الخميس، 29 سبتمبر 2016

بعد فضيحة الرصاص في مياه الشرب في أمريكا تنكشف فضيحة أخرى



لا أدري كيف تُصنَّف دولة في العالم بأنها متقدمة ومتطورة جداً، وأنها دولة عظمى، وبلغت أعماق الكون السحيقة، وسبرت أغوارها البعيدة، واكتشفت خفاياها وأسرارها الدفينة، وفي المقابل لم تنجح هذه الدولة المتقدمة نفسها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية من توفير أبسط احتياجات الإنسان التي لا حياة بدونها، وهي مياه الشرب الآمنة والصحية والسليمة لجميع أفراد المجتمع؟

فقد نشرتُ مقالاً في أخبار الخليج في 18 يوليو من العام الجاري تحت عنوان:" 18 مليون أمريكي يشربون ماءً مسموماً بالرصاص"، لأُقدم فيه الدليل العلمي الميداني المشهود على هذه الفضيحة الكبرى، وهذا التأخر الفاضح الذي لا يليق بدولةٍ متطورة تُعد أقوى دولة في العالم مثل أمريكا، في مجال حقوق المواطن الأساسية في الحصول على ماء الشرب الصحي، واستندتُ في مقالي على التقارير العلمية المنشورة في الولايات المتحدة الأمريكية ومن جهة حكوميةٍ رسمية هي وكالة حماية البيئة.

وقد ظَننتُ أن هذه الكارثة البيئية الصحية مُقتصرة على عنصر الرصاص السام فقط، وإذا بي اليوم أقف أمام تقريرٍ آخر يفضح رجعية وتأخر الولايات المتحدة الأمريكية، ويُقدم الدليل العلمي المـَخْبري على وجود مادة مسرطنة في مياه الشرب التي يشربها قرابة 218 مليون أمريكي، أي أن هذا العدد الضخم من المواطنين يشربون في كل ساعة من اليوم من مياه الحنفية الموجودة في منازلهم، ويُدخلون في أجسامهم هذا السُم القاتل، مما يعني أن هذا العدد الكبير من الأمريكيين سيعانون مستقبلاً من تهديد الوقوع في فَك مرض السرطان يوماً ما!

فقد نَشرتْ جمعية أهلية مستقلة تهدف إلى حماية صحة الإنسان والبيئة، وتُطلق على نفسها المجموعة العاملة البيئية(Environmental Working Group) تقريراً مخبرياً في 20 سبتمبر من العام الحالي، وقَدمتْ فيه نتائج تحليل أكثر من ستين ألف عينة من مياه الشرب المأخوذة من جميع الولايات الأمريكية، وأكدت النتائج أن زُهاء 75% من هذه العينات، والتي تمثل قرابة 218 مليون أمريكي، كانت مسمومة بالكروميوم الذي يسبب عدة أنواع من السرطان للإنسان، وبتركيز يصل إلى أكثر من 0.02 جزءاً من الكروميوم في البليون جزء من ماء الشرب، أي أعلى من النسبة المسموح بها في مياه الشرب.

وقد تناقلت الصحف الأمريكية هذا التقرير الخطير وقامت بالتحقيق فيه ونشره إلى الرأي العام الأمريكي، كمجلة النيوز ويك الأمريكية التي قَدَّمتْ تحليلاً وافياً وشافياً لمحتويات هذا التقرير في العدد المنشور في 20 سبتمبر.

وهذا الاكتشاف الجديد يحيي في ذاكرة الأمريكيين شبح كارثة بيئية صحية وقعت مشاهدها في التسعينيات من القرن المنصرم، فهناك تاريخ عميق محفور في شرايين المجتمع الأمريكي مع عنصر الكروميوم، حتى أنه دخل عالم السينما عن طريق هوليود في الفيلم الذي خَلَّد ذكرى هذه الكارثة وعنوانه:"(ErinBrockovich). فقد نزلت هذه الطامة الكبرى على سكان مدينة هنكلي(Hinkley) في ولاية كاليفورنيا بسبب صرف مصنع لتوليد الكهرباء لمخلفات سائلة تحتوي على الكروميوم إلى المياه الجوفية المستخدمة للشرب، والذي أدى مع الوقت إلى إصابة السكان بالسرطان وارتفاع حالات الإجهاض عند النساء وولادة الأطفال المشوهين خَلقياً، مما أجبر المتضررين إلى رفع دعوى قضائية في المحكمة، حيث اتخذت المحكمة بعد سنواتٍ من معاناة المواطنين، وبالتحديد عام 1996 حكماً بتعويضهم بمبلغ قدره 333 مليون دولار.

ومع هذا الاكتشاف الجديد، مازالت تداعيات تغلغل الرصاص السام في مياه الشرب الأمريكي تثير غضباً وخوفاً وقلقاً شديداً عند المجتمع الأمريكي بسبب تكرار الحوادث المتعلقة بتلوث مياه الشرب، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وحسب التقرير المنشور في المحطة الإخبارية سي إن إن في الأول من سبتمبر من العام الحالي، تم إخلاء مجمعٍ سكني ضخم بُني عام 1972 في مدينة إيست شيكاغو(East Chicago) بولاية إنديانا(Indiana) من جميع السكان الذين يبلغ عددهم 1100 أمريكي، واضطروا إلى هَجر منازلهم وشِقَقهم في الأول من سبتمبر من العام الجاري، والبحث عن مساكن مؤقتة بديلة، وذلك بعد اكتشاف نسبٍ مرتفعة من الرصاص السام في التربة المحيطة بالمنزل والتي يلعب فيها أطفالهم، والاكتشاف الأخطر من هذا كله هو انعكاس وجود الرصاص في التربة في دِماء فلذات أكبادهم من الأطفال وبنسبٍ مرعبة تهدد حياة هؤلاء الأطفال بالأمراض الجسمية والعقلية.

وإنني أتساءل الآن إذا كانت مثل هذه الفضائح الصحية والبيئية تقع في دولة كبرى وعظمى ومتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف سيكون حال البيئة والناس في دول العالم الثالث النامي والمتخلف؟

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

إعلان مُثير للمَحْكمة الجنائية الدولية


أَعلنتْ المحكمة الجنائية الدولية في 16 سبتمبر من العام الجاري عن خبرٍ جديد لم نعهده من قبل من هذه المحكمة، ولم يقع ضمن دائرة اهتمامها، وليس له علاقة مباشرة بأهداف إنشائها، ويتلخص الخبر في أن المحكمة قد وسَّعَتْ من دائرة اهتماماتها واختصاصاتها، فهي منذ اليوم ستعطي اهتماماً خاصاً لملاحقة ومتابعة الجرائم المتعلقة بتدمير البيئة.

 

وبناءً على هذا الخبر أطرح السؤال التالي: هل تدمير البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة ومحيطات وأنهار وبحار ومياه جوفية وقتل الحياة الفطرية من نباتات وحيوانات تُعد من "الجرائم"، وهل ترقى إلى الجرائم الدولية كجرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإبادة الجماعية؟

 

وهل الجرائم البيئية التي يرتكبها الأفراد، أو الشركات، أو الدول يمكن أن تقع ضمن دائرة اختصاصات وأهداف إنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي تأسست عام 2002 كأول محكمة دولية قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الحرب؟ فهل يحق لهذه المحكمة التحقيق في الانتهاكات الجسيمة التي تلحق يومياً بمكونات بيئتنا؟

 

ولكي أجيب عن هذا السؤال أَرجِع إلى تعريف وتصنيفات الجرائم الدولية حسب القوانين الدولية، حيث إن الجرائم الدولية، وبالتحديد الجريمة ضد الإنسانية تعني أي فعل من الأفعال المحظورة والمـُحَددة في نظام روما متى ارتكبت في وقت الحرب أو السلام، وفي إطار هجومٍ واسع النطاق، أو منهجي مُوجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وتتضمن مثل هذه الأَفعال القتل العَمْد، والإبادة الجماعية، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل والتهجير القسري للسكان، وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها.

 

واستناداً إلى هذا التعريف المتعلق بالجرائم الدولية وأنواعها، والتي من ضمنها "القتل العَمْد"، أُقدم لكم مثالاً صارخاً لجريمة بيئية تُرتكب في كل ساعة في حق البيئة والإنسانية منذ أكثر من سبعين عاماً ولم يتحرك أحد لمحاسبة الجناة والمذنبين، وهو تلوث الهواء الناجم عن التدخين بأنواعه وأشكاله وأسمائه المختلفة وانعكاساته المشهودة على صحة البيئة وأمن الإنسان في كل أرجاء المعمورة.

 

فشركات التبغ والسجائر قتلت ومازالت تقتل "عمداً" ومع سبق الإصرار والترصد ملايين البشر منذ ولادة السجائر، فهي منذ عام 1959 كانت تعلم بخطورة التدخين على الإنسان، كما كانت تعلم بأن التبغ الذي يوضع في السجائر يحتوي على مادة مشعة هي عنصر البولونيوم-210(polonium-210) المُشع، وأن الملوثات التي تنتج عن دخان السجائر تحتوي أيضاً على مادة مشعة قاتلة، وأخرى مسرطنة تؤدي إلى الموت الجماعي للمدخنين ولمن يجلس حولهم. وقد اعترفت هذه الشركات بهذه الحقائق التي تم اكتشافها بعد عقودٍ طويلة من نشر السم في شرايين البيئة وجسم الإنسانية، أي أنها اعترفت بجريمتها الشنعاء المتعلقة بالقتل العمد حتى يومنا هذا للملايين من الناس في كل أنحاء العالم، فهل ستتحرك المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة هذه الشركات ومطاردة مرتكبي هذه الجريمة البيئية الصحية ضد الإنسانية؟

 

وفي السياق نفسه هناك الدول الغربية الصناعية الكبرى التي استباحت حرمات البيئة لعقودٍ طويلةٍ من الزمن واعتبرتها مُلكاً شخصياً لها تفعل بها ما تشاء دون حسيبٍ أو رقيب، فارتكبت جرائم بيئية أخرى ضد الإنسانية وضد الكرة الأرضية برمتها، مثل جريمة تدمير طبقة الأوزون التي تقي الإنسانية جمعاء من الهلاك والتعرض للأشعة البنفسجية القاتلة القادمة من الشمس، أو جريمة انبعاث الغازات من آلاف المصانع التي تبث سمومها منذ أكثر من مائتي عام، والمتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض والكوارث الخطيرة التي تقع بسبب سخونة الأرض على البشرية جمعاء.

 

فكل هذه أمثلة بسيطة على جرائم بيئية ارتكبتها أيدي الغرب خاصة في حق الإنسانية، وكلها يمكن اعتبارها جرائم دولية وتقع ضمن الجرائم ضد الإنسانية، فهل للمحكمة الجنائية الدولية القوة والسلطة على محاكمة الأفراد، أو الشركات، أو الدول الغربية الصناعية على هذه الجرائم، أم أنها مختصة فقط لمحاكمة الأفراد في دول العالم الثالث، وبخاصة الدول الأفريقية؟  

 

الأحد، 18 سبتمبر 2016

تقرير خطير للبنك الدولي


يُعد البنك الدولي إحدى الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة، ويهتم دائماً بالشأن الاقتصادي التنموي، وكل أعماله وتقاريره تنصب في الجانب المالي النقدي، وقد اقترن اسم البنك الدولي عادة بالقروض المهلكة التي تُقدمها للدول فتقع تحت رحمته وهيمنته مدى الحياة.


 


ولذلك يضع البنك نصب عينيه كل القضايا التي لها بعد اقتصادي إنمائي، وتنعكس سلباً على الجانب المالي لدول العالم، ولها مردودات خطيرة تهدد الأمن الاقتصادي والنظام المالي العام.


 


ومن القضايا التي كانت تعتبر في السابق خارج نطاق عمل البنك الدولي ولا تقع ضمن شؤونه واهتماماته اليومية وأهداف إنشائه هو البيئة، وبالتحديد تلوث الهواء الجوي وفساد نوعيته وهويته. ويعزى السبب في تهميش البنك الدولي للبيئة وهمومها وشجونها هو عدم ربط تدهور البيئة بالجانب الاقتصادي، وعدم وجود علاقة أزلية وقوية بين تلوث الهواء الجوي والجانب المالي ووقوع أزمة اقتصادية في دول العالم نتيجة لذلك.


 


ولكن مع الزمن وتراكم المعلومات والأبحاث والخبرات تأكد للبنك الدولي أن قضايا البيئة يجب أن يكون لها مكاناً مرموقاً في جدول أعمال البنك، ويقع ضمن أولوياته الرئيسة، فقد أثبتت الأيام والكوارث التي وقعت خلال المائة عام المنصرمة أن هموم البيئة لا تنعكس فقط على الجانب البيئي البحت والمتعلق بفساد نوعية الهواء والماء والتربة والبحار والمحيطات، وإنما تضرب الأمن الصحي للإنسان في كل أنحاء العالم، وهذا بدوره ينعكس بشكلٍ مباشر على الجانب الاقتصادي المتمثل في توفير العلاج الصحي والرعاية المستدامة للمرضى نتيجة للتعرض للملوثات السامة والمواد الكيميائية المسرطنة الفتاكة، إضافة إلى خفض إنتاجية الفرد وموته وهو في ريعان شبابه وإنتاجه للمجتمع، وفي ذروة عطائه الفكري والعقلي والجسدي.


 


وفي هذا الإطار نَشَر البنك الدولي في الثامن من سبتمبر من العام الجاري دراسة شاملة ومتكاملة تحت عنوان:"كُلفة تلوث الهواء: إثبات البعد الاقتصادي من أجل اتخاذ الإجراءات"، وقد غطى التقرير كل دول العالم وشمل فترة زمنية من عام 1990 إلى 2013، حيث توصلت الدراسة إلى استنتاجات مخيفٍ جداً يتلخص في تكبد دول العالم قاطبة لخسائر اقتصادية باهضة وغير متوقعة وسترهق كاهل ميزانياتها، حيث بلغت الكلفة الإجمالية التي على العالم تحملها ودفعها نقداً من ميزانياتها الخاصة بالتنمية نتيجة للتعرض للهواء الملوث والسام والمسرطن في الداخل والخارج إلى قرابة خمسة تريليونان دولار سنوياً. كما أكدت الدراسة إلى أن تلوث الهواء كَلَّف بريطانيا نحو 7.6 بليون دولار عام 2013، والولايات المتحدة الأمريكية 45، وألمانيا 18 بليون دولار، في حين أن الصين خسرت قرابة 10% من الناتج المحلي الإجمالي بسبب تلوث الهواء في عام 2013، والهند 7.68%، وسيريلنكا قرابة 8%.  


 


وقد استند تقرير البنك الدولي على دراساتٍ وأبحاث كثيرة منشورة في كل دول العالم، ومن أهمها تقارير منظمة الصحة العالمية الدورية والتي تؤكد فيها مسؤولية تلوث الهواء الرئيسة في نقل الناس إلى مثواهم الأخير قبل الأوان وفي سنٍ مبكرة وإصابتهم بأمراض القلب والجهاز التنفسي المزمنة، حيث تفيد هذه التقارير أن فساد الهواء في البيئات الداخلية والخارجية يقضي مبكراً على قرابة 5.5 مليون إنسان سنوياً، ويقع تلوث الهواء في المرتبة الرابعة لأسباب وفيات الإنسان بعد التدخين، وسوء التغذية، والبدانة والسمنة المفرطة.


 


وقد خلص تقرير البنك الدولي إلى استنتاجٍ هام على كافة دول العالم الإطلاع عليه وتنفيذه، كما يلي:"تلوث الهواء يُعد تحدياً يهدد حياة الإنسان الأساسية، ويدمر الطبيعة وثروات الإنسان ومكونات البيئة الحية وغير الحية، ويُعرقل النمو الاقتصادي".


 


وتأتي أهمية هذا الاستنتاج في أنه جاء على لسان وكالة أممية غير متخصصة في القضايا البيئية، وغير مَعْنية بشكلٍ مباشر بالبيئة وهمومها، ولا يقع حل مشكلات البيئة ضمن أهدافها ورؤيتها، فهي وكالة اقتصادية مالية وتنموية بحته، ولذلك أتمنى انطلاقاً من تقرير البنك الدولي هذا من كافة السياسيين ومتخذي القرار وضع البيئة نُصب أعينهم ووضع همومها في أول سلم الأولويات، إذ لا تنمية بشرية، ولا نمو اقتصادي مستدام، ولا حياة كريمة وسعيدة بدون حماية البيئة والحفاظ على ثرواتها ومواردها الطبيعية.


 

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

من يُحيي المخلفات المدفونة وهي رَمِيْم؟



يؤمن المسلم بأنه عندما يموت سيبعثه الله من جديد، فسيُحيي الله عِظامنا المتَفَتتة البالية مثل التراب، كما أَنْشَأَهَا أول مرةٍ من غير شيء، وسيُعيدنا مرة ثانية ويبعثنا من قُبورنا ومن بطن الأرض ليوم العقاب والحساب والثواب، فإما إلى جنة عرضها السماوات والأرض وإما إلى النار، ولكن في المقابل أطرح تساؤلات تؤرقني دائماً وهي ماذا سيحدث لملايين الأطنان من المخلفات الصلبة وشبه الصلبة بأنواعها المختلفة من نووية مشعة قاتلة ومخلفات خطرة غير مشعة التي دفنها الإنسان في مقابر جماعية كثيرة في ظلمات قاع الأرض، وظَن أنه قد تخلص منها كلياً منذ أكثر من 70 عاماً، ومازال حتى الآن يقوم بهذه الممارسات؟

فهل ستخرج علينا هذه المخلفات يوماً ما من أعماق بطن الأرض السحيقة، وتعود إلينا مرة ثانية وكأنها استيقظت من جديد، فتسبب لنا أَرقَاً وهماً شديدين لا يمكن التخلص منهما، كما كان عليه الحال قبل دفنها؟

وهل ستُبعث مخلفات الدمار الشامل هذه يوماً ما من آلاف المقابر الجماعية المنتثرة في كل أرجاء العالم؟ وهل سيكون يوم خروج المخلفات من مقابرها قريباً أم بعيداً؟

كل هذه التساؤلات يطرحها العلماء الآن، وهي هموم وشؤون واقعية قد تحدث في المستقبل في أية لحظة، وليست من نسج الأحلام العلمية أو من أفلام هوليود الخيالية، وقد ثارت هذه الاستفسارات والتحذيرات المنطقية نتيجة للتغيرات المزمنة التي تطرأ حالياً على الكرة الأرضية من ارتفاعٍ مشهودٍ في درجة الحرارة، والتغير المناخي، وذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي، وارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع الفيضانات والكوارث الطبيعية الأخرى، وكل هذه النوائب الجسام ستُوقع أضراراً فادحة، وتُولِّد آثاراً عظيمة مدمرة على المرافق فوق سطح الأرض وما تحمل في بطنها وفي أعماقها تحت السطح.

ومن التحديات الحديثة التي بَرزت إلى السطح نتيجة للتغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية هي ارتفاع حرارة الأرض وما ينجم عنه من سرعة ذوبان الثلوج في القطب الشمالي خاصة، وهذه الظاهرة التي تحدث حالياً بمعدلات بسيطة قد تكون لها عواقب وخيمة لا يعلم مداها إلا الله.

ومن الحالات الواقعية الكارثية التي قد تقع نتيجة لانصهار الثلوج تلك التي نُشرت في الرابع من أغسطس من العام الجاري في مجلة(Geophysical Research Letters). فمشهد هذه الحالة ومسرح العمليات يقع في المناطق الثلجية في القطب الشمالي في جرينلند(Greenland Ice Sheet)، وبالتحديد في بقعةٍ استخدمت كقاعدة بحثية عسكرية أمريكية في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وأُطلق عليها مخيم القرن(Camp Century). وبعد إغلاق القاعدة في عام 1967 تم التخلص من آلاف الأطنان من مخلفات وقنابل الدمار الشامل البيولوجية، والنووية، والكيميائية من خلال وضعها في مقابر جماعية على شكل أنفاقٍ متشابكة وسرية تحت سطح الأرض في أعماق الثلوج المتراكمة، وظن القائمون على العملية بأنهم قد تخلصوا منها إلى الأبد، فهي ستبقى هناك خالدة مخلدة في مقاربها بعيدة عن أعين وآذان البشر، وستتراكم عليها يوماً بعد يوم الثلوج الكثيفة التي تنزل عليها بغزارة وباستمرار كل ساعة.

ولكن الآن وبعد أن نَسي العالم وجود هذه المقبرة، وبعد مضي أكثر من 49 عاماً على الدفن، يُحذر العلماء من احتمال انبعاث هذه المخلفات من مقابرها وخروجها مرة ثانية من بطن الأرض إلى سطحها، حيث أشارت المشاهدات والتوقعات أنه منذ الفترة من عام 2007 إلى 2011 فَقَدتْ الأسطح الثلجية في مقبرة المخلفات في جرينلند نحو 260 بليون طن من الثلج، أي نحو 8000 طنٍ في الثانية،وذلك بسبب ذوبانها نتيجة لارتفاع درجة حرارة الأرض، وهذه العملية ستستمر بوتيرةٍ أسرع كلما ارتفعت درجات الحرارة أكثر، مما يُعري ويكشف سوءة مخلفات الدمار الشامل من مقبرها ويظهرها على السطح مرة ثانية.

والسؤال الخطير والشائك المطروح الآن هو: لو حَدَثَ هذا بالفعل، فمن سيتحمل مسؤولية مخلفات وقنابل الدمار الشامل؟ فهل هي أمريكا التي قامت ببناء هذه القاعدة ودَفَنت المخلفات فيها، أم الحكومة الدنمركية التي سمحت لأمريكا بإقامة هذه القاعدة العسكرية عندما كانت جرينلند تحت سيطرتها، أم جرينلند نفسها التي تُعد حالياً مقاطعة مستقلة؟

فلا شك بأن هذه الطامة الكبرى ستخلق أزمة بيئية وسياسية خانقة ومعقدة لا يمكن التكهن بكيفية الخروج منها.

الأحد، 11 سبتمبر 2016

أطفال العراق بين القتل والمرض



عيناي تفيض دماً وليس دمعاً، وقلبي يعْتَصُر ألماً وحسرة، ونفسي تتقطع حزناً وأسفاً لحال بلد الرافدين، العراق، وما آلت إليها أوضاع هذا البلد العربي المسلم من دمارٍ وتفتيتٍ وانقسام، وضحايا بشرية تتساقط أمام أعيننا كل يوم.

ولكن الأدهى من ذلك كله والأمر هو الكثير من الخراب والفساد الصحي والبيئي الذي حَلَّ بالشعب العراقي، وبخاصة الأطفال نتيجة للمعارك والحروب، والذي لا تراه أعيننا في وسائل الإعلام وأدوات التواصل الاجتماعي، ولا نسمع عنه أو نقرأ تفاصيله وعمق وانتشار دائرة تأثيره على المجتمع العراقي عامة إلا من خلال الاطلاع على الدراسات المتخصصة والأبحاث المنشورة في المجلات العلمية والبحثية.

ومنها مؤخراً دراسة تحت عنوان:"التعرض قبل الولادة في الشرق الأوسط: أثر الحرب على صحة أسنان الأطفال" والمنشورة في 28 يونيو 2016 في مجلة تقييم ومراقبة البيئة(Environmental Monitoring and Assessment)، حيث قامت هذه الدراسة الميدانية بتحليل مستوى العناصر الثقيلة السامة، مثل الرصاص والزئبق في أسنان أطفال العراق الذي عانوا من مشكلات أثناء الولادة، والأجنة التي عانت من تشوهات خَلْقية وإعاقات جسدية وعقلية، وتمت مقارنتهم بأطفال لبنان وإيران الأصحاء، فوجود هذه العناصر السامة في أعضاء جسم الإنسان يُعد مؤشراً حيوياً على التدهور الصحي الذي يعاني منه الأطفال في العراق وأعداد الضحايا البشرية التي سقطت نتيجة لتلوث الهواء الجوي.

وقد أكدت الدراسة على اكتشاف مستوياتٍ مخيفة للملوثات السامة، وبالتحديد الرصاص وتراكمه منذ سنوات في أجسام الأطفال وتهديده لصحتهم وتعريضه لهم للإعاقات الجسدية والعقلية، حيث زادت مستويات الرصاص في أسنان بعض أطفال العراق خمسين ضعفاً مقارنة بأطفال لبنان وإيران، ومن المعروف علمياً أن الرصاص يؤثر على مستوى الذكاء عند الإنسان ويصيبهم مع الوقت لمشكلات ذهنية وعقلية مزمنة، كما أكدت الأبحاث أن تراكم الرصاص في جسم الإنسان يؤدي إلى زيادة مَيل هذا الإنسان نحو السلوكيات الخاطئة والتصرفات المنحرفة والعنيفة وارتكاب أعمال الشغب والجرائم.

كذلك هناك أبحاث نُشرت قبل سنوات أكدت على تدهور صحة المواطنين العراقيين بسبب الحروب نتيجة لاستخدام شتى أنواع الذخائر والقنابل التقليدية وغير التقليدية، ومنهاقنابل اليورانيوم المنضب أو المستنفد(depleted uranium) والقنابل الفسفورية البيضاء الحارقة، فعلى سبيل المثال، هناك دراسة  نُشرت في نوفمبر 2012في مجلة "التلوث البيئي والسُمية"(Environmental Contamination and Toxicology Bulletin)، تحت عنوان: "التلوث بالعناصر وَوَبَاء ولادة الأطفال المشوهين في المدن العراقية"، وهذه الدراسة أجراها باحثون من كلية الصحة العامة بجامعة ميشيغان(University of Michigan) وأطباء من مستشفى البصرة للولادة على الأطفال المولودين في مستشفى الولادة بالبصرة قبل الغزو الأمريكي وبعد الغزو منذ مارس 2003، وقامت بمقارنة أعداد الأطفال المولودين بتشوهات عضوية بَدَنية في الفترتين الزمنيتين.

ففي الفترة بين 1994و 1995 كانت الولادات المشوه لكل 1000 ولادة هو 1.37، في حين عام 2003 بلغت 23 لكل 1000، ثم تضاعف العدد 17 مرة في السنوات من 2003 إلى 2011. أما بالنسبة لحالات الإجهاض للنساء الحوامل فقد زادت من 10% قبل الغزو إلى 45%.

وجدير بالذكر أن آثار غزو العراق لم تؤثر على العراقيين فحسب، وإنما رَدتْ على الجنود الأمريكيين أنفسهم وتضرر منها عشرات الآلاف منهم فتجرعوا من السم نفسه، حيث أعدَّ ضابط أمريكي اسمه جوزيف هيكمان(Joseph Hickman) كتاباً نُشر في فبراير 2016 تحت عنوان :"الحُفَر المحترقة: تسمم الجنود الأمريكيين"، وأكد فيه بالأدلة العلمية والوثائق الرسمية أن أكثر من 85 ألف جندي أمريكي من الذين شاركوا في احتلال العراق يعانون الآن من أعراضٍ مرضية غريبة في الجهاز التنفسي وصعوبات وضيق في التنفس وأمراض عصبية أخرى، وقد نزلت عليهم هذه الأمراض بسبب حرق المخلفات العسكرية النووية وغير النووية من ذخائر ومعدات، ومبيدات، وأدوية، ومخلفات كيميائية، ونفايات طبية، في حفرٍ بدائية في الهواء الطلق فتعرضوا مباشرة لخليطٍ معقدٍ وسام من الملوثات الكيميائية المشعة وغير المشعة التي انبعثت منها.