الثلاثاء، 26 أبريل 2016

بَطْنِ الحوت مَقبرة لمخلفاتنا


هل تَصورت يوماً بأن المخلفات التي تُلقيها وتتخلص منها قد تصل في نهاية المطاف إلى الكائنات البحرية التي تسبح في أعماق البحار والمحيطات المظلمة؟

 

وهل دَارَ في مخيلتك قط بأن بطن الحوت سيكون هو المثوى الأخير للقمامة، وسيتحول إلى مقبرة يندفن بداخله مختلف أنواع وأشكال وأحجام مخلفاتنا؟

 

وهذا الأمر الذي لم يتخيله أحد، ولم يخطر قَطُ على بال إنسان، قد وقع بالفعل أمام الناس، حيث شاهد المئات من سكان مدينة تونينج(Tönning) الساحلية في ولاية شيلزويج هوستين(Schleswig-Holstein) الألمانية والواقعة على شواطئ بحر الشمال، منظراً مهيباً ومخيفاً في الوقت نفسه، ويُولد القلق والفزع في نفوس الواقفين أمامه، ويُثير في قلوبهم الكثير من التساؤلات والاستفسارات، ويتمثل هذا المشهد الغريب في نُفوق 30 حوتاً من نوع العَنْبَر(sperm whale)، ويتراوح وزنها من 12 إلى 18 طناً، وعمرها ما بين 10 إلى 15 عاماً، فكل هذه الحيتان الضخمة التي يصل طول الواحد منها قرابة 15 متراً كانت جُثثاً هامدة لا روح فيها ومرمية على ساحل البحر، وكأنها جبال راسية راسخة في الأرض لا تتحرك وقد جثمت على الساحل.

 

وعندما قام العلماء بتشريح جُثث هذه الحيتان العملاقة اكتشفوا ما لا عين رَأتْ، ولا أُذن سَمعت، ولا خَطَرَ على بال بشر في بطون وأمعاء هذه الحيتان، فقد وجدوا أنواعاً غريبة ومتعددة من شتى أنواع المخلفات البشرية التي يُلقيها الإنسان ويتخلص منها يومياً، وبخاصة المخلفات البلاستيكية، حيث إن علماء التشريح عثروا في أجسام بعض هذه الحيتان على خيوط وشباك الصيد بأنواعها المختلفة، والبعض منها يصل طوله إلى نحو 13 متراً، وعرضه 1.2 متر، كما حصلوا على قطعةٍ بلاستيكية من غِطاء محرك سيارة طولها قرابة 70 سنتيمتراً، إضافة إلى قطعةٍ حادة وبقايا من دَلو بلاستيكي نستخدمه للماء!

 

وهذا المشهد العجيب والمخيف في الوقت نفسه والذي رآه الكثير من الناس بأم أعينهم، تكرر مراتٍ ومرات في عدة دول منها فرنسا، وهولندا، وبريطانيا، وتايوان، مما يؤكد بأن ما حدث من نفوق للحيتان واكتشاف كيلوجرامات من المخلفات البلاستيكية البشرية المتنوعة في بطنها هو ظاهرة عامة منتشرة في أنحاء الدنيا، وليست حادثة منفردة ومعزولة وقعت في منطقة بحريةٍ واحدة وفي دولة بعينها دون الدول الأخرى في العالم.

 

فهذه الحادثة، وحوادث أخرى كثيرة تؤكد لنا العديد من الحقائق العلمية البيئية التي يجمع عليها العلماء الآن ولا يمكن أن يختلف عليها أحد، وأختصرها في النقاط التالية:

 

أولاً: المخلفات التي نتخلص منها في منازلنا ومكاتبنا ومعاملنا، إذا لم نتعامل معها بطريقةٍ علمية سليمة ومستدامة، قد تصل إلى مواقع وبيئات لا نتخيلها ولا نتصور بلوغها إلى تلك المناطق النائية والبعيدة، وفي الوقت نفسه قد تدخل في أجسام الكائنات الفطرية، سواء أكانت الطيور التي تحوم في السماء، أو الكائنات البحرية النباتية والحيوانية التي تسبح في المياه على السواحل وفي أعماق المحيطات السحيقة، أو الكائنات الحية النباتية والحيوانية الصغيرة منها والكبيرة التي تعيش في البراري والصحاري والوديان الباردة والحارة، والأشد خطورة من كل هذا هو التهديدات التي تُشكلها هذه الظاهرة والحقيقة العلمية على صحتنا وأمننا، فكل الملوثات التي تنتقل إلى الأوساط البيئية والكائنات الحية تصل إلينا حتماً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبعد فترةٍ قصيرةٍ أو طويلةٍ من الزمن، فلا يمكن تجنب التعرض لها مهما فعلنا واتخذنا من تدابير وإجراءات صارمة، وستنزل علينا الأمراض والعلل من دون أن تكون لنا أدنى فكرة عن مصادرها.

 

ثانياً: هناك مخلفات لها شأن خاص من بين باقي المخلفات التي نرميها مع القمامة، فهذه المخلفات بالذات لها تأثيرات سلبية ملموسة لا يمكن تجاهلها على البيئة والكائنات الفطرية والإنسان، حيث بدأت الأضرار التي تنجم عنها تتفاقم وتزيد مع الوقت ويمكن لكل إنسان مشاهدتها في البر والبحر والجو، وهذه المخلفات هي ملايين الأطنان من مختلف أنواع المواد البلاستيكية التي نتخلص منها يومياً في كل دول العالم بدون استثناء.

 

 

الخميس، 21 أبريل 2016

15 مليون زائر بحلول 2018، فماذا أَعْددنا لهم؟



استغرق مني وقتاً طويلاً وأنا أُفكر في التصريحات التي خرجت على لسان المسؤولين على هامش المؤتمر الصحفي الذي عقد في 19 من الشهر الجاري والخاص بإطلاق وزارة الصناعة والتجارة بالتعاون مع مجلس التنمية الاقتصادي للهوية السياحية الجديدة لمملكة البحرين، وبالتحديد التصريح المتعلق بزيادة أعداد زوار المملكة من 11 مليون زائر لتصل إلى 15 مليون بحلول عام 2018.

فهذا العدد المهول من الزوار القادمين والمقيميين بالنسبة لمساحة جزيرة البحرين الصغيرة والضيقة التي لا تتجاوز 595 كيلومتراً مربعاً، وفعلياً كل الحركة والنشاط يكون في نصف هذه المساحة المتاحة، فكيف سيتحرك هذا العدد الهائل من البشر في هذه المساحة البسيطة؟

وكيف ستكون الحركة المرورية مستقبلاً لهذه الأعداد الضخمة من البشر ولسياراتهم في شوارع البحرين الضيقة مساحة وعدداً، والتي تعاني حالياً من أزمة مرورية خانقة وشديدة، تحولت إلى مشكلة اقتصادية، واجتماعية، وبيئية، وصحية؟

ومن جانبٍ آخر من أين سنوفر المياه للشرب والاستحمام وغيرهما من الاستخدامات اليومية لهذا المد البشري الذي من المتوقع أن يزور البحرين، إضافة إلى كيفية مد هذا التيار العَرَمْرم من الزوار للطاقة الكهربائية، وخاصة أننا نعاني الآن من الكلفة العالية لتحلية المياه وإنتاج الكهرباء، ونواجه صعوبات في توفير المياه والكهرباء للسكان الحاليين في جزيرتنا؟

كذلك كيف سنعالج وندير الأحجام الهائلة والكبيرة من القمامة والمخلفات الصلبة ومياه المجاري التي ستنجم من الـ15 مليون إنسان الذين سيزورون جزيرتنا المحدودة، وخاصة أننا نقاسي اليوم من عدم قدرة محطة معالجة مياه المجاري ومدفن القمامة المنزلية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السكان الذين يعيشون حالياً معنا؟

وعلاوة على ذلك كله، هل فكرنا كيف وأين سيقضى هؤلاء الزوار أوقاتهم أثناء وجودهم في هذه الجزيرة الصغيرة المحدودة المعالم والمرافق السياحية الترفيهية؟ وخاصة أن جميع التصريحات التي جاءت من المسؤولين ركزت فقط على إنشاء الفنادق، وكأن هذا كل ما يحتاج إليه الزائر ويجعله يشد الرحال إلى البحرين!

ولذلك لكي ننجح في أهدافنا التي ترمي إلى زيادة المد السياحي، وننجع في استدامة جذب السياح إلى البحرين، فإن علينا أن نجعل الخدمات الضرورية التي يحتاج إليها كل زائر تواكب وتصاحب هذه العدد المتوقع من الزوار، وأن يكون إنشاء المرافق الخدمية يمشي جنباً إلى جنب مع زيادة أعداد الزوار. وفي هذا الصدد لا بد أولاً ومن الآن من تخصيص الموارد المالية اللازمة لتغطية كلفة إنشاء البنية التحتية الإضافية لاستيعاب الـ15 مليون القادمين مستقبلاً، وتتمثل في الأعمال الإنشائية والخدمية التالية:
·      إنشاء محطات جديدة وتوسعة المحطات الحالية الخاصة بمعالجة مياه المجاري.
·      إنشاء مصانع لتدوير المخلفات المنزلية، وتوسعة قدرة المدفن الحالي لاستقبال أحجام أكبر من المخلفات.
·      بناء طرق جديدة وتوسعة الطرق الموجودة حالياً.
·      إنشاء محطات جديدة وحديثة لإنتاج الكهرباء وتحلية المياه.
·      إنشاء متنزهات ومرافق ترفيهية عائلية خدمة للزوار القادمين.
·      إنشاء مرافق صحية تستوعب المد السياحي القادم.

وخلاصة القول فإننا يجب أن نكون واقعيين في خططنا وتوقعاتنا المستقبلية، ونُدرك جيداً قُدرة وإمكانيات جزيرتنا الصغيرة من حيث المساحة وشُح الموارد والثروات الطبيعية، ونعمل على تحقيق التوازن الدقيق بين الطاقة الاستيعابية لجزيرتنا ومواردها المحدودة وأعداد الزوار الذين نخطط لقدومهم إلينا، حتى تتحول برامجنا التنموية إلى نعمة وسعادة للجميع وليس نقمة وندامة وشقاء.

الاثنين، 18 أبريل 2016

بكتيريا تأكل البلاستيك


تبدأ مشكلة المنتجات البلاستيكية التي لا يستغني أي إنسان عن استخدامها بشكلٍ يومي في كل أنحاء العالم بعد الانتهاء من استعمالها وذهاب عمرها الافتراضي وانتقالها إلى سلات المهملات وحاويات المخلفات الصلبة أو مع مياه المجاري.

 

فهذه المنتجات والمواد البلاستيكية التي لا تتحلل في البيئة، تتحول بعد سنوات إلى مخلفات دائمة خالدة في عناصر بيئتنا، فبعضها نجده يطير في الهواء فيتعلق في أغصان الأشجار ويزين أوراقها كالأكياس البلاستيكية الرقيقة، وبعضها يطفو فوق سطح بحارنا ويسرح ويمرح مع تيارات المياه والرياح فينتقل من منطقة إلى أخرى ويعبر الحدود الجغرافية الإقليمية بين الدول دون تأشيرة دخول أو مستندات السفر، فيُكوِّنُ مع الوقت، كما هو الحال الآن في المحيط الهادئ، مساحة ضخمة من المخلفات البلاستيكية بمختلف الأحجام والأشكال والأنواع والتي تَدُور في حلقةٍ مغلقة، ودائرة واسعة كبيرة لا فِرار منها، وكأنها أصبحت اليوم في سجنٍ عظيمٍ لا يمكنها الهروب منه، أو الخروج من محبسه. 

 

ومع مرور الزمن وتأثر هذه المخلفات الطافية فوق سطح البحار والمحيطات بالظروف المناخية من الحرارة المرتفعة وأشعة الشمس الضاربة، إضافة إلى التيارات البحرية القوية والهائجة، فإن البعض منها يتكسر ويتفتت إلى قطعٍ أصغر فأصغر، حتى يتحول إلى جسيماتٍ وكراتٍ بلاستيكية متناهية في الصغر، فإما أن يترسب في أعماق البحار ويتراكم في التربة فتلتهمها الكائنات البحرية القاعية، وإما أن تأكلها مباشرة الطيور المائية أو الأسماك والسلاحف البحرية فيؤدي إلى تسممها وموتها مع الوقت. وفي المقابل فإن دخول هذه المخلفات البلاستيكية المجهرية الدقيقة في بطن الأسماك والكائنات البحرية الأخرى التي يستهلكها الإنسان، تؤدي إلى تراكمها في أجسامنا دون أن نعلم بوجودها، فتعرضنا للأمراض المزمنة المستعصية على العلاج والشفاء.

 

ولذلك تحولت المخلفات البلاستيكية غير القابلة للتحلل الطبيعي إلى قضيةٍ كبرى تؤرق بال العلماء والباحثين ورجال الصناعة والسياسة، وتحفزهم على وجود مخرجٍ سريعٍ ومستدام لهذه المشكلة الدولية التي عَمَّتْ الكرة الأرضية برمتها، من مشرقها إلى مغربها.

   

فقد استطاع العلماء في اليابان اكتشاف صنفٍ من البكتيريا(Ideonella sakaiensis) تأكل وتتغذى على أحد أنواع المخلفات البلاستيكية الذي يدخل في صناعة الملايين من المواد الاستهلاكية اليومية، وهو "بولي إيثيلين تراثاليت"( Polyethylene terephthalate)، أي أن هذه البكتيريا تقوم بتحليل هذه المخلفات البلاستيكية إلى مواد لا تضر بالبيئة أو بالإنسان، وبالتالي تحمي عناصر بيئتنا من شرور وأضرار تراكم هذا النوع من المخلفات البلاستيكية في بيئتنا وفي أجسامنا، وقد نُشر هذا الاكتشاف العلمي الفريد من نوعه في مجلة "العِلم" المرموقة في العدد الصادر في 11 مارس من العام الجاري.

 

ونحن الآن ننتظر اكتشافات جديدة لأنواع أخرى من البكتيريا تعيش على الأصناف المتبقية من المخلفات البلاستيكية التي ملأت البر والبحر والجو. 

 

الأحد، 17 أبريل 2016

الإبادة الجماعية للأسماك


مشهدٌ مرعب ومخيف رأيته من خلال عدسات كاميرات المحطة الأمريكية الإخبارية سي إن إن في 25 مارس من العام الجاري، حيث نَقَلتْ المحطة صوراً حية استمرت لعدة دقائق لعشرات الآلاف من الأسماك التي قضت نحبها، ولَقَتْ حتفها في منطقة بحيرات نهر إندين(Indian River Lagoon) في وسط ولاية فلوريدا على ساحل المحيط الأطلسي، وبلغ طول المنطقة النهرية المنكوبة والتي شَهدَت هذه المذبحة الجماعية للأسماك صغيرها وكبيرها وبمختلف أنواعها، أكثر من 70 كيلومتراً، أي أطول من جزيرة البحرين!

 

فتَصور معي الآن منظر هذه الجُثث الميتة والمتعفنة من الأسماك الطافحة فوق سطح الماء لهذه المسافة الشاسعة والطويلة التي لا يمكن رؤية نهايتها أو مشاهدة آخرها، فكأنك تقف أمام هذا الكَربْ العظيم الذي نزل على هذه الكائنات الحية من الحد شمال البحرين، مروراً بالمنامة ومدينة عيسى، ثم إلى أخيراً إلى رأس البر في أقصى جنوب جزيرة البحرين، فكيف سيكون شعورك الداخلي عندما تشاهد هذه الحادثة المأساوية ولهذه المساحة الواسعة؟

وكيف ستكون نفسيتك وأنت تُراقب هذا المنظر الكئيب والمزعج؟

وبم تحس وأنت ترى بأُم عينيك هذه الأعداد الهائلة من الأسماك النافقة التي تنبعث منها الروائح الفاسدة والكريهة وتحمل معها الملوثات السامة والخطرة؟

 

لا شك بأن شعورك سيكون مزيجاً من الألم المدقع والحسرة الكبيرة على هذه الأسماك النافقة من جانب، والفزع والهلع الشديدين من وقوعك أنت نفسك والآخرين من حولك في هذه المصيبة القاتلة والخوف من أن تلقى المصير نفسه من جانبٍ آخر، فما حدث إذن لهذه الأسماك من طامةٍ كبرى قد يحدث للإنسان نفسه، فهو الذي يعيش على ماء النهر، وهو الذي يشرب من الماء، ويأكل من خيرات النهر وثرواته الحية من أسماك وروبيان وقواقع ويتغذى عليها، وهو أيضاً يستحم في هذه المياه ويمارس فيها الألعاب الرياضية والترفيهية، فأي نازلة أو مشكلة تُصيب الأسماك، أو أي كائنٍ حي يعيش في هذا النهر ينعكس مباشرة وبعد فترةٍ قصيرة أو طويلةٍ من الزمن على الإنسان نفسه، وعلى صحته وحياته ومعاشه.

 

فهذه الجُثث من الأسماك المتعفنة قتلتها أيدينا، وسقطت هذه الضحايا بفعل ممارساتنا اللامسئولة وغير الأخلاقية تجاه بيئتنا وعناصرها من ماءٍ وهواءٍ وتربة، فنحن الذين سمحنا بمياه المجاري المعالجة وغير المعالجة والمشبعة بخليطٍ معقدٍ من شتى أنواع الملوثات الكيميائية والحيوية من الدخول في ماء النهر، ونحن أيضاً أدخلنا وبمحض إرادتنا مياه الصرف الزراعي المحملة بالمبيدات القاتلة والأسمدة العضوية وغير العضوية السامة إلى بيئة النهر، كما أننا أطلقنا المياه الحارة الصناعية ومن محطات التحلية إلى السواحل الساكنة، فكل هذه التصرفات أدت مع الوقت، ونتيجة لارتفاع درجة حرارة الجو ومياه النهر إلى نموٍ مُفرط وغير طبيعي للحشائش والطحالب السامة التي تفرز ملوثات خطرة إلى المياه، إضافة إلى انخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء في هذه المنطقة المائية، فنجم عنها اختناق الأسماك وغيرها من الكائنات الحية وتسممها ووقوع إبادةٍ جماعية لها جميعاً.

 

وجدير بالذكر أن ظاهرة نفوق الأسماك ومشهد المذابح الجماعية لهذه الكائنات البحرية أصبحت، مع الأسف الشديد، من المظاهر المألوفة التي نشاهدها في معظم بحار وأنهار وبحيرات دول العالم، وبخاصة أثناء ارتفاع درجة حرارة الجو ووجود مواقع بحرية شبه مغلقة لا توجد بها تيارات مائية قوية، وضحلة لا تتجدد مياهها بشكلٍ مستمر.

 

ونحن في دول الخليج عامة والبحرين خاصة لسنا ببعيدين عن هذه المشاهد أو غريبين عنها، وسأُقدم لكم بعض الأمثلة الكبيرة التي تثبت وجود هذه الظاهرة في بلادنا، بدءاً من أكتوبر 2008، ثم حادثة الموت الجماعي لأسماك الجواف في خليج توبلي في الفترة من 20 إلى 21 يونيو 2007، وحادثة نفوق الأسماك في حالة أم البيض بسترة يوم السبت الموافق 28 يونيو 2008، إضافة إلى الحوادث الصغيرة التي تقع بين الحين والآخر، وهذه المشاهد المؤسفة والحوادث المؤلمة ستستمر في البحرين وفي الدول الأخرى مادامت أسبابها ومصادرها قائمة ولم يتم القضاء عليها جذرياً وبصورةٍ نهائية.

 

الأحد، 10 أبريل 2016

حادثتان لمصر للطيران، فما الفرق بينهما؟


فجأةً أَوقفتْ وسائل الإعلام المرئية بثها اليومي المعتاد يوم الثلاثاء 29 مارس، وتحولت إلى البث المباشر الفوري، ونقلت خبراً عاجلاً لا يحتمل التأخير أو التأجيل، ووجهت كل عدساتها ومراسليها نحو هذا الحَدثْ الجلل، وفي الوقت نفسه تغيرت بوصلة وسائل التواصل الاجتماعي لنقل تفاصيل هذا الخبر لحظة بلحظة، ودقيقة بدقيقة لاطلاع المتابعين على مجريات وآخر تطورات الحادثة. وفي اليوم التالي كل صحف العالم بدون استثناء نشرت الخبر وبدقائقه المملة، وبعضها أعطى الأولوية للنشر والاهتمام لهذا الخبر، وجعله على صدر صفحاتها الأولى.

 

وهذا الحدَثْ كان اختطاف طائرة مصر للطيران من نوع أير باس 320 عندما كانت في رحلة داخلية من الإسكندرية إلى القاهرة، فتم تغيير مسارها وتوجيهها إلى مطار قبرص.

 

ويأتي هذا الاهتمام الدولي بأخبار اختطاف الطائرات بشكلٍ عام لتعرض حياة المئات من البشر للخطر، والتهديد بالموت الجماعي، إضافة إلى العنف والإثارة التي تصاحب مثل هذه العمليات، فتصبح كالأفلام السينمائية البوليسية التي يتابعها الجمهور بكل شغف واهتمام لحظة بلحظة حتى يصل إلى نهاية القصة، فإما نهاية سعيدة ومفرحة، وإما نهاية مأساوية وحزينة.

 

وفي المقابل إنني على يقين بأنكم لم تسمعوا، أو تقرؤوا عن طائرةٍ ثانية لمصر للطيران أيضاً، وتعرضت للخطر الشديد واحتمال وقوع كارثة بشرية مروعة، كاد أن يموت فيها كل الركاب الذين كانوا على متنها وعددهم ثمانين راكباً، وكانت هذه الحادثة، ومن قبيل الصدفة، في شهر مارس، وبالتحديد في 13 مارس!

 

فهذه الطائرة الثانية كانت قادمة من القاهرة وإلى طريقها إلى لندن، وقبيل الهبوط في مطار هيثرو واجهت الطائرة ما يُهدد سلامتها وأمن كل من عليها من المسافرين، حيث اصطدمت بسربٍ جماعي من الطيور التي كانت تحلق أمام مسيرة الطائرة، ولكن نتيجة للُطف الله رب العالمين بهؤلاء الركاب، هبطت مصر للطيران بأمن وسلام في المطار.

 

وبعد هبوطها شاهدتُ صوراً نشرتها القلة القليلة من وسائل الإعلام الغربية، ولم تنشرها، حسب علمي، أية صحيفة عربية، أو تنقلها أية محطة تلفزيونية أو إذاعية، أو حتى وسائل التواصل الجماعي، فقد رأيتُ دمار الجزء الأمامي للطائرة، أو ما يُطلق عليه بمقدمة وأنف الطائرة، حيث إنها تهشمت كلياً، وظهر عليها آثار دماء الطيور التي لَقَتْ نحبها وكادت أن تودي بحياة المئات من البشر في ثانية واحدة فقط.

 

فهذه الكارثة التي كادت أن تَقَعْ، تُنبهنا إلى قضيةٍ هامة جداً تُعاني منها جميع مطارات العالم، وهي قضية متشعبة ومتعددة الجوانب والأبعاد، فهي من جانب تعد قضية أمنية متعلقة بسلامة حركة الطيران وأمن الإنسان، وفي المقابل فإن هذه القضية لها علاقة مباشرة بالحياة الفطرية وحمايتها والحفاظ عليها، وبخاصة الطيور المحلية والمهاجرة.

 

فالمدخل الذي نحتاج لتبنية وتنفيذه لحماية الإنسان وحركة الطيران دون التفريط في حماية الطيور، يتمثل في الوصول إلى التوازن الدقيق والتوفيق بين الاثنين، بحيث تكون الأولوية لأمن وسلامة الطيران والإنسان.

 

وقد واجهتُ هذه المعضلة الشائكة عندما بدأتُ بتطوير محمية دوحة عراد البحرية بالقرب من مطار البحرين وقُمنا بتنمية وزراعة أشجار القرم في منطقة المَدْ والجَزْر الساحلية، والتي تكون عادة منطقة جذب واستقرار وتكاثر للطيور المائية المستوطنة والمهاجرة،فكانت المشكلة تكمن في حماية غابات أشجار القرم في المحمية وفي مساحات محددة بحيث إنها في الوقت نفسه لا تؤدي إلى حركةٍ كثيفة وكبيرة للطيور في منطقة المطار فتؤثر على سلامة وأمن حركة الطيران، وبالتالي قُمنا بالتوفيق بين حماية الإنسان وحماية الحياة الفطرية في آنٍ واحد.

 

 

الخميس، 7 أبريل 2016

هل هناك حاجة لمعاهدة دولية حول الزئبق؟



هل يستحق عنصر كيميائي واحد كالزئبق من بين 118 عنصراً معروفاً لدى البشر هذا الاهتمام العالمي الحصري غير المسبوق، وهذه المعاملة الخاصة؟

وهل يستأهل هذا العنصر أن تَشُد وفود دول العالم رِحالها مراتٍ ومراتٍ عديدة للسفر من أجل المشاركة في مؤتمرات خاصة للتفاوض حول اتفاقية للأمم المتحدة مختصة بكيفية التعامل مع الزئبق وحده فقط دون سواه من العناصر الكثيرة التي تم اكتشافها والملوثات التي تشبعت بها بيئتنا؟

فهذا الاهتمام غير العادي بالزئبق لم يأت اعتباطاً، ولم يكن من فراغ بين عشيةٍ وضحاها، وإنما تاريخ الزئبق الطويل المظلم والأسود مع الإنسان، والخبرات الكارثية التي تراكمت عبر الزمن مع هذا العنصر القاتل هي التي فَرَضتْ نفسها، وأجبرت دول العالم قاطبة على التحرك سريعاً، وبجهودٍ جماعية مشتركة لمواجهته والتصدي له وكَبح جِمَاحَه، ومنع أضراره وسلبياته المهلكة للحرث والنسل والأخضر واليابس على العالم والناس أجمعين. 

وفي الحقيقة فإنني لا ألوم الزئبق على هذا السجل غير المشرف والمليء بالمآسي والكوارث والآلام المريرة لبني البشر، ولكنني أُلقي العتاب واللوم كلياً على الإنسان نفسه، فهو الذي سمح بدخول الزئبق في بيئةٍ غير بيئته، وفي وسطٍ لا يتوافق مع خصائصه وطبيعته، وفي المكان الذي لا يتناسب مع مهماته ودوره في الحياة وفي النظام البيئي بشكلٍ عام.

فمن أشد الكوارث التي نزلت على الإنسان نتيجة لما ارتكبت يداه، وبسبب جهله، وقلة علمه، وشح خبرته في التعامل مع الملوثات والمواد الكيميائية هو ما وقع في مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا في اليابان، والتي انكشفت مشاهدها الأولى أمام الملأ في الخمسينيات من القرن المنصرم، عندما قام أحد المصانع بالسماح لصرف المخلفات الصناعية السائلة المحتوية على الزئبق إلى ساحل خليج ميناماتا.

ففي تلك الفترة الزمنية لم يعلم أحد أن الزئبق عنصر مستقر وثابت في الأوساط البيئة، وأنه لا يتحلل مع الزمن، بل وله القدرة على التراكم والتضخم في مياه البحار، ثم في القواقع والمحار وفي الأسماك، وأخيراً في الإنسان والكائنات الحية الأخرى من الطيور والحيوانات البرية التي تعيش على الأسماك، إضافة إلى أن الإنسان كان يجهل بأن عنصر الزئبق عندما ينتقل إلى التربة القاعية للبحار فإنه يتحول إلى الزئبق العضوي الأشد فتكاً بصحة الإنسان والأكثر سمية وتدميراً لكل كائن حي يتعرض له. فمع استمرار إلقاء مخلفات الزئبق في البحر، ارتفع تركيز هذا الشبح المرعب الخفي، وزاد تراكمه في أجسام الكائنات البحرية، وتضخم تركيزه في أعضاء جسم الإنسان حتى بلغ المستوى الحرج الذي بدأ الناس بالآلاف يتساقطون صرعى واحداً تلو الآخر، ويُصابون بأعراضٍ مرضية غريبة ومخيفة قَبْل أن يلقون نحبهم كفقدان البصر، والشلل، وعدم القدرة على الكلام، وآلام وتشوهات في المفاصل.

وهذه الطامة الكبرى والمحنة العظمى التي أصابت سكان ميناماتا، تكررت مشاهدها في مدنٍ أخرى في اليابان، وفي دول كثيرة خارج اليابان، مما اضطر دول العالم إلى التدخل العاجل بشكلٍ جماعي تحت مظلة الأمم المتحدة لوضع حدٍ لهذه المعاناة البشرية التي عمَّت أرجاءً شاسعة من الكرة الأرضية وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من البشر بين صريعٍ وجريح، فاجتمعت وفود كل دول العالم مراراً وتكراراً لمناقشة هذه الكارثة الصحية البيئية حتى وصلوا إلى معاهدةفي 11 أكتوبر2015أُطلق عليها اتفاقية ميناماتا للزئبق(Minamata Convention on Mercury)، واليوم وقعت عليها 128 دولة وصدَّقت عليها 24 دولة، وقريباً ستكون ملزمة وقابلة للتنفيذ دولياً.

ولذلك ومنذ أكثر من سبعين عاماً دخل الزئبق تحت أضواء البشر، وأصبح من الملوثات المطلوب دمها حية أو ميتة، فالمصائب الكبرى التي جاءت من ورائه هزَّت العالم برمته وحفرت في جسمه جُرحاً لن يندمل، فأجبرته إلى مكافحته والتصدي له وإزالة جذوره من أعماق المجتمع البشري.