الأحد، 31 يوليو 2016

تَجْرُبتي مع هواء لندن


كلما تباعدت أكوام السحب الثقيلة عن بعضها البعض واتسعت المسافات بينها، وكلما انكشف الغمام وانقشع قليلاً في سماء لندن، تمكنت أشعة الشمس الضعيفة والفاترة، وأضواؤها الخافتة أن تجد لنفسها فتحة صغيرة تلج منها فتُلقي بنورها على أرض لندن، وعندها يخرج اللندنيون سِراعاً، زرافاتٍ ووحدانا، ويَنطلقون متجهين إلى السواحل والمسطحات المائية من الأنهار والبحيرات وإلى المتنزهات والحدائق العامة لاغتنام هذه الفرصة النادرة قبل أن تذهب عنهم وتنقشع، والتمتع بخروج الشمس من تحت الغمام الكثيف، والاستلقاء تحت حرارتها الجميلة، والتعرض لأشعتها الدافئة والمفيدة لجلد الإنسان واستدامة حياته الصحية والجسدية.

وكُنت في الأيام الماضية من المحظوظين الذين أُتيحت لهم هذه الفرصة الذهبية أثناء زيارتي إلى لندن، فالجو كان بديعاً وفريداً، غير باردٍ ولا حار، وغير ممطر، فالشمس كانت تسطع علينا باستحياء، وتشرق بين الحين والآخر، ولكن ما لا يُدركه الكثير من الناس هو الانعكاسات البيئية الضارة التي تنجم عن هذه الساعات المشمسة القليلة في لندن وغيرها من المدن.

 

فمنابع التلوث، وبخاصة في لندن كثيرة ومتعددة، وأشدها وطئاً وضرراً على الهواء الجوي وصحة الإنسان هي السيارات التي تمتلئ بها شوارع لندن الضيقة، وتتشبع بها طرقاتها، حتى إنك في الشوارع التجارية أثناء الصباح وعند الانتهاء من العمل لا ترى سوى اللون الأحمر الفريد الذي يُزين هذه الشوارع من الحافلات الحمراء ذي الطابق الواحد أو الطابقين، وتحوم حولها عن يمينها وشمالها سيارات الأجرة المميزة والفريدة من نوعها في ألوانها وأشكالها، وكأنها طوابير النمل الطويلة التي تسير فوق الأشجار، وهذه الأعداد المهولة من السيارات والتي تعمل معظمها بالديزل تمشي ببطءٍ شديد، وبخطواتٍ ثابتة قصيرة جنباً إلى جنب، فتنفث سمومها القاتلة في الهواء الجوي، ومن أخطر هذه السموم على أمن البيئة والإنسان الدخان أو الجسيمات الدقيقة، وأكاسيد النيتروجين، والمركبات الهيدروكربونية المتطايرة، وهذه الملوثات لا تعمل لوحدها عندما تنطلق إلى الهواء وبشكلٍ منفصل ومستقل، ولكنها عند وجود أشعة الشمس تحدث سلسلة معقدة وطويلة من التفاعلات الكيميائية الضوئية وتنتج عنها ملوثات أشد تدميراً لسلامة الإنسان وبيئته وأكثر فتكاً بهما، أي أن ظهور أشعة الشمس على اللندنيين يكون في بعض الأوقات وبالاً ووبائاً، وشراً مُستطيراً مُهلكاً.

فأشعة الشمس تعمل كعامل مساعد على تكوين هذه الملوثات المهددة للجميع، والتي تنكشف مع الوقت في الأفق ويمكن لكل إنسان مشاهدتها بالعين المجردة على هيئة سحبٍ بُنيةٍ صفراء اللون، ويُطلق عليها بالضباب الضوئي الكيميائي، وجدير بالذكر أن هذه المشكلة تتفاقم ويزيد تأثيرها عند انكشاف ظاهرة مناخية تُعرف بالانقلاب الحراري التي تعمل على حبس الملوثات التي تنبعث إلى الهواء الجوي فتؤدي إلى تراكمها مع الوقت، وتمنع انتشارها وتخفيف تركيزها في السماء العالية من فوقنا.

 

وما يحدث في لندن ليس فريداً من نوعه، وليس حدثاً خاصاً بلندن وحدها، فهذه ظاهرة تعاني منها بدون استثناء كل المدن الحضرية التي تقاسي من تضخم أعداد السيارات وتزاحمها في شوارع ضيقة وصغيرة، ونحن في البحرين لسنا ببعيدين عن هذه المشكلة البيئية الصحية القاتلة، فكل مقوماتها موجودة وتزداد سوءاً وضرراً  كل سنة.

 

فالعامل الأول والرئيس هو الزيادة المطردة في أعداد السيارات التي تُسبب لنا يومياً إزعاجاً شديداً وفي كل الأوقات من الليل أو النهار، وتشكل لنا أزمة مرورية خانقة ومشكلة أخلاقية خطيرة، إضافة إلى مردوداتها البيئية والصحية التي لا تخفى على أحد، والعامل الثاني فهذه الأعداد الكبيرة والمتعاظمة من السيارات تسير كلها في شوارع ضيقة نسبياً وفي مساحة جغرافية صغيرة لا تزيد عن 200 كيلومتر مربع، وتتركز في الجزء الشمالي من جزيرة البحرين، وأما العامل الثالث فهو وجود الظاهرة المناخية الطبيعية التي تحدثت عنها، وهي الانقلاب الحراري التي تزيد من الطين بَلَّه، وتجعله أكثر سوءاً وتعقيداً.

  

 

الخميس، 28 يوليو 2016

هل نحن بحاجة إلى استراتيجية وطنية لجودة الهواء؟


لا بد لي بدايةً أن أُقدم خالص الشكر والتقدير إلى مجلس الوزراء الموقر الذي وضع هموم وشؤون البيئة في جدول أعماله ومن ضمن اهتماماته الرئيسة، حيث قرر المجلس في جلسته التي عقدت في 27 يوليو من العام الجاري وضع استراتيجيةٍ وطنية جديدة لجودة الهواء في مملكة البحرين، وكَلَّف المجلس الأعلى للبيئة بالتنسيق مع الجهات الحكومية ذات الصلة بإعداد مثل هذه الاستراتيجية.

 

وقبل الولوج في تفاصيل هذا القرار، أود أن أَرجع قليلاً إلى الوراء، وبالتحديد إلى قرار مجلس الوزراء في الثامن من أكتوبر 2006 والمتعلق بموافقة المجلس على وثيقة وطنية بيئية هي "الاستراتيجية الوطنية للبيئة"، وهذه الوثيقة التي أَسْهمت شخصياً مع فريقٍ كبيرٍ من العلماء والمتخصصين في شتى مجالات العلوم، بلغ عددهم 64 عالماً، واستغرق إنجازها أكثر من خمس سنوات، لا بد أن نُعطيها وزنها الحقيقي، ونُقدر قيمتها العلمية، ونحيي تنفيذها في أرض الواقع من قبل جميع وزارات وهيئات الدولة، والتي شاركت هي في إعدادها.

 

 فهذه الاستراتيجية القَيِّمة كأنها في تقديري ذهبت مع الريح، ووُضعت مع ملفات الأرشيف القديمة، فأهملنا تطبيقها والعمل بها. فقرار مجلس الوزراء الحالي حول وضع استراتيجية وطنية جديدة لجودة الهواء في مملكة البحرين يجب أن لا ينبع من فراغ، ويجب الرجوع إلى الاستراتيجية الوطنية للبيئة والاستفادة منها، والاعتماد عليها كوثيقة أولية، وجعلها المرجع الأول لاستراتيجية جودة الهواء الجديدة، وبالتحديد الرجوع إلى القسم الثالث منها تحت عنوان :"الوسائط البيئية وإدارة الموارد الطبيعية"، وبخاصة البند الأول حول الهواء، حيث طَرحَتْ الاستراتيجية في هذا البند أهم القضايا البيئية الرئيسة المتعلقة بجودة الهواء، ثم ناقشت الرؤية الاستراتيجية المستقبلية المتعلقة بحماية الهواء الجوي، ووضع معايير ومواصفات تتناسب مع وضع مملكة البحرين وظروفها المناخية والجغرافية.  

 

وفي إطار الاستراتيجية الوطنية الجديدة لجودة الهواء، فأرى ضرورة التركيز على جانبين مهمين. الأول هو المصادر الرئيسة التي تؤثر على نوعية الهواء في سماء البحرين، وبشكلٍ رئيس السيارات التي تزيد أعدادها بدرجةٍ مطردة كبيرة لا تتناسب مع مساحة مملكة البحرين وحجم وأعداد الشوارع، والجانب الثاني فهو معايير جودة الهواء المعمول بها في مختلف دول العالم، مع الاستفادة من الدول الصحراوية والصغيرة الحجم المشابهة لظروف البحرين، والتركيز على تغيير معايير تركيز الجسيمات الدقيقة وغاز الأوزون في هواء مملكة البحرين.      

 

رحلة المخلفات البلاستيكية حول العالم


هل فكرتَ يوماً ماذا سيحدث لأية قطعةٍ مصنوعةٍ من البلاستيك، أو أي نوعٍ من المخلفات البلاستيكية التي ترميها في الأوساط البيئية المختلفة، سواء أكان هذا الوسط البيئي هو البحر، أو البر، أو الهواء الجوي؟

 

فهل ستبقى هذه المخلفات في مواقعها التي تخلصتَ منها، أم أنها ستَسِير في رحلةٍ طويلة ماراثونية وشاقة لا يعرف مصيرها إلا رب العالمين، ولا يدري أحد في أي أرضٍ ستموت ويكون مثواها الأخير؟

 

في الواقع فإن هذه المخلفات البلاستيكية حيَّرت العلماء، ودوخت الباحثين، واحتارت أمامها عقول البشر جمعاء، فهي في طبيعتها مستقرة وثابتة وغير قابلةٍ للتحلل الحيوي عندما نُلقيها ونتخلص منها في الأوساط البيئية، أي أنها تبقى على حالها وعلى ما هي عليها دون أن يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل في هويتها، فهي تبقى في بيئتنا خالدة مخلدة كمخلفات بلاستيكية صلبة تطوف أرجاء العالم من بلدٍ إلى آخر، وتحوم حولها في البر كانت، أو في البحر، أو عالقة في الهواء وعلى أفرع الأشجار وأغصانها وأوراقها.

 

وقد اكتشف الباحثون من معهد جرانثام(Grantham Institute) في جامعة إمبريل كولج(Imperial College) المرموقة في لندن أن المخلفات البلاستيكية التي يُلقيها المواطن البريطاني في البيئة البحرية المحيطة ببريطانيا، تنتقل مع الوقت، فتَرْكب مجاناً فوق سطح التيارات البحرية وتَقَفُ عليها، كما نرَكب نحن ونقف على ظهر الأحزمة السيَّارة المتنقلة في المطارات وغيرها لنتحرك وننتقل من موقعٍ إلى آخر، فهذه المخلفات البلاستيكية التي دخلت إلى البيئة البحرية لا تبقى في مكانها ولا تثْبت في موقعها، وإنما أكد هؤلاء العلماء أنها دائمة الحركة والتنقل وفي رحلة مستمرة، حيث إنها في نهاية المطاف، وبعد قرابة العامين تصل إلى مقبرتها ومثواها الأخير في شمال الكرة الأرضية، وبالتحديد في منطقة القطب الشمالي عند بحر بيرنتس(Barents Sea) شمال النرويج، ثم إلى محيط القطب الشمالي حيث تدخل في هذا السجن العظيم وتدور حول نفسها عقوداً طويلة من الزمن، أو أنها تتجمد فتصبح جزءاً لا يتجزأ من الجبال الثلجية. فهناك الآن ملايين الأطنان من المخلفات البلاستيكية التي وصلت إلى هذه البقعة النائية والبعيدة عن البشر وأنشطتهم التنموية فتجمدت وتصلبت مع الكتل الثلجية.

وقد قام هؤلاء الباحثون بنشر وعرض هذا الاكتشاف البيئي المثير في المعرض العلمي الصيفي للجمعية الملكية البريطانية الذي عقد خلال الأسبوع من 5 إلى 10 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: “البلاستيك في محيطاتنا". كما صمَّم العلماء وطوروا برنامجاً للحساب الآلي اسمه "مسيرة البلاستيك"(Plastic Adrift)،ويهدف إلى مراقبة ومتابعة خطِ سير أي نوعٍ من المخلفات البلاستيكية التي يلقيها الإنسان في البحر في أي مكانٍ في العالم، ويتعرف على كيفية تحركها من منطقة بحريةٍ إلى أخرى، فيُحَدد رحلتها منذ ولوجها في البيئة البحرية إلى آخر مستقرٍ لها،حتى تبلغ مثواها الأخير.

 

واستناداً إلى نتائج هذه الدراسة والأبحاث الأخرى، أستطيع أن أُحدد مواقع المقابر الجماعية للمخلفات البلاستيكية في الكرة الأرضية بعد أن نتخلص نحن منها، فالمقبرة الأولى تكون في البيئة البحرية، فإما أنها تطفو فوق سطح البحر وتمكث عليها إلى ما شاء الله، كما هو الحال الآن بالنسبة للمقبرة العظيمة التي تحتوي في بطنها ملايين الأطنان من المخلفات بشكلٍ عام، وبخاصة المخلفات البلاستيكية التي تدور حول نفسها في سجنٍ كبير لا يمكنها الخروج منه، وتُعْرف هذه المقبرة ببقعة المخلفات العظيمة في وسط المحيط الهادئ(great Pacific garbage patch)، وإما أن تتكسر وتتفتت إلى قطعٍ أصغر فتنزل في عمود الماء، وتجثم مع الوقت في التربة القاعية تحت أعماق البحار والمحيطات، وتدخل رويداً رويداً في أجسام الحيتان، والسلاحف، والأسماك، والطيور المائية، فتتراكم مع الزمن في بطونها وجهازها الهضمي، وفي نهاية المطاف تصل إلينا هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم دون أن نعلم عن وجودها واستهلاكنا لها، فتُصيبنا بالأمراض والعلل المزمنة التي لا نعلم كيف نزلت علينا.

 

والمقبرة الجماعية الثانية للمخلفات موجودة حالياً في شمال الكرة الأرضية وبالتحديد في القطب الشمالي، حيث تنتقل المخلفات يومياً عبر الحدود الجغرافية المصطنعة من شتى بقاع الأرض، وبخاصة من البحار الأوروبية، حتى تبلغ في نهاية رحلتها المحيطات الثلجية والكتل المتجمدة فتتغلغل بداخلها وتمكث في بطنها إلى أجلٍ غير مُسمى، وربما عندما تذوب هذه الثلوج بسبب التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، فسَنَرى بحيراتٍ من البلاستيك، وأنهارٍ جارية تمتلئ فيها المخلفات البلاستيكية.

 

ولذلك هل سيأتي علينا اليوم الذي سيتحول فيه كوكبنا إلى مقبرةٍ جماعية واحدة عظيمة للمخلفات البلاستيكية؟

الأحد، 17 يوليو 2016

18 مليون أمريكي يشربون ماءً مسموماً بالرصاص!


الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من قوتها وعظمتها وتقدمها العلمي والتقني المشهودين، ورُقيها في كافة مجالات الحياة، إلا أنها لا تستطيع أن توفر للشعب أبسط حقوق الحياة الآمنة والسليمة، ولا تستطيع أن تقدم له أهم ما يحتاجه الإنسان لكي يعيش حياة كريمة هانئة بعيداً عن الأسقام والعلل، فهي فشلت في إمداد الشعب بشريان الحياة، إذ لا حياة بدونه، فلم تتمكن من توفير الماء العذب الزلال الخالي من الشوائب والسموم لكل المواطنين في جميع الولايات الأمريكية، علماً بأن توفير مياه الشرب الصحية والنظيفة والآمنة من الواجبات الأساسية لأية حكومة، ومن الخدمات التي يجب أن توفرها كل دولة لمواطنيها والمقيمين على أرضها.

 

فالتقارير التي تَنْشرها الأجهزة الرسمية حول قضية توفير مياه الشرب الآمنة والنقية بدأت تتزايد مع الوقت وكلها تحذر من خطورة الوضع المائي في جميع ولايات أمريكا، وتنبه إلى المخاطر التي تنجم عن إهمال هذه القضية على الجيل الحالي والأجيال اللاحقة، وآخر تقرير خرج إلى الضوء كان في 28 يونيو من العام الجاري من مجلس دفاع الموارد الطبيعية(Natural Resources Defense Council) تحت عنوان: “ما هي الملوثات الموجودة في الماء الذي تشربه؟"، حيث أكدت التحاليل المخبرية التي أُجريت على مياه الشرب في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2015، أن أكثر من 18 مليون مواطن أمريكي يمثلون 5363 نظاماً مائياً يشمل جميع ولايات أمريكا ويُزود المدن بماء الشرب، أن المياه التي يشربونها لا تتوافق مع المواصفات الخاصة بمياه الشرب، وتتجاوز الحدود الآمنة لمستويات الرصاص والنحاس، أي أن هذا العدد المهول من الشعب الأمريكي يشرب في كل ساعة من حياته طوال اليوم ماءً مشبعاً بالسموم المهلكة التي تتراكم في جسمه يوماً بعد يوم حتى تُرديه صريعاً، فإما أن يُنقل إلى غرفة الإنعاش لتلقي العلاج، وإما أن ينقل إلى مثواه الأخرى.

 

وقبل هذا التقرير المخيف، نَشرت صحيفة "أمريكا اليوم"، أو "يو إس إيه توداي" في 16 مارس من العام الجاري فضيحة كبرى عَرِّت فيها النظام المائي للشرب في الولايات المتحدة الأمريكية وكشفت سوءتها أمام الشعب الأمريكي، فقد أكد تحقيق الصحيفة الذي غطى فترة زمنية من عام 2012 حتى 2015، انتشار ظاهرة ارتفاع تركيز عنصر الرصاص السام في مياه الشرب على مستوى مدن الولايات المتحدة الأمريكية،كما كشف التحقيق على أن هناك نحو 75 مليون وحدة سكنية في أمريكا تم بناؤها قبل عام 1980 ومعظم هذه الوحدات تحتوي على أنابيب أكل عليها الدهر وشرب وقديمة مصنوعة من الرصاص سواء خارج المنزل أو بالداخل، وهذا يعني تعرض المواطن الأمريكي لمياه مشبعة بالرصاص بدرجاتٍ متفاوتة، وهذا بدوره ينعكس على دم الإنسان الأمريكي حيث يتراكم الرصاص في نهاية المطاف في الدم أو في العظام، ويسبب أزمات صحية مزمنة، وبخاصة بالنسبة للأطفال.

 

وهذه القضية البيئية الصحية النكراء ظهرت إلى السطح وانكشفت إلى الرأي العام الأمريكي، وأزيل الستار عنها في عام 2014 في مدينة فلينت بولاية ميتشجان، عندما تبين من خلال الفحص المخبري أن مياه الشرب في المدينة مسمومة بالرصاص وأن دماء معظم أطفال المدينة مشبعة بتراكيز مرتفعة وقاتلة من هذا العنصر الخبيث. وهذه القضية تشعبت كثيراً، وتشابكت تداعياتها، وانتقلت من الحدود الجغرافية الضيقة للمدينة إلى إعلان حالة الطوارئ، ثم قيام الرئيس الأمريكي نفسه مضطراً بِشد الرحال في الرابع من مايو من العام الجاري لزيارة هذه المدينة المَنْكوبة، حيث ألقى خطاباً وصف فيه القضية بأنها "كارثة من صنع الإنسان، وكان يمكن تجنب وقوعها، وكان يمكن منعها"، أي أنه أعطى تصنيفاً خطيراً وعالياً لهذه القضية بوصفه لها بأنها "كارثة".

 

وعلاوة على ذلك، فقد اعترفت وكالة حماية البيئة الأمريكية بهذه الفضيحة الصحية البيئية الكبرى، وقالت:"نحن نعترف بالتحديات القائمة في الالتزام بمعايير الرصاص والنحاس في مياه الشرب"، فوكالة حماية البيئة هي الجهة الحكومية المعنية بالتأكد من سلامة مياه الشرب التي تَصِل إلى المواطن الأمريكي في منزله، أو شقته، وهي أعلنت بما لا يترك مجالاً للشك بأن هناك فعلاً قضية عامة يعاني منها الملايين من الأمريكيين وهي تدهور مياه الشرب وتلوثها بسموم قاتلة، وبالتحديد عنصري النحاس والرصاص.

 

والسؤال الذي أطرحه هو :"كيف لدولة عظيمة ومتفوقة في كافة مجالات الحياة، أن تهمل هذه القضية الحيوية التي تمس صحة كل مواطن لعقود طويلة من الزمن، وبخاصة أطفال أمريكا بالدرجة الأولى؟".

 

والجواب هو في تقديري يكمن في أن علاج هذا التحدي يتمثل في تغيير الملايين من أنابيب الرصاص الموجودة تحت الأرض والتي تُنقل عن طريقها مياه الشرب في معظم مدن أمريكا، وكُلفة هذه العملية أكثر من "تريليون دولار"، فمن أين لهم هذا المبلغ؟

 

السبت، 9 يوليو 2016

سياستنا مع القمامة: خُذُوهُ فَغُلوه



هناك اعتقاد سائد في البحرين وفي الكثير من الدول، وهناك نظرة خاطئة شائعة حول كيفية التعامل مع القمامة، أو بشكلٍ عام "المخلفات البلدية الصلبة" التي تنتج كل ساعة، وفي كل يوم، وعلى مدار السنة كلها من منازلنا، ومكاتبنا، وعماراتنا، ومجمعاتنا التجارية، وهذا الاعتقاد يتلخص في أن هذه الكميات التي ننتجها من القمامة تُعد أمراً هامشياً، ومشكلة سهلة، ومَهْمة بسيطة يمكن إلقاؤها على أية جهة، ويمكن لأي موظف أو قسم أن يقوم بها، فكل ما عليه القيام به يومياً هو جمع القمامة من مصادر إنتاجها بأية طريقةٍ ممكنة، ثم نقلها إلى مثواها الأخير في مقبرة المخلفات، وعند ذلك تكون قد انتهت المهمة، وتخلصنا من القمامة إلى الأبد، أي أننا وباختصار نتبنى سياسة "خُذُوه ُ فَغُلوه".

ولذلك كان لا بد لي من التنبيه والتحذير في الوقت نفسه إلى أن التخلص من القمامة، أو المخلفات البلدية الصلبة لم يعد كما كان قبل عقود من الزمن، فالمجتمعات البشرية تغيرت وتطورت وتوسعت كثيراً خلال المائة سنة الماضية، فهناك مدن ومناطق حضرية تنشئ في كل عام، وهناك زيادة غير مسبوقة في أعداد البشر، وبالتالي هناك ارتفاع مطرد في أحجام المخلفات الصلبة التي تنتج عن هذه المجتمعات والمدن، ونتيجة لهذه المستجدات التي طرأت على المجتمع البشري، فقد تحولت قضية القمامة إلى علمٍ متخصص يُدرس في الجامعات العريقة، ويُطلق عليه علم القمامة(Garbology)، وهناك من يَنال درجة الماجستير أو الدكتوراه في هذا العلم الحديث، وقد قمتُ مؤخراً بامتحان طالبة لنيل درجة الماجستير في جامعة البحرين حول إدارة المخلفات البلدية الصلبة في مملكة البحرين وطرق التخلص منها، وأهم المعوقات والصعوبات التي تواجهها والتحديات التي تنجم عنها.

ونتيجة لهذا الاعتقاد الساذج والبسيط إلى المخلفات البلدية الصلبة انكشفت في البحرين وفي الكثير من دول العالم مظاهر هذا الاعتقاد، والتي تتمثل حالياً في تكدس القمامة في الأحياء وتسرب أكياس القمامة والمخلفات الأخرى من جوانب الحاويات وظهورها على جوانب الطرقات، وهذه المظاهر لو تُركت فترة قصيرة من الزمن وتم تجاهلها فستكون منبعاً للروائح العفنة ومصدراً للروائح الكريهة، وستجرى الأنهار من تحتها في الطرقات، وستحوم من فوقها الحشرات، وستظهر القوارض من بطنها، وأخيراً تعرض سلامة بيئتنا للخطر وتهدد صحتنا للأمراض والأوبئة التي نحن في غنى عنها.

ولذلك فإن سياسة خذوه فغلوه أصبحت من الماضي التليد وانتهت من مصطلحات إدارة القمامة والمخلفات البلدية الصلبة، فالتحديات التي نواجهها عند التعامل مع القمامة لا تنتهي بدفنها في مقبرة المخلفات، حيث إن هناك مشكلات مستدامة سنعاني منها بعد دفن القمامة، ولا بد من إدارتها بأسلوب صحي وبيئي واقتصادي واجتماعي مستدام، وتتلخص أولاً في الغازات التي تنتج عن التحلل الحيوي للقمامة مع الزمن، وفي مقدمتها غاز الميثان وغازات سامة أخرى. فهناك دول متقدمة ومتطورة تعاني من ظهور هذا الغاز من مناطق الدفن، ونتيجة لعدم التعامل معها بطريقة سليمة، خَلَقت مشكلة أمنية خطيرة، كما حدث مؤخراً في ولاية تكساس عندما اختلط هذا الغاز القابل للاشتعال مع المياه الجوفية، ثم انتقل إلى حنفيات المياه في المنازل، حيث كان الماء يشتعل مباشرة بعد نزوله من الحنفية، فيشكل تهديداً أمنياً لسكان هذه المنازل.

والقضية الثانية المتعلقة بمشكلات ما بعد دفن القمامة هي المخلفات السائلة السامة التي تنتج بعد تحلل القمامة بسنوات، وهذه المخلفات السائلة إذا لم نتخلص منها فإنها تلوث التربة من جهة وقد تتسرب إلى أعماق الأرض فتسمم المياه الجوفية التي عادةً ما تستخدم للشرب.

وأخيراً وليس آخراً فإن عملية الدفن في حد ذاتها تلتهم مساحات شاسعة من الأرض، وهذه المساحات في دولة صغيرة كالبحرين تعاني من شح الأرض لأغراض تنموية وإسكانية حيوية، قد لا تكون متوافرة في المستقبل المنظور، أي قد يأت زمان، وهو بالقريب، قد لا نجد فيه موقعاً آمناً وسليماً نتخلص فيه من القمامة.

ولذلك أدعو من الجهات المعنية إعطاء الأولوية لهذه القضية الحياتية الخطيرة ودراستها بشكلٍ علمي وبيئي واستراتيجي، ويمكنهم في هذا الصدد الرجوع إلى كتابي تحت عنوان:"القمامة المنزلية وطرق الاستفادة منها" والمنشور عام 1992.

الأحد، 3 يوليو 2016

ماذا يعني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالنسبة للبيئة؟


بعد الاستفتاء التاريخي الصادِم الذي أُجري يوم الخميس 23 يونيو حول بقاء أو مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، والذي أكد فيه الشعب البريطاني رغبته في الخروج من هذا الاتحاد العريق وقال فيه كلمة الوداع الأخيرة، يحق لي وأنا أتابع وأراقب الشأن البيئي العام أن أطرح التساؤلات التالي:

 

هل هناك أبعاد لهذا القرار المصيري على البيئة؟ وهل ستخسر البيئة أم ستربح من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ وما هي تداعيات وعواقب هذا التوجه البريطاني الجديد على جهود حماية البيئة والحفاظ على مكوناتها الحية وغير الحية؟

 

ولكي أجيب عن هذه التساؤلات أرجع إلى الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي خلال أكثر من ستين عاماً من عمره، وأُقدم التشريعات والأنظمة والمواصفات التي سَنَّها في مجال حماية البيئة وصيانة مكوناتها وثرواتها الطبيعية من معايير ومواصفات جودة الهواء إلى مواصفات مياه الشواطئ البحرية، إضافة إلى التشريعات الخاصة بالولوج في بحر تقانات الوقود الصديقة للبيئة، وتعزيز استخدام مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة غير الناضبة، والتي تصب جميعها في مواجهة مشكلة العصر، وهي التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

 

وأود هنا التركيز فقط على جانبٍ واحدٍ من القضايا والتشريعات الأوروبية المتعلقة بالبيئة، وبالتحديد المواصفات المعنية بجودة الهواء وتحسين نوعية الهواء التي يستنشقها المواطن الأوروبي عامة، سواء الذي يعيش تحت سماء بريطانيا، أو يستنشق الهواء في ألمانيا، أو يسكن في فرنسا، أو يعيش في أية دولة أوروبية أخرى عضو في هذا الاتحاد.

 

وأَخُص جودة الهواء من بين القضايا البيئية الكثيرة لعدة أسباب من أهمها أن الملوثات التي تنطلق إلى الهواء الجوي من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من المصادر التي لا تُعد ولا تحصى لا تَبْقى في الدولة التي صَدَرت وخرجت منها، ولا تمكث في حدودها الجغرافية، فهي دائمة الحركة والتنقل من منطقةٍ إلى أخرى، ومن بيئةٍ إلى بيئةٍ جديدة ثانية عبر الحدود الجغرافية المصطنعة بين الدول، دُون الحاجة إلى جواز سفر، أو تأشيرة دخول، ولذلك فإن هذه المعايير والمواصفات البيئية لجودة الهواء، إذا تم تطبيقها على سماء الاتحاد الأوروبي برمته فإنها تضمن أن يكون الهواء في كل هذه الدول نقياً وصافياً وصحياً، فلا يؤثر سلباً على الإنسان أو النبات أو الحيوان أو الجماد.

 

وتلوث الهواء في بريطانيا بلغ ذروته ووصل إلى مستويات عالية ومخيفة وتتجاوز الحدود والمعايير الأوروبية الموضوعة لحماية الهواء الجوي، وقد بلغ هذا التأثير الإنسان نفسه، فقد أكدت التقارير والدراسات الطبية والبيئية أن تلوث الهواء يضر بشكلٍ مميت وقاتل سنوياً على قرابة 40 ألف بريطاني فيقضون نحبهم، ويُنقلون مبكراً وقبل أوانهم إلى مثواهم الأخير. ولذلك وجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي يفرض عليها الالتزام بمعاييره ومواصفته الخاصة بجودة الهواء، إضافة إلى وضع الخطط العملية واتخاذ الإجراءات التنفيذية للالتزام بهذه المواصفات وتحسين نوعية الهواء التي يستنشقها المواطن البريطاني، وخروج بريطانيا الآن من الاتحاد يعني التخلي عن التعهد بتطبيق هذه المواصفات وعدم وجود ضغوط أوروبية على بريطانيا لتنظيف الهواء من الملوثات السامة، وبالتالي استمرار تدهور الهواء واستمرار الموت المبكر للبريطانيين، وتكبدهم نتيجة لذلك خسائر صحية عظيمة.

 

وعلاوة على هذه النقطة الجوهرية فخروج بريطانيا من الاتحاد أدى بشكلٍ فوري ومباشر إلى انهيار السوق، وتحطم الجنيه إلى أدنى مستوى له، وتدهور الوضع المالي بشكلٍ عام، مما سيؤثر على الاستثمارات البريطانية الحالية والمستقبلية في مجال تحسين نوعية الهواء، وفي مجال تطبيقات وتقانات الطاقة النظيفة والصديقة للبيئة والتي من شأنها منع أو خفض انبعاثات الملوثات إلى الهواء الجوي وبالتالي تحسين نوعية الهواء بشكلٍ عام على المستويين القريب والبعيد.

 

ومما يؤسف له حقاً أن القضايا البيئية المتعلقة بوجود بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وبخاصة جودة الهواء، لم تكن طرفاً في معادلة البقاء أو الخروج، ولم يفكر فيه الشعب البريطاني أثناء وضع رأيه في صندوق الاستفتاء، وبالتالي ستكون البيئة هي الخاسر الأكبر من هذا الطلاق، وستكون صحة الإنسان هي الضحية الأولى التي ستسقط سريعاً جراء هذا القرار.