري متخصص تَابَع هذه القضية لمدة سبع سنوات، وحَقَّق فيها بمهنية عالية وسرية تامة في جميع ملابساتها وخفاياها حتى حصل على الدليل القطعي بالوثائق والحقائق الثابتة التي لا يمكن إنكارها.

وجدير بالذكر فإن هذه القضية ليست الأولى من نوعها في بريطانيا أو دول صناعية أخرى، فقد تم الكشف في السنوات الماضية عن قضايا فساد بيئي وأخلاقي أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، مما يؤكد لنا أنها قضية "حيوية ومتجددة" لن تنتهي قريباً، فالمخلفات الخطرة والمشعة تتراكم كل يوم في الدول الصناعية وتتكدس على أراضيها، ولا بد من إدارتها والتعامل معه بطريقةٍ أو أخرى، وقد تلجأ في بعض الحالات إلى الطرق غير الشرعية والسرية كالتهريب الخفي في ظلمات الليل، أو النقل أمام أعين الناس تحت مسميات مختلفة شرعية ولا غبار عليها، ولذلك فالحذر واجب من مثل هذه الممارسات والأعمال الإجرامية، ولا بد من فتح أعيننا وآذاننا والتأكد من صحة وسلامة كل شحنة تصل إلى أرضنا.    

الاثنين، 11 أغسطس 2014

البابا فرانسيس وقضية المخلفات السامة



ربما لأول مرة في تاريخ كلمات بابا الفاتيكان، يتم تخصيصُ جزءٍ من الخطاب لقضيةٍ بيئيةٍ محددة، حيث ألقى البابا فرانسيس بابا الفاتيكان في 27 يوليو من العام الجاري خطاباً عند زيارته لمدينة كاسرتا(Caserta) الواقعة جنوب إيطاليا أمام أكثر من مائتي ألف من المسيحيين الواقفين في الهواء الطلق للاستماع إلى كلمته. 


 


ولهذه المدينة العريقة الواقعة بالقرب من مدينة نابولي المشهورة ميزة خاصة تتميز بها عن باقي المدن الإيطالية، فهي مشهورة تاريخية بأنها بلد المخلفات الخطرة والسامة، حيث استغلت عصابات المافيا منذ عقود طويلة من الزمن أراضي هذه المدينة لدفن المخلفات الخطرة بطرقٍ سرية غير مشروعة، أو استعمالها لحرق هذه المخلفات السامة والخطرة، حتى أن هذه المدينة تقع ضمن مجموعة من المدن أُطلق عليها بمثلث الموت، فسكان هذه المدن بسبب هذه المخلفات يعانون من الموت المبكر نتيجة لإصابتهم بأمراض السرطان والأسقام والعلل المستعصية الأخرى.


 


ولذلك كان لا بد من البابا أن يتطرق في خطابه إلى هذه المعاناة اليومية لسكان هذه المدينة، ويخصص نصيباً وافراً من كلمته لعلاج جرُح الناس العميق، والدعوة لهم للشفاء من الأمراض الناجمة عن دفن المخلفات الخطرة تحت أقدامهم، حيث قال: "حُبُ الله يعني تقدير واحترام الحياة، والبيئة، والطبيعة"، وأضاف: "وعلينا أن نتحلى بالشجاعة لنقول لا لكل أشكال الفساد والأعمال غير الشرعية".


 


وحقيقة الأمر فإن قضية التخلص من المخلفات الخطرة بطرقٍ غير شرعية ليست من معاناة هذه المدينة الإيطالية فحسب، وإنما هي آفة خطرة معدية تُهدد حياة الملايين من البشر، وبخاصة في الدول النامية الفقيرة والمستضعفة، حيث تَستغل عصابات المافيا والجماعات الإجرامية المـُـنَظمة فِقْر هذه الدول، وضعف تشريعاتها، وسعة ضمائر بعض قادتها في تهريب ونقل المخلفات السامة والمشعة من الدول الصناعية الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى الدول الأفريقية بصفةٍ خاصة، وبعض دول شرق آسيا.


 


وهناك الكثير من الفضائح التي كشفتها وسائل الإعلام حول المتاجرة غير الشرعية في المخلفات الخطرة منذ حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا. وآخر هذه الفضائح كانت تدور أحداثها في بريطانيا، حيث رَحلتْ إحدى السفن من ميناءٍ في جنوب إنجلترا في نوفمبر 2011 وهي مـُحملة بشحنة من المخلفات مكتوب عليها "مواد يمكن تدويرها"، وعند وصولها في نهاية رحلتها الطويلة التي بلغت أكثر من عشرة آلاف كيلومتر إلى جاكرتا بأندونيسيا، تم اكتشاف أمرها وزَيْف العلامة الموجودة على الشحنة، فقامت السلطات الأندونيسية بإرجاع الشحنة إلى حيث أتت فوصلت إلى مَسْقط رأسها في مايو 2012، وحالياً تواجه أربع شركات تهمة التهريب والنقل غير الشرعي للمخلفات. 


 


ولذلك فهي فعلاً قضية حية واقعية تعاني منها شعوب كثيرة، المتطورة منها والنامية، الغنية منها والفقيرة، مما يحتم علينا تقييم وضع المخلفات في بلادنا من حيث أحجام هذه المخلفات المتكدسة على أرض بعض المصانع، والتأكد من كيفية التخلص من المخلفات التي ستنجم عن المصانع الجديدة.


 

الجمعة، 8 أغسطس 2014

رشوة



المخلفات الصلبة وشبه الصلبة بأنواعها المختلفة السامة والخطرة والمشعة تتكدس يوماً بعد يوم ومنذ عقود من الزمن في الكثير من دول العالم، والجهات المعنية بمعالجة هذه المخلفات والتخلص منها بطريقة سليمة ومستدامة بيئياً وصحياً واجتماعياً أصبحت تعاني من هذا الكابوس المخيف والحلم المزعج الذي يَنْزل عليها في كل ليلة ويعكر صفاء وحلاوة نومها.

فهناك الآن في معظم مدن العالم، وبخاصة المدن الصناعية العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا واليابان، ملايين الأطنان من هذه المخلفات، وبالتحديد المشعة منها، والتي تخزن بصورة مؤقتة منذ الحرب العالمية الأولى ومنذ قيام الثورة الصناعية في مواقع مختلفة على سطح الأرض، أو في أعماق بطن الأرض في قنوات سرية لا يعلم عنها إلا القليل من الناس.

ولذلك فإن هذه المواقع الخطرة التي يوجد الكثير منها بالقرب من المجتمعات البشرية، تحولت إلى هاجسٍ يومي للناس، وأثارت لديهم الكثير من القلق والهم الشديدين، بل ووَلَّدَتْ لديهم غماً دائماً بسبب التأثيرات السلبية التي يتعرضون لها لسكنهم بالقرب من هذه القنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أي وقتٍ دون سابق إنذار.

فهذه المواقع الآن خَلقت مشكلة كبيرة ومزمنة للمعنيين بإدارتها من حيث إيجاد المواقع المناسبة لتخزين ومعالجة هذه المخلفات التي تزيد كمياتها كل يوم، فهناك رفضٌ جماهيري عارم، وعنيف في بعض الأحيان لوجود هذه المواقع بالقرب منها، مما اضطر الجهات الحكومية إلى استخدام وسائل متنوعة وإبداعية، وتقديم عروضٍ مغرية تُرغب الناس وتشجعهم على قبول هذا الضيف الجديد للسكن بجوارهم، ومن بينها تقديم "رشوة" مالية وعروض نقدية مباشرة للحصول على موافقة مبدئية من الناس لدراسة خصال وطبائع هذا الضيف القادم لهم.

فعلى سبيل المثال، تُحاول بريطانيا جاهدة منذ عقود، وبدون جدوى، البحث عن موقعٍ مناسب من الناحية البيئية والصحية،ومرضي في الوقت نفسه للمواطن البريطاني للتخلص من مخلفاتها المشعة المتكدسة حالياً في مواقع متفرقة وغير آمنة، ولم تنجح حتى الآن في الحصول على مكانٍ جيد من الناحية البيئية، والصحية، والاجتماعية، ولذلك اضطرت إلى استخدام مدخلٍ غير تقليدي لإقناع الناس وجذب انتباههم واهتمامهم لهذه القضية، حيث أعلنت الحكومة والشركات المختصة عن تقديم مبلغٍ مالي ضخمٍ جداً قدره مليون جنيه إسترليني سنوياً، ولمدة خمس سنوات إلى أية مدينة أو بلدية فقط من أجل الموافقة المبدئية على "مناقشة" موضوع دفن وتخزين المخلفات تحت أرض المدينة، ثم إذا تمت الموافقة الأولية من قبل قيادة المدينة وبلديتها، فإن الحكومة ستدفع 2.5 مليون جنيه سنوياً للقيام بعمليات التقييم النهائية وإجراء التجارب الضرورية على التربة السطحية والقاعية، علماً بأن هذا المشروع سيكلف الحكومة البريطانية ودافعي الضرائب قرابة 12 بليون جنيه، ويستغرق إنجازه عقوداً من الزمن لا يمكن تحديدها بدقة في الوقت الراهن.

فهذا المثال البسيط الذي قَدمتُه لكم من بين أمثلة كثيرة، يؤكد لنا جميعاً المأزق الكبير، والهم العظيم والمستمر منذ أكثر من قرن الذي تعاني منه الدول الصناعية الكبرى التي توغلت بعمق وبسرعة في التصنيع والتسليح دون التفكير في المخلفات الخطرة والمشعة التي تنتج عنها وتتراكم عندها سنة بعد سنة، وعليها الآن أن تتحمل نتائج تنميتها المتعجلة غير العقلانية وغير الرشيدة، وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس ولا نكرر أخطاءهم.