الخميس، 25 فبراير 2016

بلاستيك في مُنتجات حلويات "مَارسْ"



أَجمعتْ وسائل الإعلام الغربية على نشر وتحليل هذا الخبر الصادر في 24 فبراير من العام الجاري لما له من انعكاسات في غاية الخطورة تُهدد أمننا البيئي والصحي، ولما له من مردودات شديدة الضرر على صحة فلذات أكبادنا، إضافة إلى ارتباط هذا الخبر بحياتنا اليومية وعاداتنا وسلوكياتنا الغذائية والصحية والبيئية. كما يأتي هذا الاهتمام غير العادي بالخبر في أنه لا يخص دولة واحدة فحسب، ولم تتضرر منه أعداد قليلة من الدول والبشر، وإنما هو متعلق بأكثر من 55 دولة في العالم وملايين البشر الذين يعيشون في كل هذه الدول في أوروبا وآسيا.

ويتلخص هذا الخبر في النشرة الإعلامية التي وضعتها شركة مارس(Mars) العائلية الأمريكية في صفحتها في الإنترنت واعترفتْ فيها بأنها "وَجَدتْ قطعة صغيرة جداً حمراء اللون من البلاستيك في أحد منتجاتها من الحلويات في ألمانيا، وبالتحديد سنيكرز، وقد يؤدي هذا في حالة أكله إلى الاختناق".

ونتيجة لهذا الاكتشاف المخيف فقد قامت الشركة فوراً بسحب نحو أربعة ملايين منتج من الحلوى من 55 دولة منها بريطانيا، فرنسا، هولندا، ألمانيا، بلجيكا، إيطاليا، إسبانيا، فيتنام، سيريلانكا، وهذه المنتجات شملت حلويات مارس، وميلكي واي(Milky Way)، وسنيكرز(Snickers)، وميني ميكس(Mini Mix). وقد أكدت الشركة أن هذا المنتج الفاسد تم تصنيعه في مطلع هذا العام في أحد مصانع الشركة في هولندا وهو مصنع فيجهل(Veghel factory)، علماً بأن التقارير الأولية أفادت بأن هذه الفضيحة قد تُكلف الشركة ما لا يقل عن ثلاثة ملايين دولار، إضافة إلى الخسائر الاجتماعية المتعلقة بسمعة الشركة ومصداقيتها أمام الرأي العام العالمي، وأمام المستهلكين والمحبين لهذه الأنواع من الحلوى.

وهذا الخبر بالنسبة لي يؤكد ويُثْبت ما كتبتُ عنه مراتٍ عديدة في الأشهر الماضية، فنبهتُ إلى خطورة هذه المخلفات البلاستيكية علينا، وحذرتُ من انتشارها في مكونات بيئتنا، وفي أعضاء أجسامنا، وفي الكائنات الحية في البر والبحر والجو، ومنها المقال المنشور في 11 ديسمبر من العام المنصرم تحت عنوان: "مخلفات بلاستيكية في أسماكنا"، واليوم هذا المقال يُكرر نفسه ولكنه اكتشاف جديد تحت عنوان آخر هو " مخلفات بلاستيكية في حلوياتنا".

ففي كل يوم نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام وفي المجلات العلمية المتخصصة عن تغلغل المخلفات البلاستيكية في كل شيء من حولنا، فلم يبق على ظهر الأرض بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا ودخلته المواد البلاستيكية ومنتجاتها التي لا تُعد ولا تحصى، سواء أكان هذا البيت في المدن الحضرية العريقة أو في الأرياف والقرى النائية البعيدة عن المجمعات السكنية الكبرى، فالبلاستيك موجود بين أيدينا، ونراه أمامنا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، ولذلك فالمخلفات البلاستيكية الناجمة عنها تراها الأبصار في كل مكان، فجاءت نتيجة لهذه الظاهرة الحديثة والخطرة دراسات تؤكد وجودها في أماكن ومواقع لا يتصورها الإنسان ولا تخطر على بال البشر مثل أعماق البحار والمحيطات السحيقة والمظلمة، وعلى بعد عشرات الكيلومترات في تربة هذه المحيطات.

فقد صدر تحذير قوي من استفحال تراكم المخلفات البلاستيكية في بحارنا في المنتدى الاقتصادي العالمي(World Economic Forum) في 19 يناير من العام الجاري من عالمة كرَّست حياتها في متابعة مصير المخلفات البلاستيكية التي نلقيها يومياً بعد الانتهاء من استعمالها، حيث أكدتْ فيه أن البحار والمحيطات تحولت إلى مقبرة جماعية للمخلفات البلاستيكية، وأفادت أن معظم المخلفات التي نتخلص منها يومياً يكون مثواها الأخير في البحار، فإما أن تكون على السواحل القريبة، وإما أنها تسرح وتمرح ذهاباً وإياباً فوق سطح البحر، وإما أنها مع الوقت تغوص في أعماقه فتجثم في التربة القاعية، كما أفاد التقرير بأنه بحلول عام 2050 سنشاهد المخلفات البلاستيكية في البيئة البحرية أكثر من مشاهدتنا للثروة البحرية الحية من أسماك وغيرها من الكائنات الحية.

وكل هذه الوقائع حول البلاستيك تفرض علينا وعلى الشركات الصناعية الكبرى اتخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها إبعاد المخلفات البلاستيكية من الدخول في دورة حياتنا والتخلص منها قبل أن نغوص فيها فلا نستطيع الخروج منها.

الثلاثاء، 23 فبراير 2016

من يَقْتل خمسة ملايين إنسان سنوياً؟


هناك حوادث مميتة إذا وقعتْ تهتز لها وسائل الإعلام جميها، فتتحرك فوراً وسريعاً في تحقيق السبق لتغطية تفاصيلها وكل دقائقها لحظة بلحظة، مثل حوادث سقوط الطائرات، أو اصطدام السيارات والقطارات، وفي المقابل هناك مصادر تؤدي إلى قتل ملايين البشر سنوياً فتقضي عليهم مبكراً وهم في سن الشباب، ولكن لا نرى هذه التغطية الإعلامية الحماسية الواسعة، ولا نشاهد هذا الاهتمام المباشر والسريع، وكأن موت الإنسان في حالة سقوط الطائرات أو حوادث السيارات يختلف عن موت الإنسان من هذه المصادر الأخرى.

 

فالدراسات والأبحاث الميدانية حول هذا المصدر القاتل للبشر لم تتوقف منذ أكثر من قرن، والباحثون يكتشفون في كل يومٍ حقائق جديدة ومؤلمة حول التهديدات الكبيرة التي يُشكلها هذا المصدر للإنسان، والحيوان، والحجر، والشجر، ومنها الدراسة الدولية الشاملة والجامعة التي قُدِّمت في المؤتمر العلمي السنوي للجمعية الأمريكية لتطور العلوم في 12 فبراير من العام الجاري، وغطت 188 دولة في الفترة من 1990 إلى 2013.

 

فهذه الدراسة أشارت بأطراف البَنَان إلى هذا الجُرح البشري الذي ينزف منذ عقودٍ طويلة من الزمن، فأكدت على أن تلوث الهواء في البيئات الداخلية كالمنزل والبيئات الخارجية هو الذي يجعل الجرح لا يندمل ويستمر في النزيف حتى الآن، فأشار الباحثون إلى أن أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون إنسان يَلقَون حتفهم سنوياً نتيجة لتعرضهم للهواء الملوث والسام، ويموتون في سنٍ مبكرة وهُم في ريعان شبابهم، سواء من فساد الهواء في البيئات الداخلية التي يعيشون فيها، أو تدهور صحة الهواء في البيئات الخارجية التي يمارسون أعمالهم وأنشطتهم اليومية فيها، كما أكد الباحثون على أن عدد الموتى من تلوث الهواء في ارتفاع مطرد مع الزمن لعدم وجود إجراءات حازمة وجادة لمواجهة مصادر التلوث وخفض انبعاث الملوثات من مصادرها الداخلية والخارجية.

 

أما بالنسبة لأنماط حالات الموت حسب دول العالم، فقد انكشفت حقيقة جديدة لها علاقة بأسلوب التنمية المتبع في مختلف دول العالم ودوره في الحالات المرضية التي يتعرض لها الناس وأعداد الموتى من هذه الأمراض. فمنذ مطلع الثورة الصناعية في الدول الغربية بشكلٍ خاص واستخدام الوقود الأحفوري في توليد الكهرباء والتدفئة في المنازل، ارتفعت نسبة التلوث وتركيز الملوثات في الهواء الجوي، ووقعت كوارث كثيرة سقط فيها عشرات الآلاف من البشر ضحايا للتلوث وللملوثات السامة والقاتلة التي انبعثت إلى الهواء الجوي، وبالتحديد في بعض مدن الولايات المتحدة الأمريكية العريقة، والعاصمة البريطانية لندن، وفي العاصمة اليابانية طوكيو، ثم انتقلت عدوى التلوث والأمراض التي تنجم عنه إلى بعض الدول النامية التي شرعت منذ منتصف القرن العشرين في نمط النمو الذي اتبعته الدول الصناعية العظمى، وهي التنمية المتَعجلة غير المتبصرة، فسارعت في تحقيق النمو الأحادي الجانب وعلى حساب كل القطاعات الأخرى البيئية والاجتماعية والصحية، فسقطت فريسة سهلة في الفخ نفسه الذي هَوَتْ فيه الدول الصناعية المتطورة، ونتيجة لذلك واجهت المصير نفسه، وهو موت البشر بسبب التعرض للهواء السام والملوث والإصابة بالأمراض المتعلقة بهذا التلوث.

 

والصين أفضل مثالٍ يمكن ضربه وتقديمه لهذا النمط من التنمية، ولهذه النتيجة الحتمية التي تنجم عن هذا الأسلوب غير المستدام من التنمية المعوقة وغير الرشيدة. فالصين تواجه منذ سنواتٍ ظاهرة خاصة تتمثل في تشبع الهواء الجوي بالملوثات، ويُطلق عليها الضباب القاتل أو الضباب الضوئي الكيميائي الذي ينزل بين الحين والآخر ضيفاً ثقيلاً على الغلاف الجوي السفلي، فيشل الحياة كلياً في الكثير من المدن الصينية الصناعية، ويُوقف القلب عن النبض في هذه المدن، فيُغلق المطارات، والمدارس والجامعات، ويوقف الحركة المرورية في الشوارع، ويضطر الناس إلى أن يلزموا منازلهم خوفاً من الخروج واستنشاق الهواء السام. وقد تفاقم هذا الفساد النوعي والكمي للهواء الجوي وزادت الضحايا البشرية إلى درجةِ أن الحكومة الصينية، ولأول مرة في تاريخها الطويل والعريق تُعلن "الحرب على التلوث". فهذا الوضع البيئي السيء والمتدهور للهواء كانت له حصيلة ثقيلة، ودفعت الصين ضريبة باهظة كبيرة تمثلت في أبعادٍ كثيرة من أشدها وطأة على الحكومة والشعب هو الارتفاع المشهود في أعداد الموتى الذين يسقطون صرعى بسببه، حيث بلغ العدد حسب الدراسات موت نحو 1.6 مليون صيني سنوياً، وهذا العدد في تزايد مستمر كل سنة.

 

وبعد هذه الحقائق العلمية الدامغة المتواترة التي يجمع عليها علماء العالم كلهم بدون استثناء، أَقِف حائراً ومستغرباً من ردة الفعل الباردة وغير المبالية للدول والحكومات تجاه هذا المصدر المدمر لصحة البشرية في كل أنحاء العالم! 

 

 

الأربعاء، 17 فبراير 2016

عميلٌ لن يموت


العملاء والجواسيس من البشر سيذوقون طعم الموت عاجلاً أم آجلاً، وسيلقون حتفهم بطريقةٍ أو بأخرى، ولكن عميلنا اليوم سيبقى خالداً مخلداً في الأرض لن يموت، وتبقى آثاره ماثلة أمامنا فتظهر بين الحين والآخر لتكشف عن وجوده بيننا، فيُذكر الإنسان بأنه حي يُرزق.

 

فمن هذا العميل الذي لا يموت؟

 

هذا العميل أُنتج في الولايات المتحدة الأمريكية، وصُمم في معاملها ومختبراتها، ثم في مصانعها العملاقة، وتم تسليمه إلى الجيش الأمريكي ليؤدي دوراً محدداً ويقوم بمهمة سرية خاصة، حيث تمثلت مهمة هذا العميل في القضاء على الفيتناميين أثناء حرب أمريكا في فيتنام في مطلع الستينيات من القرن المنصرم، وذلك من خلال طريقتين، الأولى هي إفساد وتخريب المحاصيل الزراعية التي يَقْتات عليها المقاتل الفيتنامي، أي تجويعه وحصاره في مصدر غذائه وأكله، والثانية القضاء التام على الأدغال الكثيفة التي يحتمي فيها ويتوارى عن عيون الطائرات الأمريكية، إضافة إلى تدمير الغابات الفطرية والحشائش العالية التي يعيش فيها.

 

وبعد الانتهاء من تصنيع هذا العميل، تم تخزينه في براميل خاصة ووضِعتْ عدة خطوط ملونة على هذه البراميل، منها اللون البرتقالي، فأُطلق عليه منذ ذلك الوقت، أي قبل نحو ستين عاماً بالعميل البرتقالي، ثم تَم شحنه إلى ساحة المعركة مباشرة ليقوم بمهمته الهجومية القتالية، وبالتحديد إلى قاعدة دان انج الجوية في فيتنام(Da Nang Air Base)، أو إلى قاعدة كادينا الجوية(Kadena Air Base) في جزيرة أوكيناوا(Okinawa) اليابانية التي كانت ترضخ تحت وطأة الاحتلال الأمريكي.

 

وهذا العميل عبارة عن مبيدات سامة تقتل الأعشاب وكافة أنواع الأشجار وتدخل ضمن الأسلحة الكيميائية المحرمة دولياً، وعلاوة على ذلك فإنه عند إنتاج هذا العميل دخلت معه أثناء عملية التصنيع ملوثات أخرى خطرة جداً تُعتبر من أشد الملوثات سمية وهلاكاً للبشر والشجر والحجر يُطلق عليها الديكسين، كما تكمن خطورتها في أنها إذا دخلت في مكونات البيئة من هواءٍ وماءٍ وتربة فإنها تُقاوم التحلل الطبيعي الذي يحدث عادة للملوثات العضوية، أي أنها تبقى ثابتة ومستقرة في أي مكانٍ دخلت فيه، سواء البيئة، أو جسم الإنسان والحيوان والنبات، وتنتقل بكل حرية عبر السلسلة الغذائية من منطقة إلى أخرى، فهي بذلك ستبقى مخلدة في الأرض سنواتٍ طويلة لا تموت.

 

ولذلك بعد أن تم رش قرابة 76 مليون لتر من هذا العميل، أصبح جزءاً لا يتجزأ من تلك البيئة، ودخل مع السلسلة الغذائية حتى بلغ جسم الإنسان، والآن وبعد زهاء 60 عاماً، وبعد أكثر من أربعة أجيال متلاحقة من البشر، مازال هذا العميل ينبض بالحياة، فهو موجود في دماء وأعضاء جسم الناس من الأطفال، والشباب، والشيوخ، حتى الأجنة في بطون أمهاتهن، كما أن هذا العميل حي ليس في بيئة وأجسام الفيتناميين الذين تعرضوا مباشرة للقصف الأمريكي من هذا العميل، وإنما في أجسام عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين أنفسهم الذي عملوا في مجال رش العميل من الطائرات، أو شحن وتفريغ براميل هذا العميل البرتقالي والمعدات والأجهزة التي كانت تستخدم في الرش، أو حتى الجنود الذين قاموا بدفن البراميل الفارغة في فيتنام، أو في العديد من القواعد العسكرية الأمريكية في جزيرة أوكيناوا اليابانية.

 

ونظراً لتغلغل هذا العميل بعمق في البيئة وأجسام البشر على مدى ستة عقود والانعكاسات البيئية والصحية التي هددت الملايين من البشر، فقد قام المتضررون من هذا العميل بتأسيس جمعية عام 2005، أُطلق عليها "جمعية ضحايا العميل البرتقالي"، وتهدف إلى تثقيف المواطنين ورفع درجة وعيهم بخطورة الديكسين ومساعدتهم على رفع دعاوى لتعويضهم عن الأمراض التي يعانون منها، حيث أكدت وزارة الصحة الفيتنامية بأن هناك نحو 17 نوعاً مختلفاً من الأمراض مرتبطة بالعميل البرتقالي مثل سرطان البروستات، والرئة، والسكري من النوع الثاني. وفي المقابل هناك الجنود الأمريكيون الذي مازالوا حتى يومنا هذا يرفعون قضايا ضد الحكومة الأمريكية لتعويضهم عن معاناتهم من الأسقام التي لحقت بهم، ومنهم الجندي الذي كان يعمل في جزيرة أوكيناوا وتعرض لهذا العميل فأصيب بسرطان البروستات وأمراض القلب، حيث وافق البنتاجون في أغسطس 2015 بتعويضه مالياً.

 

وستأتي الأيام والسنون القادمة لتشهد لنا المزيد عن تداعيات هذا العميل الذي لا يموت.

 

 

الاثنين، 15 فبراير 2016

وفاة شابٍ بحريني


فُجعت أسرة هذا الشاب البحريني، وامتلأت ألماً وحسرة، وأصابها جرح لن يندمل عندما شاهدت ابنها فاقداً للوعي وقد سَلَّم رُوحه إلى بارئه وهو جالس في سيارته.

 

فمصيبة الموت التي نزلت على هذه العائلة وعلى هذا الولد وهو في ريعان شبابه، قد وقعت للسبب نفسه في حالاتٍ كثيرة، ليست في البحرين فحسب وإنما في كل دول العالم.

 

فهذا الموت المفاجئ الذي باغت الكثير من الناس كان نتيجةً لحرق نوعٍ من أنواع الوقود الأحفوري، مثل الفحم، أو جازولين السيارات، أو البخور والعود في بيئة صغيرة مغلقة لا يتجدد هواؤها، حيث إن هذه الأنواع من الوقود عندما تحترق تنبعث عنها ملوثات قاتلة ومسرطنة، من بينها غاز عديم اللون، والطعم، والرائحة، ويُطلق عليه بالقاتل الصامت، أو غاز أول أكسيد الكربون.

 

فهذا القاتل الصامت عندما يتعرض له الإنسان عن طريق الأنف، يتحد مع الهيموجلوبين الموجود في الدم ويتحول إلى مركب الأكسي هيموجلوبين السام الذي يمنع وصول الأكسجين إلى خلايا جسم الإنسان، ومع مرور الوقت وعدم وجود الهواء في تلك البيئة، يرتفع تركيز الهيموجلوبين في الدم فيؤدي إلى تسمم الخلايا والاختناق دون أن يحس الإنسان بالألم، أو أن يشعر بالضيق وعدم الارتياح إلا في الثواني الأخيرة عندما تنهار قواه فلا يتمكن من الحركة والمقاومة، فيسقط سريعاً وميتاً.

 

ومن أمثلة الحالات التي قرأتُ عنها، وكتبتُ تفاصيلها وملابساتها من قَبْل هي موت الناس نتيجة لحرق الفحم في المنْقَلة ووضعها في غرفةٍ صغيرة مغلقة طوال الليل، أو خيمة لا توجد فيها أية تهوية، وبخاصة في أشهر الشتاء الباردة، كذلك الجلوس في السيارة وهي مغلقة النوافذ والأبواب ووضعها في الكراج المغلق، ثم جعل محرك السيارة يعمل، مما يؤدي إلى انبعاث القاتل الصامت وملوثات سامة أخرى إلى داخل السيارة فيُسمم ويخنق كل من يجلس في الداخل. وعلاوة على ذلك، فإن عادم السيارات بشكلٍ عام يستخدم، مع الأسف في الكثير من الدول، كأداة صامتة ومفاجئة وقليلة الألم للانتحار.

 

ولذلك فمثل هذه الحوادث المفجعة والحزينة يجب أن تؤكد لنا أن التلوث قاتل، وبخاصة الملوثات التي تنجم عن السيارات، أو التدخين بكل أنواعه وأشكاله وصوره، أو حرق الوقود من محطات توليد الكهرباء والمصانع، ولكن القتل والموت في مثل هذه الحالات يكون تدريجياً وبطيئاً وإفساداً للصحة العامة لجميع الناس.   

السبت، 13 فبراير 2016

أمريكا من دول العالم الثالث!


عنوانٌ غريب جداً اخترته لمقالي اليوم، فلا شك بأن الكثيرين من الذين سيقرؤون هذا العنوان لن يتفقوا معي على أن أعظم وأقوى دولة على وجه الأرض وهي الولايات المتحدة الأمريكية تُعد في تقديري من دول العالم النامي، أو ما يُطلقون عليه دول العالم الثالث، ولكنني على يقين بأن من يقرأ المقال حتى النهاية سيؤيدني على هذا العنوان الذي أطلقته على أمريكا، فكَمَا يقول المثل: “إذا عُرف السبب بَطل العجب".

 

وبالطبع هنا لا أتحدث عن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية في مجال المعلومات، أو التقانات والأجهزة الحديثة، أو تفوقها على دول العالم أجمع في المجالات العسكرية، أو ريادتها في غزو الفضاء واكتشاف أعماقها السحيقة والخفية وسبر غور أسرار الكَوْن البعيد، وإنما أتحدث هنا عن مجالٍ لا نفكر فيه أبداً، ولم يعرفه معظم المواطنين الأمريكيين، ولكن الكوارث والصُدف هي التي كشفت المستور، وأزالت الستار عن ما كان يخفى على المواطن، فكشفت عورة أمريكا للمواطنين بالداخل، وأظهرت سوءتها للناس أجمعين في الخارج.

 

ودعوني أُحيي ذاكرتكم بالكارثة الصحية البيئية التي كَتبت عنها عدة مرات، وبَيَّنتُ أبعادها وتهديداتها للصحة العامة في إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية، وتتلخص هذه الطامة الكبرى التي نزلت على أمريكا في رغبة المسئولين في مدينة فلينت(Flint) في ولاية مشيجان إلى التقشف في المصروفات وخفض الاستهلاك العام وتوفير المال بسبب إفلاس مدينتهم، فقاموا بتحويل مصدرِ مياه الشرب لسكان المدينة من مدينة ديترويت البعيدة عنها إلى المصدر الأرخص ثمناً، وهو نهر فلينت الذي يجري في قلب المدينة، دون الأخذ في الاعتبار جودة هذه المياه ونوعيتها وتأثيراتها الصحية والبيئية على سكان المدينة.

 

ومع الوقت تبين أن هذه المياه التي دخلت كل منزل وشربها يومياً ولعامين أكثر من مائة ألف إنسان أنها ملوثة ومسمومة، فرائحتها عفنة، ولونها برتقالي مائل إلى الصفرة، وطعمها غير مستساغ، بل وأكدت الدراسات المخبرية أن هذا الماء ملوث بعنصر الرصاص، وأن الكثير من أطفال المدينة تشبعت دماؤهم وأجسامهم بهذا الملوث الخطير وتراكمت في عظامهم، كما أن حيوانات المدينة، وبالتحديد الكلاب لم تسلم أيضاً من التسمم بالرصاص.

 

ويُعزى السبب الرئيس في وقوع هذا الكَربْ العظيم في استخدام أنابيب الرصاص القديمة التي أَكَل عليها الدهر وشرب، وعفا عليها الزمن في نقل وتوصيل المياه إلى المنازل، مما أدى إلى تآكل الأنابيب مع الزمن وترشح الرصاص السام إلى هذه المياه وتراكمه في أجسام البشر، وبخاصة الأطفال.

 

فاستخدام أنابيب الرصاص في توزيع المياه انقضى زمانها، وذهب أوانها منذ منتصف القرن العشرين، وأصبحت من الأدوات المتأخرة التي استبعدتها الدول المتقدمة، بما في ذلك الكثير من الدول النامية ودول العالم الثالث، فقد أَجْمَع العلماء على انتهاء صلاحية أنابيب الرصاص من الناحيتين البيئية والصحية، وأكد الأطباء على الأضرار الكبيرة التي تنجم عن استخدامها، ولذلك نحن في البحرين استبدلنا منذ التسعينيات من القرن المنصرم الأنابيب الضارة بصحة الإنسان، وبالتحديد أنابيب الأسبستوس، وتحولنا إلى الأنابيب المصنوعة من الحديد المطاوع والمحْمِيَّة من الداخل بالإسمنت، وهذه تُعد من أحدث التقنيات وأكثرها أمناً في نقل المياه إلى المنازل.

 

فكارثة مدينة فلينت أيقظت أمريكا مرة ثانية، وأحيت لديها الذكريات المؤلمة القديمة، فارتفعت تحذيرات العلماء من جديد، وتَعالت صيحات المواطنين ورجال الإعلام على استخدام هذه الوسيلة الرجعية القديمة والضارة. وجدير بالذكر أن مدينة فلينت ليست هي المدينة الوحيدة التي تعيش في ظلمات العصور السابقة، وإنما هناك مدناً أمريكية كثيرة مازالت متأخرة عن ركب التقدم والتطور، ومازالت تستخدم تقنيات القرون الوسطى المتمثلة في أنابيب الرصاص لنقل مياه الشرب. 

 

وسيبقى الكثير من المواطنين الأمريكيين يعانون من هذه الكارثة لسنواتٍ طويلة قادمة، وستظل أمريكا في نظري من دول العالم الثالث في هذا المجال، فالحكومة الأمريكية الاتحادية لا تعتبر صحة الإنسان وسلامة البيئة قضية ذات أولوية في التنفيذ، ولذلك قامت بخفض الميزانية السنوية لمكتب مياه الشرب التابع لوكالة حماية البيئة بنسبة 15% منذ عام 2006، مما يعني أن هذا الجهاز المسئول عن توفير مياه الشرب السليمة والنظيفة للمواطنين لن يتمكن من استبدال كل أنابيب الرصاص القديمة بأخرى حديثة.

 

والآن هل تتفقون معي على أن أمريكا، بناءً على هذه الحالة تُعد من دول العالم النامي؟

الأربعاء، 10 فبراير 2016

وفاة أمٍ وطفلها


خبرٌ عابر وصغير نشرته صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 25 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "أم وابنها يموتان بسبب التسمم من غاز أول أكسيد الكربون في السيارة"، ولكن بالرغم من صغر مساحة وموقع هذا الخبر في الصحيفة إلا أن له مدلولات صحية وبيئية  عظيمة ومؤثرة تنعكس على المليارات من البشر في كل أنحاء العالم، ويندرج ضمن قضية عامة تُعاني منها كل مدن العالم بدون استثناء، وهي تلوث الهواء من السيارات ودوره في قتل الإنسان وإصابته بالعلل التي يعجز الأطباء عن علاجها.

 

فهذه الأسرة الأمريكية المنكوبة فُجعت وتألمت ألماً شديداً، وعانت من جرحٍ عميق لن يندمل على ما أصابها من مصيبة الموت وفقدان الأم والابن في حادثة واحدة وفي الوقت نفسه عندما تعرض أفراد العائلة للملوثات التي تنبعث من السيارات، وبالتحديد الغاز الصامت، أول أكسيد الكربون، الذي لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة، فيقضي هذا القاتل الصامت على الإنسان، ويباغته فجأة دون أن يحس بوجوده، وبدون أن يشعر بالألم كثيراً وهو يذوق طعم الموت. 

 

فالرياح الثلجية الصرصر العاتية هزَّت أركان أكثر من 13 ولاية أمريكية لأكثر من أسبوع في نهاية شهر يناير من العام الجاري، وشلت حركتها، وأغلقت مدارسها ومجمعاتها، وتوقفت الحياة فيها أياماً طويلة، وأُعلنت حالة الطوارئ الاتحادية في مدنها وقراها، ثم بعد أن هدأت العاصفة وسكنت الرياح، خرج الناس من منازلهم ليتفقدوا خسائرهم والدمار الذي نزل على بيئتهم، ويزيلوا الثلوج التي خيمت فوق سياراتهم، فغاصت فيها، وغطتها كاملة.

 

ومن هؤلاء الناس الذين خرجوا من بيوتهم، أُسرة بأكملها تعيش في مدينة باسياك(Passaic) بولاية نيوجيرسي، ومكونة من رجلٍ وزوجته وطفل رضيع عمره سنة واحدة، وبنت تبلغ من العمر ثلاث سنوات، فقال الرجل لامرأته أدخلي السيارة مع الأطفال، وأشغلي محرك السيارة، وابقي معهم للهروب من البرد في الخارج وللحصول على قسطٍ من الراحة والدفء بالجلوس في السيارة. وأثناء وجود الأسرة في السيارة ومحرك السيارة يعمل، قام رب الأسرة بإزالة الثلوج من فوق السيارة، واستغرقت العملية نحو نصف ساعة، ثم ذهب بعدها إلى السيارة ليُحركها ويخرج مع الأسرة في نزهةٍ قصيرة، فصُعق بالمنظر الرهيب الذي رآه أمامه، وكاد أن يسقط مغشياً عليه من هول المشهد، فقد شاهد أسرته واقعة على كراسي السيارة دون أية حركة، أو أي نبضٍ للقلب يشير إلى أنهم أحياء، فسارع إلى الاتصال بالطوارئ وسيارات الإسعاف التي هرعت إلى المكان فوجدت الأم وطفلها قد سلما الروح لبارئهما، ولكن الطفلة الصغيرة مازالت حية ولكن في حالةٍ صحيةٍ خطيرة جداً فنقلت فوراً إلى المستشفى.

 

فماذا حدث خلال هذه الدقائق البسيطة التي خرج فيها الرجل لإزالة الأكوام الثلجية من فوق السيارة؟

 

فعندما أَدَار هذا الرجل محرك السيارة لم يعلم بأن الثلوج قد سَدَّت وأغلقت أنبوبة عادم السيارة التي تخرج منها الملوثات إلى الهواء الجوي، ولذلك فالسموم القاتلة التي كانت تنجم عن حرق الجازولين في السيارة لم تجد لها منفذاً للخروج، ولم تجد طريقاً لها إلى خارج السيارة، فكانت طوال هذه الدقائق ترجع مرة ثانية إلى داخل السيارة، فتتراكم في هذه البيئة الضيقة المغلقة حيث تجلس المرأة مع طفلها وابنتها، حتى وصلت هذه الملوثات القاتلة، وفي مقدمتها غاز أول أكسيد الكربون إلى الدرجة الحرجة، فقضى فوراً على المرأة وطفلها.

 

فهذه الفاجعة التي نزلت على هذه الأسرة فغيرت كلياً مسيرة حياتها، يجب أن تؤكد لنا جميعاً بأننا كُلنا قد نتعرض لمثل هذه المحنة وتصيبنا هذه الطامة الكبرى، كما يجب أن تثبت لنا بما لا مجال فيه للشك بأن الملوثات التي تنبعث من الملايين من السيارات في كل أنحاء العالم قاتلة للبشر، وتُسقط الإنسان في فخ الأمراض الحادة والمزمنة، وتصينا بالأسقام المستعصية عن العلاج.

 

فمنظمة الصحة العالمية تحذر منذ سنوات من ظاهرة تلوث الهواء من عوادم السيارات، وتنشر الإحصاءات تلو الإحصاءات في كل مناسبة لتؤكد بأن الهواء أصبح مسرطناً بسبب دخان السيارات، وأن هناك أعداداً مهولة من البشر في جميع دول العالم تموت موتاً مبكراً نتيجة للتعرض اليومي المستمر للملوثات التي تنبعث من السيارات.

 

فهل نستجيب لصرخات منظمة الصحة العالمية وللواقع الصحي والبيئي الصعب الذي نعيشه، أم نتجاهلها فتنشر أسماؤنا في قائمة إحصاءاتها المتعلقة بأعداد الموتى من السيارات؟

الاثنين، 8 فبراير 2016

طهران تُلغي مباريات كرة القدم!


اضطرت السلطات المعنية بتنظيم الدورات الرياضية، وبخاصة كرة القدم الانصياع لتحذيرات وزارة البيئة والصحة في طهران التي تدعو السكان إلى تجنب الخروج من منازلهم وعدم ممارسة الأنشطة خارج المنزل، فقام اتحاد كرة القدم استجابةً لهذه النداءات العاجلة والطارئة إلى إلغاء مباريات كرة القدم التي كانت ستقام في 27 ديسمبر من العام المنصرم ضمن الدوري الممتاز إلى أجلٍ غير مسمى.

 

وقد كان السبب في هذا التأجيل الحاسم للمباريات هو نزول ضيفٍ ثقيل على البلاد، وانكشاف سحبٍ صفراء بنية اللون في سماء طهران مشبعةٍ بالملوثات السامة والخطرة، بحيث أدت هذه الغيوم القاتلة إلى انعدام الرؤية في الشوارع، وإغلاق المدارس، وتوقف بعض المصانع عن العمل، وإعطاء إجازات إلزامية للسكان.

 

وهذا الضيف الثقيل على بيئة طهران لم ينزل مرة واحدة ودون سابق إنذار، وإنما يَـحِل بها بين الحين والآخر، فيفسد هواءها، ويُعكر صفو سمائها، ويَشل حركة العِباد ووسائل المواصلات، ويدخل الآلاف إلى المستشفيات وأقسام الطوارئ طلباً للعلاج والدواء، وينقل المئات إلى مثواهم الأخير، وقد تفاقمت هذه الظاهرة البيئية الصحية في طهران إلى درجةٍ لا تتحملها أجسام البشر ولا تستقيم لها حياة الكائنات الحية الأخرى، حتى أن الكثير من نواب الشعب دخلوا إلى مبنى مجلس النواب في 16 فبراير من العام المنصرم وهم يرتدون الكمامات والأقنعة التي توضع على الأنف والفم احتجاجاً على هذا الوضع البيئي والصحي المأساوي والمتأزم، وعدم قيام الحكومة باتخاذ خطوات جادة وحازمة لعلاج هذه الأزمة المستدامة.

 

وجدير بالذكر أننا كُنَّا نظن بأن هذه الظاهرة البيئية المـَرضِية مقتصرة على المدن الصناعية الغربية العريقة وأنها مشكلة وحالة فريدة من نوعها لا نراها إلا في سماء الدول الكبرى المشبعة بالمصانع ومحطات توليد الكهرباء وملايين السيارات ووسائل النقل الأخرى، وكنا نَعتبر أنفسنا وبيئتنا بمنأى عن هذه الحالة الغربية، ولكننا أصبحنا الآن نشاهد هذا الفيروس الغربي ينتقل إلينا يوماً بعد يوم، فيُعدي أجسامنا ومكونات بيئتنا، وينتشر في مُدننا رويداً رويدا  كانتشار النار في الهشيم. 

 

ولذلك نجد بأن هذه الظاهرة الخطرة والسحب المميتة باتت تَطْرق أبوابنا، فهي الآن قريبة منا جداً وقد تنزل علينا في أية لحظة وفي أي وقت، فنتعرض لانعكاساتها المدمرة لأعضاء بيئتنا وكائناتها الفطرية الحية وغير الحية، ونُصاب بما أصاب الشعوب الأخرى من أمراضٍ مزمنة، وعللٍ مستعصية على العلاج، والموت المبكر لشبابنا وفلذة أكبادنا.

 

فهل نحن مستعدون لمواجهتها؟ وماذا أَعددنا لها؟ وهل اتخذنا الإجراءات والاحتياطات اللازمة لنَمْنع عن أنفسنا وبيئتنا شر الوقوع في شباك هذا المرض المعدي والقاتل؟  

 

 

السبت، 6 فبراير 2016

مع ظاهرة اختفاء البحيرات، فهل سيكون خليج توبلي منها؟


ظاهرة جديدة وفريدة من نوعها بدأت تنكشف خيوطها منذ مطلع القرن العشرين في بعض دول العالم،  وتتضح ملامحها وأسبابها أكثر يوماً بعد يوم، حتى تحولت هذه الظاهرة الغريبة إلى واقعٍ يوميٍ مشهود لا يمكن تجاهله، أو غض الطرف عنه، فأبعاده السلبية شملت ملايين البشر، وأثَّرتْ على معاشهم ومورد رزقهم اليومي، وتعدت أضرارها فغطت مساحات واسعة من الكرة الأرضية.

 

وأصبحت هذه الظاهرة الآن كالمرض المعدي الذي ينتقل من إنسان إلى آخر، أو من مدينةٍ إلى مدينة أخرى حتى ولو كانت تبعد عنها آلاف الكيلومترات، ففيروسات هذا الداء العُضال بدأت تنتشر كانتشار النار في الهشيم، وتزداد ضراوتها على البيئة والإنسان مع الوقت.

 

فأول بذرةٍ خبيثة غُرست في الأرض وأدت إلى انكشاف هذه الظاهرة كانت أيام الاتحاد السوفيتي ورغبتهم في تكوين إمبراطورية زراعية مُعتمدة على "الذهب الأبيض" أو القطن، فشقوا قنواتٍ وأخاديد عظيمة في وسط صحراء كازاخستان(Kazakhstan) الجرداء القاحلة في الخمسينيات من القرن المنصرم، بلغ طولها أكثر من من 47 ألف كيلومتر، وتم ملء هذه القنوات بالمياه العذب الزلال بعد تحريف مجرى نهرين كبيرين هما آمو دريا(Amu Darya) وسير دريا(Syr Darya)، واللذان كانا يُغذيان بحيرة آرال(Aral Sea)بالماء النقي الفرات السائغ شرابه، فكانا بمثابة الشريان الدموي الذي يمد قلب البحيرة بالدم والحياة، فيستمر نبضه وقوته، وتستديم حياة قرابة 60 مليوناً من البشر والحياة الفطرية في تلك المنطقة المزدهرة بالحياة.

 

فبحيرة آرال كانت رابع أكبر بحيرة مثمرة ومنتجة في العالم، فمساحتها قرابة 68 ألف كيلومتر مربع، أي  أكبر من مساحة البحرين بنحو 93 مرة، ومع الوقت، ومع استنزاف الملايين من الجالونات يومياً من مياه النهرين للأراضي الزراعية، انخفضت أحجام المياه التي تصل إلى قلب البحيرة، حتى أخذ قلبها يضعف رويداً رويداً، وبدأت عروقها تجف وتصطلب ونبض القلب يضطرب ويخف يوماً بعد يوم، فوصل إلى درجة حرجة اضطرت الأطباء إلى إدخالها إلى غرفة الانعاش وتركيب الأجهزة الصناعية عليها لإعادة نبضها وضخ الدم إلى شرايينها.

وبالرغم من هذه العمليات الجراحية الطارئة التي أُجريت عليها إلا أن هذه البحيرة العظيمة تحولت الآن إلى مستنقعات مائية آسنة متشتتة ومتفرقة وغير مترابطة ولا تزيد مساحتها عن تسعة آلاف كيلومتر مربع فقط، أي فقدت نحو 90% من جسمها الحي، حتى أن البعض من هذه البحيرات الصغيرة نضب ماؤه كلياً، فجفَّ وتصحر، وماتت معه كافة أنواع الحياة البرية والمائية وتعطلت مصالح الملايين من البشر الذين عاشوا أجيالاً متلاحقة على خيرات وثروات هذه البحيرة.

 

ثم نَحط الرِحال ثانية على بحيرة أخرى وفي قارة ثانية وهي بحيرة بووبو(Lake Poopo) المالحة التي كانت ثاني أكبر بحيرة في بوليفيا في قلب قارة أمريكا الجنوبية، فمساحتها أكبر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع وتقع في أعالي السماء على ارتفاع أكثر من 12 ألف قدم، وهي الآن تلقى نحبها، وتنتقل إلى مثواها الأخير، وتَجُر معها عشرات الآلاف من البشر الذين اعتمدت حياتهم اليومية ورزقهم وقوت أهليهم عليها، وتحولوا الآن إلى لاجئين يمدون أيديهم إلى الناس طلباً للمساعدة، فاليوم دخلت البحيرة ضمن قائمة البحيرات المنقرضة ولن تقرأ عنها الأجيال القادمة إلا في كتب التاريخ.

 

أما محطتنا الثالثة فهي قريبة منا، وبالتحديد في بحيرة أروميه(Lake Orumieh) الواقعة بين مدينتي تبريز(Tabriz) وأورميه في منطقة أذربيجان الصحراوية شمال غرب إيران على الحدود التركية، فالكارثة نفسها قد وقعت هناك أيضاً، فهذه البحيرة المالحة التي تبلغ مساحتها قرابة 5200 كيلومتر مربع، والتي تُعتبر من أكبر البحيرات على وجه الأرض، وتم تسجيلها ضمن قائمة اليونسكو للمحميات الحيوية، قد أوشكت الآن على الانقراض وفقدت زهاء 60% من مساحتها.

 

والآن أَشُد الرحال للذهاب إلى محطتنا الرابعة والأخيرة وهي موجودة في عقر دارنا ونشاهدها كل يوم ونسير بالقرب منها، ولكن لا أجد من يتحسس معاناتها، ولا أجد من يشعر بآلامها وبما تمر بها من فسادٍ يومي لأعضاء جسمها، وخسارةٍ لمساحتها، ودمارٍ لشرايينها، بحيث أصبحت تهدد بقاءها واستدامة حياتها، وهذه المحطة هي خليج توبلي.

 

فهذا الخليج يقاسي من الظروف نفسها التي أدت إلى تدهور وانقراض البحيرات التي تحدثتُ عنها، فهل لخليج توبلي المناعة القوية التي تمنعه من السقوط في الهاوية التي لحقت باقي البحيرات، أم أن مناعته ستضعف مع الزمن ولن يتمكن من مقاومة الضغوط المستمرة عليه، فيَلقى المصير نفسه؟

 

الثلاثاء، 2 فبراير 2016

قريباً سنصطاد البلاستيك من البحر بدلاً من الأسماك!


هل سيأتي علينا اليوم الذي إذا رَمَينا فيه السِنَّارة، أو الخيط، أو الشباك لصيد الأسماك في البحر، فإننا سنصطاد كوباً من البلاستيك، أو ملعقة بلاستيكية، أو أكياساً بلاستيكية بدلاً من الأسماك؟

 

وهل سيأتي علينا زمان إذا وضعنا فيه القراقير في البحر أو الحظرة فكل ما سنحصل عليه ونصطاده هو خليط من المواد البلاستيكية الاستهلاكية التي كُنا نستعملها يوماً ما في السنوات الماضية في منازلنا أو مكاتبنا؟

 

نعم، فهذا اليوم آتٍ قريباً، وهذا الزمان سنَشهدُه جميعاً، فإذا تعمقنا في واقعنا الحالي غير المبَّشر بخير، واسترشدنا بالدراسات الميدانية والأبحاث العلمية حول مشكلة وحجم المخلفات البلاستيكية في البيئات البحرية خاصة، فسنتأكد بأن هذا اليوم قادمٌ لا محالة، ولا مفر منه إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن.

 

فقد صدر تحذير قوي من استفحال تراكم المخلفات البلاستيكية في بحارنا في المنتدى الاقتصادي العالمي(World Economic Forum) في 19 يناير من العام الجاري من عالمة كرَّست حياتها في متابعة مصير المخلفات البلاستيكية التي نلقيها يومياً بعد الانتهاء من استعمالها، وهذه الباحثة هي إلن ماك آرثر(Ellen MacArthur) التي نَشَرتْ تقريراً مفصلاً في المنتدى الاقتصادي، وأكدتْ فيه أن البحار والمحيطات تحولت إلى مقبرة جماعية للمخلفات البلاستيكية، وأفادت أن معظم المخلفات التي نتخلص منها يومياً يكون مثواها الأخير في البحار، فإما أن تكون على السواحل القريبة، وإما أنها تسرح وتمرح ذهاباً وإياباً فوق سطح البحر، وإما أنها مع الوقت تغوص في أعماقه فتجثم في التربة القاعية، كما أفاد التقرير بأنه بحلول عام 2050 سنشاهد المخلفات البلاستيكية في البيئة البحرية أكثر من مشاهدتنا للثروة البحرية الحية من أسماك وغيرها من الكائنات الحية.

 

فهذا التقرير يستقي استنتاجاته من الواقع المؤسف الذي تعاني منه البيئات البحرية ومن الحقائق المتعلقة بإنتاج واستهلاك البلاستيك في كل دول العالم، فمنذ الأربعينيات من القرن المنصرم عند الشروع في صناعة المنتجات المصنوعة من البلاستيك وولوجها في أبواب بيئتا واستبدالها للكثير من العناصر التقليدية كالرصاص، أو الحديد، وانفرادها بخصائص خارقة، ومميزات فريدة، ومنافع لا تُعد ولا تحصى، فقد ارتفع إنتاجها من 15 مليون في عام 1964 إلى 311 مليون عام 2014، وتُقدر الدراسات أن هذه الكمية ستتضاعف خلال العشرين سنة القادمة.

 

وتحولت المواد البلاستيك الآن إلى منتجات ضرورية وأساسية لا يمكن أن يستغني عنها أي إنسان أينما كان، وهذا الاستخدام المتزايد انعكس على كمية وأحجام المخلفات التي نرميها مع القمامة، فملايين الأنواع من المنتجات الاستهلاكية تجد طريقها، ولو بعد حين في أعضاء بيئتنا، سواء أكانت الأكياس البلاستيكية الخفيفة التي تتطاير في السماء فتُزين الأشجار على أوراقها وأغصانها، أو المخلفات البلاستيكية الأخرى التي نراها في المناطق الصحراوية، أو التي تسبح على سطح البحر فتنزل مع الوقت في أعماقه وتستقر فوق سطح تربته وتصبح جزءاً من تركيبه الدائم، وأحياناً كثيرة نشاهد هذه المخلفات في بيئاتٍ نائية وبعيدة عن أيدي البشر وأنشطته الإنمائية، مثل القطبين الشمالي والجنوبي، وفي البراري الموحشة والمقفرة، وفي أعماق البحار السحيقة والمظلمة، وأخطر ما في هذه القضية هي المخلفات البلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم والتي بعضها لا يمكن مشاهدته بالعين المجردة فيدخل في أجسامنا عن طريق السلسلة الغذائية البحرية دون أن ندري، ويُطلق عليه العلماء الميكروبلاستيك(microplastic particles)، حتى أن العلماء نشروا أبحاثاً حول "دورة البلاستيك" في الطبيعة، كالدراسة المنشورة في 22 يناير من العام الجاري في مجلة(Anthropocene) تحت عنوان "الدورة الجيولوجية للبلاستيك".

 

ولذلك فالشواهد الميدانية والدراسات التطبيقية كلها تؤكد بأننا نقف أمام بركانٍ سيثور من المخلفات البلاستيكية التي تتفاقم خطورتها كل ساعة وتهدد أمننا البيئي والصحي، وإذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه الآن فسيثور وينفجر قريباً على رؤوسنا ويفسد علينا حياتنا، وبالتالي لا بد من العمل على خفض كمية هذه المخلفات عن طريق تصميم مواد ومنتجات بلاستيكية قابلة للتحلل الحيوي عند دخولها في البيئة إلى مواد غير ضارة، أو أنها تكون قابلة للتدوير وإعادة التصنيع بعد انتهاء عمرها.