الثلاثاء، 28 أبريل 2015

من المباني المستقبلية إلى مُدن المستقبل


نشرتُ مؤخراً في أخبار الخليج مقالاً عنوانه :"مباني المستقبل" أو المباني الخضراء وتناولتُ فيه مفهوماً جديداً في بناء المباني والعمارات والمساكن بحيث يأخذ هموم البيئة والحفاظ على ثرواتها ومواردها في الاعتبار كجزء رئيس عند مرحلة التصميم والتنفيذ والصيانة لهذه المباني، واليوم أجد نفسي مضطراً إلى النظر بشكلٍ عام وعلى مستوى أكبر في هذه المفهوم الحديث وبالتحديد عند تصميم وبناء المدن، أو عند توسعة وصيانة مدن قديمة.

 

ولكن في حالة تصميم وبناء المدن البيئية والخضراء فإننا نقف أمام قضيةٍ كبيرة وعلى مستوى واسع، ونواجه أمراً معقداً ومتشابكاً وفيه مَطَبات وعوائق كثيرة منها سياسية، ومنها اقتصادية، ومنها اجتماعية، ولذلك سنكون بحاجةٍ إلى إحداث انقلابٍ عام أو "ثورة بيئية"، و"ثورة خضراء" تكون على مستوى تحديات هذه القضية، بحيث تُحدث تغييرات جذرية معمقة في البنية التحتية وفي كافة التسهيلات والمرافق المرتبطة بها. فنحن بحاجةٍ إلى ثورة في تغيير المعلومات لدى الأفراد والمسؤولين وكافة شرائح المجتمع، وثورة في تغيير المفاهيم، وثورة في تغيير الاتجاهات، وثورة في تغيير السلوكيات، أي ثورة بيئية واجتماعية واقتصادية وسياسية وإعلامية وتشريعية عامة تغطي كافة مناحي الحياة وتُعطي البيئة الأولوية عند تصميم أو تنفيذ أي مشروع في المدينة، صغيراً كان أم كبيراً، مشروعاً سكنياً كان أم تجارياً، مشروعاً صناعياً كان أم غير ذلك، وبعبارة أخرى أي مشروعٍ أو عمل يقام في المدينة. 

 

فهذا الانقلاب البيئي المطلوب عند بناء أو تنمية المدن يعتمد على مفهومٍ بسيط هو البناء بدون التدمير، والتعمير بدون الافساد، والتنمية بدون الهدم، أي على سبيل المثال بناء وتشييد المصانع دون السماح لها بإطلاق الملوثات الضارة إلى الهواء الجوي التي تقتل البشر والشجر، ودون السماح لها بصرف المياه الملوثة والسامة إلى المسطحات المائية أو الجوفية التي تهلك الحياة الفطرية المائية وتضر بالإنسان والحيوان، وفي الوقت نفسه إجبار هذه المنشآت الصناعية على منع إنتاج كافة أنواع المخلفات الصلبة والسائلة والغازية، أو معالجتها وإدارتها بشكلٍ بيئيٍ وصحيٍ سليمين، كذلك التنوع في توفير وسائل للمواصلات العامة والخاصة بحيث تخفض من تلويث الهواء الجوي نوعياً وكمياً وتقلل من الازدحام والاكتظاظ المروري في الشوارع وتقلل من الهدر في موارد الطاقة غير المتجددة، ومن جانب آخر نُعَمَّر المباني والمساكن والعمارات الشاهقة دون أن نقضي على المساحات الخضراء الطبيعية أو الحياة الفطرية النباتية أو الحيوانية، ونأخذ في الحسبان جميع الوسائل والتقنيات المتاحة والمتوافرة لخفض وترشيد استهلاك الموارد والثروات الطبيعية غير المتجددة والناضبة، سواء أكانت الكهرباء، أو الماء، أو مواد البناء، ونقلل من إنتاجنا للمخلفات الصلبة والسائلة.

 

وهذا الانقلاب أو الثورة البيئية العامة المطلوبة عند بناء المدن تعني أيضاً التنوع في مصادر إنتاج الكهرباء والماء وعدم الاعتماد كلياً على المصادر التقليدية والناضبة وغير المتجددة، مثل مشتقات النفط أو الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء وتشغيل محركات السيارات، والتفكير في المصادر النظيفة والمتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما، كذلك بالنسبة لمصادر المياه والاعتماد على تقنيات التدوير وإعادة الاستعمال، سواء بالنسبة للمياه الصناعية أو مياه المجاري.

 

فالانقلاب البيئي الذي أدعو إليه يفرضه الواقع المؤلم الذي يعاني منه معظم المدن الحضرية من فسادٍ كبير لنوعية الهواء، وتدميرٍ عميق لمياه البحر، وهدرٍ كبير للموارد والثروات الطبيعية، وانتشارٍ واسعٍ ومشهود للأمراض الناجمة عن هذا التدهور البيئي في المدن، فالتجارب السابقة في بناء المدن أكدت فشلها وعدم استدامتها ولم تحقق أهدافها، ولذلك كان لا بد لي من طرح هذه الرؤية الشاملة الجديدة لنحقق لأنفسنا السعادة، ولبيئتنا الصحة والسلامة، ولمواردنا الاستدامة في العطاء والبقاء.     

 

الأحد، 26 أبريل 2015

المَبَاني المُستقبلية


كَثُر الحديث في الأيام القليلة الماضية في وسائل الإعلام المحلية عن "المباني الخضراء"، وتركزت هذه الأخبار على شُروع إحدى الوزارات الحكومية على بناء مثل هذا النوع من المباني، وفي الحقيقة فإن هناك مصطلحات كثيرة تُطلق على هذا النوع الجديد من المباني والعمارات وهي في مجملها تتلخص في مفهومٍ واحد مُحَدد هو إنشاء المساكن والمباني بكافة أنواعها وأحجامها بحيث إنها تأخذ الهموم البيئية في الاعتبار عند التصميم، والإشراف، والتنفيذ، والصيانة والتشغيل، إضافة إلى قيامها الحد من أية آثارٍ سلبية تنجم عن المبنى على المكونات البيئية الحية وغير الحية من الناحيتين الكمية والنوعية، ومن هذه المصطلحات غير "المباني الخضراء" التي تحقق هذا المفهوم العام هي "المباني الصديقة للبيئة"، أو "المباني المستدامة"، أو "المباني البيئية"، أو "المباني المستقبلية".

 

وهناك عدة معايير ومبادئ دولية قد حُددت ووُضعت لتصنيف أي مبنى، أو عمارة بالمباني الخضراء، وهذه المعايير مستخلصة من أربعة مجالات عامة. فالمجال الأول متعلق بالطاقة والكهرباء وسبل ترشيد استهلاكه بأكبر كفاءة ممكنة، وتشغليه بأكبر قدر من الفاعلية، والمبرر في ذلك أننا كلما زاد استهلاكنا للكهرباء، زاد انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي وارتفعت وتيرة وحدة تدهور الهواء وتعجلت سرعة وقوع التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. ولذلك ابتكر العلماء عدة وسائل لتحقيق هذا الهدف، منها النوافذ السميكة ذات الثلاثة ألواح، إضافة إلى تصنيع زجاج النوافذ من مواد تسمح الضوء في الدخول في المبنى وتقلل من السماح للحرارة بالدخول، مما يعني المحافظة على حرارة أو برودة المبنى. كذلك إبداع مصابيح منخفضة إطلاق الحرارة ومرتفعة إعطاء الضوء والإنارة، إضافة إلى أنها مصابيح تبقى سنوات دون الحاجة إلى تغييرها، مما يوفر الكثير من الجهد، والمال، والكهرباء، ويقلل من التلوث، ويخفض من إنتاج المخلفات الصلبة الخطرة. وفي المقابل أيضاً ابتدع خبراء المواد والبناء مواد وأصباغ وطوب عازل للحرارة يُوضع فوق سطح المبنى، أو في الجدران فيُقلل من دخول الحرارة ويوفر الكهرباء، وبالتالي يقلل من تدهور وتلوث الهواء الجوي ويخفض من الضرر الصحي له. كذلك من الضروري التفكير كلما أمكن وفي بعض التطبيقات العملية، استخدام الطاقة المتجددة والنظيفة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وغيرهما. وعلاوة على هذا فإن خفض استهلاك الطاقة يُطيل من عمر مصادر الطاقة، وخاصة أننا في البحرين نُنْتج الكهرباء من مشتقات البترول أو الغاز الطبيعي، وكلها مصادر ناضبة وغير متجددة للطاقة.

 

أما المجال الثاني فهو الثروة المائية وسبل ترشيدها وخفض استهلاكها من جهة، والاستفادة من مصادر المياه غير التقليدية في المباني، مثل مياه المجاري المعالجة، أو مياه الأمطار من جهة أخرى. أما من جانب ترشيد الاستهلاك فإن عقل الإنسان أبدع في إنتاج حنفيات وأدوات مختلفة تُقلل من استهلاك الماء، وتُرشد في استخدام هذه الثروة الحيوية. ومن جانبٍ آخر يمكن إعادة استعمال مياه المجاري على حسب درجة معالجتها لأغراض متعددة في المباني وفي ري النباتات والمسطحات الزراعية.

 

أما المجال الثالث فهو نوعية المواد المستخدمة في المباني، سواء تلك المستخدمة في خارج المبنى، أو في التصميم الداخلي، بحيث إنها يجب أن تكون مستخلصة من المواد الخام المتوافرة محلياً، إضافة إلى التأكد على أنها لا تنبعث عنها سموم وملوثات، مثل بعض أنواع الجرانيت التي ينبعث عنها غاز مشع عديم اللون والطعم والرائحة يسمى الرادون، أو أخشاب مضغوطة تنبعث منها مادة الفورمالدهيد المسرطنة، أو الدهان والأصباغ التي تنطلق منها ملوثات عضوية سامة، وبعضها يسبب السرطان.

 

والمجال الرابع فهو المخلفات الصلبة، أو القمامة، وهذه تُعد في كل المدن حضرية مشكلة كبيرة جداً وتسبب أزمة خانقة وعبئاً شديداً على كاهل المسئولين عن إدارتها، ولذلك هناك الكثير من الطرق التي يمكن تبنيها لخفض إنتاج المخلفات، وتقليل أحجامها.

 

والجدير بالذكر أن للمباني الخضراء المستقبلية أبعاد اقتصادية مشهودة، أي أنها مربحة لمالك المبنى على المدى الزمني القريب والبعيد، ولذلك قام ملاك الكثير من المباني القديمة الموجودة منذ مئات السنين بتطبيق آليات وأدوات ووسائل العمارة الخضراء لإعادة تأهيل المبنى بشكلٍ كلي، ومن أروع الأمثلة التي يمكن الاستئناس بها هو أشهر أول أطول عمارة تاريخية في العالم، وهي ناطحة سحاب "إِمْبير ستيت" في مدينة نيويورك، حيث قام صاحبها بصرف الملايين لإعادة تأهيلها بيئياً.

 

فالمباني الخضراء هي المباني المستقبلية التي يجب تنفيذها على أرض الواقع، فعن طريقها نضرب أكثر من عصفورين بحجرٍ واحد.

الخميس، 23 أبريل 2015

مُحاكمة أوباما



الكثير من الحوادث والمناوشات السياسية التي تقع في الولايات المتحدة الأمريكية هي في الحقيقة ليست شأناً داخلياً أمريكياً فحسب، وإنما هي في الوقت نفسه لها انعكاسات على كل فردٍ وعلى كل إنسانٍ في حد ذاته، ولها تأثيرات سلبية أو إيجابية على الكرة الأرضية برمتها، ولذلك لا بد من مراقبة هذه القضايا الأمريكية التي تبدو لأول وهلة وفي ظاهرها أموراً داخلية، فنعمل على متابعة ملابساتها وحيثياتها وما تنجم عنها من قرارات وسياسات وإجراءات.

وأُقدم لكم هنا مثالاً واقعياً أراهُ أمامي اليوم، وفصوله ومشاهده تزداد سخونة مع الوقت، لكي أُثبتْ وأؤكد لكم على أن بعض القضايا ذات الشأن الأمريكي الداخلي تؤثر سلباً أو ايجاباً على الشأن الدولي عامة، وعلى صحة وأمن كوكبنا، ولا أبالغ عندما أقول بأن انعكاساتها وتأثيراتها تَطَالُ أيضاً الإنسان البسيط العادي في البحرين وفي الدول الأخرى.

فقضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض برمتها والمردودات الخطيرة التي تنجم عن هذه الظاهرة، سواء أكانت بيئية، أو صحية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو أمنية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية أولاً والدول الغربية الصناعية ثانياً هي المتهمة منذ أكثر من مائة عام عن نشؤها، وهي المسؤولة عن استمرار تفاقمها وازدياد حدة وتيرتها يوماً بعد يوم.

فالولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول أوروبا التي بدأت بالثورة الصناعية هي التي تُلقي سمومها وتُطلقها دون حسيبٍ أو رقيب إلى الهواء الجوي، والتي تنجم عن حرق الوقود، وبخاصة الفحم في محطات توليد الكهرباء والمصانع وغيرهما، وهي التي تَنْبعث عن سياراتها وطائراتها وقطاراتها ملايين الأطنان من الملوثات التي ترفع درجة حرارة كوكبنا، ولذلك على هذه الدول المسؤولية الأخلاقية في علاج هذه القضية، وعليها يقع العبء الأكبر في ايجاد وتنفيذ الحلول المناسبة لإيقاف هذا التدهور الشديد لصحة بيئتنا، والتدمير الممنهج لكافة مكوناتها وعناصرها في كل بقعة من بقاع الأرض، صغيرةٍ كانت أم كبيرة، بعيدةٍ كانت أم قريبة.

وهذا يؤكد أن هذه الممارسات البيئية الخاطئة التي تحدث في أمريكا لا تؤثر على أمريكا أو شعبها فحسب، وإنما تؤثر على المواطن البحريني، وكل فرد يعيش على هذا الكوكب، وبالتالي فإن سياسات أمريكا الإيجابية أو السلبية تجاه هذه القضية لها انعكاسات على الجميع.

فالرئيس أوباما يواجه الآن معارك محتدمة وعنيفة على عدة جبهات بالنسبة لسياساته المتعلقة بالتغير المناخي، فتارة تدور رِحى هذه المعارك في البيت التشريعي لأمريكا وهو الكونجرس، حيث يقف الجمهوريون بالمرصاد أمام أي تشريعٍ أو تنظيمٍ يقترحه أوباما والحزب الديمقراطي لمواجهة التغير المناخي وخفض نسبة انبعاث الملوثات من محطات توليد الطاقة بهدف خفض نسبة ارتفاع درجة حرارة الأرض، واليوم تنتقل المعركة إلى ساحةٍ جديدة أخرى هي أروقة المحاكم ولأول مرة، فيقفُ الرئيس الأمريكي في قفص الاتهام في احدى المحاكم الاتحادية، وبالتحديد في محكمة استئنافٍ اتحادية في مقاطعة كولومبيا، أو العاصمة واشنطن، حيث يُحدد مصير تشريعاته وسياساته في مجال التغير المناخي ثلاثة قضاة فيدراليين.

فأوباما ستنتهي ولاية حكمه في عام 2016،ولم ينجح حتى الآن في تحقيق انجازٍ مشهودٍ وملموس يذكره الناس ويخلده التاريخ الأمريكي، ولم يتمكن حتى يومنا هذا في وضع بصماته المحفورة في ذاكرة أمريكا والعالم، فقد حاول في قضية التأمين الصحي الشامل للمواطن الأمريكي وتعثر مشروعه، ويحاول الآن في عقد صفقة نووية تاريخية مع إيران ولم تفلح جهوده كاملة، ولذلك يسعى إلى تخليد ذكره من خلال قيادة العالم في الوصول إلى أول اتفاقية دولية تُلزم دول العالم أجمع على خفض انبعاثاتها من الغازات المعنية برفع درجة حرارة الأرض، فهو يمهد الطريق لنفسه من الآن لقمة باريس حول التغير المناخي والتي ستعقد في ديسمبر من العام الجاري. 

فهل سينجح أوباما في مشروعه الجديد، وبخاصة أن الجمهوريين يُشكلون أمامه جبلاً راسخاً وشاهقاً يصعب الركوب عليه وتخطيه، فهم يحاربونه على كافة الجبهات الإدارية والتشريعية والقضائية، ولكن إذا نجحت جهوده وأثمرت مساعيه الداخلية والخارجية، فإن تأثيراتها الايجابية ستنعكس علينا في البحرين، وعلى كوكب الأرض، وعلى كل كائنٍ حي يعيش عليه.    

الأحد، 19 أبريل 2015

سجائر الماريجوانا ستدخل منازلنا


التاريخ يُعيد نفسه، فسجائر التبغ عندما بدأتْ تغزو أسواقنا ومنازلنا ومكاتبنا منذ نهاية القرن التاسع عشر، كانت تُقدَّمُ لنا بأنها رمز للشباب والحيوية والنشاط، ودليل على الرجولة والقوة والصلابة، كما تَمثَل ذلك في الدعاية الأمريكية المشهورة لسيجارة مالبورو، وهي تبين صورة راعي البقر الشديد والصلب والشجاع وهو يمتطي حصانه بهدوءٍ واطمئنان، ويبدأ في إشعال سيجارة مالبورو، وفي الوقت نفسه أقنعت شركات التبغ الشيطانية والقاتلة للنفس البشرية أن التدخين يُولِّد الراحة والسكينة لدى المدخن، ويُدخل نفسيته في فترةٍ من الاسترخاء والدعة والطمأنينة، ويعالجه من آلام وحالات القلق والاكتئاب والضيق النفسي، ويَحْمل عنه مشقة الحياة وقسوتها أثناء تدخين هذه السيجارة.


 


وبعد سنواتٍ عجافٍ طويلة من هذه الخدعة الكبرى، والهم المصطنع، والكذبة العظيمة التي ذهب ضحيتها الملايين من شبابنا وأطفالنا، فأكلت أجسامهم وأفسدت صحتهم، تأكد وبعد نحو خمسين عاماً بأن التدخين هو رأس البلاء، وهو الفتنة المدمرة، وهو أساس عشرات الأنواع المختلفة من الأمراض الفتاكة والمهلكة للإنسان، وفي مقدمة هذه الأمراض المستعصية السرطان، كسرطان الرئة، والقولون، والكبد، والمثانة، والعنق، والثدي، وأمراض الجهاز التنفسي، وأمراض القلب المزمنة، ومرض السكري من النوع الثاني، والسل، وضعف الجهاز المناعي، وأمراض والتهابات المفاصل، وفقدان البصر، إضافة إلى الولادة المبكرة وانخفاض وزن الجنين وولادة أولاد معوقين ومشوهين خَلْقياً بالنسبة للمرأة الحامل التي تدخن، أو التي تتعرض بشكلٍ مستمر للملوثات التي تنطلق من المدخنين أثناء الجلوس معهم.

 


واليوم أَجِدُ نفسي أمام مشهدٍ مطابق لهذا المشهد القديم، فأَقِفُ أُشاهد مسرحية قديمة بالية ولكن بوجهٍ جديد، وبإنتاجٍ عصري حديث، وبأسلوب مقنن عالي الجودة، فالآن نحن نواجه منتجاً جديداً، وتحت مسمى حديث يُغري الناس ويجعلهم يقعون في شباكه الملتوية والسامة التي لا يمكن الخروج منها.


 


والغريب أن كبريات المحطات الإخبارية والإعلامية تُروج لمثل هذه المنتجات السامة، وتعمل كأداة تسويقية تشجع الشباب وتحفزهم على شرائها واستخدامها، وتُبرر لهم ذلك بأسلوبٍ علمي وطبي ومن خلال تصريحات وشهادات للعلماء والأطباء، فقد نشرت محطة الـ سي إِن إِن على صفحتها في الإنترنت في 16 أبريل مقالاً لأحد الأطباء تحت عنوان: "حَانَ الوقت لثورة الماريجوانا الطبية"، ويؤكد المقال على أن "المريجوانا الطبية"، أو "الماريوانا"، أو "الحشيش"، له فوائد طبية علاجية كثيرة فهو يُستخدم لعلاج سبع حالات مرضية منها حالات الصرع والتشنجات، والالتهابات، وحالات فقدان الذاكرة للمصابين بمرض الزهايمر، وعلاج آلام العضلات، وبعض أمراض السرطان والإيدز.


 


وقد أتت مثل هذه المقالات أُكلها، فقد وقع الشعب الأمريكي في الفخ المنصوب له، حيث ارتفع عدد الأمريكيين الموافقين على استخدام المرجوانا لأغراض التسلية والترويح عن النفس من 12% عام 1969 إلى 53% عام 2014، كما زاد عدد المؤيدين لاستخدامه لأغراض طبية إلى77%.


 


وهنا بدأت شركات التبغ الكبيرة القاتلة للبشرية تدخل على الخط، وأخذت تمد ذراعها الخبيث لتلج رويداً رويدا في أسواق هذا النوع الجديد من المنتجات، فالشعب الأمريكي مستعد الآن لتقبله واستخدامه، أي أن الطلب سيكون موجوداً ومتزايداً مع الوقت لمثل هذا المنتج، كذلك فإن القوانين والتشريعات في بعض الولايات تسمح بتسويقه وتقنين استعماله، وكل ذلك يؤكد أن الفرصة متاحة جداً والطريق ممهد كلياً لسفاكي دماء البشر لإنتاج هذه البضاعة على المستوى الواسع والكبير والاتجار فيها أولاً على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد ذلك من خلال اتفاقيات التجارة الحرة، أو الاتفاقيات الثنائية بين أمريكا ودول أخرى سيدخل هذا المنتج إلى العالمين، كما حدث بالفعل بالنسبة لسجائر التبغ بأنواعها المختلفة التي دخلت كل دولة من دول العالم، بل ودخلت كل بيتٍ فقيرٍ أو غني بدون استثناء. 


 


ومن أجل ذلك ستقوم شركات الفساد والدمار باستنفار كل إمكاناتها وقواها الشرعية وغير الشرعية وستُنفق الملايين على رجال الإعلام بمختلف تخصصاتهم ومهنهم، ورجال القانون في الكونجرس والمواقع الأخرى، ورجال العلم والأدب، والأطباء، وأخصائي التسويق والدعاية لكي يُسخر كل واحد منهم وظيفته وعلمه وتخصصه لتحسين هذا المنتج، وإظهاره بالمنظر الجميل الجذاب لكافة الفئات العمرية وللذكر والأنثى على حدٍ سواء، ووضع كافة أنواع المساحيق التجميلية على وجهه.


 


ولذلك فإنني أحذر وأنبه دولنا إلى أخذ الحيطة والإجراءات الوقائية اللازمة لمنع هذه الآفة الجديدة، وعدم السماح لها في دخول بلادنا وبيوتنا كما سمحنا من قبل لسجائر التبغ.

الجمعة، 17 أبريل 2015

أمريكا تَتَنَكر لجنودها



كَتبتْ الصحف الأمريكية خبراً في 26 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "وزارة الدفاع الأمريكية تعتذر لجنودها لتعرضهم لأسلحة وذخائر وقنابل كيميائية دون علمهم أثناء خدمتهم في العراق"، حيث جاءت التفاصيل بأن وكيل وزارة الجيش الأمريكي براد كارسون(Brad Carson)قد اعتذر رسمياً عن سوء تعامل الجيش مع المحاربين القدماء عندما قاموا بعمليات سرية في العراق وتعرضوا من خلالها ودون علمهم للملوثات الكيميائية السامة والحارقة الناجمة عن إتلاف القنابل والذخائر الكيميائية القديمة والمهجورة والمخزنة من فترة حرب الخليج الأولى في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، كما أعلن وكيل الجيش الأمريكي قائلاً بأنه سيوفر لهؤلاء المتضررين العلاج المناسب لمثل هذه الحالات والإصابات، وسيعترف الجيش رسمياً بالجنود الآخرين الذين تنكر لهم وتجاهل شكاويهم ومعاناتهم منذ عقودٍ طويلة من الزمن ورفض الاعتراف بتعرضهم للملوثات الكيميائية الخطرة.

ولكن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: كيف جاء هذا الاعتذار الرسمي من البنتاجون؟ وبعد كم سنة من وقوع الفضيحة أَعلنتْ وزارة الدفاع عن أسفها لجنودها؟

في الحقيقة، وبعد بحثٍ معمقٍ وطويل في أرشيف وسائل الإعلام الأمريكية، تأكدتُ بأن اعتذار الحكومة الأمريكية ممثلاً في البنتاجون لجنودها الذين يُضحون من أجلها ويفدونها بأرواحهم وأجسادهم لم يأت من فراغ، ولم يكن طواعية منها وإيماناً بواجباتها تجاه جنودها، وإنما جاء هذا الاعتذار رغماً عن أنفها، بل واضطروا إليها اضطراراً بعد أن فاحت رائحتها النتنة إلى الجمهور الأمريكي، وبعد أن فضحتها وسائل الأعلام الأمريكية نفسها، وكشفت أسرارها المـُخِيفة والمـَخْفية والتي تم التكتم عليها أكثر من عشر سنوات طوال دون الإحساس بمعاناة جنود الوطن وحماة البلد!

فقد نُشر التحقيق الأول في مجلة التايمس الأمريكية في 14 أكتوبر 2014 تحت عنوان: "كَشْفْ أسرار البنتاجون المـَكْتُومَة منذ زمنٍ طويل"، والثاني في 29 من الشهر نفسه، حيث أكد التقريران على تعرض الكثير من الجنود دون عِلْمهم للملوثات والسموم الناجمة عن تعطيل وإتلاف آلاف القنابل الكيميائية بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها، سواء أكانت غاز الكلورين السام، أو غاز الخردل الحارق، أو غازات الأعصاب المدمرة للخلايا العصبية، ثم في الثالث من ديسمبر عام2014 جاء تقرير شامل ومطول نشرته صحيفة النيويورك تايمس، تحت عنوان:"الأسلحة الكيماوية في العراق: إفشاء أسرار البنتاجون المـَخْفِية"، وهنا أكد التحقيق من خلال المقابلات الشخصية لآلاف الجنود المصابين والمتضررين أثناء خدمتهم في العراق في الفترة من 2004 إلى 2011  أنهم بالفعل لم يعرفوا شيئاً عن نوعية العمليات التي قاموا بها وطبيعة المهمات التي وُكلت إليهم، فقد تعرضوا لهذه السموم الحارقة عند تخلصهم لآلاف الذخائر والصواريخ والقنابل الكيميائية والعمل على إبطال مفعولها، فلم تعترف الحكومة الأمريكية بنوع هذه الإصابات، ولم توفر لهم العلاج الطبي المناسب لمثل هذا النوع الخطير من الإصابات، بل وأكدت هذه التحقيقات أن وزارة الدفاع تنكرت لهؤلاء الجنود، وتخلت عنهم، وأخفت كلياً تعرضهم، وفي الوقت نفسه وَجَّهُوا هؤلاء الجنود للامتناع عن الحديث عن هذه العمليات "السرية" التي قاموا بها.

وقد صرح أحد هؤلاء الجنود المصابين للحروق بسبب تعرضه لغاز الخردل لصحيفة النيويورك تايمس قائلاً: "كُنتُ أشعر بأنني كفئران التجارب وليس جندياً مصاباً"، ثم خَتَمتْ الصحيفة التحقيق بالعبارة التالية: "حَقِيقةْ تَنَكُر الحكومة الأمريكية لعلاج جنودها بعد تعرضهم للملوثات المنبعثة عن القنابل الكيميائية يؤكد بأن قيمة حياة الجنود عند حكومتنا تساوي صفراً".

وإنني شخصياً لم أستغرب من موقف الحكومة الأمريكية تجاه جنودها، فهناك حوادث أخرى وقعت في السنوات الماضية وأَكدتْ لي أن أمريكا تستغل جنودها أثناء الحروب ثم ترميهم بعد انتهاء صلاحيتهم وخدمتهم. فعلى سبيل المثال، لم تعترف الحكومة الأمريكية بالمرض العضال الذي أصاب عشرات الآلاف من الجنود بعد الانتهاء من خدمتهم في حرب تحرير الكويت في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، كذلك فإن الجيش الأمريكي نفسه في فضيحة تاريخية مدوية كان يرمي أجساد الموتى من الجنود، أو بقايا أعضائهم من حرب أفغانستان والعراق في "الزبالة" وفي مواقع دفن القمامة!

فإذا كان هذا هو حال الجندي الأمريكي، فكيف يا تُرى سيكون وضع الشعوب والحكومات التي تتعامل معها أمريكا، أو تقع تحت هيمنتها وسيطرتها؟


الجمعة، 10 أبريل 2015

مقال في مجلة الإيكونُومِست



الإيكونومست، أو الاقتصادي، مجلة أسبوعية مرموقة تصدر في لندن منذ عام 1843 وتهتم أساساً بالجانب الاقتصادي على المستوى الدولي، إضافة إلى تغطية أخبار العالم والسياسة والأعمال، وتستهدف الجمهور المتعلم والمثقف، ورجال الاقتصاد والسياسة وواضعي القرار.

فإذا كانت هذه هي أهداف المجلة وقراؤها، فلماذا تنشر مواضيع بيئية يعتبرها الكثير من رجال المال والاقتصاد بأنها هامشية وثانوية ولا تدخل ضمن اختصاصهم وشؤونهم وهمومهم اليومية، وهموم عامة الناس ودول العالم، ولا علاقة لها بعَالَم المال والاقتصاد، وبخاصة إذا كان هذا الموضوع شديد التخصص وجاءتحت عنوان "الكائنات الغازية"، أي الكائنات الحية النباتية والحيوانية التي تستوطن وتعيش في بيئات جديدة وغريبة عليها، غير البيئات التي وُلدت فيها وترعرعت عليها وكانت جزءاً مهماً وفاعلاً من النظام البيئي في تلك المنطقة.

فما علاقة قُراء مجلة النُخبة والمثقفين بقضايا البيئة والحياة الفطرية، وبالتحديد غزو الكائنات النباتية والحيوانية لبيئاتٍ جديدة؟

فنَشر المجلة في العدد الصادر في 28 مارس من العام الجاري مقالاً تحت عنوان "الأنواع الغازية"، يؤكد بأن هذا الموضوع ذا أهمية للقراء والمطلعين على هذه المجلة، ولا بد أنه يُشكل هاجساً عند الكثيرين، ويؤثر عليهم بطريقةٍ أو بأخرى.

فمن المعروف الآن أن قضية غزو الكائنات الحية النباتية والحيوانية لبيئات غريبة عليها والاستيطان فيها، لا تُعد قضية بيئية بحتة يهتم بها العلماء المختصون، ويتباحث حولها رجال ونشطاء البيئة فحسب، وإنما تحولت مع الأيام ومع تفاقم تأثيراتها ووضوح تداعياتها وانعكاساتها الخطرة على المجتمع برمته إلى همٍ اقتصادي كبير يُقلق بال رجال الأعمال والاقتصاد من جهة، ويشكل كابوساً مرعباً يشغل فِكْرَ واهتمام رجال السياسة ومتخذي القرار للعمل على ايجاد الحلول المناسبة والمستدامة لها.

ومن أفضل الأمثلة يمكن ضربها وأكثرها واقعية للاستشهاد بالتهديدات الاقتصادية التي تنجم عن هذه الكائنات الحية الأجنبية الغازية هي سمكة الشبوط أو المعروفة بالكارب الآسيوي(Asian carp) التي هاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

فالولايات المتحدة الأمريكية في السبعينيات من القرن المنصرم عندما كانت الظاهرة غير معروفة وأبعادها غير معلومة، وَقَعَتْ في فخ هذه المشكلة البيئية الدولية، حيث قامت طواعية بإعطاء تأشيرة دخول مفتوحة لهذه السمكة الأجنبية الغريبة على البيئات المحلية، ثم توطينها ومنحها الجنسية الأمريكية وذلك من أجل تربيتها وإكثارها في مزارع الأسماك الواقعة على نهر ميسيسيبي العظيم. ولكن مع الوقت لم يمكث هذا المهاجر الجديد في موقعه، ولم يبق هذا المستوطن الأجنبي في مكانه، وإنما بدأ في دخول بيئات أخرى غريبة عليه، وبالتحديد نهر ميسيسيبي، فعندما يثور النهر، يفيض ماؤه إلى مزارع الأسماك فتختلط الأسماك الموجودة في هذه المزارع كسمكة الكارب الآسيوي بأسماك النهر الفطرية الأصلية، وهكذا بدأت بالعيش والتكاثر في هذه البيئة الجديدة، ثم مع الزمن انتقلت إلى بيئات نهرية أخرى حتى وصلت إلى بيئة البحيرات العظمى، فأوقعت خسائر عظيمة للثروة السمكية والتوازن البيئي في تلك البحيرات. فاضطرت أمريكا إلى تنظيم مؤتمرٍ خاصة لمناقشة تداعيات تجنيس هذه السمكة على أمريكا في فبراير 2010، وأُطلق عليه بقِمة سمكة الكارب(Asian Carp Summit)، ثم بعد القمة قررت إدارة أوباما صرف 80 مليون دولار لمعالجة هذه المشكلة الخطيرة والتحكم في انتشار السمكة في بيئات جديدة، كما قررت وزارة الداخلية سحب الجنسية والإقامة الدائمة لهذه السمكة وتصنيفها كسمكة ” غازية“. بل وإن هذه السمكة أصبحت مطلوبة حية أو ميتة، ووُضِعت مبالغ مالية مجزية لمن يتمكن من أسرها واصطيادها، كما نَظمت الجهات المعنية سباقاً سنوياً وخصصت جوائز كبيرة لمن يصطاد أكبر عددٍ ممكن من هذه السمكة.

وعلاوة على ذلك كله قام الكونجرس في يوليو 2012بتكليف هيئة مهندسي الجيش الأمريكي(Army Corps of Engineers) بإعداد تقريرٍ مفصلٍ عن هذه القضية، وجاء فيه أن علاج هذه القضية بشكلٍ فاعلٍ يُكلف أمريكا قرابة 18.4 بليون دولار، ويستغرق تنفيذه نحو 25 عاماً، وبالرغم من هذه الكلفة العالية إلا أن التقرير أفاد بأن العلاج المقترح لن يعطي ضماناً كاملاً لمنع غزو هذه السمكة كلياً!

وربما نحن في البحرين تعرضنا على مستوى أصغر وأقل تهديداً وخطورة لظاهرة النباتات الغازية، وبالتحديد بالنسبة لشجرة "الكوناكبرس"، أو المعروفة محلياً بـ "الصاروخ" لسرعة نموها وخضرتها الدائمة، حيث تمت زراعتها في الكثير من الحدائق والمنازل، ثم تبين مع الوقت تدميرها لقواعد وأساس المنازل، ودخولها وسدها لأنابيب المياه ومياه المجاري بحثاً عن الماء.

وبالتالي لا بد من أخذ الحذر والحيطة عند إدخال أي كائنٍ حي نباتي كان أم حيواني إلى بيئتنا المحلية، والتأكد من أنه لا يسبب مشكلات لنا، أو لبيئتنا وحياتها الفطرية.