الخميس، 31 مارس 2016

الحَمَامْ يتصدر المشهد البيئي



كُل من زار العاصمة البريطانية لندن في السنوات الماضية فلا شك بأنه قد رأى منظر أسراب الحمام وهي تطير في الميادين والساحات الكبرى ومحطات القطار للفت عناية السياح الأجانب والمقيميين، وبخاصة الميدان التاريخي الشهير الواقع في قلب لندن والمعروف بـ ترافلجارسكوير(Trafalgar Square)، أو ساحة الطرف الأغر.

ولكن اليوم إذا رأيتَ الحمام وشاهدت الأسراب الكثيرة منها وهي تحوم في وسط لندن وتطير في أجوائها من منطقةٍ إلى أخرى، فهي ليست في مهمة لجلب السياح وجذب انتباههم ورعايتهم، وإنما هي الآن قد تم تكليفها بمهمةٍ أخرى جديدة وهي تصب كلياً في علاج وتشخيص إحدى المشكلات البيئية البحتة المزمنة التي تعاني منها لندن منذ سنوات ويقاسي السكان من تداعياتها المزمنة القاتلة.

فقد تم تجهيز وتدريب وإعداد فريق متخصص من الحمام للقيام بدوريات هوائية فوق مناطق محددة في وسط لندن، كما يقوم الشرطة بدوريات أمنية في الشوارع والأحياء والمجمعات للاطمئنان على سلامة وأمن المواطنين والمقيميين، وأُطلق على الفريق "دَوْرية الحمام الهوائية"(Pigeon Air Patrol)، فكل واحد من فريق الحمام يُعد شرطياً بيئياً يراقب جودة الهواء الجوي ويتعرف على نوعيته من ناحية كمية ونوعية الملوثات الموجودة في الهواء الجوي، كما يقوم بمهمة قياس تركيز الملوثات في الهواء وإرسال المعلومات إلى أجهزة خاصة موجودة على الأرض.

فقد تم وضع مجسات وأجهزة مراقبة محمولة و"شخصية" صغيرة الحجم وخفيفة الوزن فوق ظهر كل فرد من أفراد فريق الحمام المتكون من عشرة حمامات، حيث تقوم هذه الأجهزة بقياس تركيز الملوثات في منطقة وسط العاصمة والساحات والميادين العامة الكثيفة بالناس، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد النيتروجين، والأوزون، والمركبات العضوية المتطايرة، ويمكن لكلِ مواطن ومُقيم التعرف على جودة الهواء في أية منطقة فوراً وبشكلٍ مباشر من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي مثل "التويتر".

ويأتي هذا الاهتمام بجودة الهواء ومعرفة تركيز ونوعية الملوثات لعدة أسباب رئيسة، منها أن التقارير العلمية على مستوى بريطانيا وعلى المستوى الدولي أكدت بأن تلوث الهواء الجوي يؤدي إلى موت الإنسان موتاً مبكراً، حيث حذرت الجمعية الملكية للأطباء في بريطانيا أن قرابة 40 ألف بريطاني يموتون سنوياً في بريطانيا، منه نحو 9500  لندني وذلك نتيجة للتعرض على مدار السنة لمستويات مرتفعة من الملوثات السامة والمسرطنة، كما أكدت منظمة الصحة العالمية أن زهاء سبعة ملايين إنسان يلقون نحبهم في سنٍ مبكرة من أمراض متعلقة بتلوث الهواء الجوي.

وعلاوة على الجانب الصحي المتعلق بتلوث الهواء وتدهور نوعيته، فإن محاكم الاتحاد الأوروبي تلاحق بريطانيا منذ سنوات لعدم التزامها بالمعايير الأوروبية لجودة الهواء الجوي وتجاوز بعض الملوثات للمواصفات الأوروبية الخاصة بنوعية الهواء وارتفاع تركيزها في الهواء الجوي، علماً بأن المحاكم الأوروبية فرضت غرامات مالية كبيرة على بريطانيا لعدم الوفاء بتعهداتها البيئية الخاصة بجودة الهواء.

وفي الوقت نفسه فإن هناك ملاحقات قضائية لبريطانيا من عقر دارها، حيث قامت العديد من منظمات المجتمع المدني البيئية برفع دعوى قضائية في المحكمة العليا ضد وزارة البيئة، والغذاء، والشؤون القروية لتقاعسها عن حل مشكلة تلوث الهواء وتدهور جودته، وعدم اتخاذ الإجراءات الحازمة والحاسمة لخفض تركيز الملوثات في الهواء الجوي، وبخاصة في المدن العريقة الكبرى وعلى رأسها العاصمة لندن، علماً بأن المحكمة العليا أصدرت أمراً في أبريل 2015 تُلزم الجهات الحكومية على وضع خطة زمنية قابلة للتنفيذ تهدف إلى تحسين نوعية الهواء وخفض مستوى الملوثات.

وقد وصلت بريطانيا إلى هذا المستوى البيئي المتدني والخاص بفساد نوعية الهواء بسبب تجاهلها وإهمالها لهذه القضية البيئية الصحية لسنواتٍ طويلة، وعدم محاولة علاجها وهي في مهدها وفي بداياتها، مما أدى إلى تفاقمها مع الزمن وبلوغها درجةٍ مزمنة يصعب حلها، ولذلك علينا في البحرين الاستفادة من هذه التجربة البريطانية والتعلم من خبراتها والعمل على الاهتمام بنوعية هوائنا قبل فوات الأوان.


الأربعاء، 23 مارس 2016

أطفال يَرْفَعُون دعْوى ضد أوباما


21 طفلاً وشاباً أمريكياً يمثلون عدة ولايات أمريكية يَتَحدون الحكومة الأمريكية ويرفعون صوتهم ويقيمون دعوى قضائية في التاسع من مارس من العام الجاري في إحدى محاكم ولاية أوريجن(Oregon) ضد رئيسهم أوباما والعديد من المؤسسات الاتحادية بسبب تقاعسهم عن حماية الأرض وحماية الولايات المتحدة الأمريكية من تداعيات التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

 

فلماذا التركيز إذن من أطفال أمريكا على هذه القضية بالتحديد، ولماذا هذا الاهتمام الكبير والمباشر بمشكلة التغير المناخي دون سواها من القضايا البيئية الكثيرة والمتعددة؟

 

فمن المعلوم أن القضايا البيئية تختلف من عدة نواحي، منها النطاق الجغرافي لتأثيراتها السلبية الضارة، فمنها ما لا تتعدى مردوداتها الخطرة حدود المدينة أو الدولة نفسها، أي أن الأضرار تقع في حدود جغرافية ضيقة، ومنها ما تغطي آثارها الكرة الأرضية برمتها مثل التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. كذلك هناك قضايا بيئية تقع انعكاساتها على الإنسان والبيئة وبشكلٍ مباشر وبعد فترةٍ قصيرةٍ من الزمن وضحاياها يسقطون فوراً وأمام أعيننا، ولذلك لا تتأثر بها الأجيال القادمة، وفي المقابل نُعاني الآن من مشكلات بيئية "مستقبلية"، أي أن مردوداتها وتهديداتها تكون بعد فترة طويلة نسبياً من الزمن، فربما الجيل الحالي لن يشهد هذه المخاطر الناجمة عنها، وإنما ستقاسي منها الأجيال القادمة من أطفالنا وشبابنا وستكون الأجيال اللاحقة المتضرر الأول والمتألم الرئيس من تداعيات وقوع هذه القضايا، وعلى رأسها قضية التغير المناخي.

 

فهذه الأسباب هي التي حَرَّكت جيل الأطفال للمُضي قُدماً وبأقصى سرعة ضد الحكومة الأمريكية، والتي تُعتبر المتهم الرئيس على مستوى الكرة الأرضية في إحداث ظاهرة التغير المناخي، والعمل مع بعض كقوة شعبية على رفع القضية إلى القضاء لإلزام البيت الأبيض على اتخاذ الإجراءات الوقائية الضرورية لمنع وقوع هذه الظاهرة، والحد من تداعياتها المدمرة القادمة على سلامة البيئة وكوكب الأرض وصحة الكائنات الحية التي تعيش عليها. 

 

وعلاوة على ذلك، فقد استند الأطفال والشباب في دعوتهم هذه على الدستور الأمريكي الاتحادي وعلى قوانين الولايات وأنظمة وقرارات الأجهزة البيئية المختصة بحماية البيئية، والتغير المناخي بصفةٍ خاصة. فبنود الدستور والمبادئ الرئيسة التي يقوم عليه، تؤكد على واجبات الحكومة الأمريكية في حماية المـُلكيات الشخصية والحريات وموارد وثروات البيئة الحية وغير الحية، إضافة إلى المحافظة على سلامة وأمن المواطن ووقايته من كل عاملٍ خارجي أو داخلي يؤثر عليه حالياً ومستقبلاً، وحقه الدستوري في أن يعيش في بيئةٍ سليمةٍ وآمنةٍ لا تَضُر بصحته ولا تهدد حياته بالخطر، فمن حَقِ المواطن أن يستنشق هواءً عليلاً ونقياً، ومن حق المواطن أن يشرب ماءً عذباً زلال يُعينه على البقاء والحياة، ومن حق المواطن أن يعيش فوق تربةٍ صحيةٍ سليمةٍ ونظيفة خالية من الملوثات والسموم فلا يتعرض للأمراض والعلل والأسقام المزمنة.

 

فالحكومة الأمريكية نتيجة لعدم جديتها وحزمها في سن التشريعات والأنظمة لحماية الإنسان الأمريكي من الوقوع في شباك التغير المناخي قد خالفت نص الدستور وروحه، وانتهكت بنوده الرئيسة، ولم تَقُم بواجباتها ولم تؤد دورها في توفير وتأمين هذه الحقوق الأساسية للمواطن في هذا الجيل والأجيال اللاحقة، ونتيجة لذلك فإنها ستُعرِّضْ المواطنين، وبخاصة فئة الأطفال والشباب لتهديدات مستقبلية تمس استدامة حياتهم على الأرض.

 

فما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية قد يقع في أية دولةٍ من دول العالم، فالمشهد واحد وقضية التغير المناخي عامة ومشتركة بين الدول، وتأثيراته تَعُم الكرة الأرضية برمتها ولن تكون أية دولة، أو أي إنسان بمنأى وبمعزل عن تداعياته وانعكاساته المدمرة، وفي المقابل أيضاً حقوق الإنسان والمواطن في أية دولةٍ على وجه الأرض لا تختلف، وبخاصة حقه في أن تُوفر له الحكومة البيئة الصحية والسليمة والآمنة لكي يعيش فيها، وتُؤمِّن له الهواء الصحي، والماء النقي، والتربة النظيفة.

 

 

 

الاثنين، 21 مارس 2016

جُونْسون و جونسون


عندما قرأتُ مؤخراً الخبر عن شركة جونسون وجونسون(Johnson & Johnson)، تذكرتُ المقال الذي نشرته في السادس من ديسمبر 2011 تحت عنوان:" شمبو جونسون وجونسون"، حيث جاء فيه أن بعض جمعيات حقوق المستهلك والجمعيات البيئية والطبية في الولايات المتحدة الأمريكية دعت إلى مقاطعة هذا شمبو جونسون وجونسون لاحتوائه على مركبات كيميائية شديدة السمية للإنسان، وبخاصة للأطفال حديثي الولادة الذين يعانون من ضعف في الجسم والمناعة الطبيعية.

 

فبعد إجراء تحاليل مخبرية للشمبو ومنتجات أخرى للشركة، تأكد بأنها تحتوي على مستويات منخفضة من مادتين سامتين تسببان السرطان للإنسان. أما المادة الأولى فهي مركب عضوي يحتوي على النيتروجين والكلور، ويُطلق عليه اسم الكويتوريم-15(quaternium-15)، وهي عبارة عن مركبٍ يعمل كمادة حافظة ومعقمة تقتل البكتيريا والجراثيم الأخرى وتوضع في المنتجات التجميلية ومنتجات التبرج والزينة، ولكن ينبعث منها مركب يسبب السرطان للإنسان هو الفورمالدهيد(formaldehyde). والمادة الثانية فهي مركب كيميائي خطر جداً ومسرطن يعرف بالديكسين(1,4-dioxane).

 

وقد اعترفتْ جونسون و جونسون بوجود هاتين المادتين، وأكدت إلى أنها قد صَنَعتْ مُنتجات أخرى بديلة، ولكنها أغلى سعراً ولا تحتوي على هذه السموم، وأَطلقت عليها بمنتجات جونسون الطبيعية، مما يعني في تقديري أن المنتجات العادية التي تصنعها، والأقل سعراً مازالت تحتوي على هذه المواد المسرطنة.

 

واليوم وبعد أكثر من خمس سنوات تُطالعنا وسائل الإعلام بخبرٍ مؤسف آخر يخص هذه الشركة العملاقة المشهورة ويؤكد أن مُنتجاً آخر للشركة يسبب السرطان للإنسان. فقد أَمَرتْ محكمة في مدينة سينت لويس(St. Louis) بولاية ميسوري الأمريكية بتغريم الشركة 72 مليون دولار للعائلة المنكوبة التي كانت تعيش في مدينة بيرمينجهام(Birmingham) بولاية ألباما، والتي فقدت أمها وزوجها بسبب الإصابة بسرطان المبيض نتيجة للتعرض لمنتجات الشركة الخاصة بمساحيق الأطفال(بيبي بوْدَر) وغيرها، والتي تحتوي على مسحوق تالك(talc)، أو مسحوق تالكيم( talcum powder)، حيث إن الشركة لم تحذر المستهلكين بالأضرار الصحية والبيئية التي تنجم عن استعمال هذا "البودر"، بالرغم من عِلْم الشركة منذ الثمانينيات من القرن المنصرم بمخاطر استخدام هذا المنتج على الإنسان، وأنه كان في السنوات الماضية، وليس الآن، يحتوي على مادة الأسبستوس "المسَرطِنة".

 

وهذه الحالة تُعد أول مثالٍ على حكم القضاء لصالح المستهلكين في مثل هذه القضايا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك الآن عشرات الآلاف من القضايا المشابهة المرفوعة ضد جونسون وجونسون في أمريكا وخارجها وفي انتظار اصدار الأحكام.

 

فمثل هذه القضايا تؤكد لي أن هذه الشركات العملاقة لا تَرقُب في المستهلكين إلا ولا وذمة، فلا يهمها صحة الإنسان أو سلامة بيئته، فهدفها الربح السريع والكبير على حساب كل شيء آخر.

 

السبت، 19 مارس 2016

صحيفة "أمريكا اليوم" تفضح أمريكا


صحيفة «أمريكا اليوم»، أو «يو إس إيه توداي» تُعد الصحيفة اليومية الأكثر انتشاراً وشعبية في الولايات المتحدة الأمريكية، فأخبارها ومقالاتها وتحليلاتها ترُكز على المستوى الاتحادي الفيدرالي، وتهتم منشوراتها وتحقيقاتها في طرح الشؤون والهموم الأمريكية التي تخص عموم الناس في الولايات، ويقاسي منها معظم المواطنين الأمريكيين.
فقد خَصصتْ هذه الصحيفة المرموقة عددها الصادر في 16 مارس لقضيةٍ بيئيةٍ صحيةٍ عامة وخطيرة تهدد بيئة وصحة الإنسان الأمريكي، حيث نَشرتْ ثلاثة مقالات موسعة، وتحقيقات حصرية رئيسية ومطولة تعالج كل الجوانب المتعلقة بهذه المشكلة الأمريكية المنتشرة بشكلٍ واسع في الكثير من المدن العريقة والكثيفة بالسكان.
وجدير بالذكر فإن هذه القضية تُعتبر من المشكلات القديمة التي اكتشفت في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من قرن، وحاولت الجهات المعنية معالجتها ووضع الحلول المناسبة للتخلص منها منذ السبعينيات من القرن المنصرم، إلا أنه على الرغم من هذه الجهود، فإنه مازالت جذور المشكلة متأصلة في المجتمع الأمريكي وضاربة أطنابها في البيئة الأمريكية، ومازال المواطن الأمريكي، وخاصة الأطفال والشباب يُعانون من تداعياتها ومردوداتها السلبية الضارة والقاتلة.
فقد تناولت «شبكة أمريكا اليوم» في تحقيقاتها وتقاريرها انتشار ظاهرة ارتفاع تركيز عنصر الرصاص السام في مياه الشرب على مستوى مدن الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أكدت التحقيقات التي غطت فترة زمنية من عام 2012 حتى 2015 وشملت كل ولايات أمريكا، أن كل الولايات الخمسين في أمريكا تُقدم مياهاً للمواطنين للشرب ملوثة ومسمومة بعنصر الرصاص، ولكن بدرجاتٍ مختلفة، حتى أن أعلى مستوى للرصاص بلغ في عينة من ماء الشرب في ولاية كاليفورنيا وكان التركيز 15 ألف جزء من الرصاص في البليون جزء من ماء الشرب، علماً أن مواصفات ومعايير وكالة حماية البيئة المعنية بتركيز الرصاص في مياه الشرب يجب ألا يزيد على 15 جزءاً من الرصاص في البليون جزءٍ من ماء الشرب. ومن أشد الولايات معاناة من تسمم وتلوث مياه الشرب هي على الترتيب: تكساس، بنسلفانيا، نيويورك، كاليفورنيا، نيوجيرسي، وسكونسن، مين، جورجيا، فلوريدا، نورث كارولينا، كونكتيكت، ماساشوستس، فيرمونت، إلينوي، فيرجينا، كولورادو، أوهايو.
كما كشفت تقارير الصحيفة أن هناك نحو 75 مليون وحدة سكنية في أمريكا تم بناؤها قبل عام 1980 ومعظم هذه الوحدات تحتوي على أنابيب مصنوعة من الرصاص سواء خارج المنزل أو بالداخل، وهذا يعني تعرض قرابة ستة ملايين أمريكي لمياه مشبعة بالرصاص بدرجاتٍ متفاوتة، وهذه بدورها تنعكس على دم الإنسان الأمريكي حيث يتراكم الرصاص في نهاية المطاف في الدم أو في العظام ويسبب أزمات صحية مزمنة، وخاصة بالنسبة إلى الأطفال.
ونظراً إلى خطورة هذه القضية وتهديدها المباشر لصحة المواطنين، إضافة إلى توسع دائرة انتشارها وتأثيراتها الضارة التي غطت كل ولايات أمريكا وربما كل فرد يعيش على أرضها، فقد دخل الكونجرس على الخط وشرع في تحقيقاته الأولية. فقد شكل الكونجرس ممثلاً في مجلس النواب لجنة تحقيق متخصصة لسبر غور هذه القضية، وخاصة فضيحة تلوث مياه الشرب في مدينة فلينت بولاية مشيجان وتسمم دماء أطفال المدينة بالرصاص، حيث بدأت باكورة أعمالها بجلسة استماع في 15 مارس، كما سارع المرشحون للرئاسة الأمريكية بإدانة تفشي داء الرصاص في مدينة فلينت وفي المدن الأخرى، ووعدوا بعلاج هذه القضية على مستوى الولايات المتحدة كلها، حيث قالت هيلاري كلينتون إنها ستقضي على هذه الظاهرة الصحية البيئية خلال خمس سنوات.
جدير بالذكر ان قضية التسمم بالرصاص بشكلٍ عام سواء في المياه أو الدم، تعتبر من مظاهر ومشكلات القرن المنصرم، والتي عالجتها كل الدول المتقدمة وتخلصت منها بشكلٍ كبير، فوجودها الآن وظهورها بهذه الدرجة في أي دولة يعد من مظاهر التأخر والرجعية، وهذا ما لا يليق بدولةٍ عظمى عسكرياً واقتصادياً وتقنياً تقود العالم كالولايات المتحدة الأمريكية.

الأربعاء، 16 مارس 2016

هل الهاتف النقال يجْعلكُ عقيماً؟


قضية التأثيرات البيئية والصحية لاستخدام الهاتف النقال، أو الهاتف الخلوي لم تُحسم حتى الآن على المستوى العلمي والطبي، ولم تُؤخذ ضدها القرارات الجماعية الصارمة والواضحة، فالدراسات مازالت تُنشر في كل يوم ونتائجها تظهر بين مدٍ وجَزْر وبين معارضٍ ومدافع، فاستنتاجاتها لم تَلقَ إجماعاً على المستوى الدولي وبين العلماء والأطباء المختصين والمهتمين بهذه القضية الحيوية والمتابعين لدقائق تطوراتها الإيجابية والسلبية على كافة المستويات والأبعاد المتعلقة بها.

 

وإنني أُشبهُ الحالة التي تَـمُر بها قضية الهاتف النقال بتاريخ السجائر منذ ولادتها وخروجها من بَطن المصانع والشركات، ثم طرحها في الأسواق وتعاطيها من قبل الناس. فالمرحلة الأولى التي مَرَّت بها السجائر وعملية التدخين، أَصفها بالترقب والتريث وإجراء الأبحاث والدراسات الأولية على هذه الظاهرة المستحدثة، وعدم الاستعجال في تَبني رأي محدد ضد هذه الحالة الجديدة واتخاذ قرار إيجابي أو سلبي حتى تتضح الصورة أكثر مع الوقت.

 

بالفعل جاءت الدراسات تترا، كل دراسة تؤكد نتائج الدراسة التي سبقتها، وكل دراسة تكشف وجهاً قبيحاً جديداً لم يعرفه أحد ولم يكن في الحسبان بالنسبة لأضرار التدخين بشكلٍ عام والملوثات التي تنبعث منها بشكلٍ خاص. ولكن في المقابل لم تقف شركات التبغ والسجائر متفرجة، ولم تتخذ موقفاً حيادياً سلبياً، وإنما جَنَّدت مرتزقتها من علماء، وإعلاميين، وأساتذة الجامعات لإجراء دراسات مماثلة تُخفف من حِدة وشدة نتائج الدراسات الأخرى، وتقلل من شأن أضرارها وفسادها لصحة الإنسان وبيئته. وبعد سنواتٍ طويلة عِجاف استغرقت أكثر من خمسين عاماً من المعارك الضارية بين شركات السجائر من جهة والأطباء وعلماء البيئة والجهات الصحية من جهة أخرى، وصل المجتمع الدولي إلى "الإجماع المـُطلق" الذي لا ريب فيه بأن التدخين يدمر صحة البشر.

 

فالنسبة للهاتف النقال، فإننا مازلنا في المراحل الأولى، وهي مرحلة الترقب والتريث وعدم الحسم في اتخاذ القرار، ومرحلة نشر الدراسات العلمية من الطرفين المتحاربين والمتخاصمين. فهناك دراسة دولية شاملة تُعرف بدراسة "الإنترفون"(Interphone) لعام 2010، وهي عبارة عن حصرٍ تحليلي للدراسات المنشورة حول تأثيرات الهاتف النقال، ونشرتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، حيث خلصت الدراسة إلى أنها: "لم تجد مخاطر لاستخدام الهاتف النقال بشكلٍ عام"، ولكنها أشارت إلى وجود بعض المخاطر من الإصابة بأورام المخ بالنسبة للمفرطين في استخدامه، وفي مايو 2011 صَنَّفتْ الوكالة الدولية لأبحاث السرطان الموجات والأشعة التي تنبعث من الهواتف النقالة بأنها "من المحتمل أن تكون مسرطنة"، وهي لهجة مخففة جداً، ثم في يونيو 2014 أصدر المركز الأمريكي لمنع والتحكم في المرض توجيهات استرشادية متعلقة باستخدام الهاتف النقال وقال فيه: "نحن نوصي بالحذر من استخدام الهاتف النقال".

 

واليوم نُشر العديد من الأبحاث التي تدرس العلاقة بين وضع الهاتف النقال في جَيْبِك أو في أحد الأماكن في  ملابسك طوال اليوم وعدد ونوعية وحركة الحيوانات المنوية، فمنها دراسة منشورة في سبتمبر عام 2015 في مجلة "البيئة العالمية"(Environment International) تحت عنوان: "تأثيرات الهاتف النقال على نوعية الحيوانات المنوية"، وأخرى الدراسة المنشورة في مجلة الطب الحيوي الإنجابي(Reproductive BioMedicine) في فبراير من العام الجاري، حيث أشارت إلى أن الرجال الذين يضعون الهاتف النقال في جيوبهم تتأثر لديهم حركة ونوعية وعدد الحيوانات المنوية، أي أنها على المدى البعيد قد تؤثر على خصوبتهم، فتجعل الرجل عقيماً.

 

ولذلك نرى أن الدراسات بدأت تخرج باستحياء لتسبر غور هذه القضية الحديثة نسبياً، وكل دراسة تتناول جانباً صحياً وبيئياً متعلقاً باستخدام الهواتف النقالة، ولذلك في تقديري فإننا سنحتاج إلى عشر سنوات لكي تتضح بشكلٍ لا غبار عليه التأثيرات السلبية للهواتف النقالة، وسنحتاج إلى عشر سنوات أخرى  لحسم هذه القضية والوصول إلى الاجماع الدولي حول استنتاجاتها.

 

وحتى يأتي ذلك اليوم، وتجتمع الأمة على رأيٍ واحد، علينا اتباع "المنهج الاحترازي" في التعامل مع الهاتف النقال، أي توخي الحيطة والحذر وتجنب الإفراط والإسراف في استخدامه، فإنني علي يقين بأن الأيام القادمة كفيلة بكشف أضراره.

 

وفي الواقع فإنني لا أخاف على جيلي من الهاتف النقال لأننا بدأنا في استخدامه في سنٍ متأخرة، فالخوف والقلق على الأجيال القادمة التي تستخدم الهاتف طوال سنوات العمر منذ اليوم الأول من الخروج إلى الحياة الدنيا.

السبت، 12 مارس 2016

قرار وزير الصناعة والتجارة والسياحة


استغربتُ كثيراً من القرار الصادر في الثامن من مارس من العام الحالي لوزير الصناعة والتجارة والسياحة بشأن السماح للشيشة الإلكترونية وعبواتها ومتعلقاتها من الدخول إلى البحرين للاستخدام الشخصي فقط، حيث قرأتُ رسالة إلكترونية، تناقلتها أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي والصحف المحلية في 11 مارس وموجهة إلى مدراء الإدارات الجمركية، مفادها "الإفساح الجمركي عن الشيشة الإلكترونية وعبواتها ومتعلقاتها للاستخدام الشخصي فقط، علماً بأنه سيتم وضع آلية للكميات ذات الطابع التجاري في المستقبل القريب".

 

فإنني وانطلاقاً من هذا القرار المتَعجل وغير المدروس صحياً وبيئياً واجتماعياً، أريد أن أؤكد على حقيقة مهمة جداً وهي أن المسميات المتعددة، والمختلفة ظاهرياً لعملية "التدخين" يجب أن لا تُبعدنا عن الحقائق العلمية والطبية والبيئية التي أَجمعتْ عليها منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة بالصحة والبيئة والأمن والسلامة من جهة، وأجمع عليها مجتمع الأطباء والعلماء من جهةٍ أخرى حول الأضرار الصحية والبيئية والاقتصادية والأمنية للتدخين، وهنا أخص بالذكر البدعة الجديدة، والمنتج الشيطاني الحديث الذي ظهر علينا بوجهٍ مغرٍ جديد، وثوبٍ صحي مزيف، وهو السجائر، أو الشيشة الإلكترونية.

 

فبالرغم من وجود الشيشة أو السجائر الإلكترونية في الأسواق لسنواتٍ قليلة جداً، إلا أن وجهها القبيح بدأ ينكشف بسرعة، وسلبياتها ومردوداتها الخطرة من ناحية الأمن والسلامة، والصحة، والبيئة ظهرت أمام الملأ وإلى العَلَن بدرجةٍ مفضوحة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وتهديداتها باتت مشهودة ولا يمكن لأحد تجاهلها سواء أكانت على المستوى الشخصي أو الجماهيري والعام.

 

ودعوني في هذه العجالة، أن أُلخص لكم أهم الانعكاسات السلبية لهذا النوع الجديد للسجائر، كما يلي:

 

أولاً: أما من ناحية الأمن والسلامة للأفراد والجماعات فقد تم خلال السنوات الماضية توثيق الكثير من الحوادث المختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر، احتراق بيت بسبب انفجار بطارية أيون الليثيوم للسجائر الإلكترونية، ومنها انفجارها في وجه أحد المدخنين، ومنها انفجار هذه البطاريات ونشوب حريق في أحد مطارات الشحن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها نشوب حريق في محطة للمحروقات، ومنها وقوع انفجار أثناء وضع السيجارة في جيب أحد المدخنين وحدوث حريق في الملابس وحروق بليغة في الجلد، ومنها حوادث في طائرات للشحن تحمل على متنها البطاريات، وموت أربعة طيارين، ونتيجة لهذه الحوادث فقد أعلن مجلس الهيئة الدولية للطيران المدني في 23 فبراير من العام الجاري، وهي هيئة الأمم المتحدة المعنية بالطيران المدني، منع نقل البطاريات في الشحن في طائرات المسافرين، وسيبدأ تنفيذ القرار في الأول من أبريل.

ثانياً: هذه السجائر تستخدم النيكوتين السائل، ومن المعروف أن النيكوتين يسبب الإدمان وهو مركب سام.

ثالثاً: هناك أكثر من 500 نوعٍ من السجائر الإلكترونية تحتوي على أكثر من 7000 نكهة مختلفة، ولا يعلم أحد عن هوية ونوعية هذه النكهات والمضافات الأخرى.

رابعاً: أكدت دراسة منشورة في مجلة علم الأورام(Oncology) في العدد المنشور في 29 ديسمبر من العام المنصرم أن الأبخرة التي تنبعث من السجائر الإلكترونية تؤدي إلى تلف خلايا الإنسان، وبالتحديد تدمير الخلايا الوراثية الـ دي إن أيه(DNA)، مما يُحول هذه الخلايا إلى خلايا سرطانية، وبالتالي موت هذه الخلايا وإصابة الإنسان بالسرطان.

خامساً: أفادت دراسة في مجلة شؤون صحة البيئة الأمريكية في العدد ديسمبر من العام المنصرم حول المضافات التي توضع في السجائر، وأكدت أن الأبخرة المنبعثة من المدخن تحتوي على مركبات خطرة ومسرطنة، منها وأسيتوين(acetoin) و(2,3-pentanedione) وداي أسيتيل(diacetyl)، والفورمالدهيد، وجدير بالذكر أن مركب الداي أسيتيل بالتحديد تَنجم عند التعرض له حالة مرضية قاتلة تُطلق عليها رئة الذرة الصفراء(popcorn lung)، وعلمياً تُعرف بمرض( bronchiolitis obliteransوهو مرض مرعب يصيب الجهاز التنفسي ويُعد نوعاً من سرطان الرئة.

 

  واستناداً إلى هذه الحقائق الأمنية، والطبية والصحية، أتمنى من وزير الصناعة والتجارة والسياحة مراجعة هذا القرار ومنع هذه السجائر كلياً، كما أتمنى من وزارة الصحة تقييم قراراتها السابقة بالنسبة لكافة أنواع السجائر والعمل على منعها من البحرين بشكلٍ مرحلي حتى نكون البلد الأول الخالي من التدخين.

الأربعاء، 9 مارس 2016

أمريكا دولة مُتَأخرة


إذا سافرتَ يوماً ما إلى إحدى دول العالم في الشرق أو في الغرب وتجولت في مدنها وأحيائها وشاهدت بحيرات من مياه المجاري وهي تجري كالأنهار في أحيائها، أو رأيت بركاً آسنة من هذه المياه الملوثة التي تخرج من المنازل فلا تجد طريقها سوى إلى المستنقعات الفاسدة، فتتجمع فيها وتتراكم في بطنها الملوثات العفنة الحيوية والكيميائية وتنبعث منها الروائح الفاسدة والكريهة وتُعرض الناس للأمراض المعدية المزمنة والقاتلة، فلا شك بأنك ستصف هذه المدينة بأنها متأخرة وبعيدة عن التقدم بُعد المشرق عن المغرب، وربما لن ترجع إليها فتزورها مرة ثانية، حيث إن هذه المظاهر التي رأيتها قد أصبحت بالنسبة للدول الراقية والمتطورة من مشاهد الماضي الغابر التي كانت تُرى في القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وتم الآن القضاء عليها كلياً.

 

وإذا وقعتْ عيناك وأنت تزور دولة أخرى وتتسوح في مدنها على كومات من القمامة المتناثرة في طرقاتها وشوارعها العامة، أو على تلال من المخلفات المنزلية المتراكمة على أبواب منازلها وفي أسواقها ومحطاتها ومراكزها التجارية، أو أنك ترى تدنياً عاماً في مستوى النظافة ووجود الزبالة والمخلفات الصلبة في كل مكان ومن كل صوب وحدب، فلا ريب بأنك ستأخذ انطباعاً سيئاً عن هذه البلدة ومدنها القذرة، وتُصنفها من دول العالم الثالث الفقيرة وغير المتقدمة والرجعية والمتَخلفة، فهذه المظاهر التي رأيتها تُعد من مشكلات وقضايا القرون الماضية للدول الصناعية المتقدمة.

 

ولذلك فمشاهدتك لهذه الصور غير الحضارية في أية دولة تدل على هوية هذه الدولة وسمعتها، وتُعتبر من مؤشرات تقدمها أو تخلفها، وتثبت للعالم رُقيها أو تأخرها، وتبين للناس تطورها أو رجعيتها.

 

ولكن في المقابل هناك الكثير من مظاهر القرن التاسع عشر والقرن العشرين التي أكل عليها الآن الدهر وشرب وكانت موجودة في تلك الحقبة من الزمن في الدول المتقدمة ومن المفروض أنها أصبحت الآن مشهداً من الماضي وجزءاً من التاريخ الحديث، فمازالت هذه المظاهر تُرى اليوم في أكثر الدول تقدماً في العالم، وأشدها رقياً وتطوراً مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هذه المظاهر والصور لا يراها كل إنسان، ولا يستطيع كشفها بحواسه الخمسة، ولا يستطيع الناس العاديين والبسطاء مشاهدتها والتعرف عليها، فيكشفونها عادةً العلماء المتخصصون والباحثون الميدانيون.

 

فعلى سبيل المثال، التسمم بالرصاص وارتفاع تركيزه في الدم، وبخاصة عند الأطفال كان من مشكلات القرن الماضي عندما كانت هناك مصادر متعددة للرصاص في البيئة، فيتعرض لها الناس بشكلٍ عام والأطفال بصفةٍ خاصة، كمركبات الرصاص التي كانت تُضاف إلى وقود السيارات، وبالتحديد الجازولين وتمت إزالتها في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم أو بالتحديد عام 1975 من وقود السيارات، أو مركبات الرصاص التي كانت تضاف إلى دهان المنازل ثم تم التخلص منها عام 1978، أو أنابيب الرصاص التي كانت تستخدم لنقل المياه تحت الأرض إلى المنازل. فكل هذه المصادر للرصاص التي كانت تلوث الهواء والماء والتربة انتهت منذ السبعينيات من القرن المنصرم، وبات التلوث بالرصاص وتسمم الدم به من مظاهر الماضي القديم التي تم التخلص منها في كل الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة.

 

والآن وبعد مضي أكثر من أربعين عاماً، تكشف لنا الدراسات والتقارير العلمية أن هذه الظاهرة التي تُعد حالياً من مؤشرات تخلف الدول وتأخرها، كتسرب مياه المجاري وانتشار القمامة، مازالت تكشر عن أنيابها في الكثير من مدن أمريكا ودماء أطفالهم قد تشبعت بمستويات عالية من هذا الملوث القديم وهو الرصاص. وجاء تقرير صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في الثالث من مارس من العام الجاري ليفضح انتشار هذه المشاهد الرجعية والمتخلفة في بعض المدن الأمريكية العريقة كنيويورك، وأتلنتا، وفيلادلفيا. فهذا التقرير الصحفي يُقدم عدة أمثلة على واقعية هذه المشكلة القديمة في مدن أمريكا، وأن أمريكا بالرغم من وصولها إلى المريخ فإنها مازالت متأخرة ومتخلفة في جوانب أخرى متعلقة بصحة وبيئة الإنسان، فلم تحل ولم تتخلص من مشكلات القرن المنصرم، ومن بين هذه المدن مدينة كليفلند(Cleveland) في ولاية أوهايو(Ohio)، حيث بلغت نسبة الأطفال الذين تسممت دماؤهم بالرصاص 14.2%، ويعزى السبب الرئيس في عدم اختفاء هذه الظاهرة الرجعية حتى يومنا هذا إلى وجود نحو 37 مليون منزل وشقة في مدن أمريكا والتي مازال الدهان القديم الذي يحتوي على الرصاص منذ عقود موجوداً على جدرانها، كما أكدت التحاليل المخبرية في عام 2010 أن نحو 7.7% من أطفال أمريكا السود الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات كانت دماؤهم ملوثة بالرصاص بتركيز أعلى من 5 ميكروجرامات من الرصاص في الديسيلتر من الدم، وذلك حسب تقارير مراكز ومنع والتحكم في المرض.

 

وجدير بالذكر أن معظم المنازل الملوثة بالرصاص ومعظم الأطفال الذين ترتفع في دمائهم نسبة الرصاص هم من الفقراء والمستضعفين السود، ومن الأقليات غير المتعلمة وغير المثقفة الذين لا حول لهم ولا قوة، وليس لهم وزن سياسي أو مالي أو اجتماعي، مما يؤكد استمرارية وجود ظاهرة العنصرية البيئية في أمريكا وفقدان العدالة البيئية بين المواطنين.

 

فهذه هي أمريكا عن كثب ومن الداخل لمن لا يعرف حقيقتها، فتَغُره مظاهر العظمة العسكرية والتقدم العلمي والتقني الكبيرين.

         

 

الثلاثاء، 8 مارس 2016

حَلْ لندني لمواجهة تلوث السيارات


تفاقمت قضية تلوث الهواء من السيارات في لندن إلى درجةٍ أصبحت لا تحتمل ولا يمكن الصبر عليها أكثر، بحيث إن شارع أكسفورد المعروف عند الناس بأكسفورد ستريت والمشهور بأنه القلب التجاري النابض بالحياة في لندن قد نال وساماً دولياً لأكثر الشوارع تلوثاً، فقد أصبح أكسفورد ستريت  من أشد الشوارع تشبعاً بالملوثات السامة والقاتلة، وبالتحديد الدخان أو الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين. وعلاوة على هذه المشكلة البيئية الصحية التي تواجهها لندن، فإن محاكم الاتحاد الأوروبي تُطارد العاصمة البريطانية وتلاحقها منذ أكثر من عشر سنوات لتجاوزها المعايير والمواصفات الخاصة بجودة الهواء للاتحاد الأوربي، وفَرَضت عليها غراماتٍ عالية جداً لعدم توافقها والتزامها بهذه المعايير.

 

ولذلك تحاول لندن التشبث بأية وسيلة أو طريقة تُقلل من انبعاث الملوثات من عوادم السيارات وتخفف من حدة الضرر الذي لحق بنوعية الهواء الجوي وبصحة الناس، وتجنبها شبح الوقوع في دفع الغرامات المالية التي تُرهق كاهل ميزانيتها. ومن أحدث الخطط والوسائل التي صرح بها عمدة لندن بوريس جونسون(Boris Johnson) في 12 فبراير من العام الجاري لمواجهة هذا التحدي البيئي الصحي والاقتصادي هي دعوة سواق السيارات والشاحنات إلى إطفاء محرك السيارة عند وجود الازدحامات المرورية في الشوارع وتَوقُف السيارات عن الحركة، أو عند التوقف كلياً أمام الإشارات الضوئية والدوارات.

 

ومن أجل تنفيذ هذه الخطة، جَنَّدت لندن متطوعين ونشطاء بيئيين لنشر الوعي بين السواق حول أهمية تطبيق هذا الإجراء، وتثقيفهم بالمردودات الإيجابية التي تنعكس على أمن البيئة، وبخاصة نوعية الهواء الجوي وعلى صحة المواطنين أنفسهم، إضافة إلى تشجيعهم على ممارسة السلوكيات السليمة المتعلقة بالصيانة الدورية للسيارات وكيفية السياقة الرشيدة.

 

وهذا الإجراء "الجديد" الذي توصلتْ إليه لندن الآن قد اقترحته منذ زمنٍ طويل على المواطنين في البحرين وكتبتُ عنه في عمودي الأسبوعي قبل أكثر من عشر سنوات تحت عنوان: "أوقفوا سيارتكم"، وهذا المقال منشور أيضاً في كتابي الذي صدر عام 2005 تحت عنوان: "رحلتي مع البيئة".

 

الأحد، 6 مارس 2016

جائزة الأوسكار والتغير المناخي


أكثر من 34.3 مليون مشاهد تابع مؤخراً تفاصيل توزيع جائزة الأكاديمية السينمائية والمعروفة عند الجميع بجائزة الأوسكار، والتي تُعد أهم جائزة سينمائية على المستوى الدولي مَنْزلة وشأنناً وقيمة، ولا بد من أن هذا العدد الكبير من البشر استمعوا أيضاً لخطاب الممثل ليوناردو دي كابريو بعد قبوله لنيل جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن دَوره في فيلم "ذي ريفيننت"، والذي يَعْني "العَائِدْ والرَاجِع بعد غيابٍ طويل".

 

فقد ضمَّن في خطابه قضية خطيرة جداً تهدد استدامة حياة الإنسان على الأرض، بل وتُنذر بزوال كوكب الأرض برمته ومَنْ عليه من كائناتٍ حية، كما حدث لقوم نبينا نوحٍ عليه السلام عندما أهلك الله سبحانه وتعالى الأرض وكل من عليها، فمنذ أكثر من 25 عاماً يجتمع سكان الأرض على كافة المستويات من علماء مختصين إلى رؤساء ورؤساء حكومات كافة الدول للتصدي لهذه القضية المعقدة والشائكة ولمحاولة مكافحة تداعياتها وانعكاساتها التي تَأَثر منها كل صغيرٍ وكبيرٍ، وكل فقيرٍ وغني على وجه الأرض، وهذه هي قضية العصر الكبرى، أو قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث قال الممثل ليوناردو دي كابريو في كلمته حول الفيلم:" هذا الفيلم يحكي قصة العلاقة بين الإنسان والطبيعية... فالتغير المناخي حقيقة وهو يحدث الآن، وهو التهديد الأكثر إلحاحاً وتأثيراً على جميع الكائنات الحية، فعلينا أن نعمل بشكلٍ جماعي مع بعض"، كما وجه في خطابه انتقادات قوية إلى رجال السياسة الذين يقفون متفرجين أمام هذه الظاهرة البيئية التي لا تخفى على أحد اليوم.

 

وليست هذه هي المـَـرْة الأولى التي يستغل فيها هذا الممثل منبراً دولياً مشهوداً للتوعية بقضية التغير المناخي والتحذير من أضرارها الواقعة ميدانياً على سكان الأرض، فقد بدأ مشواره في الدفاع عن القضايا البيئية الساخنة بشكلٍ عام منذ التسعينيات من القرن المنصرم، ومن أبرز هذه المحطات، كانت الكلمة الجامعة التي ألقاها في اجتماع للجمعية العمومية للأمم المتحدة في عام 2014 حول هذه القضية الكارثية.

 

ولكن هذه الجهود التي يبذلها المشاهير في عالم الفن والسينما، سواء من ليوناردو دي كابريو، أو من بطل كمال الأجسام العالمي وممثل أفلام الإثارة والعنف وحاكم ولاية كاليفورنيا سابقاً أرنولد، أو حتى من ألجور النائب السابق لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، فهل هذه الجهود تُغير من رأي وتوجهات متخذي القرار وتُثمر على المستوى الدولي عندما تُعقد قمم التغير المناخي ويشارك فيها رجال السياسة من زعماء دول العالم؟

 

فمن خلال متابعاتي لمؤتمرات واجتماعات الأمم المتحدة للتغير المناخي التي تُعقد سنوياً، لم ألحظ تأثيراً ملموساً لجهود هؤلاء المشاهير على رؤساء الوفود المشاركة، فكل رئيس وفد يأتي وفي جعبته سياسة دولته بالنسبة للتغير المناخي، وهناك دول محورية على المستوى العالمي لم تقتنع كلياً بدور الإنسان الرئيس في إحداث التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، فمازالت بعض القوى المسيطرة على القرار والأحزاب المهيمنة على الساحة السياسية في البعض من هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تُشكك في واقعية ظاهرة التغير المناخي وتَزْعم أن مساهمة أنشطة الإنسان التنموية والمتمثلة في حرق الوقود الأحفوري في السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء محدودة جداً ولا تستدعي تغيير نوعية الوقود كلياً على المدى القريب، أو خفض مستوى انبعاث الغازات التي تنطلق منها، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون. ولذلك نجد أن قطبي السياسة الأمريكية، وهما الحزب الديمقراطي والجمهوري، يخوضان حرباً ضروس طويلة منذ ربع قرن، ولم ولن تُحسم نتائج الحرب لأي حزب، ففي بعض معارك التغير المناخي التي تدور رحاها على الساحة الأمريكية يفوز الديمقراطيون، وفي معارك أخرى يحظ الجمهوريون بالانتصار المؤقت، وهكذا فالصراع محتدم ومستمر بينهما، وكوكب الأرض يعاني من عدم اتفاق القطبين وتجنب كل واحدٍ منهما لتنفيذ إجراءات جوهرية ومؤثرة لحماية كوكبنا الوحيد.

 

ولكن في المقابل فإن أنشطة وخطابات هؤلاء المشاهير لا تذهب عبثاً فهي تُفيد على المدى البعيد في تثقيف الجمهور على كافة المستويات وفي كل دول العالم، وتعمل على تعزيز وعيه واتجاهاته بأهمية وضرورة دَفْعِ الحكومات والضغط عليها من أجل اتخاذ القرارات القوية والحازمة لصالح الحفاظ على استدامة عطاء كوكب الأرض.