الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

وماذا بعد قمة التغير المناخي في باريس؟


بعد أن انْتهتْ أعمال قمة التغير المناخي التي عُقدت في باريس في الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر من العام الماضي، وصَفق الحضور والوفود المشاركة من أكثر من 195 دولة بحرارةٍ شديدة، وبهجةٍ كبيرة، وهنئ كل واحد منهم الآخر بتحقيق الفوز المؤزر المبين، حَمَل كل واحدٍ من المشاركين حقيبته وأغراضه وأمتعته الشخصية وغادر قاعة المؤتمر دون أن يلتزم بالتوقيع على أية ورقة، أو أية وثيقة تُقيده في الأقل وتربطه أدبياً بالدفاع عن الاتفاقية التي هَلَّل وكَبَّر من أجلها.

 

فالتحدي العظيم للدول سيبدأ الآن بعد فَض أعمال القمة ووصول الوفود إلى قواعدهم، والأيام والسنون القادمة ستكشف لنا مدى جديتهم ومصداقيتهم لمكافحة انعكاسات التغير المناخي عامة، والتزامهم بتفاهمات باريس خاصة، والتي صَفَقُوا لهم جمعياً، وذرفت الدموع من عيونهم فرحاً وسروراً لما وصفوه "الانجاز التاريخي".

 

فالحرب المناخية، على سبيل المثال، تَستعر في أمريكا منذ أكثر من عشرين عاماً، والمعارك حول التغير المناخي تحتدم بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فتارةً يتفوق الديمقراطيون فيسحبون بساط التغير المناخي تجاههم، وتارةً أخرى ينتصر الجمهوريون في احدى هذه المعارك فيهدمون كل ما بناه الديمقراطيون، كما حدث بالفعل في بروتوكول كيوتو لعام 1997، والذي وافقت عليه الحكومة الأمريكية أثناء حُكم بيل كلينتون، ثم جاء جورج بوش ومعه الأغلبية الجمهورية في الكونجرس وامتنع عن التصديق عليه وانسحب كلياً من هذا البروتوكول، فأدى في نهاية المطاف إلى انهياره على المستوى الدولي، وذهب مع الريح كل الجهود المضنية والماراثونية التي بذلتها دول العالم ومنظمات الأمم المتحدة المتعلقة بالتغير المناخي.

 

وها نحن اليوم نشهد معركة مناخية أخرى جديدة على الساحة الأمريكية بين المتنافسين التقليديين والحزبين الوحيدين، فما أن انتهى الرئيس أوباما من خطابه الذي ألقاه في قمة التغير المناخي في باريس حتى بدأ الجمهوريون بالهجوم اللاذع والمباشر على الخطاب، والهجمة الأولى كانت من رئيس حزب الأغلبية في الكونجرس الجمهوري ميش مك كونل(Mitch McConnell) الذي صرح قائلاً: "الرئيس أوباما يُقدم تعهدات لا يستطيع الالتزام بها"، وأضاف بأنه يمكن "تمزيق الاتفاقية خلال 13 شهراً"، أي بعد انتهاء الفترة الرئاسية لأوباما وخروجه من البيت الأبيض، ثم جاءت الضربة الثانية ليست تصريحاً أو قولاً في وسائل الإعلام، وإنما كانت في حَلْبة الكونجرس، حيث وافق الكونجرس على قرارين، وفي تحدٍ فاضح لسياسة أوباما للتغير المناخي، ضد بعض الإجراءات المتعلقة بمواجهة تحديات التغير المناخي التي اتخذتها حكومة أوباما والتي كانت تهدف إلى خفض انبعاث الملوثات من مصادرها حالياً ومستقبلاً، وبالتحديد من محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم. ولم يتأخر أوباما في الرد على ضربة الكونجرس فوجه لَكْمة قوية وقاضية إلى قرارات الكونجرس وإلى الجمهوريين بالتحديد واستخدم في 19 ديسمبر من العام الماضي فاستخدم حق الفيتو، أو النقض لمحو هذه القرارات، وقال للكونجرس مبرراً استخدامه للفيتو بأن: "التغير المناخي يُشكل تهديداً عميقاً ولا بد من مواجهته".

 

ولذلك من الواضح من المثال الأمريكي أن التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي للتصدي للتهديدات الناجمة عن التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض أشد الآن، أي بعد الانتهاء من قمة التاريخ المناخي منه أثناء انعقاد القمة نفسها، فالدول اليوم تنتقل من مرحلة الكلام والتصريحات إلى مرحلة العمل، ومن مرحلة التهليل والتصفيق إلى مرحلة التنفيذ، ومن مرحلة رفع الشعارات إلى مرحلة التطبيق ووضع الإجراءات التنفيذية وتخصيص الميزانيات الكبرى، فهذه المرحلة هي الأصعب والأمَّر والأشد وطأة على كاهل الدول، وبخاصة الدول الصناعية والغنية الكبرى. فقد قَدَّرت الوكالة الدولية للطاقة أن كُلفة تنفيذ اتفاقية باريس للتغير المناخي قد تبلغ نحو 16.5 تريليون دولار، وهي المصروفات اللازمة لتنفيذ تعهدات الدول بخفض انبعاثاتها من الغازات والملوثات المتهمة بالتغير المناخي ورفع سخونة الأرض وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون، وهذه تتمثل في القيام بعدة إجراءات منها تحويل محطات توليد الكهرباء من استخدام الفحم كوقود إلى مصادر الوقود الأخرى كالغاز الطبيعي، أو الطاقة النووية، أو طاقة الرياح والطاقة الشمسية، إضافة إلى تقديم الدعم المالي للدول النامية والفقيرة التي تتضرر دائماً من انعكاسات وتداعيات التغير المناخي.

 

والسؤال الذي يَطْرح نفسه هو: كيف تستطيع الدول توفير هذا المبلغ الطائل لتمويل تنفيذ الاتفاقية وهي تعاني من هزات اقتصادية ووضع مالي غير مستقر؟ ومن ناحيةٍ أخرى كيف تستطيع دول العالم أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام لحل قضية التغير المناخي دون موافقة الكونجرس الأمريكي الذي بيده فشل أو نجاح أية اتفاقية دولية؟

الاثنين، 28 ديسمبر 2015

حصانة دبلوماسية لموظفي فولكس واجن


مازالت شركة فولكس واجن الألمانية العملاقة للسيارات والتي تُعد ثاني أكبر شركة مصنعة للسيارات في العالم لم تسبر غور الكارثة العميقة التي وقعت فيها، ولم تصل حتى الآن إلى تفاصيل ودقائق هذه الفضيحة الكبرى التي نزلت عليها، فمازالت منذ أن كُشف الستار عنها في الولايات المتحدة الأمريكية في العشرين من سبتمبر من العام الجاري وحتى يومنا هذا لم تتعرف على الأشخاص الذين تورطوا في هذه العملية والذين صمموا وخططوا للقيام بها، فالجميع ملتزم الصمت، ومتبع لسياسة التستر والكتمان على ما حدث.

 

ولذلك اضطرتْ الشركة في 14 نوفمبر من العام الجاري إلى الإعلان عن سياسةٍ عامة وبرنامجٍ جديد أُطلق عليه "برنامج العفو العام"، أو بما يعني إعطاء الحصانة "الدبلوماسية" لجميع العمال الذين لديهم أية معلومات أو حقائق، وذلك تشجيعاً من الشركة على كسر حاجز الخوف لكل من يقدم أية دلائل عن فضيحة تزوير انبعاث الملوثات من السيارات، وحمايةً لكل من يريد الافصاح عن الأسرار والملابسات التي تحيط بها والإدلاء بشهادته أمام المعنيين بالشركة.

 

فالشركة الآن تقع تحت ضغوطٍ كثيرة محلية وإقليمية ودولية، منها من أصحاب النفوذ والمستثمرين والمساهمين، ومنها من الحكومة الألمانية نفسها، ومنها الضغوط التي تمارس عليها من دول العالم المختلفة التي تضررت بيئياً وصحياً، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وأستراليا، والصين، واليابان، إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والمهنية للشركة نفسها التي تفرض عليها فضح المستور وكشف المخفي، وتقديم كافة الحقائق والمعلومات للرأي العام الدولي لإعادة تلميع سمعتها التي تلطخت وتلوثت، وفتح صفحة جديدة أمام الناس.  

 

ولمن لا يعلم عن حجم هذه الفضيحة، فأقول بأن شركة فولكس واجن قامت فعلياً بتصرفات مُشينة وغير أخلاقية لأكثر من ست سنوات، فباعت أكثر من 11 مليون سيارة تعمل بالديزل، حيث إنها وبكل بساطة أرادت أن تكتسح سوق السيارات التي تعمل بالديزل، وتُحقق السبق الدولي في تقديم سيارات قليلة الانبعاثات وتوافق عليها دول العالم وتباركها منظمات الأمم المتحدة، فقامت عمداً بتصميم وكتابة برنامج خاص للكمبيوتر يُوضع في السيارات فيَكْذب عند قياس تركيز الملوثات التي تخرج من عادم السيارة، ويعطي قراءات مضللة ومزيفة عن نسبة انبعاث الملوثات السامة، واستطاعت عن طريق هذا البرنامج إقناع الدول بأن هذه السيارات صديقة للبيئة، ولا تنبعث منها أحجام مرتفعة من الملوثات، ونجحت لفترةٍ من الزمن في بيع هذه الأعداد الهائلة من السيارات وحققت أموالاً طائلة وأرباح خيالية بلغت المليارات من الدولارات، ولكن كما يقول المثل :حبل الكذب قصير"، فالصُدف كشفت كذب هذه الادعاءات وزيف المعلومات التي قدمتها.

 

وها هي الآن تواجه ما ارتكبت يداها من غشٍ وتزوير وتضليل للعالم، وسيلاحقها هذا العار مدى الحياة.

 

السبت، 26 ديسمبر 2015

أَغْلَقتْ بِكين أبوابها، فمتى تغلق المنامة أبوابها!


ليس من باب المـَجَاز، أو الترهيب، أو من قبيل المبالغة اللغوية أن أَكتُب بأن العاصمة الصينية بكين قد أَغْلقتْ أبوابها، فما نَزَل عليها في الأيام والأسابيع الماضية من كارثةٍ بيئية مَهولة هي بالفعل أَوقفتْ نبض الحياة في هذه المدينة العريقة وفي المدن الحضرية الكبيرة الأخرى، فانشلت حركة وسائل النقل من سيارات وقطارات وطائرات، وأصدرت الحكومة أوامرها بإغلاق المدارس والجامعات لأبوابها أمام الطلاب، والكثير من المحلات التجارية والمصانع وأعمال البناء توقفت عن العمل كلياً، وتم تحذير كافة المواطنين عن طريق كافة وسائل الإعلام من الخروج من منازلهم، وتوجيههم إلى تجنب ممارسة أي نشاط، أو عمل خارج البيئات الداخلية، وقد وصلت هذه التحذيرات إلى درجةٍ كبيرة بحيث تم منع المواطنين من الشواء بالفحم في المتنزهات والأماكن الترفيهية العامة.

 

فهذه المظاهر الواقعية التي عاصرناها وشاهدناها أمام أعيننا في العاصمة في الأيام الماضية من خلال وسائل الإعلام المرئية، وقرأنا الكثير عنها في الصحافة، أليست كل هذه أدلة محسوسة وملموسة تُؤكد بأن بكين عملياً قد توقفت عن العمل، وأَغْلقت أبوابها؟

 

فمدينة بكين وشنجهاي ومدن صينية صناعية وحضرية أخرى عانت منذ سنوات ومازالت تقع تحت وطأة التلوث، وبخاصة تلوث الهواء الجوي والمتمثل في انكشاف ضيفٍ ثقيل ينزل عليها بين الحين والآخر، بل وإن هذا الضيف بدأ يستوطن البيئة الصينية ويُرهب السكان عندما يظهر أمام أعين الناس على هيئة ضبابٍ كثيفٍ مُشبع بالسموم والملوثات المسرطنة، فتنعدم الرؤية تماماً حتى إنك إذا أخرجت يدك من جَيْبِك لن تراها من شدته، فيتألم الملايين من المواطنين من هذا المنظر المزع والمخيف، فمنهم من يُصاب بالأمراض والعلل الجسمية الحادة والمزمنة، ومنهم من يقضى نحبه من هذه الأمراض القاتلة، ومنهم من يتعرض لحالةٍ نفسية شديدة من القلق والاكتئاب العميقين هلعاً من نزول هذا الضباب وخوفاً من عدم انقشاعه واستمراره طويلاً والشعور بحالة من الإحباط واليأس والقُنوط.

 

وفي هذه الحالة، على سبيل المثال، نزل هذا الضيف المزعج على هواء بكين في السابع من ديسمبر من العام الجاري، ولأول مرة في تاريخ الصين تَرفع الحكومة الراية الحمراء، وتُعلن الإنذار الأحمر عبر وسائل الإعلام، محذرةً المواطنين من وقوع أعلى درجات الطوارئ البيئية الصحية، وما أن بدأ هذا الضيف من جَمْع رحاله وأمتعته للمغادرة وأخذ الضباب في الانقشاع قليلاً، حتى نزل مرة ثانية على البلاد في 18 ديسمبر، فاضطرتْ الحكومة الصينية للمرة الثانية إلى رَفْع العلم الأحمر ودق ناقوس الخطر والإعلان عن الإنذار الأحمر وحالة الطوارئ القصوى، وجدير بالذكر أن مثل هذه الحالات البيئية والمرضية التي تنزل على الصين تقضي على نحو 1.4 مليون صيني فيموتون موتاً مبكراً سنوياً، أي بمعدل 4000 صيني يومياً.

 

والسؤال الذي أطرحه عليكم الآن هو: هل هذه الظاهرة القاتلة التي تتعرض لها المدن الصينية فريدة من نوعها فتصيب الصين فقط، أم إنها ظاهرة عالمية تتعرض لها معظم المدن الحضرية الكبرى؟

 

ومن خلال متابعاتي لهذه القضية البيئية الصحية تأكد لي أنها ظاهرة عالمية منتشرة في الكثير من مدن العالم، وأنها داء معدي يصيب القريب والبعيد، ووباء لا يستثني أحداً، ففي مثل هذه الأيام صَرَخت مدينة دلهي الهندية من هذا الضباب المميت فأغلقت المدارس أبوابها ومُنعت الكثير من السيارات في التحرك في الشوارع، كذلك في طهران العاصمة الإيرانية، وبالتحديد في 19 ديسمبر، قررت السلطات الايرانية اقفال المدارس وبعض المصانع في طهران بسبب تلوث الهواء الذي غطى سماء المدينة وبلغ مستويات قياسية لا يمكن للبشر والحجر من تحملها، وفي باريس وقبيل قمة التغير المناخي، اتخذت باريس إجراءات بيئية صارمة وحازمة لمنع تفاقم الوضع البيئي القائم المتمثل في ظهور هذا الضباب الضوئي القاتل.

 

ولذلك من المؤكد أن ظاهرة الضباب عالمية ويمكن أن تقع في أية مدينة، ونحن في البحرين سنشهد هذه الظاهرة قريباً، وسنضطر إلى إغلاق أبواب المنامة إذا لم نعمل بجديةٍ وحزمٍ شديدين من منع انكشافها في سمائنا، فمؤشرات وقوعها موجودة أمامنا، وبالتحديد من السيارات التي تشبعت بها شوارعنا وتزيد بمعدلات مخيفة لن تستطيع الشوارع من استيعابها، إضافة إلى محطات توليد الكهرباء والمصانع الأخرى التي تبث سمومها فتؤدي إلى تكون مثل هذا الضباب مع الوقت، وما ذلك مِنَّا بِبَعيد.

 

الأحد، 20 ديسمبر 2015

ماذا يَحدثُ فِعلياً في قِمم التغير المناخي من واقع تجربتي الشخصية؟


الكثير من الناس الذين لم يحضروا القمم التي تُعقد حول التغير المناخي، ولم يشاركوا في أعمالها، لا يعرفون عن كثب ماذا يحدث بداخلها، وماذا يدور فعلياً في أروقتها وفي جلساتها السرية الخاصة والمـُقْتصرة على الدول العظمى، فهذه القمم أُطلق عليها بمؤتمرات، أو قمم "الكِبار"، أي الدول الصناعية الغنية والثرية التي تُحرك العالم سياسياً وأمنياً وعسكرياً، وبيدها مفاتيح الحل والربط، وبقدرتها تسيير دفة سفينة العالم إلى الجهة التي تتوافق مع مصالحها الاقتصادية، والسياسية، والأمنية، فكل دولة من هذه الدول الغنية الكبرى تحاول وتسعى جاهدة إلى تحويل دفة سفينة التغير المناخي في الطريق المناسب لها، وبما لا يتعارض مع برامجها التنموية والاقتصادية وأجندتها السياسية.

 

وأما "الصغار"، والمتمثلون في الدول النامية والفقيرة والمستضعفة من سائر دول أفريقيا، ودول أمريكا الجنوبية، ومعظم دول آسيا، فهي تجلس في قاعات الانتظار، أو قاعات المؤتمر الرئيسة التي تجتمع فيها كل وفود الدول، فيُشغلونهم بمناقشة القضايا الهامشية، والتفاوض حول الأمور الجانبية غير المصيرية المتعلقة بالتغير المناخي وأبعادها المتعددة، فأُشبههم هنا بالجمهور الذي يحضر المباريات الرياضية، فيجلس مكتوف اليدين في مدرجات الملعب، أو قاعة الاجتماعات الكبرى متفرجاً، ومنتظراً، ومصفقاً للاعبين في الملعب عند تسجيل الأهداف، فهم في أغلب الأحيان لا حول لهم ولا قوة، ولا قُدرة لهم على تغيير السياسات العامة والقرارات الرئيسة السيادية والمصيرية التي تتخذها هذه الدول في الجلسات التشاورية المغلقة والسرية خلف الستار، والتي تُعقد على هامش القمة بعيداً عن الأنظار ومراقبة وسائل الإعلام.

 

فمؤتمرات التغير المناخي، التي هي من المفروض أن تناقش قضية بيئية في الأصل، ولها علاقة مباشرة بتلوث الهواء الجوي، تَعتبرها الدول الصناعية العظمى في الوقت نفسه مؤتمرات اقتصادية وأمنية في الدرجة الأولى، لأن أبعاد قضية التغير المناخي ومردوداتها المباشرة وغير المباشرة تتعدى الانعكاسات البيئية لتَبْلغ الجانب الاقتصادي والتنموي والأمني، فكل قرارٍ يُتخذ في هذه المؤتمرات ستكون لها في نظر هذه الدول مردودات وخيمة على اقتصادها، وتهدد تنميتها وتطورها وأمنها، وتؤدي إلى ارتفاع البطالة في بلدانها، ولذلك نجد أن معظم الدول تتكون وفودها المفاوضة والمشاركة في قمم التغير المناخي من وزارات الخارجية بشكلٍ رئيس ومن الدبلوماسيين المعتمدين.

 

وهذه الظاهرة الدولية التي ذكرتها ليست حِكراً في تقديري على قمم ومؤتمرات التغير المناخي، ولكنها ظاهرة عامة نراها ونشاهدها يومياً على الساحة الدولية وفي معظم اجتماعات الأمم المتحدة ومنظماتها المتعددة، سواء أكانت بيئية، أم سياسية، أم أمنية، أم حقوقية، بدءاً باجتماعات مجلس الأمن الذي يحكمه ويسيطر عليه "الكِبار"، ويُطلق عليهم بالدول الخمس الدائمة العضوية التي لها حق النقض أو "الفيتو" والتي لا يمكن تمرير أو اتخاذ أي قرار ضدهم مهما فعلوا من جرائم ومهما اقترفت يداهم من آثام وفساد، ولا يمكن في الوقت نفسه الانتقاد أو التنديد بأي ذنبٍ ترتكبه الدول التي تتحالف معهم، كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل.

 

ولذلك إذا أردنا أن نُـهاب ونحترم ويسمع رأينا ويصل صوتنا في مثل هذه المحافل الدولية سواء أكانت مؤتمرات التغير المناخي أو المؤتمرات الأخرى، وإذا أردنا أن نرعى ونحمي مصالحنا ومصالح شعوبنا على المستوى الدولي، فيجب علينا الدخول في مثل هذه المؤتمرات ككتلة واحدة متماسكة ومتعاضدة، أو اتحاد قوي معتمد دولياً له وزنه وثقله في ميزان القوى العالمي، وإلا سنكون دائماً على الهامش مستضعفين ننتظر أن تَنْزل علينا السياسات والقرارات من فوق ومن أعلى، فنضطر إلى تنفيذها وتطبيقها رغماً عن أنوفنا حتى ولو تعارضت مع مصالحنا، فاليوم، بالرغم من أننا في القرن الحادي والعشرين إلا أننا نعيش شريعة الغاب التي تَسُود، فالقوي يأكل الضعيف. 

 

 

الجمعة، 18 ديسمبر 2015

معاهدة باريس للتغير المناخي، هل هي طواعية أم إلزامية؟



منذ يونيو عام 1992 عندما انعقدت قمة الأرض، أو قمة البيئة والتنمية في مدينة ري ودي جانيرو في البرازيل، وتمخضت عنها الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وأنا أُراقب عن كثب أحوال التغير المناخي والقمم والمؤتمرات والاجتماعات التي تُعقد من أجل مكافحته والتصدي له، وأتابع جميع المتغيرات والمستجدات التي تطرأ على مواقف الدول لمواجهة التغيرات المناخية وتداعياتها البيئية والاقتصادية والسياسية والأمنية والصحية.

وفي الأيام الماضية انصبَ جُل اهتمامي نحو قمة باريس، وتوجهت أنظاري لأراقب الوضع يوماً بعد يوم، فانتظرت أسبوعين أُتابع عن بُعْد، وبكلٍ لهفةٍ وقلق المحادثات والمفاوضات التي تجريها الوفود حول البنود المختلفة المطروحة في جدول الأعمال، حتى وصلتُ إلى نقطة النهاية وهي يوم السبت 12 ديسمبر، وبالتحديد نحو الساعة السابعة والعشرين دقيقة مساءً بتوقيت باريس، حيث قام وزير الخارجية الفرنسي لورانت فابيوس ورئيس المؤتمر بِرَفع يديه فضرب بمطرقته الخضراء البيئية المـُصَممة خصيصاً لهذا اللقاء البيئي طاولة المنَصَة التي يجلس عليها كبار القوم والمسئولين عن قضية التغير المناخي على المستوى الدولي، وهم الرئيس الفرنسي هولند، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والسكرتيرة التنفيذية للاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وما أن نزل وزير الخارجية الفرنسي يديه حتى قام الجالسون على المنصة من مقاعدهم مصفقين ورافعين أيديهم، ووضعوها مع بعض رمزاً للتضامن وتحقيق النصر الكاسح والمبين، ولم تمض ثوانٍ إلا وبعدها قام الجالسون في قاعة المؤتمر وكافة الوفود المشاركة وهم يصفقون ويكبرون وكأنهم صدى الصوت للجالسين في المنصة، وبدأ كل واحدٍ منهم يهنئ الآخر مرحبين بما تمخضت عنها القمة، وأوهموا العالم بأنهم حققوا نصراً مؤزراً على تهديدات وانعكاسات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارتها.  

وبعد هذا المشهد العاطفي الدرامي المثير، ننتقل فوراً إلى مشهد تصريحات رؤساء وقادة دول العالم المـُعلبة والجاهزة لهذه المناسبة، ونبدأ بزعيم العالم وقائد كوكبنا الرئيس الأمريكي أوباما الذي اعتبر هذه المعاهدة انجازاً شخصياً له وللدبلوماسية الأمريكية وقيادتها للعالم للوصول إلى هذه الاتفاقية، حيث وصف الاتفاقية بأنها: "أفضل فرصة لحماية كوكبنا الوحيد"، وأضاف قائلاً:"الاتفاقية ليست مثالية، فالمشكلات لن تُحل بسبب هذه الاتفاقية"، وردد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تصريحات رئيسه أوباما قائلاً:"هذا نصر كبير لجميع مواطنينا". وعلى نفس الأنغام واللحن غَنى باقي الزعماء الأوروبيين، حيث أكد الرئيس الفرنسي هولند قائلاً: "كانت هناك ثورات كثيرة في باريس خلال القرون، واليوم تُعد هذه الثورة الأجْمَلْ والأكثر سلمية..ثورة للتغير المناخي"، وقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون واصفاً الاتفاقية بأنها:"خطوة كبيرة للأمام لتأمين مستقبل كوكبنا". كما قال بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة بأن:"التاريخ سيتذكر هذا اليوم، فاتفاقية باريس تعداً نجاحاً لكوكبنا والإنسانية".

فهل ما توصلت إليها القمة من قرارات تستحق هذا المديح الكبير والإطراء التاريخي العظيم؟
فهل هذه البهجة والسرور العميقين من الوفود، والشعور بالنصر المبين والعظيم يعكس من أنجزتها القمة من تعهدات والتزامات دولية لحماية كوكبنا من داء التغير المناخي؟

وللإجابة عن هذا السؤال اطلعتُ على الوثيقة النهائية للقمة والمكونة من 31 صفحة، وهي وثيقة ملزمة في عمومها للمشاركين والدول الأعضاء في الاتفاقية، ولكن هناك بنوداً "طوعية" لا تُلزم الدول قانونياً التعهد بتنفيذها، وهذه البنود هي الحساسة التي لها انعكاسات على اقتصاد الدول، وأمنها، واستدامة برامجها التنموية، وهي في الحقيقة البنود الرئيسة التي لها الدور الفاعل في حدوث التغير المناخي، وهي تُعد من العوامل الأساسية المؤثرة في سخونة الأرض. فعلى سبيل المثال، الاتفاقية لا تُلزم الدول بوضع حدودٍ معينة لانبعاثاتها من غازات الدفيئة المـُسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض، ولا تحاسبها قانونياً إذا لم تلتزم بخفض انبعاثاتها بنسبٍ معينة سنوياً، أي أن هذا البند متروك للدول حسب ظروفها وإمكاناتها وقدراتها. وفي الجانب الآخر فهناك الجانب المالي الذي يُطرح في كل اتفاقية ولا يرى النور عند التنفيذ، ويتمثل في تخصيص مبالغ مالية سنوياً من الدول الصناعية الغنية المسئولة عن وقوع التغير المناخي لصرفها على الدول النامية والفقيرة التي تضررت كثيراً من هذه الظاهرة وتستخدمها في التكيف والتأقلم مع مردودات التغير المناخي وشراء تقنيات حديثة لخفض انبعاثاتها، فعلى الدول الغنية والثرية بصفةٍ "طوعية" دفع مائة بليون دولار سنوياً بحلول عام 2020.   

ولذلك لا أرى شخصياً بأن هذه الاتفاقية تستحق هذا الابتهاج والفرح والسرور من المشاركين ورفع رايات النصر على تداعيات التغير المناخي.

الأحد، 13 ديسمبر 2015

من أَولْ مُلوِّث للهواء الجوي؟


الدول الغربية والصناعية الكبرى هي التي دائماً تزرع البذور الخبيثة في عناصر بيئتنا، ثم تُحملُنا نحن جميعاً فاتورة الأضرار التي تنجم عنها، فهي التي تغرس بذور الشر والمرض وبعد ذلك تفرض علينا دفع تبعاتها الأليمة والثقيلة على صحتنا وصحة كافة أعضاء بيئتنا، وتضع على عاتقنا المسؤوليات الجسام الناجمة عنها.

 

فلو رجعنا إلى الوراء قليلاً، وبالتحديد منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، وتعمقنا في تاريخ تلوث الهواء الجوي منذ تلك الحقبة الزمنية وحتى يومنا هذا، لوجدنا مما لا يدع مجالاً للريبة والشك بصمات الدول الصناعية الكبرى، وبخاصة الدول الغربية شاهدة على ما ارتكبتها أيديهم الآثمة من استباحةٍ كاملة وشاملة لحرمات الهواء الجوي، ومن تدميرٍ ممنهجٍ ومُتعمد لمئات السنين لنوعية الهواء، فهذا الفساد العظيم الذي تجذر في أعماق الهواء وضرب أَطْنابه فيه لم يكن في حُدود هذه الدول الغربية الصناعية وفي أجوائهم الجغرافية الضيقة فحسب، وإنما انتقلت هذه السموم التي أطلقوها إلى الهواء الجوي إلى مناطق ودولٍ أخرى ليست لها علاقة بهذا التلوث، ولا توجد فيها أية مصادر ملوثة للبيئة، فغطى هذا التدهور لنوعية الهواء كل شبرٍ من الهواء في الكرة الأرضية برمتها، واخترق سيادة أجواء الدول المجاورة والتي تبعد آلاف الكيلومترات عنها، فلم يبق الآن على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا ودخله التلوث فبَلغ منازلنا وعقر دارنا.

 

ولذلك فمن المفروض من الناحية الأخلاقية والقانونية أن يتحمل كل إنسان أو دولة مسؤولية ذنوبها وأخطائها تجاه الآخرين، سواء أكانت هذه السلبيات وقعت على أعضاء البيئة أو صحة الإنسان، كما أن على هذه الدول التي انبعثت منها السموم القاتلة لعقودٍ طويلةٍ من الزمن أن تدفع ثمن وكُلفة الأضرار الصحية التي نجمت عنها، إضافة إلى تحمل جميع التكاليف الأخرى المالية والاجتماعية التي صاحبتها.

 

ودعوني أُقدم لكم مثالاً واحداً فقط لأؤكد لكم واقعية هذه الحالة التي نعاني منها مع الدول الصناعية الكبرى وتنصلها دائماً وهروبها من انعكاسات الذنوب التي ترتكبها تجاه بيئتنا المشتركة.

فالدول الغربية الصناعية منذ الثورة الصناعية الأولى، أي منذ نحو مئتي عام، ومنذ اكتشاف المحركات والأجهزة التي تعمل بالأخشاب، فالفحم ثم بمشتقات النفط، سواء أكانت من وسائل النقل المختلفة، أو من محطات توليد الكهرباء، أو من المصانع، وهي تُطلق الملايين من الأطنان من شتى أنواع الملوثات السامة والخطرة والمسببة للسرطان على مدار الساعة، وفي كل يوم من أيام العام، ودون أن تكون هناك أية مراقبة لأحجام هذه الملوثات وأنواعها، وبدون أدنى محاسبة ومتابعة لتأثيراتها الضارة والمدمرة للبيئة والصحة العامة، سواء على المستوى القومي الوطني، أو المستوى الإقليمي والدولي.

 

وفي هذه الفترة الزمنية التي استمرت عقوداً طويلة، والتي كانت فيها هذه الدول الغربية تُكون ثروات ضخمة وتُحسن من حياتها،وفي الوقت نفسه تستبيح كل مكونات بيئتنا وتُطلق ما تشاء وكيفما تريد من الملوثات في البر والبحر والجو، كانت دولنا أو الدول النامية في تلك الحقبة من الزمن غارقة في سباتٍ عميق، وتغوص في ظلمات الجهل المدقع، وغياهب التأخر المزمن.

 

ومن بين الملوثات التي أُطلق لها العنان طوال هذه السنوات لتنتشر في سمائنا وتتراكم فوق رؤوسنا هي غاز ثاني أكسيد الكربون، حتى بَلَغ تركيزه المستوى الضار الحرج فأدي إلى انكشاف ظاهرة بيئية لم تؤثر على الدول التي سمحت لهذا الغاز بالانبعاث، وإنما أثرت على الدول التي لا ذنب لها، ولا ناقة لها ولا جمل في وقوع هذه الجريمة البيئية، بل وبلغ تأثيرها المدمر الحرث والنسل والأخضر واليابس، فعَمَّ الكرة الأرضية برمتها، ورفع درجة حرارتها وأصابها بمرض التغير المناخي المستعصي على العلاج.

 

فدول العالم جمعاء تجتمع منذ عام 1992، أي منذ 24 عاماً وحتى قمة باريس للتغير المناخي، لتَحُل هذه المشكلة المزمنة والمعقدة التي تَسببت في وقوعها بشكلٍ رئيس الدول الصناعية الغربية، ولكن هذه الدول التي كانت لها اليد الطولي في حدوث التغير الكارثي لمناخ الأرض وسخونة أعضاء جسمها، لا تريد أن تعترف بخطيئتها تجاه كوكبنا والبشرية جمعاء، ولا تريد أن تُسهم في تحمل كُلفة العلاج وتُنفق بدرجةٍ تتناسب مع حجم الضرر الذي قامت به، بل وتسعى جاهدة دون حياءٍ أو خجل أن تُلقي اللوم على الدول النامية التي بدأت للتو تصحو من نومها لتنمو وترفع من مستوى معيشتها، فتضع الأغلال الثقيلة في أعناقها، وتسد الطريق أمام نموها، فتُحملها أعباءً إضافية لا طاقة لها به، ولا دور لها في وقوعه.

 

فعلى الدول النامية التضامن مع بعض والوقوف صفاً واحداً أمام هذا الاستغلال الغربي البشع للقضايا البيئية الدولية التي تسببت هي في وقوعها وتحولت على إِثْرها إلى دولٍ غنية وثرية وعلى حساب كوكبنا وصحتنا، وعلى دولنا التصدي بشدة لمحاولات الغرب المستميتة لخفض الخسائر المادية عن ميزانياتها والتخفي من مسؤولياتها. 

 

الخميس، 10 ديسمبر 2015

مخلفات بلاستيكية في أَسْمَاكِنا!



لا تستغرب هذه الأيام إذا تناولتْ سمكة في وجبة الغذاء، أو أية وجبةٍ أخرى ووجَدتَ في بطنها مخلفاتٍ بلاستيكية متنوعة، بل وفي أغلب الأحيان تَكُون قد أكلتَ هذه السمكة وتلذذت وتمتعت بطعمها وأكلت معها ودون أن تدري أو تشعر مخلفات بلاستيكية، وغيرها من المخلفات الصلبة الدقيقة والمجهرية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

فهذه الصورة تُعد الآن من مظاهر وإفرازات التنمية الأحادية الجانب التي يسير عليها الإنسان وتنتهجها الأمم المتطورة والمتقدمة والأمم النامية على حدٍ سواء منذ أكثر من قرنين من الزمان وحتى يومنا هذا، فأصبحنا لا نأمن سلامة غذائنا، وصفاء شرابنا، وصحة هوائنا، فكل ما نأكله أو نشربه أو نستنشقه قد دخل في تركيبه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر نوعاً من أنواع الملوثات والمواد الكيميائية الخطرة التي تهدد أمننا الصحي وتعرضنا للإصابة بالأسقام والعلل المزمنة والمستعصية على العلاج، وقد بلغ هذا الوضع الكارثي مداه الأقصى، حتى أن الأسماك والكائنات البحرية في أعماق البحار النائية والبعيدة عن أيدي البشر قد أصابها داء التلوث فتعرضت للسموم البشرية.

وقد أكدت دراسةٌ نُشرت في مجلة "تقارير عليمة" في أكتوبر من العام الجاري على واقعية هذه الظاهرة الحديثة، حيث قامت بالتحليل الميداني للأسماك التي يستهلكها الإنسان ويشتريها من الأسواق المحلية، وشملت هذه التحاليل الأسماك التي تُباع في أسواق إندونيسيا في شرق الكرة الأرضية، وأسواق كاليفورنيا من دول الغرب، وأفادت أن زهاء 25% من هذه الأسماك ملوثة بمخلفات من أنواع وأحجام مختلفة، وفي مقدمتها المخلفات البلاستيكية ومخلفات الأقمشة القطنية والبلاستيكية.

وهناك الآن نوع خطر جديد من البلاستيك يُهدد صحة الإنسان ويعرضه للإصابة بالأمراض المزمنة التي لا يعلم عنها إلا الله سبحانه وتعالى، ويُطلق عليه الميكروبيدز، أو الحَبَات والخَرْزات الدقيقة(microbeads)، وهذه الخَرزات والحبيبات البلاستيكية الصغيرة الحجم التي قد لا نراها بعيوننا تضاف مئات الآلاف منها إلى الملايين من المنتجات الاستهلاكية التي لا نستغني عن استخدامها يومياً، فتدخل في تركيبها الأساسي، كمعجون الأسنان، ومنتجات التجميل والتبرج والزينة، ومنظفات الوجه والجسم، والكريمات بمختلف أنواعها وأشكالها، وهذه المنتجات التي أصبحت ضرورية الآن تدخل في نهاية المطاف مع مياه المجاري ولا تتمكن أجهزة المعالجة من التخلص منها أو معالجتها، فتنفذ منها وتدخل في المسطحات المائية، ومن هناك تنتقل إلى الكائنات الحية النباتية والحيوانية العالقة في الماء، ثم إلى الأسماك الصغيرة والكبيرة فتمكث في بطنها وأحشائها وتتراكم فيها مع الوقت، وأخيراً تدخل هذه المخلفات البلاستيكية المجهرية في أجسامنا دون أن ندري، أو أن نحس بأنها قد دخلت في أبداننا، وذلك حسب الدراسة الميدانية المنشورة في مجلة علم وتقنية البيئة الأمريكية في 15 سبتمبر 2015.

وعلاوة على ذلك، فإن هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة قد تدخل في أعضائنا عن طريق استخدام حَـمَأة مياه المجاري في الزراعة، حيث إن هذه المخلفات يترسب البعض منها أثناء معالجة مياه المجاري، فتتراكم مع الوقت في هذه المخلفات شبه الصلبة، أو الحمأة التي عادةً ما تُستعمل في الزراعة كمواد مخصبة ومحسنة لخواص التربة.

ونظراً لانكشاف خطورة هذه الحبيبات البلاستيكية على صحة الإنسان والحياة الفطرية البرية والبحرية النباتية منها والحيوانية، فقد قامت بعض الدول في اتخاذ الإجراءات الأولية لمنع إضافتها إلى المنتجات الاستهلاكية الضرورية وغير الضرورية للإنسان واستبدالها بمواد طبيعية غير ضارة وقابلة للتحلل عند دخولها في البيئة.

الخميس، 3 ديسمبر 2015

بَلَدْ الضباب القاتل



في هذه الأيام، ومع حلول أيام الشتاء الباردة، والأجواء القارسة، والطقس الشديد البرودة والمتمثل في درجات الحرارة المنخفضة، ينزل الضباب يومياً في لندن، بلد الضباب، حتى إذا أخرج الإنسان يَدَهُ لم يَكَد يراها من كثافة هذا الضباب وكان يَضِلُ طريقه وهو يمشي في وسط هذا الضباب، وهذا الضباب طبيعي لا يشكل خطورة وتهديداً حقيقياً على صحة الناس، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الثقافة البريطانية اللندنية، ومظهراً فريداً يشاهده كل زائر للعاصمة البريطانية.

ولكن هل هذا الضباب الذي ينزل الآن على لندن طبيعي وسليم لصحة الإنسان، كما كان قبل أكثر من مائة عام؟

في الحقيقة أن هناك اليوم نوعين من الضباب يشاهدهما الإنسان، الأول هو الضباب القديم الطبيعي المعروف تاريخياً لدى البشر منذ الأزل، ويُعتبر من مشاهد ومظاهر فصل الشتاء والظروف المناخية شديدة البرودة، والثاني فهو ضباب حديث ومستجد من صُنع البشر ويتكون نتيجة لأنشطته التنموية التي لم تنقطع منذ الثورة الصناعية الأولى، ولذلك لم يكن يشاهده الإنسان في المدن قبل أكثر من سبعين عاماً، وهذا الضباب يقتصر عادة على فصول الصيف الحارة وعند بزوغ أضواء الشمس الساطعة والملتهبة، ويُطلق عليه بالضباب الضوئي الكيميائي.

فهذا النوع الأول الطبيعي النقي والصافي من الضباب الشتوي لم يعد الآن على نقاوته وصفائه وخلوه من الأضرار، وإنما أصبح مشبعاً بشتى أنواع السموم القاتلة والمـُـهددة لصحة البشر والحجر والأنعام وبالتحديد الدخان الأسود وأكاسيد الكبريت، فالمصانع تعمل ليلاً نهاراً وعلى مدار الساعة، ومحطات توليد الكهرباء تشتغل بدون توقف طوال أيام السنة، ووسائل النقل من سيارات وقطارات وطائرات لا تأخذها سِنةٌ ولا نوم، فتعمل في شوارعنا وسمائنا وتحت أرضنا في كل ثانية من اليوم والليلة وطوال العام، وكل هذه المصادر تَبْعث بملوثاتها إلى الهواء الجوي فتختلط بالضباب الذي ينزل علينا لا برداً ولا سلاما، فيُصيبنا بشتى أنواع الأمراض المزمنة من أمراض الجهاز التنفسي، والقلب، وأمراض السرطان.

وهذا النوع الشتوي أيضاً لم يَعُد حِكراً على لندن، بلد الضباب، أو ظاهرة بيئية منعزلة لا تشاهد إلا في العاصمة البريطانية، وإنما بلغت العدوى الكثير من مدن العالم العريقة، وأشهرها مدن الصين كالعاصمة بكين ومدينة شنغهاي، حتى أن الحالة في بكين أصبحت متجذرة في سماء العاصمة وتحولت إلى وضعٍ لا يطاق ولا يمكن أن يتحمله جسم أي بشر، مما أدى إلى تعالي صيحات الشعب وغضبهم من جهة والمسئولين من جهةٍ أخرى، حيث قال عُمدة بكين بصريح العِبارة: "الهواء في المدينة غير صالحٍ للحياة"، وأما في لندن فقد أعلن العلماء أن الشارع المشهور الذي يسير في قلب لندن النابض بالحياة وهو "أكسفورد ستريت"، يُعد من أكثر المناطق تلوثاً ليس على مستوى لندن فحسب، وإنما على مستوى دول العالم، حيث حطمت نسبة الملوثات في الهواء كافة الأرقام القياسية المتعلقة بتركيزها في الهواء الجوي، ولمن يريد أن يشفي غليله للمزيد من المعلومات، يمكنه الرجوع إلى الكتاب الذي نُشر في 19 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "ضباب لندن".

وأما النوع الثاني فهو أكثر خطورة من النوع الأول وأشد وطأة على صحة الإنسان والكائنات الحية ومواد البناء والمرافق الأثرية القديمة، وهذه النوع يكشف عن أنيابه الحادة والقوية في فصل الصيف خاصة عندما تشتد حرارة الشمس ويرتفع القيظ فتعمل أشعة الشمس الحارقة كعامل مساعد يعمل على تعزيز ودعم تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من وسائل النقل، مثل أكاسيد النيتروجين والهيدروكربونات، وينجم عنه خليط معقد وقاتل من الملوثات الأخرى السامة والخطرة وعلى رأسها غاز الأوزون الذي له القدرة الذاتية على تهديد صحة الإنسان والحجر والشجر، وينكشف هذا التفاعل ويظهر على هيئة ضباب أصفر بني اللون لا يخفى على أحد، ويراه كل إنسان يعيش في المدن الحضرية المكتظة بالسيارات والمزدحمة بوسائل النقل الأخرى.

وأما النسبة للبحرين ودول الخليج الأخرى والمدن التي تشتد فيها حرارة الشمس، فإن النوع الثاني هو الأخطر والأكثر تهديداً لصحتنا ويجب الحذر منه، ومؤشرات انكشاف هذا النوع واضحة في سمائنا في بعض الأوقات من السنة، فالوقاية منه يجب أن يحظى بالأولوية ليس من الوزارات المعنية بالبيئة فحسب، وإنما يجب أن يكون في مقدمة الأولويات بالنسبة للأجهزة المختصة بحماية صحة الإنسان على حدٍّ سواء.