السبت، 30 يناير 2016

تَسْمِيمْ مدينة أمريكية


عنوانُ مقالي اليوم هو عنوان المقال الرئيس نفسه، والموجود على صفحة الغلاف في مجلة التايمز الأمريكية في العدد الصادر في 21 يناير 2016، وهذا العنوان هو جزء من عنوانٍ طويل للمقال وهو: "تَسْمِيم مدينة أمريكية، مياه سامة، أطفال مرضى، وقادة عاجزون خانوا مدينة فلينت بولاية مشيجان".

 

موضوع هذا المقال الذي شغل مساحةً كبيرة من مجلة التايمز المرموقة والواسعة الانتشار حول العالم وصحف كثيرة أخرى، واهتمت به المجلة، وسلطت عليه الأضواء بوضعه في واجهة المجلة وعلى صدر صفحة الغلاف، قد كَتَبتُ عنه مؤخراً، ونَشرتُ مقالين يتناولان هذه الكارثة التي أَضَّرتْ وهددت صحة الإنسان وبيئته، فالمقال الأول جاء تحت عنوان: "إعلان حالة الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث" ونُشر في 18 يناير، والثاني عنوانه: "سياسة التقشف ووقوع كارثة بيئية صحية"، ونُشر في العشرين من يناير من العام الجاري.

 

واليوم أَضْطُر مرة ثالثة لمناقشة هذه الكارثة التي شغلت بال أمريكا وأَعلن أوباما حالة الطوارئ بسببها، وذلك لانكشاف أبعادٍ جديدة خطرة، وظهور جوانب خفية لم تكن في الحسبان، كما أَوَد في الوقت نفسه أن أُبين العلاقة والترابط بين هذه الكارثة التي وقعت في إحدى مدن أمريكا وبين حالنا في البحرين ودول الخليج عامة، وذلك من أجل تجنب الوقوع فيها، فالإنسان يجب أن يتعظ بالتاريخ قبل أن يكون هو نفسه عِبرة وعظة للتاريخ.

 

فعندما بدأتُ القراءة عن هذه الحادثة، وشَرعت في الكتابة عنها، كُنت أظن بأنها وقعت في واحدة من الدول النامية، أو دول العالم الثالث الفقيرة والمستضعفة التي لا تتمتع مجتمعاتها بكفاءاتٍ عالية، وخبراتٍ بشرية متطورة ومتنوعة، وتفتقر إلى الأجهزة والمعدات المتقدمة، والتقانات العالية الحديثة، ولا تُفَعَّل فيها القوانين والأنظمة الصحية والبيئية، فتسود العشوائية والاجتهادات الفردية، والتخبط في العمل والتنفيذ، ولكن وقوع مثل هذا الكَرْبْ العظيم في أكبر دولةٍ على وجه الأرض وأغناها وأكثرها ثراءٌ دون منازع، وأشدها تقدماً وتطوراً من الناحية العلمية والفنية والثروات البشرية، فهذا أمر عَجَبْ، وبحاجةٍ إلى وقفةِ تأملٍ وتَدَبر، وأخذ العبر والعظات منها.

 

فهذه الكارثة وقعت لسببٍ رئيس واحد، وهو تطبيق إجراءات التقشف "الأحادية الجانب"، أي تنفيذ ترشيد الإنفاق والاستهلاك، وخفض المصروفات وتوفير المال، دون الأخذ في الاعتبار انعكاسات هذا الإجراء وتأثيراته على الجوانب الحيوية الأخرى، سواء أكانت الجانب البيئي، أو الصحي، أو الاجتماعي، أو السياسي والأمني. فولاية مشيجان، وبعض المدن في الولاية، تعاني من تدهورٍ اقتصادي مُدقع، وأزمة مالية خانقة منذ سنوات، فلذلك أعلنت ديترويت مدينة صناعة السيارات الإفلاس، وعُيِّن عليها ما يُطلق عليه "مدير للطوارئ"،وفي دُولنا المستضعفة في مثل هذه الحالات، وليس في أمريكا طبعاً، يتدخل البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة المالية فتفرض علينا قيوداً وشروطاً وإجراءاتٍ محددة تَصُب كلها في "رفع" الدعم الشعبي عن كل منتجٍ استهلاكي، والعمل على خفض المصروفات وتوفير المال. وهذا ما حدث بالفعل في مدينة فلينت(Flint) التي تبعد نحو مائة كيلومترٍ من ديترويت، وعدد سكانها قرابة مائة ألف معظمهم من أصول أفريقية من الفقراء وغير المتعلمين الذين لا يعرفون حقوقهم، وليس لديهم المال للدفاع عن هذه الحقوق، وليس لهم أي وزنٍ سياسي يحسب له، ولذلك من السهل تنفيذ أي إجراءٍ "تقشفي" عليهم، فقام "مدير الطوارئ" وعُمدة المدينة في 25 أبريل 2014 من أجل "التقشف" وتوفير المال بتحويل مصدرِ مياه الشرب لسكان المدينة من ديترويت البعيدة عنها إلى المصدر الأرخص ثمناً، وهو نهر فلينت الذي يجري في قلب المدينة، دون الأخذ في الاعتبار جودة هذه المياه ونوعيتها وتأثيراتها الصحية والبيئية على سكان المدينة.

 

ومع الوقت تبين أن هذه المياه التي دخلت كل منزل وشربها يومياً ولعامين أكثر من مائة ألف إنسان أنها ملوثة ومسمومة، فرائحتها عفنة، ولونها برتقالي مائل إلى الصفرة، وطعمها غير مستساغ، بل وأكدت الدراسات المخبرية أن هذا الماء ملوث بعنصر الرصاص، وأن الكثير من أطفال المدينة تشبعت دماؤهم وأجسامهم بهذا الملوث الخطير وتراكمت في عظامهم. وبالرغم من هذه التحذيرات الأولوية وبُروز شكاوى الناس، إلا أن قادة المدينة والولاية تجاهلوا هذه الشكاوى وأهملوا احتجاجات الناس المتكررة حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبي وتحولت هذه الكارثة الصحية البيئية إلى أزمةٍ سياسية وأمنية ثقيلة تخطت الحدود الجغرافية لهذه المدينة الصغيرة فشملت كل الولايات المتحدة الأمريكية، وتدخل فيها البيت الأبيض فخَصص فوراً مبلغاً مالياً وقدره خمسة ملايين دولار من "الصندوق الاتحادي للكوارث الطبيعية"، كما اعتذر حاكم ولاية مشيجان قائلاً:" أنا آسف"، والآن هذه المدينة تحولت إلى إحدى مدن العالم الثالث، أو مخيمات اللاجئين التي تَصِلها المياه عبر صهاريج وشاحنات النقل، أو تصلها يدوياً قناني المياه البلاستيكية فتوزع عليهم بيتاً بيتاً وفرداً فردا.

 

وهذه الكارثة أدخلت بُعداً جديداً غير البعدين الصحي والبيئي، وأحْيت إلى الذاكرة قضية قديمة تعاني منها أمريكا وهي "العنصرية"، ولكن اليوم هي عنصرية من نوعٍ خاص وهو "العنصرية البيئية"، بحيث إن  القس جيسي جاكسون(Jesse Jackson) المرشح الأسبق للرآسة في أمريكا أَطلق على المدينة "موقع الجريمة"، أي جريمة "العنصرية البيئية"، وتساءل هذا القس والكثيرين من المفكرين الأمريكيين أن هذه الكارثة لو كانت في مدينة غنية وسكانها من المتعلمين البيض، ومن الأثرياء فهل سيتم تجاهلها وغض الطرف عنها أكثر من عام؟ كما كتب المخرج المشهور مايكل مور(Michael Moore) مقالاً سيُنشر في مجلة التايمز في الأول من فبراير تحت عنوان:" تَسَمُم مدينة فلينت يُعد جريمة عنصرية".

 

وبالتالي نرى أمامنا بأن هذا الإجراء التقشفي البسيط الذي اتخذته المدينة من أجل توفير المال، كلفها أضعاف المبلغ الذي تم توفيره، وكشف أبعاداً خطيرة لم تكن في الحسبان، فاعتبروا يا أولي الألباب.

 

الاثنين، 25 يناير 2016

نهاية سيارة الشعب


سيارة الشعب هي الفولكس واجن التي أنتجتها ألمانيا في عصر هتلر في عام 1937 لتكون سيارة عامة الناس وفي متناول الطبقات العاملة والفقيرة، ومنذ ذلك الوقت وهذه السيارة تشق طريقها بكل هدوء في بحر صناعة السيارات، وتأخذ في كل سنة خطوة ثابتة، وقوية، ومتزنة لكل تستطيع أن تنافس باقي السيارات المعروفة بقوتها، وجودتها، ومصداقيتها في الطريق، فلا تغرق في بحر عالم السيارات ولا تسقط في منتصف الطريق غير قادرة على التنافس معها.

 

وبالفعل نجحت نجاحاً باهراً وغير مسبوق، وحققت أرباحاً خيالية عظيمة، حتى تحولت من سيارة الشعب وسيارة ذوي الدخل المحدود إلى سيارة النخبة والأغنياء، وأصبحت واحدة من أكبر منتجي السيارات على المستوى الدولي.

 

ولكن جشع الإنسان، وعبوديته للمال، ورغبته في تحقيق الإنجازات والربح السريع والكبير وبلوغ مرحلة العظمة، والوصول إلى درجة الاحتكار وكسر الآخرين وتحطيمهم من خلال إتباع كافة الوسائل الشرعية غير الشرعية، واستخدام الأدوات المحظورة وعلى حساب القيم والمبادئ والأخلاقيات الإنسانية، هي التي جعلت هذا العملاق الكبير يتهاوى، وتنتهك قواه، وقد يسقط مغشياً عليه، أو ميتاً بعد حينٍ من الزمن.

 

فشركة فولكس واجن أصابها غرور العظمة، ونَهش الكبرياء في أعضائها، واستفحل التحايل والغش في شرايينها، فاعتبرت نفسها شركة فوق القانون، وأنها تستطيع أن تفعل ما تريد دون رقابة أو محاسبة أو اكتشاف ما تقوم به من غشٍ أو تضليل.

 

فقامت ولأكثر من عشر سنوات في بيع أكثر من 11 مليون سيارة مغشوشة، وبالتحديد السيارات التي تعمل بالديزل، حيث ركَّبَتْ على هذه الملايين من السيارات برنامجاً في الحاسب الآلي للسيارة(software)، وأُطلقت عليه(defeat device)، وحَوَّرت هذا البرنامج وتلاعبت فيه ليُضلل المستهلك، ويُقدم معلومات كاذبة ومزورة عن نسبة الملوثات التي تنبعث من عوادمها، فكيَّفت هذا البرنامج ليُقدم أرقاماً وقراءات خاطئة تفيد بأن التلوث الناجم عن هذه السيارات منخفض جداً ويتوافق مع معايير الانبعاث التي وضعتها دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ونجحت عن طريق هذا الغش التجاري البيئي الصحي لعدة سنوات، وتمكنت من اكتساح سوق السيارات وإقناع الدول على شراء هذه السيارات الخضراء "الصديقة للبيئة" التي يلهث العالم لشرائها حفاظاً على صحة البيئة وصيانة لأرواح الناس!

 

ولكن الصُدف كشفت هذه الفضيحة الكبرى والجريمة النكراء في الولايات المتحدة الأمريكية، واضطرت الشركة إلى الاعتراف بها في سبتمبر من عام 2015، والآن تعاني هذه الشركة العملاقة من أزماتٍ لا تُعد ولا تحصى، وقد تقضى على سيارة الشعب كلياً، والتداعيات التي سأذكرها لكم تؤكد حجم الورطة الثقيلة التي أوقعت نفسها فيها.

أولاً: استقالة الرئيس التنفيذي وكبار التنفيذيين من الشركة، مما يعني خسارة خبرات تراكمت عبر الزمن ولا يمكن تعويضها.

ثانياً: خصصت الشركة فور انكشاف الفضيحة مبلغاً وقدره 7.3 بليون دولار لمواجهة التداعيات المتوقعة، وهذا يعني خفض المصروفات في القطاعات الحيوية الأخرى كالأبحاث والتطوير، مما يقلل من قدرة الشركة على التنافس مستقبلاً.

ثالثاً: منذ أن انكشفت الجريمة  خسرت الشركة نحو 20 بليون من قيمتها السوقية، كما  انخفض سعر الأسهم بنسبة 39%.

رابعاً: انخفضت المبيعات بشكلٍ عام على المستوى الدولي بنسبة 4.8%، وهذا يُعد أول انخفاضٍ تشهده الشركة منذ 11 عاماً.

خامساً: خسرت الشركة في اليابان موقعها في طليعة السيارات التي تباع في اليابان لأول مرة منذ 16 عاماً، فانخفضت المبيعات بنسبة 18.8%، كما انخفضت المبيعات في ألمانيا لأول مرة خلال عشر سنوات بنسبة 5.3%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 25%، وفي بريطانيا بنسبة 20%.

سادساً: إصلاح السيارات المغشوشة في الولايات المتحدة الأمريكية فقط يكلف نحو 9.3 بليون دولار.

سابعاً: رَفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى مدنية في الرابع من يناير من العام الجاري في محكمة اتحادية في مدينة ديترويت، تطلب فيه تعويضاً مالياً يقدر بـ 18 بليون دولار للمخالفات التي ارتكبتها الشركة، ودعاوى أخرى كثيرة رُفعت من الأفراد، وجمعيات المستهلكين، ووكلاء السيارات، وهذه القضايا قد تتحول إلى قضايا "جنائية" في المستقبل، كما أن هناك عدداً هائلاً من الدعاوى رفعت ضد الشركة في الكثير من دول العالم.

فبعد كل هذه التداعيات التي نزلت على فولكس واجن، والكثير منها سيأتي لاحقاً، هل تستطيع هذه الشركة أن تصمد أمامها، أم أنها ستنكسر؟

الثلاثاء، 19 يناير 2016

سياسة التقشف ووقوع كارثة بيئية صحية


ما أن انتهيتُ من نَشر مقالي تحت عنوان: “إعلان الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث" في 18 يناير والمتعلق بإعلان حاكم ولاية مشيجان لحالة الطوارئ البيئية الصحية في الولاية، وإذا بوسائل الإعلام الأمريكية الرئيسة تَنشر خبراً في صفحاتها الأولى في 17 من الشهر الجاري تحت عنوان: "أوباما يُعلن حالة الطوارئ"، أي أن القضية تحولت من حدود الولاية الواحدة الضيقة، وهي مشيجان، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويتلخص هذا الخبر في موافقة الرئيس الأمريكي أوباما على استخدم الصندوق الاتحادي المخصص فقط للحالات الطارئة والكوارث الطبيعية في تمويل ومساعدة ولاية مشيجان على مواجهة هذه الكارثة التي نزلت عليها، حيث صرح مسئول في البيت الأبيض قائلاً: "أَمَرَ الرئيس بمساعدة اتحادية لدعم وتمويل جهود ولاية مشيجان والسلطات المحلية في المدن والبلديات بسبب الحالة الطارئة في المنطقة التي تأثرت وتضررت بالمياه الملوثة، ومن أجل تخفيف معاناة السكان وحالتهم الصعبة"، وقد كَلَّف الرئيس الوكالة الاتحادية لإدارة الطوارئ للتنسيق في جهود المساعدة وتخصيص خمسة ملايين دولار لهذه العملية، إضافة إلى توفير المياه الصالحة للشرب، ومرشحات تنظيف الماء من الشوائب والغبار والجسيمات الدقيقة.

 

فهذه الكارثة والطامة الكبرى التي أَلـمــَّتْ بالسكان في ولاية مشيجان، وبالتحديد مقاطعة جينيسي(Genesse county)، وهي إحدى مقاطعات ولاية مشيجان وعاصمتها فلينت(Flint) التي تقع في قلب الولاية وتبعد نحو مائة كيلومترٍ من ديترويت، لو كانت انعكاساتها بسيطة وعابرة، ومردوداتها قليلة وهامشية، لما اسْتَدعت تدخل الرئيس الأمريكي نفسه، ولما كانت هناك حاجة لإعلان الطوارئ على مستوى البيت الأبيض وتكليف الوكالة الاتحادية لإدارة الطوارئ وصندوق الطوارئ للمساعدة ودعم جهود الإغاثة التي عجزت الولاية نفسها وبإمكاناتها السيطرة على هذه الكارثة ومكافحتها.

 

ولو تعمقنا قليلاً في أسباب تعرض سكان مشيجان لهذه النكبة البيئية الصحية لوجدنا أنها وقعت نتيجة لقرارٍ خاطئ اتخذته السلطات المعنية في الولاية من أجل توفير مبلغٍ زهيدٍ من المال ليتماشى مع سياسة التقشف، وخفض النفقات، وتقليل المصروفات في كل قطاعات الولاية التي ضربتها أزمة مالية حادة، ووضع اقتصادي متدهور، فتراكمت الديون على ظهرها وزادت يوماً بعد يوم، وجعلتها أخيراً تقع في هاوية الإفلاس.

 

فمن الإجراءات "التقشفية" المتعجلة التي اضطرت الولاية إلى تبنيها هي مياه الشرب التي تصل إلى منازل سكان الولاية، فقامت بتغيير مصدر المياه القادمة إلى مدينة فلينت وما حولها من مدينة ديترويت، وبالتحديد من بحيرة هرون(Lake Huron) إلى الاستخدام المباشر لماء النهر الملوث الذي يمر في قلب المدينة، دون التفكير مَلياً في العواقب البيئية والصحية المترتبة على هذه الخطوة.

 

فماء النهر لم يكن صالحاً للشرب والاستهلاك الآدمي بشكلٍ مباشر مما أدى إلى احتجاج الناس وتذمرهم من هذا الماء الملوث الذي يصل إلى منازلهم وخروجهم في مظاهرات غاضبة، فرائحة الماء عفنة، ولونه عكر وغير صافي، ومذاقه غير مقبول ورديء، ولكن الجهات المعنية كالعادة تجاهلت هذه الصرخات والشكاوى، حتى بلغت الكارثة ذروتها عندما نُشرت تقارير تؤكد وجود العديد من الملوثات السامة والخطرة في المياه التي يشربها السكان، ومن أخطر هذه السموم هو الرصاص المعروف بتأثيراته المباشرة على أعضاء جسم الإنسان وبالتحديد المخ وإضراره بمستوى الذكاء عند الأطفال، حيث أكدت التحاليل التي أُجريت على أطفال المدينة أن نسبة الرصاص في دمائهم مرتفعة جداً إلى درجة تُنذر بوقوع وباءٍ صحي عام على جميع السكان، من أطفال وشيوخ.

 

فهذه النتائج العلمية الميدانية أكدت أنه نتيجةً لسياسة التقشف غير الرشيدة والتسرع في اتخاذ القرار من أجل توفير المال فقط والأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي على حساب الجوانب الأخرى الحيوية، الصحية، والبيئية، والاجتماعية، والسياسية، فقد وَقع هذا الدمار العميق، والفساد المباشر على صحة الناس وصحة البيئة على حدٍ سواء، فقد سَمحْنا بأيدينا وبرضانا التام لانتشار السموم القاتلة للبشر في أعضاء جسم البيئة أولاً، ثم انتقلت مع الوقت إلى كل خليةٍ من خلايا أجسامنا، فتراكمت فيها واستقرت بداخلها، ولا يمكن الآن التخلص منها، مهما فعلنا وبذلنا من جهود، وصرفنا من الأموال.

 

ودعوني أُلخص لكم أهم تداعيات هذا القرار التقشفي الذي كان يهدف إلى توفير المال فقط:

أولاً: اضطرار حاكم الولاية إلى إعلان الطوارئ، ثم مَدْ يد العون إلى الصندوق الاتحادي لمساعدته مالياً على تجاوز هذه الكارثة.

ثانياً: أَكَّد حاكم الولاية على الحاجة الماسة العاجلة إلى مبلغ وقدره 96 مليون دولار لمواجهة هذه الطامة على المدى القريب والبعيد، علماً بأن المبلغ الذي تم توفيره من إجراء التقشف في تغيير مصدر الماء لا يقارن بتاتاً بهذا المبلغ الكبير!

ثالثاً: إعلان النفير العام في الولاية، واستدعاء الحرس الوطني للولاية وكافة أفراد الشرطة وأعدادٍ مهولة من المتطوعين لتوزيع قناني مياه الشرب والمرشحات على كل السكان، بيتاً بيتاً، وفرداً فرداً لمدة تسعين يوماً.

رابعاً: انتشار التلوث في البيئة وجريانه في شرايين جسم السكان، وتعريضهم لوباءٍ عام لا يمكن توقع الأمراض التي ستنزل عليهم حالياً ومستقبلاً.

خامساً: إجراء التقشف والترشيد لم يأخذ في الاعتبار إلا الجانب الاقتصادي، وأَغْفل وتجاهل كلياً الأبعاد والجوانب الأخرى، ولذلك التداعيات كانت شديدة، وأولها كانت على الجانب الاقتصادي نفسه!

 

ونظراً لفظاعة هذه الكارثة، فإنني أدعو الجميع إلى الوقوف برهة أمامها والاستفادة من هفواتها، والتعلم من زلاتها، حتى لا نقع فيها.

الأحد، 17 يناير 2016

إعلان الطوارئ في أمريكا بسبب التلوث


اضطر حاكم ولاية مشيجان الأمريكية ريك سنايدر(Rick Snyder) في الخامس من يناير من العام الجاري إلى إعلان حالة الطوارئ في الولاية، ولم يُعلن حالة الطوارئ القصوى هذه لعاصفة ثلجية شديدة البرودة ضربت الولاية، وليست من أجل ريحٍ صَرصَرٍ عاتية تهلك من يقف أمامها من إنسانٍ وشجرٍ وحجر، ولم يكن بسبب إعصارٍ وطوفانٍ وأمطارٍ غزيرة مدمرة نزلت عليهم فأهلكت الحرث والنسل وأغرقت البلاد والعباد، فكل هذه الكوارث الطبيعية التي تنزل على الدول عادةً لم تكن السبب في إعلان حالة الطوارئ، فالسبب كان وبكل بساطة هو انتشار ملوثٍ قاتل، وسمٍ خطيرٍ في جميع شرايين المدينة، حتى أصبح هذا السم القاتل يجري في أعضاء أجسام الناس، الصغير منهم والكبير، الطفل والشيخ،كما يجري الدم في عروق الإنسان وفي كل خليةٍ من خلايا جسمه.

 

فما حدث وبكل بساطة أن مقاطعة جينيسي(Genesse county)، وهي إحدى مقاطعات ولاية ميشيجان وعاصمتها فلينت(Flint) التي تبعد نحو مائة كيلومتر من ديترويت، عاصمة صناعة السيارات في أمريكا، قد ضاقت بها سبل الحياة، وشحت ثرواتها ومواردها، وخنقت الديون رقبتها، فاضطرت إلى  إعلان إفلاسها، فركِبَت عليها الأجهزة والمعدات الطبية للتأكد فقط من استمرارية دق نبضات القلب وإبقائها على الحياة أطول فترة ممكنة من الزمن، ووُضعت تحت إدارة الطوارئ الجبرية، كما يفعل البنك الدولي في الدول التي أرهقتها الديون، أو التي تعاني من ضائقة اقتصادية وشح في النقد المالي فتلزمها برفع كافة أنواع الدعم عن الشعب، وترشيد النفقات، وخفض المصروفات، واتخاذ إجراءات تقشفية صارمة، وربط الحزام في كل مرافق الدولة.

 

فمدينة فلينت شرعت في تنفيذ سياسة التقشف، وبدأت في التفكير في كل الوسائل والسبل لترشيد الاستهلاك، وتوفير المال العام، وخفض المصروفات في جميع القطاعات، ولكنها لم تبدأ خططها، كما فعلنا في البحرين برفع الدعم عن اللحم وجازولين السيارات، وإنما خفضت النفقات في أهم وأغلى مورد يحتاج إليه الإنسان ولا يستطيع الاستغناء عنه كلياً يوماً واحداً، إذ لا حياة بدونه، فارتكبت خطأً فادحاً ومميتاً لا يغتفر، فقامت في أبريل 2014  من أجل ترشيد المصروفات، وتوفير مبلغٍ زهيد من المال في الحصول على مصدرٍ أرخص لمياه الشرب لسكان المدينة والمقاطعة برمتها، وهو سحب الماء من نهر فلينت مباشرة والذي يجري في قلب المدينة، ثم نقله وتوزيعه على منازل الناس. 

 

ولكن هذا المصدر المائي الأرخص ثمناً والأشد تلوثاً، هو الذي أوقع البلاء العظيم على المدينة، وأنزل كارثة بيئية وصحية وأمنية أَلزمت حاكم الولاية ولأول مرة في تاريخها إلى إعلان حالة الطوارئ البيئية والصحية في الولاية، بل وإن هذا الإجراء التقشفي الذي كان لأول وهلة يظهر وكأنه يوفر المال على المدينة ويقلل من النفقات، كَلَّف الولاية مبالغ باهظة أكبر بكثير من المبلغ الذي تم توفيره، وأدى إلى تدهور الأمن وزعزعة الاستقرار بسبب الانعكاسات البيئية والصحية التي نجمت عن هذا الإجراء التقشفي غير المدروس.

 

فمنذ أن تم تحويل مصدر مياه الشرب في المقاطعة، والسكان يشتكون من سوء نوعية المياه التي تصل إلى منازلهم من حيث الرائحة العفنة، واللون العكر غير الطبيعي، والطعم الغريب والرديء، ومع الزمن ارتفعت وتيرة الاحتجاجات، وزاد احتقان الناس، وارتفعت أصواتهم، ووصلت هذه الشكاوى ذروتها عندما اكتشف أحد العلماء وجود ملوثٍ خطير يهدد صحة الناس في هذه المياه وهو الرصاص، ثم ضج الناس أكثر، وخرجوا في مظاهرات عارمة غطت شوارع المدينة كلها عندما تأكد الناس أن هذا الرصاص الموجود في المياه قد دخل في أجسام أطفالهم وفلذات أكبادهم وتشبعت دماؤهم بهذا السم القاتل بنسبٍ مخيفة يَرتعد لها جلد الإنسان، ويقشعر شَعْرُه خوفاً وفزعاً.

 

وعندما وصلت الكارثة إلى هذه المرحلة الأمنية والصحية الخطرة، تدخل حاكم الولاية ليُعلن حالة الطوارئ في الولاية، ولكن لم تقف هذه القضية عند هذا الحد، وفي حدود الولاية نفسها، وإنما بلغت هذه الأنباء السيئة أسماع البيت الأبيض، والذي فتح بدوره وعلى الفور تحقيقاً اتحادياً لسبر غور هذه الكارثة والتعرف على أبعادها وملابساتها، وأرسل مندوبين لدراسة الوضع عن قرب ومعرفة حجم الضرر الذي نزل على البيئة وعلى الناس، كما صرح رئيس الموظفين في البيت الأبيض دينيس ماك دونيف(Denis McDonough) في العاشر من يناير في المؤتمر الصحفي الذي عقد لهذه الكارثة بأنه "يراقب الوضع عن قرب"، وفي الوقت نفسه هرعت جميع وسائل الإعلام الكبرى لتغطية الكارثة، ودخل رجال السياسة على الخط ومنهم هيليري كلينتون التي أكدت بأنها ستزور هذه المدينة المنكوبة.

 

والآن يبقى سكان المدينة بدون ماءٍ صحي يُعينهم على الحياة، مما اضطر حاكم الولاية مرة ثانية إلى الدعوة للنفير العام في 15 يناير، فاستدعى الشرطة ورجال الحرس الوطني للولاية والجمعيات الأهلية لتوزيع المياه المعلبة ومرشحات الماء على البيوت، وطَرْق الأبواب بيتاً بيتاً لأكثر من مائة ألف مواطن، كما دعا المواطنين إلى التوجه إلى مواقع توزيع المياه، مثل الكنائس، والمطافئ، ومحطات المحروقات. 

 

الأربعاء، 13 يناير 2016

طُّعْمٌ اسمه السجائر الإلكترونية


عندما اشتَد الخنَاق على شركات المرض والقتل المـُــنْتجة لسجائر التبغ التقليدية، وانخفضت بشكلٍ مشهود مبيعاتها وأعداد المدخنين لها على المستوى العالمي، اشتغلت عقول شياطين الجن والإنس من جديد، وشرعت في التفكير عن البديل الذي يُعوضهم هذه الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بهم وزلزلت الأرض من تحت شركاتهم.

 

فنَصَبْت شركات الموت فخاً جديداً ليقع فيه الناس والحكومات والوزارات المسئولة عن صحة الناس، وقَدَّمت لهم طُّعْماً مُغرياً في طبقٍ من ذهب، وأَطلقت عليه السجائر الإلكترونية، وسوقتها للناس على أنها البديل الفاعل عن السجائر القديمة التي تقتل الناس ببطء وتصيبهم بالأمراض المستعصية وفي مقدمتها السرطان، فادْعَتْ على أنها سليمة كلياً، ولا تُعرض المدخن للملوثات القاتلة والأمراض المزمنة، بل ومع الوقت تجعله يعزف عن التدخين كلياً ويتخلص من هذه العادة السيئة!

 

وفي الوقت نفسه جيَّشَت جيوشها، وجنَّدت جنودها، وحَشَدتْ كل طاقاتها وإمكاناتها في كافة المجالات للدعاية لهذا المنتج السحري العجيب، فجاءت الأقلام المأجُورة لتُمجد في مميزات السجائر الإلكترونية وخصائصها الحميدة، وبثت البرامج الإذاعية والتلفزيونية "الموضوعية" لتمدحها وتُلْبسها لباس الزينة والصحة وسلامة المدخن، كما دخل على الخط المرتزقة من علماء السوء والمصلحة الشخصية ليقدموا دراسات وأبحاث "علمية" تؤكد على فوائد السجائر الإلكترونية وفاعليتها في التوقف عن التدخين نهائياً.

 

فكل هذه الدعايات والإعلانات التي كَلَّفت شركات التبغ الملايين، قد أَتَت أُكُلُها بعد فترةٍ قصيرةٍ من الزمن، وبدأت هذه الشركات بِقَطف ثمرة هذه الجهود، وبخاصة مع فئة الشباب والمراهقين، حيث أكد المركز الأمريكي لمنع والتحكم في الأمراض في التقرير المنشور في الخامس من يناير من العام الجاري حسب الدراسة الميدانية التي أجراها على 22 ألف طالب ومراهق في المدارس الأمريكية، والذين أفاد 70% منهم بمشاهدتهم لدعايات التسويق للسجائر الإلكترونية سواء في شبكة الإنترنت، أو التلفزيون، أو الصحف والمجلات، أو في دور السينما، وهذه النسبة العالية تمثل أكثر من 18 مليون شاب أمريكي. وعلاوة على هذا، فإن المبيعات في الولايات المتحدة الأمريكية ارتفعت بدرجة مشهودة، حيث بلغت نحو 2.5 بليون في عام 2015، وعدد المدخنين بين الشباب والطلاب زاد ثلاث مرات من عام 2013 إلى 2014.

 

ولكن الحقائق العلمية تؤكد عكس ما تُروجها وتسوقها شركات التبغ العملاقة حول السجائر الإلكترونية، ومن هذه الحقائق ما يلي:

أولاً: السجائر الإلكترونية أخف ضرراً من سجائر التبغ لأن كمية ونوعية الملوثات التي تنبعث عنها أقل، ولكنها في الوقت نفسه ليست سليمة وآمنة لصحة الإنسان، فعلى الإنسان تجنب تدخينها والابتعاد عن شرورها، ولا تُوجد أية أدلة علمية موثقة تؤكد أن من يدخنها يَعزف عن التدخين كلياً.

 

ثانياً: هذه السجائر تستخدم النيكوتين السائل، ومن المعروف أن النيكوتين يسبب الإدمان وهو مركب سام.

ثالثاً: هناك أكثر من 500 نوعٍ من السجائر الإلكترونية تحتوي على أكثر من 7000 نكهة مختلفة، ولا يعلم أحد عن هوية ونوعية هذه النكهات والمضافات الأخرى.

رابعاً: أكدت دراسة منشورة في مجلة علم الأورام(Oncology) في العدد المنشور في 29 ديسمبر من العام المنصرم أن الأبخرة التي تنبعث من السجائر الإلكترونية تؤدي إلى تلف خلايا الإنسان، وبالتحديد تدمير الخلايا الوراثية الـ دي إن أيه(DNA)، مما يُحول هذه الخلايا إلى خلايا سرطانية، وبالتالي موت هذه الخلايا وإصابة الإنسان بالسرطان.

خامساً: أفادت دراسة في مجلة شؤون صحة البيئة الأمريكية في العدد ديسمبر من العام المنصرم حول المضافات التي توضع في السجائر، وأكدت أن الأبخرة المنبعثة من المدخن تحتوي على مركبات خطرة ومسرطنة، منها وأسيتوين(acetoin) و(2,3-pentanedione) وداي أسيتيل(diacetyl)، والفورمالدهيد، وجدير بالذكر أن مركب الداي أسيتيل بالتحديد تَنجم عند التعرض له حالة مرضية قاتلة تُطلق عليها رئة الذرة الصفراء(popcorn lung)، وعلمياً تُعرف بمرض( bronchiolitis obliteransوهو مرض مرعب يصيب الجهاز التنفسي ويُعد نوعاً من سرطان الرئة.

 

واستناداً إلى هذه الحقائق الطبية والصحية، أتمنى من الجهات المعنية في البحرين أن لا يأكلوا من هذا الطُّعْم، ولا يسقُطوا في هذا الفخ الجديد المــُعْد لهم ولدول العالم الأخرى، وأن يتعاملوا مع السجائر الإلكترونية نفس تعاملهم مع سجائر التبغ المعروفة.

 

السبت، 9 يناير 2016

أيهما يَنْقل الإنسان قَبْل إلى مثواه الأخير، الإيدز أم التلوث؟


هناك بعض الأمراض المستعصية والخطرة التي يقشعر منها جلد الإنسان، ويرتعد لها جميع أعضائه، ويهتز جسمه فزعاً فيسقط مغشياً عليه عندما يسمع أنه أو أحد من أقاربه قد أصيب بها، كالسرطان والإيدز، فَهُما من الأسقام الحديثة المزمنة، والابتلاءات الشديدة المهلكة التي ارتفعت في السنوات الأخيرة أعداد البشر الذين يصابون بهما ويعانون من ويلاتهما وآلامهما القاسية، ويُنقلون بسببهما إلى مثواهم الأخير.

 

ولكننا في الوقت نفسه لا نُحرك ساكناً، أو تتحرك أحاسيسنا خوفاً ورعباً من مصدرٍ مُستجد خطير يُهددنا نحن بني البشر والكائنات الحية التي تعيش معنا، فيُعرضُنا للعديد من الأمراض القاتلة الغريبة التي لم نعهدها من قبل، والعِلل المدمرة لصحتنا، ويُعد أحد الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى سقوط الإنسان مُبكراً في مصيبة الموت وهو في ريعان شبابه.

 

وفي كل يوم تكشف لنا الدراسات والأبحاث الميدانية وتؤكد لنا عُمق تغلغل هذا المصدر في حياتنا اليومية، وتجذره في شرايين مجتمعاتنا كلها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، فهو لا يُفارقنا دقيقة واحدة وهو معنا أينما كُنا، في المنزل، والمكتب، وفي الملعب والنادي، وفي البر والبحر والجو، حتى ولو كُنَّا في بروجٍ عالية مشيدة، فهو يُدْركُنا ويصل إلينا، ويؤثر علينا ويفسد صحتنا وحياتنا.

 

فكلمة "التلوث" هي التي من المفروض أن تكون نذير شؤمٍ لنا فتُفزعنا عند سماعها، وهي التي من المفروض أن تحرك نفوسنا وتهز قلوبنا عند التعرض لها، فالتلوث هو الوباء الجماعي فيُهدد صحة الملايين من شعوب العالم في كل أنحاء الكرة الأرضية بعيدة كانت ونائية أم قريبة، ويوقعهم في شباك الأمراض والأسقام المزمنة والتي في بعض الحالات تستعصي على العلاج فَتُسرع من دخول الإنسان إلى القبر.

 

فهناك قرابة ثلاثة ملايين إنسان سنوياً على المستوى الدولي يُنقلون على نُعوش الموت وهم في سنٍ صغيرة، أي ستة إنسان كل دقيقة، وذلك بسبب ملايين الأطنان من جميع أنواع الملوثات السامة والخطرة والمسرطنة التي تنطلق في كل ثانية إلى الهواء الجوي من ملايين السيارات والقطارات والطائرات وعشرات الآلاف من محطات توليد الكهرباء، إضافة إلى المصانع التي تعمل على مدار الساعة فتبث سمومها في البر والبحر والجو، وحسب التقديرات المنشورة في مجلة "الطبيعة" المعروفة في سبتمبر من العام المنصرم، فهي تشير إلى تضاعف هذا العدد بحلول عام 2050، كما تؤكد هذه الدراسة الفريدة من نوعها على أن عدد الموتى من التلوث يزيد كثيراً عن الذين يموتون بسبب الأيدز والملاريا معاً.

 

كما نُشرت دراسة ثانية في المجلة الأمريكية "شؤون صحة البيئة" في العدد الصادر في الأول من يناير من العام الجاري وتفيد أن التلوث وبالتحديد من الدخان أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر والتي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر، تزيد من شر الوقوع في أمراض القلب والجهاز التنفسي وسرطان الرئة، وترفع من معدل الوفيات في الولايات المتحدة الأمريكية. 

 

فهذه الدراسات ومثيلاتها من الدراسات الأخرى تُعد بالنسبة لي تحذيرات شديدة اللهجة، وتنبيهات قوية وصارخة موجهة إلى كل إنسانٍ مسؤولٍ ومهتمٍ بحماية الصحة العامة، ومعنيٍ بوقاية الناس من الأمراض والحفاظ على حياتهم من الموت المبكر، كما هي موجهة في الوقت نفسه إلى رجال السياسة والتشريع فتدعوهم إلى الاهتمام بقضية التلوث وجعلها في مقدمة سلم الأولويات، والعمل على سَنِّ القوانين والأنظمة اللازمة لمنع التلوث من مصدره أولاً ثم خفض نسبة وتركيز الملوثات التي تنبعث من مصادرها الكثيرة والمتنوعة. 

 

فكما أننا نعمل جادين لحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من الأمراض المزمنة والأسقام القاتلة، فعلينا أن نَصُب جُل اهتمامنا إلى المصادر الرئيسة والمتزايدة التي تُنزل علينا هذه الأوبئة، ونركز جهودنا على الأسباب الحقيقية الواقعية التي تقف وراءها، والتلوث يقع في المقدمة ويحتل المرتبة الأولى في القائمة. 

 

 

الأربعاء، 6 يناير 2016

ماذا تُـحْضِر مَعَكْ عندما تَرْجِع من السفر؟


تَعَود الناس في كل أنحاء العالم وأصبح جزءاً من الثقافة الإنسانية أنهم إذا ذهبوا للسياحة والراحة والاستجمام إلى أي بلدٍ آخر فإنهم يحضرون معهم "السوفونير" أو الهدايا التذكارية الخاصة بتلك البلاد والفريدة من نوعها والتي عادةً ما لا يمكن شراؤها في بلادهم ولها علاقة مباشرة بتراث وتقاليد تلك الدولة، أو الحلويات التي تتميز بها وتشتهر وتنفرد بها على سائر الدول الأخرى، فيوزعونها بعد الرجوع من سفرهم على أفراد الأسرة والأصدقاء والزملاء في جوٍ من الفرح والأنس والسرور.

 

ولكن مع هذه الهدايا التذكارية الجميلة والفريدة التي يَحملها الناس معهم ويضعونها بأيديهم في حقائب السفر مع أمتعتهم الأخرى، قد تَكُون دَخَلت معها ودون أي علمٍ منهم، كائنات حية أيضاً فريدة من نوعها ولا توجد إلا في تلك المدن والبيئات التي سافروا إليها، وقد تكون هذه كائنات حية دقيقة ومجهرية أحياناً، أو حشراتٍ كبيرةٍ الحجم نسبياً ومُتَطفلة على هؤلاء السياح، مثل بقة أو حشرة السرير، فتلتصق مع الهدايا أو الأمتعة الشخصية كالأحذية والملابس، فتجد طريقها في حقائب السفر، وتسافر معهم مجاناً دون عناءٍ أو تعب، أو دفع أية مبالغ مالية كتذاكر السفر والإقامة أو غيرهما، فتأتي إلى بلادنا وتَحِل ضيوفاً غير مرغوبٍ فيهم علينا، بل وفي بعض الحالات الموثقة علمياً وواقعياً تهدد هذه الكائنات الغريبة مكونات البيئة في الدولة التي نزلت بها، وتشكل خطورة أمنية واقتصادية على الكائنات الفطرية الحية الموجودة أصلاً والمستوطنة منذ قِدم الزمان في البر أو البحر أو الجو في بيئة هذه الدولة التي دخلت فيها وغزتها دون تأشيرة، أو إذن شرعي والسماح بالدخول.

 

فهذه الظاهرة الآن تحولت إلى قضية دولية شائكة ومعقدة ومتشابكة، فتخطت تأثيراتها الحدود الجغرافية المصطنعة للدول، وأصبحت ذات أبعادٍ بيئية وصحية واقتصادية واجتماعية وسياحية، مما اضطر العلماء إلى التعمق فيها ودراستها عن قرب والتعرف على واقعيتها وحجم الأضرار التي تنجم عنها.

 

ومن الدراسات التي حاولت التعرف عن كثب على مدى واقعية هذه الظاهرة، تلك المنشورة في المجلة الأمريكية بلاس وان(PLOS ONE) في عددها الصادر في ديسمبر من العام المنصرم، حيث حاولت تحديد ومعرفة العلاقة بين السياحة بين الدول ونقل وتحرك الكائنات الفطرية الدخيلة والغازية من دولةٍ إلى أخرى، وأكدت هذه الدراسة أن المناطق السياحة المشهورة في العالم، والتي تزورها أفواج متزايدة من الناس من خارج تلك المناطق ومن البلاد الأجنبية، ترتفع فيها أعداد الكائنات الحية "المستوردة" والدخيلة وغير المستوطنة أصلاً في تلك المناطق التي تعج بالسياح، أي تلك الكائنات المتطفلة التي غزت هذه المناطق وجاءت مع السياح مجاناً.

 

وهذه الظاهرة لها أوجه متعددة غير التنقل مع السياح، حيث إن السفن التجارية والسياحية، وسفن البضائع والشحن، وبارجات نقل النفط ومشتقات البترول، هي أيضاً وسائل معروفة تتحرك معها الكائنات الغازية وتنتقل عن طريقها من دولةٍ إلى أخرى.

 

وفي الخليج العربي بالذات نعاني بصفةٍ خاصة من ظاهرة محددة وواقعية تتمثل في غزو الكائنات البحرية من بحارٍ ومحيطاتٍ غريبة علينا إلى مياه الخليج العربي عن طريق مياه التوازن التي تحملها الآلاف من بارجات النفط العملاقة لتحافظ على توازنها وسلامة مسيرتها في البحر، ثم تقوم بالقرب من موانئ التحميل والشحن بِصَرف هذه المياه الملوثة والمشبعة بالمواد الكيميائية الخطرة والكائنات الحية الدقيقة والكبيرة الحجم إلى بطن الخليج، حيث دخلت في بيئتنا البحرية منذ اكتشاف النفط وتصديره، أي منذ أكثر من سبعين عاماً، عشرات الآلاف من الكائنات الحية النباتية والحيوانية الغريبة والدخيلة على بيئة الخليج والأحياء التي تعيش فيها، ولا ندري حتى الآن بالتفصيل الدقيق العواقب التي نشأت عنها، والتهديدات التي سببتها للبحر والحياة الفطرية فيها والنظام البيئي العام في الخليج العربي، كما لا يعلم أحد حتى يومنا هذا الانعكاسات الاقتصادية التي نجمت عن كل هذه التهديدات البيئية. 

 

ولذلك عندما تسافر إلى بلادٍ أجنبية ومدنٍ تختلف بيئاتها عن بيئاتنا، عليك أن تتأكد وأنت تحزم أمتعتك وتضعها في حقيبتك أن لا تُدخل معك "هدايا تذكارية" سيئة السمعة وغريبة علينا، فلا تترك آثاراً طيبة وحسنة بعيدة الأمد لتلك الدولة التي جئت منها.

 

 

الجمعة، 1 يناير 2016

سياسة الغرب: الغاية تبرر الوسيلة



عندما يلج الباحث بعمقٍ واسهاب في أرشيف الدول الغربية ويفتح ملفاتها السرية الغابرة، ووثائقها الحكومية القديمة، والتي يتم فتحها بعد حينٍ من الزمن أمام الملأ وأمام الباحثين، فيتوغل في بحارها الملتهبة، ويسبح مع أمواجها العاتية، سيجد أمراً عجباً، وفضائح لا تغتفر، وممارسات بعيدة كل البعد عن الأخلاق والقيم البشرية العامة، وسيقتنع كلياً بأن الدول الغربية الكبرى لا ترقُب في أحدٍ إلا ولا ذمة، حتى على شعوبها وأبناء بلدها، فالنسبة لهم فإن ما يُطلقون عليه "الأمن القومي"، أو المصالح السياسية والاقتصادية العليا فهي فوق كل القيم والأخلاقيات والمبادئ الإنسانية، ومن أجل تحقيق هذه المصلحة العليا يمكن كسر كل الخطوط الحمراء، والقفز فوق كل الحواجز الصماء والعالية، فهذه الغاية والوصول إليها تُبرر كل وسيلة يمكن اتباعها وتَفَي بهذا الغرض.

ومن هذه الكَبائر التي ارتكبتها الدول الغربية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، واتضحت الآن معالمها، واكتملت تفاصيلها، وبَرَزت وقائعها فوق السطح، هي ما ارتكبتها أيدي أمريكا الآثمة لأكثر من 13 عاماً، وفي الفترة من عام 1946 حتى 1958 في مجموعة جزر المارشال، والمعروفة رسمياً اليوم بجمهورية جزر المارشال(Marshall Islands)، والتي تقع في المحيط الهادئ بين هاواي وأستراليا، ويسكنها أكثر من 7200،ينتشرون على نحو 1156 جزيرة صغيرة.

فأثناء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في منتصف عام 1944، غَزَت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الجزر واحتلتها وحولت أرضها وسماءها وبحارها إلى موقعٍ سريٍ خاص لإجراء كافة أنواع التجارب النووية وأسلحة الدمار الشامل بمختلف أنواعها وأحجامها وقوتها. فقد قامت أمريكا بتفجير 67 قنبلة ذرية ومن بينها القنبلة الهيدروجينية التي قُدرت قوتها بأكثر من 7000 مرة من القنبلة النووية التي أُلقيت على هيروشيما في اليابان، فدمرت الحرث والنسل، وأكلت الأخضر واليابس، وتأثيراتها مازالت حاضرة ويُعاني منها الشعب الياباني بعد أكثر من سبعين عاماً، بل وإن تأثيراتها الصحية والبيئية قد حُفرت في الخلايا الوراثية للناس، وتخلدت في أعضاء أجسام بعض سكان هيروشيما، فتنتقل طوال هذه السنوات من جيلٍ إلى آخر. فإذا كانت هذه هي التأثيرات الشديدة الضرر التي تجذرت في أعماق صحة وبيئة اليابان، فكيف سيكون تأثير هذه القنبلة والقنابل الأخرى التي فَجَّرتها أمريكا على المواطنين في جزر المارشال وكافة الدول المحيطة بها، وعلى الكرة الأرضية برمتها؟

لقد استمرت هذه التجارب الشيطانية المدمرة للبشرية والمفسدة للهواء والماء والتربة سنواتٍ طويلة في سريةٍ تامة، وتحت غطاءٍ أمني مُدقع، حتى أن هيئة الطاقة الذرية اعتبرت أن "منطقة الجزر الأكثر والأشد تلوثاً في العالم"!

ولم تكن تجارب الدمار الشامل هذه تُجرى في البيئات الأجنبية والشعوب غير الأمريكية، وإنما أُجريت تفجيرات نووية مماثلة في عُقر دار أمريكا وعلى الشعب الأمريكي نفسه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت أمريكا بتفجير أول قنبلةٍ نووية للدمار الشامل في 16 يوليو 1945 في موقعٍ سري جداً أُطلق عليه موقع اختبار ترينيتي(Trinity Test Site) في جنوب ولاية نيومكسيكو الصحراوية بالقرب من مدينة(Tularosa)، وعند إجراء هذه التجربة النووية لم يتم إشعار المواطنين بهذه العملية، ولم تتم عملية إجلائهم من قراهم ومدنهم، وإنما تركوهم في بيوتهم دون أي علمٍ بما يجري من حولهم من تجربة هائلة عظيمة تُعد الأولى من نوعها في تاريخ البشرية، فتَعَرض المواطن الأمريكي لهذه الاشعاعات القاتلة والملوثات المـَرضِية التي تركت بصماتها غزيرة في أجسام الآلاف من الأمريكيين في تلك المنطقة، فأمريكا إذن سمحت نفسها بقتل شعبها بيدها!

فهذه هي الوثائق السرية التي ظهرت مؤخراً، والتي كشفت بوضوح التاريخ الأسود لأمريكا واتِبَاعِها لسياسة الغاية تبرر الوسيلة على القريب والبعيد، فهل تغيرت هذه السياسة الآن، أم أنها سياسة متجذرة في أعماق استراتيجيات أمريكا وفي نفوس وقلوب الساسة الذين يجلسون في واشنطن في البيت الأبيض والكونجرس؟