الجمعة، 31 يوليو 2015

الكذب والجشع من ثقافة الشركات الكبرى(1)



فضيحةٌ تاريخية نُشرت في 21 يوليو من العام الجاري في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وانتشر خبر هذه الفضيحة المالية في جميع أرجاء المعمورة كانتشار النار في الهشيم، ويتلخص هذا الخبر في استقالة الرئيس التنفيذي لشركة توشيبا اليابانية العملاقة بسبب ممارسة سياسة "الكذب" لسنواتٍ طويلة من حيث المبالغة في أرباح الشركة بنحو 1.22 مليار دولار أمريكي، وهذا التلاعب المالي في الحسابات لم يكن عملاً فردياً يقوم به الرئيس التنفيذي للشركة، وإنما كان "ثقافة" سائدة، وسياسة عامة تنتهجها الشركة ويعلم عنها أعضاء مجلس الإدارة وكبار التنفيذيين.

فهذه الفضيحة التي نراها أمامنا اليوم لا تعتبر حادثة منفردة أو معزولة قام بها رئيس تنفيذي محتال وفاسد، وإنما هي ظاهرة عالمية نجدها في معظم الشركات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات حول العالم، فهي جزء من "ثقافة" هذه الشركات ودَيْدَنهم والتي تهدف أساساً إلى تحقيق الربح السريع وجني المال الكثير على حساب المبادئ والأخلاقيات والقيم البشرية المعروفة، ولذلك من أجل الوصول إلى هذا الهدف وهذه الغاية فلا ضير من إتباع أية وسيلة وتبني أي طريق، مهما كان نوعه وحجمه ومشروعيته، فإذا كان "الكذب" والاحتيال يؤدي إلى تحقيق الربح فلا بأس من ذلك، وإذا كان تدمير مكونات البيئة وثرواتها الطبيعية يرفع من نسبة الفوائد ويُعِجل من جني الأموال فلا ضير من ذلك، وإذا كان إخفاء الحقائق والمعلومات عمداً عن عامة الناس وعن المستثمرين خاصة يزيد من سقف المبيعات وشراء الأسهم فلا مشكلة في ذلك.

وفي المقابل فكل ما قد يؤثر على أرباح هذه الشركات، أو يخفض من عائداتها المالية، فسيلقى حرباً ضروساً طاحنة، وسيواجه بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي في متناول أيديها. فقضية التغير المناخي، أو ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب الملوثات التي تُطلقها هذه الشركات، أَجْمعت على واقعيتها وحدوثها كل دول العالم بدون استثناء وأكدت منظمات الأمم المتحدة المعنية بتداعياتها على البيئة والصحة والأمن الإقليمي والدولي، وهناك اتفاقية إطارية للتغير المناخي وَقَعت عليها كل دول العالم وتهدف إلى الحد من انبعاثات هذه الشركات وخفض نسبة الملوثات التي تنطلق منها، أي أن هذه الاتفاقية تدعو كل العالم وشركاتها ومصانعها إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة الكفيلة بخفض انبعاث الغازات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض وإحداث التغير المناخي للكرة الأرضية.

ومن أجل القيام بخفض الانبعاث فإن على هذه الشركات تغيير عملياتها اليومية، ووضع الأجهزة والمعدات الخاصة بمعالجة هذه الملوثات، إضافة إلى استعمال أنواع الوقود النظيف الذي لا تنطلق منه الملوثات الضارة بالكرة الأرضية، وهذه الإجراءات تُعتبر مكلفة جداً وتنعكس سلباً من الناحية المالية على هذه الشركات وتقلل من أرباحها السنوية. ولذلك فإن هذه الشركات تقاوم بعنف تبني هذه التغييرات بشتى الوسائل والسبل الشرعية وغير الشرعية، الأخلاقية وغير الأخلاقية، وسأذكر البعض من هذه الأدوات والوسائل التي تستخدمها الشركات.

أولاً: تحاول هذه الشركات العظمى، وبخاصة شركات النفط والفحم ومصانع توليد الكهرباء، التشكيك في الحقائق العلمية المتعلقة بالتغير المناخي، وتسعى منذ سنوات إلى إثارة الشبهات والمغالطات حول الأبحاث المناخية والبيئية التي تؤكد واقعية ارتفاع درجة حرارة الأرض، أي أنها تتبع سياسة "التضليل العلمي للحقائق"، ومن أجل تحقيق هذا الهدف قامت بتجنيد "علماء مرتزقة" في كافة أنحاء العالم، سواء على المستوى الفردي، أو على مستوى مراكز أبحاث ومنظمات علمية تعمل في مجال المناخ والبيئة، وقامت بتخصيص الملايين من الدولارات للصرف عليها.

فعلى سبيل المثال، أكدت الوثائق التي نشرتها بعض الصحف الأمريكية والبريطانية مؤخراً بأن أحد الباحثين المعروفين من مركز هارفرد_سميثسونين(Harvard-Smithsonian Center) وهو ولي سون(Willie Soon) قد تلقى دعماً مالياً بلغ 1.25 مليون دولار أمريكي من شركات ومصانع ومؤسسات للطاقة مثل إكسون موبايل(ExxonMobil)، وهذا الباحث يُعد من أشد "العلماء" إنكاراً وتشكيكاً في حدوث التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب أنشطة الإنسان وانبعاثات المصانع، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون.

وجدير بالذكر أن صحيفة الجارديان البريطانية نشرت مقالاً في التاسع من يوليو من العام الجاري وأكدت فيه أن شركة إكسون موبايل الأمريكية الدولية التي تعمل في مجال النفط والغاز وتعتبر من أكبر شركات العالم، كانت أول من علمت ومنذ عام 1981 عن علاقة مصانعها وأنشطتها اليومية والملوثات التي تنبعث عنها بحدوث التغير المناخي، وكانت على علمٍ كامل بتأثيراتها السلبية على كوكبنا قبل أن يُدرك باقي العلماء هذه الحقيقة، وبالرغم من معرفتها وعلمها الدقيق التزمت الصمت وتَعَمَّدت في إخفاء المعلومات والدراسات التي قام بها الباحثون في الشركة، بل والأدهى من هذا والأمر أنها كانت تمول الأبحاث التي تقلل من دور الإنسان والمصانع النفطية خاصة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، كما دأبت هذه الشركات البترولية على دعم الدراسات التي تخفض من شأن تداعيات التغير المناخي، أو التي تُثير الشكوك والمعلومات المضللة عنه، وكانت ومنذ أكثر من28 عاماً تجزل العطاء وتقدم المال الوفير للمنكرين والمشككين في هذه الظاهرة أينما كانوا.

ولذلك نجد أن إحدى الوسائل التي تنتهجها هذه الشركات العملاقة هي استغلال العلم والعلماء من أجل تحقيق أهدافهم المتعلقة بالربح السريع والكبير، ولا مانع من الكذب وتضليل الرأي العام وتزييف الحقائق باسم العلم والبحث العلمي، وفي المقابل هناك وسائل وأدوات أخرى تتبعها هذه الشركات، وسنتحدث عنها لاحقاً.


الثلاثاء، 21 يوليو 2015

إلى زُوار لندن


كل ما يعرفه الزوار العرب، وبخاصة الخليجيون عن لندن هو هايد بارك(متنزه هايد)، وأكسفورد ستريت(شارع أكسفورد)، وإدجوار رود(شارع إدجوار)، ولكنهم يجهلون تماماً حقيقة واقعية ذات انعكاسات صحية وبيئية تهدد حياتهم بالخطر، وتعرضهم وهم في لندن للأمراض المزمنة والأسقام المستعصية.

 

هذه الحقيقة يتحدث عنها منذ سنوات قادة بريطانيا، وعلماؤها، وكتابها، فقد نُشرت مئات الدراسات والأبحاث التي تحذر من الأوضاع المأساوية التي وصلت إليها جودة ونوعية الهواء الجوي التي يستنشقها كل إنسان يعيش أو يزور لندن، حتى إنها تحولت الآن من قضية صحية وبيئية إلى قضية سياسية واقتصادية كبيرة ترهق كاهل الميزانية البريطانية.

 

أما من الناحية البيئية الصحية فإن آخر تقريرٍ نُشر، ولن يكون الأخير من نوعه، هو الذي قامت به كلية كينجز العريقة(King's College) في لندن 16 من الشهر الجاري، وبدعمٍ وتمويلٍ من هيئة المواصلات الحكومية، حيث أكد التقرير على أن عدد الذين يموتون موتاً مبكراً وبطيئاً بسبب تلوث الهواء في بريطانيا يقدر بـ 80 ألف سنوياً، منهم قرابة 9500 سنوياً بسبب استنشاق هواء لندن السام، كما أفاد هذا التقرير العلمي أن الذين يموتون نتيجة للتعرض للملوثات القاتلة الموجودة في الهواء الجوي يزيد عشر مرات عن الذين يموتون في الشوارع بسبب الحوادث المرورية.

 

وفي دراسة سابقة قامت بها أيضاً كلية كينجز في لندن، أكد فيها الباحثون على أن "مستويات ثاني أكسيد النيتروجين في أكسفورد ستريت تُعد الأسوأ في العالم"، أي أن شارع أكسفورد الذي يعتبر القلب التجاري والسياحي النابض بالحياة طوال اليوم وعلى مدى العام كله، هو من أكثر الشوارع في بريطانيا وعلى المستوى الدولي تلوثاً، وأشدها فساداً من ناحية ارتفاع تركيز الملوثات، وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد النيتروجين التي تنجم بصفة خاصة عن وسائل النقل التي تعمل بالديزل.

 

ومن الناحية القانونية والسياسية والاقتصادية، فهناك عدة مستويات تؤكد حجم التلوث ودرجة المعاناة التي نزلت على مدن بريطانية العريقة عامة، ولندن خاصة. أما على مستوى بريطانيا، فقد أصدرت المحكمة العليا البريطانية في أبريل من العام الجاري حكماً قضائياً نهائياً يؤكد فيه أن جودة ونوعية الهواء في بريطانيا تتعارض ولا تتوافق مع معايير جودة الهواء للإتحاد الأوروبي، وبخاصة في المدن العريقة الكبرى مثل لندن، وبيرمينجهام، وليدز، أي أن تركيز بعض الملوثات، وبالتحديد أكاسيد النيتروجين والدخان أو الجسيمات الدقيقة يتجاوز كثيراً النسب المسموح بها في هواء أوروبا، وتزيد مستوياته بشكلٍ فاضحٍ مشهود منذ عقود طويلة عن المعايير الأوروبية المتعلقة بجودة الهواء. ولذلك نجد أنه على المستوى الأوروبي، فقد اضطر الاتحاد الأوروبي بعد سنواتٍ طويلة من الصبر والتهديد والوعيد إلى رفع قضية ضد بريطانيا في محاكم العدل الأوروبية لكي تقوم بريطانيا بتوفيق أوضاعها البيئية والتعهد بالتزامها بالمواصفات الأوروبية، ولذلك تواجه بريطانيا الآن موقفاً صعباً جداً يتمثل في غرامة مالية فُرضت عليها ويجب دفعها خلال السنوات القليلة القادمة وتبلغ 300 مليون جنيه إسترليني كل عام. 

 

وجدير بالذكر أن هذا الوضع المأساوي الذي يعاني منه الهواء الجوي في لندن، يتكرر في مدن أوروبية أخرى، وفي مقدمتها باريس حيث أكد تقرير قامت به لجنة البيئة في البرلمان الفرنسي 15 من الشهر الجاري أن تلوث الهواء وتداعياته البيئية، والصحية، والاجتماعية، والسياحية يكلف الحكومة الفرنسية زهاء مائة بليون يورو نتيجة لعلاج الأمراض الناجمة عن التلوث، وتلف المحاصيل الزراعية، ونقص إنتاجية الأفراد، وتدهور طلاء ونوعية المباني الحكومية والأثرية والتاريخية، إضافة إلى التكاليف الباهظة التي تنجم عن الموت البطيء والمبكر للمواطن الفرنسي.

 

وهذه التجربة اللندنية والباريسية يجب أن نقف أمامها وقفة متأنية ومعمقة، فندرس أسبابها، ومصادرها، وطرق تجنبها في بلادنا، وإلا فنحن سائرون في الطريق نفسه.

 

الاثنين، 20 يوليو 2015

الماريجوانا التي تُؤكل!



شاهدتُ مؤخراً في صحيفة أمريكية صورة جميلة لأنواع من الحلوى والشكولاتة والكعك، وقد قُدمتْ بألوان زاهيةٍ مختلفة، وأشكالٍ متعددة غريبة يسيل لها لعاب من ينظر إليها، واستطاعت هذه الصورة فوراً أن تلفت انتباهي، وتثير شهيتي للأكل والتلذذ بهذه الأنواع المغرية، وصَممتُ أن أعرف التفاصيل عن هذه الحلويات الزاهية لِعلي أجد منها في البحرين، ولكن عندما توقفت قليلاً لقراءة عنوان الصورة والمقال المكتوب عن هذه الحلوى، استغربت كثيراً، وفَتَرتْ شهيتي للأكل كلياً.

فقد جاء المقال تحت عنوان: "مُنتجات الماريجوانا(الحشيش) القابلة للأكل"، حيث يشير إلى إنتاج أكثر منمائةنوعٍ من حلوى الماريجوانا التي تباع في الأسواق، وهي مخصصة للمرضى الذي يعانون من الآلام المرضية المزمنة، فتُعطِي لهؤلاء المرضى نشوة عالية، وشعوراً يوازي الشعور الذي يحس به متعاطي المخدرات من راحة مؤقتة وخروج عن دائرة الدنيا وآلامها ومِـحَنها ومعاناتها. وهذه المنتجات التي تُؤكل لا تقتصر الآن على الحلويات، وإنما هناك الماريجوانا التي تُقدم في منتجات الخبر بأنواعها المختلفة، أو ما يُطلق عليه "خبز الماريجوانا". وفي المقابل هناك أيضاً مشروبات الماريجوانا من الشاي والقهوة والعصائر الطازجة، وتُقدم جميعها بنكهاتٍ مختلفة وبطعمٍ ومذاقات متعددة لا حصر لها تُرضي كل الأذواق والرغبات والأهواء، مثل النعناع، والشيكولاته، والعلكلة وغيرها.واليوم هناك مؤتمرات ومعارض رسمية تُنظم سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية للترويج لهذه المنتجات والتسويق لها على أكبر نطاقٍ ممكن، وآخرها مؤتمر شيكاجوالذي عُقد في مايو 2015تحت عنوان:"التجارة في الماريجوانا".


فهذا المقال يُثير انزعاجي وتخوفي في الوقت نفسه، ويؤكد لي انتشار ظاهرة تعاطي الماريجوانا في المجتمع الأمريكي كانتشار النار في الهشيم، سواء أكانت ما يُطلقون عليه "الماريجوانا الطبية"، أو "الماريجوانا الشخصية"، أي التي تُستخدم لأغراض الترويح والتسلية الشخصية، بحيث إنه حتى المواد الغذائية الطازجة التي تؤكل وتشرب ونراها في الأسواق والبرادات لا يمكن الوثوق بصحتها وسلامتها وخلوها من الملوثات والمركبات الضارة والقاتلة كالماريجوانا والحشيش والمخدرات الأخرى. 

وهذا التخوف له مبرراته التاريخية والعملية، فالرجوع قليلاً إلى الوراء وإلى ذاكرة التاريخ يؤكد لي واقعية تخوفي هذا، فظاهرة توسع استخدام الماريجوانا في المجتمع الأمريكي تُذكرني فعلاً بظاهرة توغل وغزو السجائر بكل أنواعها في كل منزل ومكتب وناد وملعب في جميع دول العالم دون استثناء خلال أقل من مائة عام، وما حدث للسجائر من تطورات دراماتيكية من جميع النواحي البيئية والصحية والقانونية منذ إنتاجه على المستوى التجاري الواسع قبل أكثر من قرن وحتى يومنا هذا، يحدث الآن بالضبط وبالسيناريو نفسه للحشيش أو الماريجوانا.

ولذلك بالقياس مع حدث للسجائر، وبقراءةٍ بسيطة لتاريخ علاقة الإنسان بسجائر التبغ والنيكوتين، أستطيع أن أجزم بأن الماريجوانا بعد سنوات ستدخل رسمياً إلى عقر دارنا، في بلدنا أولاً، ثم في أسواقنا، ومحلاتنا، وبيوتنا، وستكون في يد فلذات أكبادنا، وإن غداً لناظره قريب. 


الأحد، 19 يوليو 2015

تَعْميدْ الأميرة شارلوت بماءٍ ملوث



لم أكنْ أتصور أن البيئة وهمومها، والتلوث وشؤونه، وبخاصة تلوث الماء يحظى بهذه التغطية الشاملة والواسعة من قبل كافة وسائل الإعلام الغربية والشرقية، بل ويدخل ضمن القضايا الدينية والشعائر التعبدية اليومية عند المسيحيين، ويدور حوله الجدل الشديد والحوار الساخن والمحتدم.

فقد اهتمت وسائل الإعلام بخبرٍ ملخصه أن الأميرة شارلوت ابنة الأمير وليام من العائلة الملكية البريطانية قد تم تعميدها بماءٍ ملوثٍ بنسبٍ مرتفعة من مياه المجاري غير المعالجة التي تَصُب في نهر الأردن، حيث إن الطقوس الدينية التقليدية المسيحية المتبعة منذ قرون في هذه الشعيرة التعبدية الملكية، تُلزم غسل المولود بماءٍ مقدس مأخوذ من موقعٍ محدد في نهر الأردن، والذي تشترك فيه ثلاث دول هي الأردن، وفلسطين، ودولة العدو. وجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) أعلنت في هذا الشهر الجاري أن هذا الموقع التاريخي المقدس من النهر يقع في الضفة الشرقية في الأردن وأدخلت هذا الموقع من ضمن قائمة المواقع التراثية والتاريخية العالمية، وهذه ضربة مؤلمة وقاسية لإسرائيل التي كانت تتاجر منذ سنوات بأن موقع تعميد المسيح عليه السلام يقع في الجانب الغربي من النهر المحتل من إسرائيل. 

ونظراً لحساسية القضية وبعدها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والسياحي، فقد تدخلت السلطات الأردنية الرسمية الدينية وصرحت لوسائل الإعلام بأن ماء النهر الذي استعمل لتعميد الأميرة غير ملوث، فقد تمت معالجته وتنظيفه وتعقيمه ثم مباركته من قِبَل رجال الدين قَبْل إرساله إلى بريطانيا.

فهذا الخبر يدخل ضمن قضيةٍ حيويةٍ كبرى تُعد قضية حياةٍ أو موت بالنسبة للإنسان وسائر المخلوقات والكرة الأرضية برمتها، وهي حماية الثروة المائية ورعايتها نوعياً وكمياً من أي نوعٍ من أنواع التلوث والضرر والأذى. فللماء أهمية عظيمة في تراثنا الإسلامي تكمن في أنه أولاً سر حياة الإنسان، فكل مخلوق حيٍ وغير حي خُلق من الماء، وهو المقوم الرئيس لاستدامة بقائه ومعاشه ونجاح أنشطته التنموية، مصداقاً لقوله تعالى:"وجعلنا من الماءِ كل شيءٍ حي"، وثانياً فالله خلقنا وخلق جميع الكائنات التي تعيش معنا من الماء، فهو القائل سبحانه وتعالى:"وهو الذي خلق من الماء بشراً"، وأكد على هذه الحقيقة في آيةٍ أخرى عندما قال:"والله خلق كل دابةٍ من ماء"، وجاءت أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام لتصب في تثبيت قوله تعالى عندما قال:"كل شيءٍ خُلق من الماء".

وانطلاقاً من هذه الأهمية الكبرى التي حباها الله جَلَّت قدرته للثروة المائية، فقد سن القوانين اللازمة لحمايتها والحفاظ عليها، ووضع الإجراءات العملية لصيانتها من الناحيتين النوعية والكمية حتى تستديم حياة الإنسان على وجه الأرض. أما من ناحية حمايتها بشكلٍ عام فقد جعل الله الماء ثروة عامة مشتركة لا يجوز لأي إنسان، أو شركة، أو غيرهما احتكار هذه الثروة ومنع الناس عامة من الاستفادة منها، أو الإضرار بسلامتها نوعياً أو كمياً، عندما قال سبحانه:"ونبئُهم أن الماء قسمةٌ بينهم" وأكد على هذا المبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ويمكن الرجوع إليها في كتابنا تحت عنوان:"حماية الحياة الفطرية في الإسلام".

ومن الجانب الآخر فقد رعى الإسلام هذه الثروة من ناحية الحفاظ على كميتها والاعتدال وعدم الإسراف في استعمالها، حتى ولو كانت متوافرة بأحجامٍ كبيرة، حيث أمر نبينا إلى عدم التفريط في هذه الثروة والإسراف فيها عندما قال "وإن كُنتَ على نهرٍ جار"، وفي الوقت نفسه جاءت توجيهاته عليه الصلاة والسلام وأعماله وممارساته اليومية مطابقة لما يدعو إليه المجتمع الدولي اليوم في حماية هوية ونوعية وصحة هذه الثروة المقدسة ودرء الملوثات والمواد الكيميائية الضارة عنها ومنع الأذى عن الوصول إليها، وهناك من الأحاديث النبوية ما يؤكد على دعوة الإسلام إلى ذلك، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، أن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام "نَهى أن يُبال في الماء الراكِد والجاري"، أي بالمقاييس الحالية نهى الرسول إلقاء مياه المجاري في المسطحات المائية من بحار وأنهار ومحيطات.

وجدير بالذكر فإن الإسلام ربط حماية البيئة بشكلٍ عام والموارد المائية بصفةٍ خاصة بالعبادة وكسب الأجر والثواب، فكل إنسانٍ يحافظ على الثروات البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ويمنع عنها الضرر والأذى فهو يتقرب إلى الله بهذه الأعمال الصالحة البسيطة ويُؤجَر ويثاب عند القيام بها، فمن منكم لا يريد الثواب والأجر والحسنات لعلها تنفعه عندما لا ينفع مالٌ ولا بَنُون إلا من أتي الله بعملٍ صالحٍ ونافع، وقلبٍ سليمٍ وجامع؟         

الجمعة، 17 يوليو 2015

الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي



ذكرتْ الصحف المحلية في العاشر من الشهر الجاري أن ولي العهد وَجَّه بتشكيل فريقِ عملٍ وطنيٍ لوضع الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي من أجل الوصول إلى رؤية موحدة يشترك في تحقيقها وتنفيذها مختلف الجهات الحكومية ذات العلاقة. 

وهذا خبرٌ سعيد ومهم جداً في الوقت نفسه، ولكنه ربما جاء متأخراً بعض الشيء، وبخاصة أن الثروة الغذائية الرئيسة المجانية والمتجددة التي حباها الله لنا، وأنعمها علينا، وعاش عليها سنواتٍ طويلة ونهلوا من خيراتها الآباء والأجداد، قد أُهملت عقوداً من الزمن وكأنها لم تكن موجودة بيننا، بل وتم التعدي على حرماتها، وقطع أوصالها، وإفساد هويتها ونوعيتها، وشل شرايين الحياة فيها، وهذا المورد الطبيعي والخير الرباني الذي لا يخفى على أَحَدِنا هو البحر والثروة السمكية الفطرية التي تعيش فيها، والذي يعد المصدر القومي الوحيد للبروتين.

وبالرغم مما فعلتها أيدينا بهذا البحر المعطاء والثروات السمكية وغير السمكية التي تحتضنها هذه البيئة الجميلة والساحرة، وبالرغم من التدهور النوعي والكمي الشديد الذي ألَّم بهذا البحر، والذي مازال مستمراً حتى الآن، إلا أننا إذا وضعنا الخطط الحاسمة والحازمة، واتخذنا القرارات الصعبة، وبذلنا جهوداً جبارة ومضنية، فإننا نستطيع إنقاذ ما تبقى من هذا البحر، ومن الخيرات العظيمة التي تمتلئ بها.

وفي هذا الصدد فإنني أقدم الملحوظات التالية التي تصب في نهاية المطاف في حماية هذه الثروة الحقيقية التي يمكن الاعتماد عليها، وتحقيق جانبٍ مهم من جوانب الأمن القومي الغذائي. أما الأولى فإنني أتمنى تبني "المدخل الأمني" عند وضع الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، وهذا المدخل كفيل بلفت انتباه الجميع من أفرادٍ ومسئولين، فتحقيق "الأمن القومي" والاستقرار في البلد هو من الخطوط الحمراء في أية دولة ومن أساسيات قيام الدول ومن أولوياتها. فتوفير الغذاء من مصادر وطنية فطرية ومن موارد متجددة وموجودة محلياً، وحماية هذا المورد وتنميته نوعياً وكمياً وصيانته والحفاظ عليه، يجب أن تضعه الدولة من ضمن الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها وتعديها، فلا يستطيع أي بلدٍ على المدى البعيد تحقيق الأمن والاستقرار القومي، وتأمين السيادة الوطنية والاستقلالية في اتخاذ القرار إذا كان غذاؤه من الخارج، وغذاء شعبه معتمداً على ما تزوده لنا الدول الأخرى الأجنبية، فعند حصول أي خلافٍ، أو وقوع أي نزاعٍ مع هذه الدول فإنهم حتماً سيفرضون علينا مقاطعة غذائية شديدة، تُؤلمنا، وتجرح سيادتنا، وتجعلنا نرضخ لهم ونقع تحت رحمتهم وهيمنتهم فيتصدقوا علينا قليلاً لملء بطون شعوبنا، والتاريخ الغابر والمعاصر مشحون بمثل هذه الحالات، والتي يُطلقون عليها في مجملها "الحصار الاقتصادي".

أما الملحوظة الثانية فتتلخص في تحديد كافة المصادر التي تؤثر سلباً على البيئة البحرية برمتها، وبخاصة كل ما يضر بالثروة السمكية، ثم إصدار تشريعات قابلة للتنفيذ لخفض تأثير كل مصدر من هذه المصادر، وهي معروفة وأستطيع أن أقدمها بإيجازٍ شديد، وهي عمليات دفن السواحل، وعمليات الحفر لاستخراج الرمال، والمخلفات السائلة للمصانع ومحطات معالجة مياه المجاري ومحطات توليد الكهرباء والماء، إضافة إلى الصيد الجائر واستخدام وسائل غير مشروعة في الصيد تُدمر البيئة البحرية من جهة وتؤدي إلى نفادٍ عاجل لهذه الثروة من جهةٍ أخرى. 

والملحوظة الثالثة فهي إعطاء صلاحيات أوسع للجهة الإدارية المعنية بالثروة السمكية، وإعطاء أهمية أكبر لهذه الإدارة، فلو نظرنا قليلاً إلى الوراء، لوجدنا أن "إدارة الثروة السمكية" تعتبر هامشية ومنبوذة، فمع كل تشكيلة وزارية جديدة نجدها تقذف وترمى في ملعب إحدى الوزارات والهيئات، فلا استقرار إداري لها ولا قدرة لها على اتخاذ قرارات قوية وفاعلة في الميدان.

والملحوظة الرابعة فإنني أتمنى النجاح والتوفيق لفريق العمل، كما أتمنى بعد الانتهاء من وضع هذه الاستراتيجية أن لا يكون مصيرها إلى المقبرة، أو إلى الأدراج المقفلة والرفوف المغبرة كمصير باقي الاستراتيجيات مثل "الاستراتيجية الوطنية للبيئة"، والتي كُنْتُ ممن شاركوا في وضعها والسهر عليها.