الأحد، 28 يونيو 2015

المفاعل النووي السعودي


أسعدني كثيراً الخبر المنشور في وسائل الإعلام في 24 يونيو من العام الجاري، والذي جاء فيه أن وزير الخارجية الفرنسي أثناء زيارة ولي عهد المملكة العربية السعودية لباريس قد قال: " نحن نسعى لتوسيع قاعدة استثمار الطاقة في المملكة، لاسيما الطاقة النووية، إذ قَدَّمنا دراسة جدوى لبناء مفاعلين نوويين في السعودية، وسنوقع اتفاقاً نووياً لتطوير الطاقة النووية".

 

فأهمية هذا الخبر تأتي في ولوج المملكة العربية السعودية، ودول الخليج لاحقاً، في مجال الطاقة النووية والتعرف على كافة أسرارها التقنية المجهولة لدينا، وفي الوقت نفسه رسم إستراتيجية وسياسة طويلة المدى لأمن الطاقة في المملكة أولاً ودول الخليج ثانياً، من حيث خفض الاعتماد على مصادر الطاقة غير المتجددة كالبترول والغاز الطبيعي، والتوجه من الآن نحو الطاقة المتجددة والنظيفة واعتماد سياسة التنوع في مصادر الطاقة. وعلاوة على ذلك كله، فإن سبر غور خفايا الطاقة النووية، وتعلم كيفية الاستفادة منها والتعامل معها يُعد مصدر قوةٍ لنا ولأمتنا، ومؤشر إرهابٍ للأعداء الذين يتربصون بنا دائماً، ويخفوننا من استخدام هذه الطاقة الذرية التي يمتلكونها ضدنا.  

 

ولكن مشكلة الطاقة النووية في تقديري لا تكمن في الدخول في بحرها المتلاطم الأمواج والخفي والحصول على التقنية والأمور الفنية الأخرى المتعلقة بها والمحاطة عادةً بسرية تامة، فإذا توفر المال يمكن شراء واقتناء أية تقنية مهما كانت سرية، أو محظورة، أو خطرة، ولكن المشكلة الرئيسة للطاقة النووية، والأزمة الحقيقية الدائمة التي عادةً ما يتم تجاهلها من قبل الدول النووية منذ عشرات السنين، هي المخلفات الصلبة وشبه الصلبة التي تنجم عن استخدامها وكيفية التعامل معها بطريقة صحية وبيئية سليمين، سواء أكانت هذه الطاقة النووية مستخدمة لأغراض سلمية كتوليد الكهرباء للمنازل والمصانع والسفن والغواصات، أم لأغراض عسكرية كإنتاج القنبلة الذرية أو الصواريخ النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل.

 

فالدول الصناعية الكبرى التي دخلت في مجال استخدامات الطاقة النووية تواجه منذ أكثر من سبعين عاماً كابوساً مرعباً يجثم فوق صدورها في كل ليلية، ويؤرق ليلها ونهارها، ويشغل بال العلماء، ورجال السياسة، وزعماء الدول، فشتى أنواع مخلفات الطاقة النووية المشعة منذ بزوغ الفجر الأول لاكتشاف أسرار وقوة الطاقة الذرية مازالت تخزن في أراضي هذه الدول في ظروفٍ سيئةٍ وخطيرة، لا تهدد حياة البشر في هذه الدول فحسب، وإنما تحولت إلى آلاف القنابل النووية الموقوتة والمشعة، أو "مخلفات الدمار الشامل"، والتي لأي سببٍ من الأسباب كالتغير المناخي، والفيضانات، أو الزلازل، أو الأعاصير، أو التسربات الطبيعية للمواد المشعة قد تهز الكرة الأرضية برمتها، فتأكل الحجر والشجر وتهدم الأخضر واليابس، وتقضي على كافة أنواع الحياة على وجهها، أو في الأقل تصيب البشر بأمراضٍ مزمنة ومستعصية على العلاج والشفاء.

 

فقد احتار العلم والعلماء، وعجزت عقول البشر في كل أنحاء العالم حتى يومنا هذا في إبداع طرق العلاج المناسبة والسليمة والمستدامة لهذه المخلفات المشعة، سواء أكانت على هيئة قضبان وأعمدة الوقود النووي المستنفد الذي فقدت الجزء الأكبر من قوتها ونشاطها ولكن مازالت مشعة بدرجاتٍ منخفضة، أو كانت على هيئة أسلحة وذخائر وصواريخ قديمة تحمل في بطنها مواد مشعة، أو على هيئة سوائل مشعة استخدمت في تبريد المفاعلات النووية، ولذلك هناك أحجام مخيفة وكبيرة ومرعبة من هذه المخلفات المشعة التي بلغت عالمياً زهاء 270 ألف طن منتثرة ومنتشرة في مواقع ساخنة كثيرة في هذه الدول.

 

وفي المقابل هناك المفاجئات الكارثية التي تُباغت الإنسان وتأخذه على حين غرة، فتنزل علينا بين الحين والآخر وتولِّد أحجاماً هائلة من المخلفات المشعة الغازية والسائلة والصلبة التي عادةً ما تدخل في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة ثم إلى الإنسان دون أن نعلم أبعادها المرعبة على صحتنا وصحة بيئتنا، كما حدث عند احتراق المفاعل النووي في تشرنوبيل في أوكرانيا في 26 أبريل 1986، أو في مفاعلات فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، فالمخلفات الصلبة وشبه الصلبة والسائلة التي نجمت عن الكارثتين مازالت حتى كتابة هذه السطور تبحث عن حلٍ جذري وعلاجٍ مستدام، فهي قنابل نووية موقوتة ومشعة قد تنفجر في أية لحظة. 

 

ولذلك فإنني بِقَدر ما أدعو دولنا عاجلاً وليس آجلاً إلى الاستفادة من الطاقة النووية وتكوين كوادر "وطنية" فنية ومدربة تدريباً عالياً على كافة جوانب هذه التقنية، فإنني أدعو إلى التفكير من الآن في كيفية التعامل مع المخلفات المشعة بكل أنواعها التي تنتج عن استخدام هذه الطاقة، حتى لا نفاجأ بوجودها أمامنا ولا نعرف ماذا نفعل بها!

الخميس، 25 يونيو 2015

أجندة مملكة البحرين الصحية






فمن المعروف الآن واستناداً إلى المجتمع الطبي والعلمي، أن هناك اجماعاً دولياً على أن حرق التبغ على كافة صوره وأشكاله يُعرض الإنسان المدخن وغير المدخن لأخطار صحية كثيرة، وفي مقدمتها أمراض السرطان، والدراسات والأبحاث حول أضرار التدخين لم تقف حتى الآن، فمازالت هناك أبحاث تنشر كل يوم في جميع أنحاء العالم لتكشف لنا عن آثارٍ صحيةٍ جديدة للتدخين، وأبعادٍ خطيرة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، مثل ارتفاع ميل المدخن نحو الانتحار.

وأُقدم لكم على سبيل المثال لا الحصر آخر الدراسات المنشورة التي تؤكد حجم الضرر الصحي والمجتمعي الكبير الذي يسببه التدخين. فهناك دراسة نشرت في 15 يونيو من العام الجاري في مجلة الجمعية الأمريكية للطب(الطب الباطني)، تحت عنوان: "الموت بسبب تدخين السجائر لـ 12 نوعاً من السرطان متعلقة بالتدخين في الولايات المتحدة الأمريكية"، حيث تؤكد الدراسة على أن التدخين يسبب 12 نوعاً مختلفاً من أنواع السرطان، وعلى رأسها سرطان الرئة والذي تم الكشف عنه في الخمسينيات من القرن المنصرم، إضافة إلى سرطان البنكرياس، والدم، والحنجرة، والكلية، والكبد، والمريء، والمثانة، والمعدة، والقولون، والثدي، والبروستات، كما تفيد الدراسة على أن 168 ألف من الأمريكيين يموتون سنوياً بسبب الإصابة للسرطان الناجم عن التدخين. كذلك هناك دراسة منشورة في مجلة أمريكية معروفة هي مجلة نيو إنجلند للطب في فبراير من العام الجاري تحت عنوان: "التدخين والموت: ما وراء الأسباب المعروفة"، وتؤكد الدراسة إصابة المدخن بـ 21 نوعاً من الأمراض المختلفة، والتي بعضها لم يُعرف من قبل بأن سببه التدخين. وعلاوة على هذه الدراسات فإن الجهات الصحية الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى رأسها "الجراح العام"(US Surgeon General)، إضافة إلى منظمة الصحة العالمية تصدر تقارير سنوية حول هذا الوباء القاتل لصحة الفرد وصحة المجتمع.

وانطلاقاً من هذا الاجماع الدولي على أضرار التدخين، واستناداً إلى مبدأ "الوقاية من المرض" الذي ورد في "أجندة مملكة البحرين الصحية: استراتيجية تحسين الصحة"، فإنني أرى أن تطبيق هذه الاستراتيجية وهذا المبدأ الصحي المعروف لن يكون إلا بمنع التدخين بكل أنواعه وأشكال وصوره منعاً باتاً في مملكة البحرين، كمصدر معترف به دولياً من مصادر إصابة الإنسان بأنواعٍ كثيرة من السرطان وأمراض أخرى مزمنة، وإلا فلا جدوى عملية وواقعية من هذه الأجندة التي وضعت أساساً لمنع إصابة المواطنين ووقايتهم من الأمراض وتجنيبهم العادات والسلوكيات وأنماط الحياة غير الصحية.        

الثلاثاء، 23 يونيو 2015

الصَدْمةُ الصامتة


كتابٌ جديد تحت عنوان "الصدمة الصامتة"(Silent Shock) نُشر في استراليا مؤخراً، ويستحق القراءة والتدبر والتأمل، فهذا الكتاب يحكي قصة مأساة بشرية وقعت مشاهدها في الستينيات من القرن المنصرم، واستمرت أحداثها حتى يومنا هذا، فهذا الكتاب لا يتحدث عن خيالٍ علمي مستقبلي، ولا يُقدم رواية مرعبة ومخيفة عن الكوارث الإنسانية التي قد تقع ونشاهد تفاصيلها ومؤثراتها في أفلام هوليود، ولكن أهمية هذا الكتاب تنبع في أنها تخرج من صلب الواقع المعاصر، وتتحدث عن حكاية عشرات الآلاف من النساء والرجال والأطفال وأُسرهم الذين سقطوا ضحية لأخطاء أيادي الإنسان وجَشَعه وحُبه الشديد للربح السريع والوفير على حساب الآخرين.

 

إن هذا الكتاب الواقعي الحزين يحكي آلام الناس ومعاناتهم الشديدة ليس لعامٍ أو عامين، وإنما لعقودٍ طويلة عجاف مَرَّتْ عليهم واستمرت أكثر من خمسين عاماً، فيُقدم صورة حية واقعية لأجيالٍ من الناس وهم يقعون تحت وطأة المرض الغريب الذي لم يشهده أحد من قبل، والذي يتمثل في فقدان بعض أعضاء الجسم، والعيش سنواتٍ طويلة بدون يدٍ، أو رجلٍ، أو أطرافٍ أخرى، فمنهم من لا يستطيع المشي، ومنهم من يستطيع الأكل بنفسه، ومنهم من لا يستطيع القيام بأية حركة وكأنه أصيب بشللٍ تام أَوْقف كل أعضاء جسمه عن الحركة.

 

وغلاف الكتاب الذي رأيته يجسد هذه المظاهر الحزينة والمؤلمة وقسوة الحياة التي تعرض لها هؤلاء البشر، فصورة الغلاف تُبكي النفس ألماً وحسرة، وتحرق القلب الإنسان عندما يراها ويتمعن فيها، فهي تروي صورة طفلة جميلة وهي تبتسم والبشاشة بادية عليها، فكافة أعضاء وجهها مكتملة وشديدة الجمال والكمال، وشعرها ناعم وأشقر اللون، ولكن هذا الوجه الجميل للطفلة البريئة نراها وهي جالسة على كرسي متحرك له حزام كحزام السلامة في السيارات ليمسك بجسدها الصغير حتى لا يسقط، فهي قد فقدت يديها، ولا أرجل لها، أي أنها لا تستطيع الوقوف، أو المشي، فهي قعيدة هذا الكرسي طوال حياتها. 

 

وقد كَتَبَ المؤلف مايكل ماجازانك(Michael Magazanik) الذي كان يعمل محامياً مدافعاً عن هؤلاء الضحايا وأُسَرهم هذا الكتاب بدموع الأمهات البواكي، وآهات اليتامى، وصرخات المرضى والمـُقْعدين، وآلام الأطفال الذين فقدوا أعضاءً من أجسامهم وأصابهم الشلل التام، وسَطَّر أحرف الكتاب من أنين الآباء والأمهات الذين ابتلوا بأطفال مشوهين خَلْقياً ومتخلفين جسدياً وعضوياً، فعليهم رعايتهم والاعتناء بهم طوال سنوات حياتهم.

 

فهذه الطامة البشرية الكبرى نسجت خيوطها في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم عندما أَنْتجت شركة ألمانية دواءً سحرياً فاعلاً لعلاج الحالة المرضية التي تصيب النساء الحوامل أثناء الصباح، ولكن لم يعرف أحد أن هذا العلاج الآني للألم يسبب في الوقت نفسه بعد سنواتٍ آلاماً مزمنة، ومأساة إنسانية مستدامة تصيب هذه المرأة وجنينها والأطفال المولودين بعاهاتٍ جسدية وإعاقات تبقى معهم طوال حياتهم، وبعد سنواتٍ قليلة من استخدام الدواء، حذَّر الأطباء المختصون من تداعياته وآثاره الجانبية المهلكة على الأطفال من خلال اصابتهم باختلالات جسدية غريبة جداً وتشوهات خَلْقية نادرة. ولكن كالعادة فإن هذه الشركات العملاقة التي لا يهمها إلا جمع المال فحسب، لم تستمع لهذه النداءات والصرخات العالية المدوية حتى طفح الكيل، وانكشفت الكارثة أمام الرأي العام، وعندها فقط تم سحب الدواء من الأسواق، أي بعد أن دمر صحة البشر، وأوقع الضحايا بالآلاف في كل أنحاء العالم، وبقيت آثاره المأساوية مشهودة وملموسة منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم وحتى كتابة هذه السطور.

 

وهنا يجب علينا أن نقف ملياً أمام هذه القصة المخيفة ونُدرك أبعادها ونتعلم من هفواتها وخبراتها، ونستفيد من تجاربها، فالدواء كما يُقال شر لا بد منه، ولذلك يجب الحذر الشديد عند استخدامه وتناوله، وبخاصة بالنسبة للدواء الجديد الذي يظهر في الأسواق ويُقدم للناس بأنه الدواء السحري الأُعجوبة الذي يعالج الأسقام ويشفي من الآلام، فمن الضروري على الجهات المعنية عدم الاستعجال، والتأكد من أن هذا الدواء قد خاض التجارب الميدانية التي تُجرى على الأدوية الجديدة، والتثبت من الآثار الجانبية التي يتركها هذا الدواء على المريض، ثم بعد كل هذه الإجراءات الصارمة والدقيقة نُقدم الدواء للمريض، وندعو الله له العلاج والشفاء.

 

 

السبت، 20 يونيو 2015

البابا يتدخل في قضية التغير المناخي


أستطيع أن أُجزم وأؤكد على أن التغير المناخي هي قضية القرن بلا منازع، وهي من أشد القضايا تعقيداً وتشابكاً مع قضايا أخرى شائكة، فبالرغم من أنها تعد في ظاهرها قضية بيئية بحتة وتُعنى بارتفاع درجة حرارة الأرض وتغير المناخ على مستوى الكرة الأرضية، إلا أنها جذبت اهتمام الجميع في كل دول العالم بدون استثناء، سواء الدول الصناعية أم الدول النامية، الدول الغنية أم الدول الفقيرة، كما لَقَتْ اهتماماً مشهوداً وغير مسبوقٍ من علماء البيئة والمناخ أولاً، ثم انتقلت عدوى الاهتمام الآن إلى رجال الأمن، والسياسة، والاقتصاد، حتى بلغت ذروة هذا الاهتمام إلى رجال الدين والزعماء الروحيين وآخرهم بابا الفاتيكان.

 

فقد أصدر البابا فرانسيس رسالة أو منشوراً في 18 يونيو من العام الجاري تحت عنوان: "للعناية ببيتنا المشترك" ويتكون من 180 صفحة وستة فصول وذي غلافٍ أزرق اللون، وهو يعتبر أول وثيقة بابوية رسمية منشورة تصدر في خمس لغات عالمية وتعني بالبيئة، والتنمية ،فيتطرق إلى العديد من القضايا البيئية منها التغير المناخي، والتلوث، وحقوق المياه، والتنوع الحيوي، وانعدام العدالة الدولية البيئية.

 

وقد شدَّد المنشور وركز على قضية التغير المناخي، حيث قال البابا بشكلٍ صريح لا لبس فيه: "التغير المناخي مشكلة دولية ذو انعكاسات كارثية، ولها أبعاد بيئية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية... وتمثل التحدي الرئيس الذي يواجه البشرية في يومنا هذا". 

 

وربما البعد الجديد الذي أدخله البابا لأول مرة في هذا المنشور هو البعد الأخلاقي والاجتماعي للتغير المناخي والذي يتعلق بتحميل الدول الغربية لمسؤولياتها التاريخية في وقوع التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض على مدى قرابة قرنين من الزمن، ودعوة الدول الغربية الصناعية الغنية إلى المساهمة الفعلية والمؤثرة في خفض انعكاسات وتداعيات التغير المناخي على الكرة الأرضية برمتها، أو "بيتنا المشترك"، كما يصفها البابا.

 

فالجانب الأخلاقي للتغير المناخي يبرز من ناحية أن الدول الصناعية الغنية هي التي فجرت قضية التغير المناخي وهي التي ولدت آثارها المدمرة على كوكبنا، فمصانعها التي تشتغل منذ مائتين عام هي التي أطلقت السموم إلى الهواء الجوي وهي التي تسببت في حدوث التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، ولكن في الواقع الذي نراه أمامنا نجد أن الدول النامية الفقيرة هي الأشد تضرراً من تداعيات التغير المناخي الذي سببه الغرب والدول الصناعية في الشرق، والفقراء والمستضعفون هم الذي يقاسون يومياً من آثارها الضاربة في كافة أرجاء الأرض، وهم الذين يعانون من سلبياتها وتهديداتها العامة.

 

فالأغنياء في الدول الصناعية والمتطورة يعيشون في بلدانٍ قد استكملت بناء بِنيتها التحتية وتطورت واشتد عودها وقوت صلابتها، فلا يهزها شيء بسهولة ولا لها القدرة على مقاومة أي تغييرات مفاجئة قد تقع عليها، فهؤلاء الأغنياء والأثرياء في هذه الدول يقطنون في أبراجٍ مشيدة، وعماراتٍ صلبة وشاهقة فلا تصلها الفيضانات، ولا تحركها الأعاصير، ولا تزعزعها الرياح العاتية، ولا تغرقها الأمطار الغزيرة والمتدفقة، ولا تقتلها الحرارة المرتفعة أو البرودة القارصة الشديدة، ولذلك فهم يعيشون في هناءٍ دائم ونعيم فاحش، فلا يتحسسون آلام ومعاناة الشعوب المستضعفة التي تنزل عليهم المصائب وتدكهم المحن الطبيعية، فهؤلاء الشعوب الفقيرة في الدول النامية يعيشون في منازل متهالكة، وبيوتٍ ضعيفة لا تصمد أمام أي تغيرٍ مناخي من طوفان، أو فيضانات، أو أعاصير، أو تيارات مائية قوية تضرب السواحل، ولا يتحملون أي تغييرٍ، ولو كان طفيفاً وبسيطاً في درجات حرارة الأرض، أو ارتفاع مستوى سطح البحر، فمنازلهم البسيطة الواقعة مباشرة على السواحل غير مؤهلةٍ وغير قوية، وليس فيها وسائل الترفيه، أو التبريد، أو التدفئة، أو مقاومة التيارات المائية والرياح العاتية والموجودة في منازل الأغنياء في الدول الكبرى.

 

ومن هذا المنطلق فقد ذكر البابا، وصَدَقَ في قوله: "على الأمم الغنية دفع ديونها للفقراء"، وعلى الأمم الغنية التي استنزفت خيرات الدول الفقيرة، واستغلت ثروات الشعوب المستضعفة عقوداً طويلة من الزمن، وتحكمت فيها، ومازالت، عليها الآن أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية تجاه "بيتنا المشترك"، وتجاه الشعوب الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، وهذه المسؤولية تقع في شقين الأول أُطلق عليه "التوزيع العادل للثروة"، والثاني أُطلق عليه "التوزيع العادل للضرر"، فنريد تطبيق مبدأ العدالة البيئية بين الدول والشعوب، فكلٌ يتحمل عبء المسؤولية من جهة، وعبء الحل من جهةٍ أخرى، وكلٌ حسب دوره ومساهمته في بُروز المشكلة، وظهور تداعياتها الخطرة على البشرية جمعاء والكرة الأرضية برمتها.

 

 

الجمعة، 19 يونيو 2015

قَلَمي للبيع في المزاد العلني



كما أن هناك بعض الكتاب والإعلاميين الذين وضعوا أقلامهم وضمائرهم للبيع في المزاد العلني لكل من يدفع أكثر، ويُقدم لهم العروض الأفضل مادياً ومعنوياً، فباعوا هويتهم وشخصيتهم وأخلاقهم بِعَرضٍ من الدنيا قليل، فإن هناك أيضاً من العلماء والباحثين الذين وضعوا علمهم وخبرتهم وأبحاثهم طواعية تحت أمر وتصرف الشركات والمصانع والأفراد الذين يُجْزِلون لهم العطاء الوفير والمال الكثير ليقوموا نيابة عنهم وباسم "البحث العلمي" بدور ترويج أفكارهم، وسياساتهم، والمساهمة الفاعلة والمؤثرة في تسويق بضائعهم ومنتجاتهم، فتحول هؤلاء العلماء "مرتزقة"، يُطوعون نتائج أبحاثهم لتتناسب مع متطلبات هذه الشركات، ويُخْرجون استنتاجات دراساتهم لتتوافق مع مصالح كل من يدعمهم ويدفع لهم.

وقد أثبتت الوقائع أن مثل هذه الظاهرة قد وقعت مراراً وتكراراً في السابق في مجالات كثيرة، ومنها بالنسبة لمنتجات التبغ بمختلف أنواعها وأشكالها، وبخاصة السجائر. فقد خصصت شركات التبغ العملاقة الملايين من الدولارات لشراء ضمائر العلماء، وتحويل أبحاثهم ودراساتهم لتصُب في عملية التسويق غير المباشرة للتدخين، والترويج للسجائر التقليدية والجديدة كالسجائر الإلكترونية.

فقد قامت كبريات شركات السجائر بتمويل أبحاثٍ كثيرة في شتى علوم الحياة، منها علم الاجتماع، وعلم النفس، والاقتصاد، والطب. فقد نشرت دراسات اجتماعية تفيد بأن التدخين يُكسبك الكثير من الصداقات مع الناس، ويجعلك أكثر جاذبية للنساء، أو أن التدخين يُعمق من رجولتك وصلابتك ويجعلك أكثر حيوية ونشاطاً، ودراسات أخرى تفيد بأن التدخين يرفع عنك الهموم ويزيل عنك مشكلات الدنيا ويريح بالك ونفسيتك، ويخفض من درجة إصابتك بالقلق والاكتئاب. كذلك في مطلع دخول السجائر في الأسواق، خرجت علينا أبحاث "طبية وعلمية" تشكك في الأضرار التي تنجم عن التدخين وتير حولها الشبهات، وكانت كانت هذه الأبحاث المأجورة تؤكد على عدم وجود "إجماع" في المجتمع الطبي على التأثيرات السلبية التي تصاحب عملية التدخين، وأن هناك مبالغة وتضخيم في نتائج الأبحاث التي تدَّعي وقوع الضرر الصحي للمدخن.

واليوم نواجه الظاهرة نفسها ولكن مع قضية بيئية ذات أبعادٍ أمنية، وسياسية، واقتصادية، وصحية، وهي قضية العصر، والمعروفة بالتغير المناخي، أو قضية سخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها. فمنظمات الأمم المتحدة المعنية والكثير من العلماء يؤكدون على أن الملوثات التي تنبعث من أنشطة الإنسان، وبالتحديد عن طريق حرق الوقود الأحفوري كمشتقات البترول، والفحم، والغاز الطبيعي هي التي تسهم بشكلٍ فاعل وكبير في حدوث التغير المناخي وارتفاع درجة الحرارة، وأن على الدول جميعاً مواجهة هذا التحدي الكبير واتخاذ كافة الإجراءات والاحتياطات اللازمة لمنع هذه الانبعاثات من محطات توليد الكهرباء، والمصانع، ووسائل النقل المختلفة، إضافة إلى تجنب استخدام أنواع الوقود غير المتجددة وغير النظيفة كالبترول والفحم. ومثل هذه الإجراءات، لو طبقت، تُكلف شركات الفحم والبترول مبالغ مالية ضخمة وتقلل من أرباحها، ولذلك كان من الضروري على هذه الشركات اتخاذ إجراءات مضادة والوقوف في وجه المنظمات التي تعمل على سن التشريعات المؤثرة على أعمالها وأرباحها.

ومن الوسائل القديمة المتجددة التي تبنتها هي تجنيد علماء وباحثين يُشككون في دور أنشطة الإنسان في وقوع التغير المناخي، وتقديم الدعم المالي السخي لهؤلاء العلماء للتقليل من شأن مساهمة الإنسان وأعماله اليومية في رفع درجة حرارة الأرض، حتى يستمروا في حرق الفحم وجني الأرباح.

ولذلك قرأتُ في السنوات الماضية أبحاثاً تلقي بظلال الريبة والشك على مساهمة الإنسان في التغير المناخي، وفي الوقت نفسه تثير دراسات أخرى تساؤلات وشبهات عمداً تشير إلى الأخطاء التي وقع فيها علماء التغير المناخي وتفيد على أنها مزاعم واستنتاجات لا إجماع علمي عليها. وقد تنبه علماء آخرين إلى هذه اللعبة، فقاموا بإجراء تحقيقات مع البعض من هؤلاء المشككين وسؤالهم عن مصدر تمويل أبحاثهم قبل نشرها في المجلات العلمية المتخصصة. ومن أمثلة ذلك، يتم الآن التحقيق مع أحد الباحثين المعروفين بإنكارهم للتغير المناخي والذي يعمل في مركز هارفرد_سنيثونيون للفيزياء الفلكية(Harvard-Smithsonian Center for Astrophysics) لعدم إعلامه عن مبلغ 1.2 مليون دولار الذي حصل عليها من شركات الفحم والبترول. كما أن مؤسسات النشر مثل الأكاديمية القومية للعلوم التي تنشر مجلة وقائع الأكاديمية القومية للعلوم، ودار النشر العلمي المعروف إلسيفير(Elsevier) صرحوا بأنهم يحققون مع الباحث نفسه حول مصادر وآلية التمويل.  

ولذلك أُحذر من هذه الظاهرة المتفشية وأحذر من مصداقية هؤلاء الكتاب والعلماء المأجورين الذين باعوا كل شيء من أجل الكسب الحرام والمال الزائل.

الأحد، 14 يونيو 2015

السعودية تتجه نحو الطاقة البديلة


قدَّم وزير النفط السعودي علي النعيمي في تصريحات له مؤشراتٍ واضحة تُؤكد على أن السعودية تَضَع أعينها من الآن على مصادر الطاقة البديلة المتجددة والنظيفة، وتعمل على تنويع مصادر الطاقة كخيار استراتيجي لا مَفَر منه، حيث أفاد بأنه يَسْتشرفُ مستقبلاً زاهراً وواعداً للطاقة الشمسية، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن للعالم في هذه المرحلة وعلى المدى القريب التخلي عن مصادر الوقود الأحفوري.

 

ففي المؤتمر الذي عُقد في 22 مايو من العام الجاري في باريس تحت عنوان: "التجارة والأعمال والمناخ"، ألقى وزير النفط السعودي كلمة تدور حول سياسة المملكة العربية السعودية في مجال الطاقة بشكلٍ عام، ودور المملكة في تنويع مصادر الطاقة، واستراتيجياتها في المساهمة في إيقاف مَدِّ التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث قال: "نحن في المملكة العربية السعودية نعترف بأننا في نهاية المطاف، وفي يوم من الأيام لن نحتاج إلى الوقود الأحفوري، ولا أدري متى سيكون هذا اليوم، 2040 أو 2050 أو بعد ذلك، ولذلك بَدأنا في برنامجٍ يهدف إلى تطوير الطاقة الشمسية"، وأضاف قائلاً بأن: "السعودية ستكون قوة دولية في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح".

 

وفي الوقت نفسه، وفي سياق هذا الحديث أكد أنه ليس من الحكمة الاقتصادية والتنموية التوقف الآن عن استخدام الوقود المستخلص من النفط، حيث إن دول العالم واقتصاديات السوق والمصانع ومحطات توليد الكهرباء غير مستعدة وغير مؤهلة تقنياً وفنياً للبدائل غير النفطية المتاحة عملياً وواقعياً في الأسواق. فالمشكلة تكمن حالياً في اقتصاديات الوقود البديل، وفاعليتها، وقدرتها على سد حاجة الدول الصناعية وشهيتها المفتوحة والواسعة للنمو السريع والمتعاظم، وتعطشها إلى توفير الحياة السعيدة والكريمة لمجتمعاتهم وشعوبهم لتحقيق الأمن والازدهار اقتصادي، فمصادر الطاقة النظيفة غير الأحفورية غالية الثمن ومكلفة جداً في الوقت الراهن، ولا تتمكن من لعب دور الوقود الأحفوري في توفير الطاقة على المستوى الدولي الكبير والواسع، ولذلك نجد أن جميع دول العالم التي تستثمر بمبالغ ضخمة في الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، وتضخ أموالاً طائلة لتطوير مصادر أخرى جديدة لم تنجح في توفير الطاقة لمواطنيها ومصانعها ومعاملها، فهي جميعها مازالت تعتمد بدرجة ٍكبيرة ومتفاوتة على مشتقات النفط، والغاز الطبيعي، والفحم.

 

ومن هذا المنطلق فقد أكد الوزير النعيمي على ضرورة تركيز دول العالم في المرحلة الحالية لمواجهة تحديات التغير المناخي على كيفية إدارة الانبعاثات الملوثة للهواء الجوي من المصانع ومحطات توليد الكهرباء التي تعمل بمشتقات النفط، أو الغاز الطبيعي، أو الفحم، والعمل على تطوير طرق إبداعية جديدة لخفض هذه الانبعاثات ومنع حدوث التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، إضافة إلى اتخاذ الإجراءات والوسائل العملية من أجل رفع فاعلية حرق الوقود وعملية تشغيل المصانع ومحطات الطاقة وتوليد الكهرباء.

 

فهذه السياسة في مجال أمن الطاقة يجب أن تتحول من سياسة واستراتيجية سعودية إلى سياسة خليجية، يتبناها مجلس التعاون ويعمل من الآن على تنفيذها معاً لمواجهة كافة الانتقادات التي ستأتي من المنظمات والجمعيات الدولية وبعض الدول الغربية والشرقية. فمن المعروف أن دول الغرب، لحاجةٍ في نَفْسِ يعقوب، تحارب سياسة دول الخليج في اعتمادها على النفط والغاز الطبيعي، وتعمل على الضغط عليها بكافة الوسائل السياسية والأدوات الاقتصادية في كل محفل وفي كل مؤتمر وفي كل اجتماع دولي أو إقليمي، وتحاول إجبار دول الخليج، بِحُجة التغير المناخي، إلى التخلي عن البترول والغاز الطبيعي وإيداعهما وتخزينهما في باطن الأرض، ومنع دول الخليج من استخراجهما والاستفادة منهما.

 

ولكن الغريب في الأمر، أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية يعملون على مَنْعِنا من استخراج ما في باطن الأرض من خيراتٍ وثرواتٍ نفطية لأعمالنا التنموية وراحة شعوبنا، وهم في الوقت نفسه زاد إنتاجهم واستخدامهم للوقود الأحفوري كالفحم، كما ارتفع استخراجهم لما يعرف بالغاز، أو النفط الصخري، والذي يُطلقون عليه بغاز الشيل(shale gas) أو نفط الشيل باستخدام تقنية الفراكينج والحفر الأفقي، أو تكسير الطبقات الصخرية السفلية بخليطٍ من الماء والسوائل والمواد الأخرى.  

 

ولذلك أتمنى من دولنا عدم الثقة بالغرب الذي يتربص بنا دائماً ويسعى لتحقيق مصالحه على حسابنا، وأن نتوحد في رسم سياسةٍ واضحة، وصياغة استراتيجيةٍ مستدامة ترعى أولاً وأخيراً مصالح دول مجلس التعاون في مجال "أمن الطاقة".

 

الأربعاء، 10 يونيو 2015

لماذا يُصر أوباما على رَبْط التغير المناخ بالأمن القومي؟


إصرارٌ شديد وواضح في الأشهر الماضية من الرئيس الأمريكي أوباما على ربط قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض بالجوانب الأمنية، وبالتحديد علاقتها بالأمن القومي الأمريكي، فمن المعروف أن السياسة الأمريكية بشكلٍ عام سواء عند الجمهوريين أو الديمقراطيين تَعْتَبر أن "الأمن القومي الأمريكي" خط أحمر لا يقترب منه أحد، وكل قضية تمس هذا الجانب تحتل المرتبة الأولى في الاهتمام، وتحظى بالرعاية التامة من كافة الأحزاب والجماعات والأفراد، وكل من يختلف، أو لا يوافق عليها ولا يعمل لمواجهتها يُعد خائناً للوطن وللشعب، ومتآمراً عليه، ومتمرداً على الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة الأمريكية.

 

ولذلك يُركز أوباما على تقديم كل الأدلة والبراهين العلمية لإقناع الشعب الأمريكي بأن للتغير المناخي علاقة مباشرة بأمنه وسلامته كمواطن أولاً، وأنه في الوقت نفسه يهز الأمن الوطني الأمريكي على المستويين الداخلي والخارجي، وبالتالي يجب على الجميع التوحد والتوجه نحو وضع السياسات العامة، وسن القوانين، وتحديد الإجراءات التي من شأنها مواجهة هذه الظاهرة ومكافحتها والتغلب عليها.

 

وفي تقديري فإن هذا يُعتبر مدخلاً جديداً، وإستراتيجية إبداعية يتبعها أوباما بعد أن سقطت الاستراتيجيات التي تبناها في السنوات الماضية واحدة تلو الأخرى لتنفيذ سياساته المتعلقة بالتغير المناخي، فالمدخل البيئي الذي اتبعه في أول عهده في الرئاسة فشل فشلاً ذريعاً في إقناع الشعب الأمريكي عامة في مكافحة ظاهرة التغير المناخي،كما لقي معارضة شرسة قوية من الحزب الجمهوري ومن جماعات الضغط المعنية بتوليد الطاقة وشركات الفحم، ثم بعد ذلك تبني مدخل أمن الطاقة ولم يُفلح أيضاً في استقطاب قادة الحزب الجمهوري والرؤساء التنفيذيين لشركات إنتاج الكهرباء والطاقة للموافقة على خططه لخفض تركيز الملوثات التي تنبعث من محطات توليد الكهرباء والمسئولة عن رفع درجة حرارة الأرض.

 

ونتيجة لهذا الفشل الفاضح، لجأ أوباما إلى فكرةٍ جهنمية، ومدخلٍ شيطاني لا يمكن الوقوف أمامه والاختلاف حوله والاعتراض عليه، فالجميع يتفق عليه ويدافع عنه، وهو أمن الشعب على المستوى الفردي، وأمن أمريكا وحمايته على المستوى القومي من أي عاملٍ، أو ظرفٍ، أو ظاهرة تؤثر عليه عن قريبٍ أو بعيد، وبشكلٍ مباشر أو غير مباشر، حتى ولو كان هذه العامل يبعد آلاف الكيلومترات عن أمريكا، كما حدث للغزو "الاستباقي" لأمريكا للعراق، عندما صرح بوش بأن صَدَّام حسين يمثل خطراً على الأمن القومي الأمريكي ولا بد من محاربته في عقر داره.

 

وقد طرح أوباما هذه العلاقة الحميمية بين التغير المناخي والأمن القومي في عدة مناسبات، آخرها في العشرين من مايو من العام الجاري في الخطاب الذي ألقاه في أكاديمية خفر السواحل في مدينة نيو لندن، فقد أكد في خطابه قائلاً: “لا توجد مناعة لأية دول من تداعيات التغير المناخي"، وأضاف قائلاً" أنا هنا لكي أقول إن التغير المناخي يشكل تهديداً خطيراً للأمن الدولي ويمثل خطراً فورياً لأمننا القومي، كذلك فإن له تأثيرات على كيفية قيام الجيش للدفاع عن وطننا.... ولذلك علينا أن نعمل، وأن نحتاج أن نعمل الآن"، وفي الوقت نفسه أكد أوباما على أن التغير المناخي يُعد من أسباب نهوض الحركات الإرهابية مثل بوكو حرام في نيجيريا، كما ساهم في نشوب واستمرار الحرب الأهلية في سوريا.

 

وهذه التصريحات الأخيرة لأوباما تهدف إلى تمهيد الطريق له لقيادة العالم في قمة التغير المناخي في باريس في ديسمبر من العام الجاري والقيام بدور البطل والمنقذ للأرض والبشرية من داء التلوث، فأوباما يريد تَرْك بصماته وأي أثرٍ له يُذكر في صفحات التاريخ المعاصر قبل أن يخرج من البيت الأبيض، فقد فشل حتى الآن في كل المحاولات السابقة، سواء في قضية التأمين الصحي للأمريكيين، أو الاتفاقية النووية مع إيران.

 

ولذلك نصيحتي أُوجهها إلى كل من لديه قضية يدافع عنها، أو موضوعاً يريد أن يرفعه إلى الجهات العليا، فكُلْ ما عليه القيام به هو ربط القضية بالبعد الأمني والجانب المتعلق بالأمن القومي، كما فعل أوباما، وسيَلقى آذاناً صاغية، وسيجد أيادي تمتد إليه لتدعمه وتسند قضيته.

 

 

الاثنين، 8 يونيو 2015

نَهْدم منازلنا بأيدينا ثم نُرممها!


ماذا تقول عن إنسانٍ يُدمر منزله الجميل المتناسق والكامل من جميع جوانبه، والمعطاء منذ سنواتٍ طويلة، فيقوم هو بنفسه، وبيديه، وطواعية منه بهدم هذا المنزل المـُنتج، ثم إعادة بنائه بطرقٍ عشوائية وبتخبطٍ أعمى لا سابقة له؟

 

فهذا في الحقيقة هو الواقع المؤلم الذي نعاني منه الآن ومنذ قرونٍ مضت من حيث تعامل البشر مع بيئتهم ومواردها الطبيعية، وثرواتها الفطرية الهائلة التي سخرها الله سبحانه وتعالى لنا، وعاشت عليها الأجيال السابقة في سلامٍ وأمان، وتوافقٍ واعتدال.

 

فعلى سبيل المثال، لا الحصر، دَمَّر الإنسان البيئات الطبيعية البحرية والموائل الفطرية التي يعيش فيها الأسماك والكائنات البحرية الأخرى، ويتكاثرون في ظلها، ويربون صغارهم تحتها، وعلى رأس هذه الموائل ومن أهمها وأكثرها إنتاجية وأشدها عطاءً وحيوية للإنسان هو الشعاب المرجانية، والتي يعتبرها علماء البحار رئة البحر وثروتها الحقيقية الحية لبني البشر.

 

فقد قام الإنسان لأسباب كثيرة، منها عمليات الحفر والدفان، بكسر ودفن هذه المنازل الحية التي يتغذى هو نفسه على أسماكها ويعيش عليها، ثم بعد هذا التدمير المـُتعمد الذي قام به، أخذ يفكر ملياً في كيفية إعادة الروح والحياة لهذا الجسم الذي أوشك أن يفارق الحياة، أو إنه بالفعل قد مات وتم دفنه، كما صرف المليارات وجنَّد كافة العقول العلمية للوصول إلى كيفية استبدال هذا الجسد الميت بآخر له المواصفات نفسها، ويقوم مقام هذه الشعاب المرجانية الطبيعية المثمرة، ويكون معطاءً كعطاء هذه البيئة الفريدة.

 

ومن بين المشاريع البائسة التي فكر فيها هي التخلص من المليارات المتجمعة من إطارات السيارات التي تتكدس يومياً في كل قرية، وفي كل مدينة، فقام كما حدث في سواحل ولاية فلوريدا الأمريكية في السبعينيات من القرن المنصرم، بوضع الملايين من هذه الإطارات القديمة في عمق البحر، وظن أنه وبهذه البساطة والسذاجة الشديدين سيكون قد خلق شعاباً مرجانية صناعية تُعوضه عن الشعاب الطبيعية التي خلقها الله بقدرٍ واتزانٍ وإبداع شديد، وجعل فيها من مختلف أنواع الكائنات الصغيرة والكبيرة النباتية والحيوانية ليعيشوا مع بعض في نظامٍ دقيقْ، مُتزن ومنتجٍ ومثمر.

 

وبالفعل بعد سنوات شاهد الناس هذه الملايين من الإطارات التي من المفروض أن تُكَوِّن شعاباً مرجانية وهي طافية فوق سطح البحر، مما أدى إلى تكليف فريقٍ من الغواصين لإزالة كل الإطارات سواء التي كانت فوق سطح البحر، أو حتى تلك التي كانت في عمق البحر، وهذه العملية كلفت الجهات المعنية خسائر اقتصادية عظيمة، تمثلت أولاً في وضع الإطارات في بداية المشاريع، ثم مرة ثانية في إزالة هذه الإطارات بعد وضعها.

 

فهل مثل هذه التصرفات يقوم بها عاقل وحكيم؟