الاثنين، 27 يونيو 2016

ماذا نفعل بالقمامة؟


المخلفات الصلبة العضوية وغير العضوية التي نُلقيها يومياً مع القمامة تُعد في الكثير من الدول موارد وثروات لا تُقدر بثمن، فتقوم عليها مختلف أنواع الصناعات، وتُعتبر من دعائم نمو الاقتصادي الوطني في هذه الدول، وفي الوقت نفسه تحل وتعالج أزمة مشكلة البطالة المتجذرة في كل دول العالم.

 

فالدول الفقيرة خاصة تستفيد من كل عنصرٍ ومُكون للقمامة المنزلية والتجارية، فالأوراق يتم تدويرها وإعادة صناعتها وتمثل منتجاً محلياً يأخذ مكانه في الأسواق، وكل أنواع المخلفات البلاستيكية يتم فرزها وفصلها ثم قطعها وتفتيتها إلى قطعٍ صغيرة، ومن ثم تحويل كل واحدة منها إلى منتجات استهلاكية تباع في الأسواق ويستخدمها كل إنسان، وأما المعادن المختلفة كالحديد والنحاس والألمنيوم وغيرها فيتم صهرها في أفرانٍ خاصة ثم بيعها على شكل ألواح، أو أنها تحول إلى منتجات استهلاكية جديدة، وكذلك بالنسبة للمخلفات العضوية من بقايا الأطعمة والمواد الغذائية التي تأخذ طريقها إلى القمامة بأحجام مهولة، فهي تُوضع في مقالب خاصة وتحلل بيولوجياً وتحول إلى مواد عضوية مخصبة للتربة تستخدم في الزراعة. وهكذا بالنسبة لكل المكونات الأخرى للقمامة، فكلها تسترجع ويعاد تدويرها وتصنع منها المنتجات، فلا يُرمى منها أي شيء، مهما كان نوعها أو حجمها.

 

وفي بعض الدول تؤخذ القمامة كلها إلى مصنعٍ خاص للتدوير، حيث يتم فرز وفصل المعادن والمخلفات غير القابلة للاحتراق عن المخلفات العضوية التي يمكن حرقها، فتُنقل المخلفات العضوية إلى مفاعلات خاصة تقوم بحرقها والاستفادة من الحرارة الناجمة لتوليد الكهرباء، أو الاستفادة من الحرارة لتوليد الماء الحار للتدفئة في الدول الباردة.

 

أما في دول الخليج فمعظم المخلفات البلدية الصلبة الناتجة عن المنازل، والمباني التجارية والسكنية فإنها تنتقل إلى مقبرة المخلفات أو المدافن، حيث يتم التخلص منها بطريقة الدفن، ثم تغطية هذه المخلفات بطبقة من التربة. وهذه المدافن أيضاً يمكن الاستفادة منها، فهناك بعض الدول الذي يقوم بضخ غاز الميثان الذي هو المكون الرئيس للغاز الطبيعي وينتج عن تحلل القمامة العضوية، إلى مفاعلات خاصة لتوليد وإنتاج الطاقة الكهربائية، وفي المقابل هناك دول تحول هذه المدافن والجبال المرتفعة من المخلفات بعد انتهاء عمرها إلى متنزهات وحدائق وطنية ومسطحات خضراء جميلة تزدهر فيها الحياة الفطرية من طيور وحيوانات. ففي يونيو من العام الجاري تم تحويل أكبر موقع لدفن القمامة في جزيرة ستاتن(Staten Island) في مدينة نيويورك الأمريكية، والذي كان يستقبل يومياً قرابة 29 ألف طن من القمامة إلى متنزه أُطلق عليه فرش كيلز(Freshkills Park) وتبلغ مساحته قرابة ثلاثة كيلومترات مربعة.

 

ولذلك فإن إبداعات الاستفادة من مكونات القمامة، أو من المدافن التي تُقْبر فيها القمامة كثيرة ومتعددة، فأي منها سنختار في البحرين؟

 

 

مخلفات البلاستيك تَحْتل كوكبنا!



مخلفات البلاستيك في كل مكان وأينما تذهب في الشرق أو الغرب وفي الشمال أو الجنوب، فالدراسات والأبحاث والشواهد الميدانية التي نراها أمامنا واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، كلها تؤكد أن هذه المخلفات قد أَخَذَتْ مكانها واستقرت واستوطنت في جميع بيئاتنا البشرية، فهي في البر والبحر، وفي أعالي السماء، وفي أعماق المحيطات السحيقة، فهي موجودة في الأسماك التجارية التي تُباع في الأسواق ونأكلها يومياً، وتم اكتشافها في الشِيكِنْ نَاجِت الذي يأكله الجيل الحالي ولا يستغني عنه، والبلاستيك وُجد في حلويات "مَارسْ" التي نأكلها يومياً ونشتريها من المحلات والبرادات، ومخلفات البلاستيك بكل أنواعها تم سَحبها من بطن الحوت وهو في الأعماق المظلمة في قاع البحار والمحيطات، ومخلفات البلاستيك نشاهدها بأُم أعيننا، فهي كالمصابيح تُزين أغصان وأوراق الأشجار في الشوارع والبراري والحدائق والمتنزهات، ومخلفات البلاستيك تجدها في الأماكن النائية والأكثر بُعداً عن الأنشطة البشرية والتنموية والتي لا يمكن لأيدي البشر أن تصل إليها.

 

أي أن البلاستيك الآن في كل مكان، وأينما نكون نجده أمامنا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونتعرض له مهما فعلنا أن نتجنبه ونتقي شره، وقد جاء تحذير شديد اللهجة، وتنبيه قوي من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في التقرير المنشور في 23 مايو من العام الجاري حول "حالة البلاستيك في محيطات العالم"، حيث يؤكد هذا التقرير الأممي على هذه الحقيقة المشهودة التي تهدد صحة الإنسان والحيوان وسلامة وأمن البيئة برمتها.

 

وتتلخص قضية المخلفات البلاستيكية في عدة ظواهر، أما الأولى فهي ظاهرة الازدياد المطرد في كميات وأنواع المخلفات البلاستيكية الصلبة التي ينتجها الإنسان في كل أنحاء العالم بشكلٍ يومي، وهذه المخلفات يكون مثواها الأخير إما في مقبرة السواحل البحرية، أو في وسط البحار والمحيطات، والتي مع الوقت تتراكم في هذه المناطق البحرية وتبقى هناك تدور حول نفسها إلى الأبد وكأنها في سجنٍ محكم الإغلاق لا يمكنها الخروج منه، كما هو الحال الآن بالنسبة للمخلفات البلاستيكية في المحيط الهادئ والتي تغطى مساحة قدرها نحو 700 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 700 مرة، وتُعرف باسم(Great Pacific garbage patch). وهذه المخلفات البلاستيكية مع الزمن وبفعل الحرارة وضوء الشمس والتيارات المائية والرياح السطحية تتفتت وتتكسر إلى قطعٍ أصغر فأصغر، وتكون حينئذٍ كالمواد الغذائية التي تستهلكها الطيور المائية والسلاحف والحيتان والكائنات البحرية الأخرى، ومنها قد تصل إلى أجسامنا دون أن نعلم شيئاً عنها، وقد أجمعت الدراسات الميدانية على وجود هذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم في بطن هذه الكائنات البحرية.

 

كما تأخذ هذه المخلفات مساراً آخر في البيئة البحرية، حيث اكتشف علماء البيئة والبحار مؤخراً بأن هذه المخلفات تنزل إلى عمود الماء فتغوص مع الزمن حتى تصل إلى أعماق المحيطات السحيقة المظلمة، فتستقر في مقبرة التربة القاعية على عمق كيلومتراتٍ تحت سطح البحر وتبقى فيها خالدة مخلدة أبد الدهر، وهناك تتعرض لها الكائنات البحرية القاعية فتدخل في أجسامها وتهدد حياتها بالخطر والموت في نهاية المطاف.

 

وأما الظاهرة الثانية المتعلقة بحركة ومصير المخلفات البلاستيكية في بيئتنا فتتمثل في الخَرزات(microbeads) والحبيبات البلاستيكية الصغيرة الحجم التي لا نراها بعيوننا المجردة وتُضاف مئات الآلاف منها إلى الملايين من المنتجات الاستهلاكية التي لا نستغني عن استخدامها يومياً، كمعجون الأسنان، ومنتجات التجميل والزينة، ومنظفات الوجه والجسم، والكريمات بمختلف أنواعها وأشكالها، وهذه المنتجات التي أصبحت ضرورية الآن تدخل في نهاية المطاف مع مياه المجاري ولا تتمكن أجهزة المعالجة من التخلص منها أو معالجتها، فتنفذ منها وتدخل في المسطحات المائية، ومن هناك تنتقل إلى الكائنات الحية النباتية والحيوانية العالقة في الماء، ثم إلى الأسماك الصغيرة والكبيرة فتمكث في بطنها وأحشائها وتتراكم فيها مع الوقت، وأخيراً تدخل هذه المخلفات البلاستيكية المجهرية في أجسامنا دون أن ندري، أو أن نحس بأنها قد دخلت في أبداننا.

 

وعلاوة على ذلك، فإن هذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم قد تدخل في أعضائنا عن طريق استخدام حَـمَأة مياه المجاري في الزراعة، حيث إن هذه المخلفات يترسب البعض منها أثناء معالجة مياه المجاري، فتتراكم مع الوقت في هذه المخلفات شبه الصلبة، أو الحمأة التي عادةً ما تُستعمل في الزراعة كمواد مخصبة ومحسنة لخواص التربة.

ونظراً لانكشاف خطورة هذه الحبيبات البلاستيكية على صحة الإنسان والحياة الفطرية البرية والبحرية النباتية منها والحيوانية، فقد قامت بعض الدول في اتخاذ الإجراءات الأولية لمنع إضافتها إلى المنتجات الاستهلاكية الضرورية وغير الضرورية للإنسان واستبدالها بمواد طبيعية غير ضارة وقابلة للتحلل عند دخولها في البيئة.

كل هذه الحقائق تؤكد لي بأن مخلفات البلاستيك ستكون قضية شائكة ومعقدة تحير العلماء، وتقلق رجال السياسة ومتخذي القرار، وتمثل هماً وقلقاً دائمين لكل إنسان على مدار العقود القادمة.
                          
          

الاثنين، 20 يونيو 2016

الغش والتحايل من ثقافة الشركات الكبرى


قبل أشهر كانت أضواء فضيحة الغش والتحايل مُسلطة ومُركزة دولياً على شركة فولكس واجن الألمانية لصناعة السيارات، والتي كانت وباعترافها تُقدم أرقاماً خاطئة ومضللة عمداً للحكومات والشركات والمنظمات الدولية حول نسبة الانبعاثات والملوثات التي تنطلق من سياراتها التي تعمل بوقود الديزل، وذلك من أجل إقناع الناس وترغيبهم إلى شراء سيارات الفولكس واجن الصديقة للبيئة، والتي لا تلوث الهواء الجوي ولا تضر بصحة الإنسان.

 

وما أن خَفَّتْ هذه الأضواء الإعلامية وتضاءلت قليلاً عن هذه الفضيحة الكبرى، وإذا بِنا نقف أمام فضيحة جديدة، ولكن هذه المرة ليست في الغرب وإنما في دول المشرق، وفي أحد أكبر الشركات اليابانية المصنعة للسيارات، وبالتحديد شركة ميتسوبشي للسيارات.

 

ففي العشرين من أبريل من العام الجاري اعترفت هذه الشركة العملاقة على لسان رئيسها التنفيذي بأنها تَعَمَّدتْ التلاعب في الاختبار والفحص الخاص بترشيد وفاعلية استهلاك الوقود في أربعة أنواعٍ من السيارات الصغيرة التي ينتجونها، وبلغ عددها أكثر من 625 ألف، حيث قامت بالمبالغة الشديدة والتضليل في حجم الوقود الذي تستهلكه هذه السيارات منذ عام 2013، واضطرت الشركة بعد انكشاف سِرها وهي ذليلة وصاغرة أمام الملأ قائلة: "قُمنا بإجراء فحوصات مضللة لتعطي نتائج إيجابية وجيدة تختلف عن الاستهلاك الحقيقي والواقعي للوقود في السيارة، واستخدمنا طرق لا تتوافق مع القوانين....وبالتالي نحن نُعبر عن أسفنا العميق".  

 

والغريب أن هذه الشركة لم تتعلم من تجاربها السابقة وخبراتها الماضية، فهي تُلدغ الآن للمرة الثانية من الجُحر نفسه، حيث إنها في مطلع عام 2000 تم فضحها في كارثة أخلاقية أخرى وقعت فيها، عندما اعترفتْ بأنها ولأكثر من عقدين من الزمن كانت تخفي عمداً العيوب والأخطاء الكبيرة الموجودة في السيارات التي تصنعها وتبيعها على الناس، مما أدى إلى اعتقال الرئيس التنفيذي، وكادت الشركة أن تتهاوى وتسقط كلياً.

 

فهل هذه الفضائح الأخلاقية والبيئية التي ترتكبها الشركات الكبرى في حق الإنسانية هي حوادث فردية تقع بين الحين والآخر، أما أن الغش والتضليل وتبني سياسة "الغاية تبرر الوسيلة" تُعتبر في صُلب ثقافة الشركات العملاقة ومتجذرة في أعماق مؤسساتها وممارسات مديريها التنفيذيين؟

 

التاريخ، والحوادث الكثيرة المتكررة التي عاصرتها شخصياً، تؤكد لي بأن الشركات الكبرى لا ترقُبُ في أحدٍ إلاً ولا ذمة، فهي تقوم على الربح السريع وجني المال الوفير على حساب المبادئ والقيم والأخلاقيات الإنسانية، فاحذروا دائماً من ادعاءاتها، وتَبَيَّنُوا بأنفسكم من مصداقيتها.

  

 

الأحد، 19 يونيو 2016

رؤية الهِلال والتلوث الضوئي


قبيل وبعد بزوغ وولادة هلال رمضان من كل عام ومنذ عشرات السنين، يحتدم الجدال ويطول النقاش في المجالس وبين الناس حول رصد ورؤية هلال شهر رمضان، وما إذا كانت الرؤية صحيحة وصيامنا سليماً، ثم تنطوي صفحة النقاش عند ذلك اليوم، وينسى الناس خبر رؤية الهلال وطلوع الهلال في كل شهر من الأشهر القمرية حتى يحل علينا شهر رمضان مرة ثانية فيتجدد هذا النقاش العقيم غير المفيد مرة أخرى، وهكذا نرى هذا المشهد في كل سنة.

 

والحديث عن رؤية الهلال ينقلنا إلى التطرق إلى قضايا بيئية كبيرة بدأت تتفاقم مع الوقت، وتنكشف تداعياتها السلبية الضارة يوماً بعد يوم، وأصبحت لها بصمات واضحة تنعكس على صفاء السماء من فوقنا، ونقاء الأجواء العلوية، وتؤثر مباشرة على وضوح الرؤية، سواء لشروق القمر ومشاهدة الهلال، أو التمتع والابتهاج برؤية الملايين من الأجرام السماوية بمختلف أنواعها وأحجامها وأشكالها والتي تزين سماءنا، وتجعلها كالمصابيح المضيئة المنيرة التي تُسعد النفس، وتسر القلب، وتملأ الروح بهجة وسروراً عند مراقبتها ومتابعة سيرها وحركتها في السماء.

 

ومن هذه القضايا البيئية التلوث الكيميائي المتمثل في ارتفاع تركيز الملوثات والمواد الكيميائية في الهواء الجوي، مثل الغبار والجسيمات الدقيقة، وأكاسيد النيتروجين والكبريت، والملوثات الهيدروكربونية والتي تتفاعل مع بعض لتكون ملوثات أشد وطأة وخطورة على الإنسان وبيئته، وتظهر على شكل سحبٍ صفراء بنية اللون يُطلق عليها "الضباب الضوئي الكيميائي"، فتُعكر صفاء السماء، وتُكدر نقاوتها، وتحجب رؤية أي جسمٍ في أعالي السماء، بل وتبدوا في بعض الأوقات للعين المجردة والناظر إليها من الأرض على هيئة هلال أو ريشة وخيط رفيع ودقيق من السحب الملوثة والقاتلة، ولذلك يقع خلط وشك في الرؤية بين الهلال الحقيقي والهلال المزيف.

 

كذلك انكشفت الآن ظاهرة بيئية أخرى، وتُعد حالياً من المظاهر الجديدة نسبياً وانعكاساتها أخذت في التزايد مع الوقت، وبخاصةٍ مع توسع وارتفاع نسبة الإضاءة ودرجة الإنارة في المدن والأرياف، وهذه الظاهرة يُطلق عليها بالتلوث الضوئي الناجم عن انتشار أنوار المدن الساطعة والشديدة من المباني والعمارات الشاهقة وناطحات السحاب، إضافة إلى التوهجات الشديدة الصادرة عن مصابيح الشوارع والطرقات والمنازل والبيوت والمصانع. 

 

وهذه الظاهرة البيئية لا تُولِّد غمامة ضوئية وضباباً من الأنوار العالية التي تحجُب عيون الناس عن رؤية الهلال فحسب، وإنما تحرم الإنسان من الاستمتاع بمشاهدة ومراقبة ودراسة ظواهر كونية وفلكية أخرى، حيث أكدت على واقعية هذه الظاهرة المستحدثة في كل مدن العالم الدراسة المنشورة في العاشر من يونيو من العام الجاري في مجلة تطورات العلم(journal Science Advances). وهذه الدراسة الشاملة التي غطت الكرة الأرضية برمتها كانت عبارة عن "أطلس دولي" تم إعداده باستخدام الأقمار الصناعية وبالتحديد القمر الصناعي(Suomi NPP satellite)، ويبين هذا الأطلس تأثيرات ودرجة التلوث الضوئي التي تنعكس على مشاهدة الأجرام السماوية والنجوم والكواكب في كل أنحاء العالم، حيث أكد على أن 80% من سكان العالم لا يمكنهم، على سبيل المثال مشاهدة ورؤية نجوم درب اللبانة أو درب التبانة(Milky Way) حتى في أكثر الليالي صفاءً ووضوحاً، بل وأشار الأطلس على أنك في الكثير من المدن لا ترى السماء الحقيقة التي خلقها الله سبحانه وتعالى في صورتها الفطرية الطبيعية، وإنما تشاهد سماءً مزيفاً تُغطيها غشاوة من الأنوار الساطعة، وسحب من الأضواء اللامعة، وضباب ضوئي متوهج يفسد رؤية السماء وجمالها التي تزينها الكواكب والأجسام المضيئة.

 

وقد تسابق العلماء والباحثون مؤخراً لسبر غور هذا التحدي الجديد، والتعرف على هذه الظاهرة عن كَثَبْ، وإجراء الأبحاث الميدانية والمخبرية لتحديد تأثيراتها الضارة ليس على رؤية الظواهر الفلكية المختلفة فحسب، وإنما على الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وبالتحديد الكائنات الحية التي تَنْشط أثناء الليل وعند حلول الظلام، إضافة إلى مردوداتها السلبية على الإنسان، وبخاصة الصحة النفسية، حيث إن على الإنسان والمهتمين بالقضية الآن السفر مئات الكيلومترات للتمتع برؤية السماء النقية الصافية الحقيقية التي أصبحت عملة نادرة يصعب الحصول عليها.

 

 

 

الخميس، 16 يونيو 2016

الهاتف النقال يُسبب السرطان



هذه الدراسة التي نُشرت في 26 مايو من العام الجاري  ليست كمثيلاتها من الدراسات والأبحاث الأخرى التي اطلعتُ عليها لعدة أسباب موضوعية، منها أنها دراسة معمقة شاملة ومتكاملة، وقامت بها جهة حكومية رسمية تمثل الحكومة الأمريكية الاتحادية وأرهقت كاهل الميزانية العامة بمبلغ وقدره 25 مليون دولار أمريكي، كما أنها استغرقت وقتاً طويلاً حتى الآن، وستستمر حتى عام 2017، ولذلك فهي دراسة فريدة من نوعها واستنتاجاتها وتوصياتها ستكون على درجةٍ عالية من الثقة والمصداقية والثبات.

فقد أجرى علماء من البرنامج القومي الأمريكي لعلم السموم(National Toxicology Program) في مختبرات كولد سبرنج هاربر(Cold Spring Harbor Laboratory) التابع للمعهد القومي للصحة(National Institutes of Health) دراسة مخبرية تهدف إلى التعرف على العلاقة بين الأشعة وموجات الراديو التي تنبعث من هواتفنا النقالة أو المحمولة، واحتمال نمو الخلايا والأورام السرطانية والإصابة بهذا المرض الخبيث العضال، وتمثلت هذه الدراسة في تعريض 2500 من ذكور الفئران لمدة تجاوزت السنتين لموجات الراديو نفسها التي تنبعث من هواتفنا النقالة التي نستخدمها كل ساعة من كل يوم على مدار السنة وعلى مدار عُمرنا.

وقد أكدت الدراسة على أن بعض الفئران الذي تعرض للأشعة المنبعثة من الهواتف النقالة قد ظهر عليهم نوعين نادرين من الأورام السرطانية في المخ والقلب، حيث إن ما يتراوح بين 2 إلى 3% من الفئران انكشف عليهم ورم الجليوما(glioma) في المخ، وما يتراوح بين 2 إلى 6% أصيبوا بورم في القلب يُطلق عليه شوانوما(schwannoma)، وفي المقابل فإن هذه الأورام النادرة لم تظهر على الفئران الأخرى التي لم تتعرض للموجات والأشعة الخارجة من الهواتف المحمولة.

فهذه الدراسة تعتبر الآن في المجتمع الطبي والعلمي المهتم بالجوانب البيئية والصحية للهواتف النقالة الأولى من نوعها التي تصل إلى هذا الاستنتاج بدرجةٍ عالية من الثقة والمصداقية، وتؤشر إلى أن التعرض المستمر لسنواتٍ طويلة، وساعاتٍ ممتدة من اليوم لأشعة الهواتف النقالة تؤدي إلى نمو الخلايا السرطانية، وبالتالي الوقوع في شِباك شَرِّ هذا المرض المستعصي على العلاج.

ولذلك فإن هذه الدراسة تُشعل الآن مرة ثانية ومن جديد فتيل الصراع المحتدم والدائر بين المؤيدين والمعارضين للهواتف النقالة، وبين العلماء والأطباء المهتمين بهذه القضية الشائكة وبين شركات الهواتف النقالة وأجهزة اللاسلكي.

فنتائج مثل هذه الدراسات لا تصب في مصلحة شركات أجهزة اللاسلكي بشكلٍ عام وأجهزة الهواتف المحمولة بشكلٍ خاص، لأنها تُعد ضربة قاسية لتِجَارتهم، وتجعل بضاعتهم مع الوقت أقل جاذبية، وأقل رغبة لشرائها من قبل المستهلكين، ولذلك جاءت رُدود فعل هذه الشركات سريعة ومباشرة وتُشوه من سمعة هذه الدراسة ومصداقيتها، وتُشكك في قوة استنتاجاتها.

وهذا المخاض العسير الذي تمر به قضية الهواتف النقالة وعلاقتها بصحة الإنسان، ليس بالجديد على المجتمع البشري، فعند دخول السجائر والتدخين في الأسواق لم تكن هناك دراسات حول علاقته بالبيئة والصحة بشكلٍ عام، سواء صحة المدخن نفسه أو الذين يجلسون بالقرب منه، ومع الوقت بدأت الأبحاث تظهر رويداً رويداً وعلى استحياء، وتؤشر إلى أن التدخين يسبب الأمراض للإنسان ومنها السرطان، وهذا المخاض استمر أكثر من خمسين عاماً حتى اتضحت نتائج الولادة للمجتمع البشري، وأجمع على أن التدخين يسبب أكثر من عشرة أنواع من السرطان.

ولذلك بالنسبة للهاتف النقال، فبالرغم من نتائج الدراسة الحالية، ففي تقديري فإن نمط وأسلوب استخدام الهاتف النقال هو العامل المحدد لإصابة الإنسان بالسرطان، وهذا النمط في الاستعمال أُلخصه في النقاط التالية:
أولاً: الفترة الزمنية التي يستخدم فيها الإنسان الهاتف النقال طوال عُمره.
ثانياً: كيفية استخدام الهاتف أثناء المكالمات من حيث وضعه مباشرة على الأذن والمخ، أو استعمال البُلوتوث، أو مُكبر الصوت(السْبيكر).
ثالثاً: نوعية الهاتف التي يستخدمها الإنسان، حيث إن الطاقة وشدة الموجات التي تنبعث من كل هاتف تختلف من شركةٍ إلى أخرى.

واستناداً إلى هذه العوامل فالإنسان بيده تجنيب نفسه التعرض للأمراض من استخدام الهاتف النقال، والاعتدال في الاستخدام هو كلمة السر.

الأحد، 12 يونيو 2016

صادق خان يُقاضي حكومته


مهمة العُمدة الجديد للعاصمة البريطانية لندن صادق خان صعبة جداً ومعقدة، فهو مُسلم ومن الأقليات في بريطانيا، ولذلك عليه أن يثبت نفسه وكفاءته وبراعته في القيام بهذا العمل أكثر مِنْ لَو كان العمدة من اللندنيين البيض ومن السكان الأصليين لبريطانيا.

 

ومن الصِعاب الثقيلة التي يواجهها الآن، ومن القضايا الساخنة التي تقف حجر عثرة أمام تقدمه ونجاحه، حيث فشل كل من سبقه في علاجه والتغلب عليه، بل وإن الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تنجح كلها في تقديم الحلول الجذرية والمستدامة لهذه القضية المعقدة على بريطانيا بشكلٍ عام وعلى المجتمع اللندني بصفةٍ خاصة، فهي قضية قديمة ومتجددة، ومازالت تتصدر قائمة القضايا المستمرة منذ أكثر من مائة عام. 

 

فمنذ النَكْبة العظيمة التي نزلت على سكان لندن في ديسمبر 1952 بسبب فساد الهواء الجوي ودخول الآلاف من الملوثات السامة والقتلة إلى الهواء، والتي أودت بحياة أكثر من  4000 لندني في أسبوعٍ واحد فقط وأدخلت الآلاف إلى المستشفيات وهم يعانون من ضيق التنفس وتدهور حاد في وظائف القلب، وحولت موسم الأعياد والأفراح إلى أيام مأتمٍ وأحزان، فمنذ ذلك الوقت وسكان لندن لم يتمتعوا تماماً بهواءٍ نظيفٍ وصحي يُقوى أجسامهم وتستقيم به صحتهم، ولذلك فهذا التحدي الكبير انتقل مع الزمن من جيلٍ إلى آخر، ومن حكومةٍ بريطانية إلى أخرى، ومن عمدة إلى الآخر دون أن يتمكن أي واحدٍ منهم من القضاء عليه كلياً، فكل جيل يُورث الجيل الآخر ابناً معوقاً يصعب إعادة تأهيله وعلاجه.

 

فالآن جاء دور صادق خان ليُجرب حظه أمام هذه القضية، ويُدلي بدلوه ليقدم الحلول ويطرح العلاج الناجع والمستدام، فتَـبَنى منذ البداية الخطة الهجومية بدلاً من الخطة الدفاعية، واختار أن يُلقي هذا العبء الثقيل الذي ورثه من السابقين على الذين كانوا من قَبْله حتى لا يُعاتبه أحد على التقصير وعدم اتخاذ إجراءات لعلاج هذه القضية الخالدة، حيث قرر الذهاب إلى المحكمة العليا ليقدم شهادته ومرئياته ويدافع عن نفسه ضد الحكومة البريطانية أمام القضية المرفوعة للمرة الثانية من إحدى الجمعيات الأهلية حول أزمة تلوث الهواء الخانقة والمهددة لصحة سكان لندن، وقال في هذا الصدد: “خطة الحكومة لمواجهة تلوث الهواء غير كافية لحماية صحة اللندنيين"، وأضاف قائلاً: “أنا أعلم من خبرتي الشخصية أن هواء المدينة يدمر صحة الناس حيث إنني أعاني منذ الصغر من الربو".

 

 وجدير بالذكر أن معضلة تدهور نوعية الهواء في لندن والمدن البريطانية العريقة الكبرى لم تَعُد الآن بالنسبة لبريطانيا هماً محلياً، وشأناً داخلياً لا يَلجُ فيه أحد، كما لم تعد قضية بيئية وصحية، فقد تحولت بسبب التجاهل والإهمال لسنواتٍ طويلةٍ إلى قضيةٍ سياسيةٍ كبرى ومحْرجة بالنسبة للحكومة البريطانية، فقد تدخلت محاكم الاتحاد الأوروبي لتحكم ضد بريطانيا لعدم التزامها بمعايير نوعية الهواء ومواصفات جودة الهواء الجوي الأوروبية، وقررت غرامة مالية كبيرة، على بريطانيا دفعها الآن.

 

وعلينا هنا في البحرين أن نقف أمام هذه التجربة المــُـرَّة التي تقاسي منها بريطانيا أكثر من سبعين عاماً، ومازالت هذه المعاناة حاضرة ومستقرة وتُكبل صحة جيلٍ بعد جيل، حتى أن الإحصاءات الرسمية الحالية تفيد بأن ما يتراوح بين أربعين إلى خمسين ألف بريطاني يلقون حتفهم قبل وقتهم، ويموتون موتاً مبكراً سنوياً نتيجة لتدهور نوعية الهواء الجوي، مما يؤكد أهمية تدارك قضية جودة الهواء الجوي منذ أن تكون في مهدها وقبل أن تكبر وتتفاقم وعندها سيكون العلاج شبه مستحيل وشديد الكلفة.

 

ومن خبرتي المتواضعة فإنني في هذا المجال أؤكد على ضرورة توجيه جُل عنايتنا ورعايتنا في البحرين إلى قضية السيارات بكل أبعادها المرورية، والبيئية، والصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، وإعطائها الأولوية القصوى من حيث العمل على خفض الانبعاثات الناجمة عنها أولاً، ومنعها كلياً في المستقبل المنْظور.