الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

هل ستَصْمد فولكس واجن أمام الضربات؟


إذا كُنتَ مصارعاً عنيداً، وملاكماً صنديداً قوياً في حَلبة المصارعة، وأمامك خصم يوجه لك اللكمات المتلاحقة في بطنك ورأسك وخصرك لعدة جولات، فهل تستطيع أن تصمد أمام هذه الهجمات المتتالية؟ وهل تتمكن من الوقوف طويلاً لتدافع عن نفسك، أم أن قُواك ستنهار في نهاية الأمر وتسقط صريعاً على الأرض؟

 

فهذا ما يحدث الآن لشركة فولكس واجن، هذه الشركة الألمانية العملاقة التي تُعَد فخر الصناعة الألمانية ومن أكبر شركات السيارات في العالم وأكثرها مبيعاً لعدة أنواع من السيارات المعروفة على المستوى الدولي مثل أُودي، وبِنْتلي، وبُورش، فهذا الصرح الشامخ في عالم السيارات انهالتْ عليه اللكمات من كل جهة منذ أن سقط في فضيحةٍ مُدوية انتقل صداها إلى كل قُطْرٍ في العالم وقد تُلقى به إلى الهاوية، حيث أثرت بشكلٍ مباشر بسمعته الدولية، وأضرت كثيراً بمبيعاته في كل الدول بدون استثناء، ورُفعت ضده الآلاف من القضايا المدنية والجنائية في محاكم دول العالم تُطالب بتعويضات تبلغ مئات المليارات من الدولارات.

 

ولكي تتعرفوا على حجم الضرر القانوني والمادي والمعنوي والاقتصادي الذي يلاحق فولكس واجن في كل مكان في العالم، وتَتَأكدوا بأنفسكم من قوة الضربات القانونية التي على الشركة مواجهتها والتصدي لها، دعوني أُقدم لكم بعض الأمثلة الصارخة.

 

أولاً: في الثاني من أغسطس من العام الجاري أعلنت كوريا الجنوبية تعليق كافة مبيعات شركة فولكس واجن في الدولة، وطالبت الشركة بدفع غرامة مالية تبلغ قرابة 15 بليون دولار بتهمة التزوير والغش في الوثائق المرتبطة بنوعية وحجم الإنبعاثات التي تنطلق من سيارات الديزل التي تم تصديرها إلى كوريا الجنوبية.

ثانياً: في التاسع من يوليو من العام الجاري تلقت فولكس واجن ضربة موجعة وقوية جداً، اضطرت على إثرها دفع غرامة مالية باهظة لجمعيات حماية حقوق المستهلكين في الولايات المتحدة الأمريكية وصلت إلى 14.7 بليون دولار لتسوية فضيحة تصدير سيارات مغشوشة عددها 475 ألف سيارة ديزل.

ثالثاً: وافقت فولكس واجن في يونيو على تحمل ضربة أخرى من 44 ولاية أمريكية، حيث إنها ستدفع مبلغاً قدره 603 ملايين دولار كجزاءات وتعويضات لجميع مالكي هذه السيارات المغشوشة والمزورة.

رابعاً: في المستقبل القريب ستتلقى فولكس واجن لَكَمات كثيرة بسبب القضايا الأخرى المرفوعة ضدها في عدة دول، وبعضها قضايا بتهمٍ جنائية، ومنها قضية مرفوعة من الحكومة الألمانية نفسها تطلب فيها غرامات لأسباب "تأديبية" وأخلاقية لعدم تحمل الشركة لمسؤولياتها المهنية والإنسانية والقيام عمداً بعملية التزوير والغش لمنتجاتها، وبالتحديد السيارات التي تعمل بوقود الديزل، وهذه الغرامات ستمثل ضربات ثقيلة ترهق كاهل ميزانية هذه الشركة، وحتماً ستؤخر نموها وتطويرها لمنتجات جديدة تنافس بها الشركات الأخرى المتربصة بها.

خامساً: في 22 أغسطس من العام الجاري توقفت شركة فولكس عن الإنتاج كلياً في عددٍ من مصانعها لأكثر من أسبوع، وهذا كَلَّف الشركة خسائر تُقدر بأكثر من 70 مليون دولار أمريكي، وأدى إلى تَوَقُف قرابة 27700 موظف عن العمل.

 

فهذه الكارثة الأخلاقية التي فاحت رائحتها النتنة من ألمانيا إلى العالم في 18 سبتمبر عام 2015 وتحت سمع وبصر وعِلْم دول الاتحاد الأوروبي، حسب تحقيق مجلة الشبيجل الألمانية في 19 أغسطس من العام الجاري، عَلَّمتني شخصياً الكثير من الدروس، واستخلصتُ منها العديد من العِبر، وخرجت منها بخبراتٍ جديدة في مسيرة حياتي، وأود هنا أن أشاطركم كل هذه الدروس والفوائد، ومنها أن لا نثق كلياً بما تدَّعيه وتسوقه الشركات العملاقة الكبرى، سواء شركات السيارات، أو الأدوية، أو منتجات التبرج والجمال والزينة، أو غيرها من الشركات التي تصنع المنتجات الاستهلاكية، فثقافتها المتجذرة في مؤسساتها هي التسويق الكبير والربح السريع وجني المال الوفير باتخاذ كافة الوسائل المباحة والمشروعة، أو المحرمة وغير المشروعة وعلى حساب أي شيءٍ آخر، سواء صحة الإنسان وسلامته، أو أمن البيئة وعافيتها، ولذلك علينا أن تَكُون لنا قنوات وآليات شعبية خاصة نتأكد عن طريقها من كل ادعاءات هذه الشركات عن منتجاتها التي تطرحها في الأسواق.

 

أما الفائدة الثانية فإن الجشع والكذب والتزوير والغش من أجل جني المال من الحرام يُوقع الإنسان أولاً في الإثم العظيم في الدنيا، والعقاب الأليم والخزي والندامة في الآخرة، كما إنه في الوقت نفسه، كما يقول المثل الشعبي: حَبْلْ الكذب قصير"، تنكشف الفضائح ولو بعد حين ويظهر الكذب والغش ولو بعد سنوات، وعندها ستضيع كل مكتسبات هذه الشركة، وستسقط إلى الحضيض الاجتماعي والاقتصادي وقد تقفل أبوابها بالشمع الأحمر إلى الأبد.

 

وبالرغم من هذه النْكبة الكبرى والكارثة العظمى التي زلزلت هذه الشركة وافتضح أَمْرُها في كل دول العالم، إلا أن الشركات العملاقة بشكلٍ عام لا تريد أن تتعلم من هذه الدروس التي تُلدغ منها كل يوم، فهي تُكرر التجربة نفسها من غشٍ وكذبٍ وتزوير على الشعوب لأن هذه هي ثقافتها وتربيتها، وآخرها ولكن تكون حتماً هي الأخيرة ما قرأتُ عن شركة هارلي ديفيدسن للدراجات النارية(Harley-Davidson) في 19أغسطس من العام الجاري، حيث صَرحتْ وزارة العدل الأمريكية بأن الشركة وافقتْ على دفع غرامة مالية قدرها 12مليون دولار للغش في الأجهزة التي تضعها في دراجاتها والمعنية بخفض انبعاثها للملوثات، أي كما فعلت فولكس واجن بالضبط!

 

الاثنين، 29 أغسطس 2016

الطحالب تُعلن حالة الطوارئ


لأول مرة تضْطر ولاية أمريكية إلى إعلان حالة الطوارئ مرتين في غضون سبعة أشهر، فقد أعلن حاكم ولاية فلوريدا رِيكْ سكُوتْ حالة الطوارئ الأولى في فبراير من العام الجاري ظناً منهم أن الكارثة التي حَلَّتْ بولايته ستزول قريباً، وأن الأزمة الخانقة ستنتهي، ولكن أُجبِر مرةً ثانية على إعلان حالة الطوارئ القصوى وطلب المساعدة في 29 يونيو من العام الجاري أيضاً.

.

فماذا حَدَثَ من أمرٍ جَلَل استدعى إعلان حالة الطوارئ والاستنجاد بالآخرين من خارج الولاية ومد يد العون للمساعدة، وماذا نزل على هذه الولاية الأمريكية الساحلية من مصيبةٍ عصيبةٍ كبرى لا تستطيع حلها بنفسها، فتضطر إلى إعلان حالة النَفِير العام؟

 

لقد نزل على سواحل وأنهار وبحيرات هذه الولاية الجميلة ما نتجاهلها جميعاً، ونغض الطرف عنها، ونعتبرها من القضايا الهامشية التي يمكن تأجيلها ووضعها في ذيل قائمة جدول أعمالنا، فقد أصابهم مرض العصر، ونزل عليهم الوباء القاتل الذي أكل الأخضر واليابس، وتضرر منه البشر، والشجر، والحجر، وتأثرت به كافة الكائنات الحية المائية من أسماك، وقواقع، وروبيان، ونباتات.

 

لقد تحولت الكثير من سواحل فلوريدا المشهورة والجذابة للسياح من كل أرجاء العالم، وبحيراتها الزكية الجميلة، وأنهارها الفاتنة التي تجري من تحتها، تحولت كلها إلى اللون الأخضر الفاقع العَفِنْ الذي يَنْفر من رؤيته الإنسان، وتشمئز نفسه عند النظر إليه، ويمتلأ قلبه حسرة وخوفاً، فتشبعت هذه المسطحات المائية بالسموم، وتركزت في بطنها الملوثات القاتلة والمهلكة للبشر، وغطت هذه البقع الخضراء الكثيفة والسميكة مساحاتٍ شاسعة من المسطحات المائية إلى درجةِ أنها شُوهدت بوضوح من أعالي السماء، وعلى بعد كيلومتراتٍ طويلة من فوق الأرض، وبوساطة الأقمار الصناعية، وبالتحديد القمر الصناعي لاند سات 8(Landsat 8).

ونتيجة لهذه المناظر المرعبة والمـُــنفرة، هرب الناس من هذه المناطق الساحلية البحرية والنهرية، وعزفوا عن ممارسة أي نشاطٍ ترفيهي ورياضي مائي، أو صيدٍ للأسماك، وابتعدوا عن الفنادق ومناطق السكن والمطاعم الموجودة على الساحل أو بالقرب منها، مما أدى إلى خسائر فادحة للقطاع السياحي في تلك المنطقة، وتدميرٍ اقتصادي شامل غطي قطاعات واسعة خدمية وسياحية وصناعية وسكنية.

فكل هذه التهديدات التي هزَّت فلوريدا من الناحية البيئية والصحية والاجتماعية والاقتصادية كان سببها بسيطاً جداً، وهو سماح الإنسان نفسه وبمحض إرادته للملوثات السامة من مياه مجاري وصرف زراعي وغيرهما للدخول في الأوساط المائية، ثم انتقالها من بيئةٍ إلى أخرى، حتى عَمَّ التلوث جميع هذه المسطحات المائية ووقعت الواقعة، ونزلت عليهم كالصاعقة، فحَلَّ الكَرب العظيم الذي شاهدناه بالولاية.

فاعتبروا يا أولي الألباب، واتعظوا بالتاريخ قبل أن يتعظ التاريخ بكم.

 

الخميس، 25 أغسطس 2016

إذا أردتَ أن تحافظ على قَلْبك فحافظ على بيئتك



هناك انطباعٌ شائع وخاطئ عند الكثير من الناس، ومن بينهم بعض الأطباء أن تلوث الهواء يضر بصحة الجهاز التنفسي فقط ولا يؤثر على أعضاء الجسم الأخرى، ولكن الأبحاث الحديثة والدراسات الطبية التي نُشرت مؤخراً تؤكد بأن التلوث يُهلك أهم وأغلى عضوٍ يمتلكه الإنسان في جسمه، ويعتمد عليه في كل حركة أو ساكنة من كل ثانيةٍ تمر عليه في حياته اليومية، إذ لا حياة لأي بشرٍ بدون هذا العضو، ألا وهو القلب، كما صدَّق على ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى، عندما قال: "أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ".

 

وهذا يعني أن تلوث الهواء جِدُ خطير، ويهدد الأمن الصحي للبشر، ويعرقل استدامة حياتهم على سطح الأرض، فهو يهلك الحَرث والنسل ويقضي على الأخضر واليابس، فلا بد إذن من إعطائه الأهمية القصوى، وجعله في سُلم جدول أعمال الأولويات.

 

وللتأكيد على هذه الحقيقة، فقد نَشرتْ مجلة لانست لِعلم الأعصاب(Lancet Neurology) المعروفة عالمياً دراسة شاملة في يوليو من العام الجاري قامت بتحليل الأمراض التي تصيب الإنسان في 188 دولة من دول العالم للتعرف على المخاطر ومسببات التعرض للسكتة والعوامل التي تحفز وقوعها خلال الفترة من 1990 إلى 2013، إضافة التعرف عن كثب على أشد العوامل مساهمة في وقوع الإنسان في فخ السكتة، مثل ارتفاع ضغط الدم، وتلوث الهواء، والبدانة، والعادات الغذائية، والتدخين، وغيرها.

 

فقد أفادت الدراسة على أن هناك قرابة 15 مليون إنسان حول العالم يسقطون في شباك التعرض والإصابة للسكتة، فيموت منهم ستة ملايين وينقلون مبكراً إلى مثواهم الأخير، وزهاء خمسة ملايين يصابون بإعاقات جسدية مزمنة مثل الشلل، أو فقدان البصر، كما أشار الباحثون على الدور القاتل لتلوث الهواء وأن 17% من حالات التعرض للسكتة مرتبطة بتلوث الهواء، كما أكدوا إلى أن العلماء في السابق استصغروا واستهانوا بقُدرات تلوث الهواء على تدمير صحة البشر، ولم يدركوا حقيقة وحجم هذا الخطر الذي داهم الإنسان حديثاً، ولم يعلموا عن حدة ودرجة تأثيراته المدمرة لسلامة الناس أجمعين، ولذلك فإن هؤلاء العلماء يدقون الآن ناقوس الخطر حول التهديد الذي يمثله تلوث الهواء لقلب الإنسان، وبالتالي إسهامه الكبير والمشهود في الإصابة بأمراض القلب والموت المبكر.

 

وعلاوة على هذه الدراسة الجامِعة فقد أشارت دراسة متخصصة نُشرت في مجلة الجمعية الأمريكية للقلب وهي مجلة"ارتفاع ضغط الدم"(Hypertension) في يونيو من العام الجاري تهدف إلى سبر غور العلاقة بين ارتفاع ضغط الدم، الذي هو الآن يُعد من أكثر أمراض القلب العصرية انتشاراً، والتعرض لملوثات الهواء الجوي، حيث أبدى الباحثون استغرابهم واندهاشهم من النتيجة التي حصلوا عليها، إذ أكدوا بأن استنشاق الهواء الملوث مثل أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والكبريت والدخان الذي ينتج عن السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع، سواء لفترةٍ قصيرة أو طويلةٍ من الزمن، يزيد من مشكلة ضغط الدم عند الإنسان ويرفع من درجته وحدته، وهذا في حد ذاته يؤكد أن هناك عاملاً جديداً ومحفزاً قوياً قد دخل على الخط، إضافة إلى المسببات التقليدية المعروفة الأخرى كالملح، والبدانة، وعدم ممارسة الرياضة، والذي يؤدي إلى ارتفاع ضغط دم الإنسان، وبالتالي وقوع مشكلات وأزمات في القلب.

 

ومن أشد الملوثات تهديداً لصحة القلب هو الدخان، أو الغبار والجسيمات الدقيقة حسب الدراسة الوبائية الشاملة المنشورة في مجلة اللانست(The Lancet) في 24 مايو من العام الجاري، والتي أُجريت على أكثر من ستة آلاف أمريكي من ست ولايات، حيث أكدت بأن الغبار ولو بنسبٍ منخفضة يؤدي إلى أمراض القلب المزمنة، مثل تصلب الشرايين والسكتة القلبية، أي تعجيل الدخول في القبر.

 

وبالتالي فإن هناك إجماع علمي وطبي الآن على أن تلوث الهواء، ولو كان بنسبٍ بسيطة أقل من المواصفات والمعايير التي وضعها الإنسان لجودة الهواء، يؤثر بشكلٍ كبير على كافة أعضاء الجسم، وفي مقدمتها القلب، ولذلك إذا أردنا أن تستقيم حياتنا ونعيش سعداء أصحاء، فيجب علينا جميعاً أن نُبعد عن أنفسنا شبح التلوث ونمنع مصادره من مجتمعنا.



الجمعة، 19 أغسطس 2016

بَلدْ الضباب



من يقرأ عنوان هذا المقال فلا شك بأنه سيفكر مباشرة بلندن المعروفة تقليدياً بأنها مدينة الضباب، حيث لا تطلع فيها الشمس إلا سويعات من كل يوم وفي أشهر الصيف فقط، ولكنني هنا أتحدث عن بلد الضباب الموجود بين ظهرانينا، وبالقرب منا، ولا يبعد عنا سوى ساعتين من رُكوبك للطائرة، وبدون أن تتحمل بعد المسافة ومشقة السفر.

هذه المدينة الساحرة الجميلة هي صلالة في سلطنة عمان والتي تتميز بمقومات سياحية فريدة من نوعها بين دول الخليج المعروفة في مجملها في أشهر الصيف الطويلة بالهواء الحار والقيظ الشديد، والرطوبة العالية، والبيئات الصحراوية الممتدة آلاف الكيلومترات ودرجة حرارة مياه البحر المرتفعة، ولذلك يشد معظم الناس رحالهم متجهين إلى أوروبا بحثاً عن الجو البارد والبيئات الخضراء.

فقد تمتعت مؤخراً في زيارة خاطفة وسريعة قُمت بها إلى صلالة فلم أر فيها الشمس مدة أربعة أيام ولم أحتاج إلى نظارةٍ شمسية تقي بصري وتحمي عيني من شدة ضوء الشمس وقوته، فالضباب والسحب الكثيفة الثقيلة كانت تحجب أشعة الشمس وتمنعها من الوصول إلينا وتُنزل من درجة حرارة الجو، وقد كانت هذه السحب العالية محملة بأمطارٍ خفيفة كالندى، فتنزل علينا برداً وسلاماً، فتُنعش نفوسنا أمناً، وقلوبنا راحة وطمأنينة، فيشرب بعد نزولها إلى الأرض الطير والكائنات البرية الفطرية، وتروي بها التربة بعد عطش، فتهتز لها الأرض الهامدة وتُنبت بعدها من كل زوجٍ بهيج، فترى المسطحات الخضراء البِكر العذراء بُعد امتداد البصر وكأنها بساط أخضر اللون، وهي متزينة بأنواعٍ مختلفة ومتنوعة من النباتات الفطرية البرية الموسمية والدائمة. وفي المقابل تشاهد أمامك الجبال الراسيات الشامخة الخضراء اللون الممتلئة بالأشجار الباسقات العالية والأعشاب القصيرة التي تحوم من حولها، وإذا ما نظرت إلى أعلى السماء فلا يمكنك مشاهدة قِمم الجبال هذه التي يُغطيها الغمام والضباب الأبيض الناصع البياض.

وهذه الجبال الخضراء تنزل من فوقها ومن أعلى قممها المياه العذب الفرات، فتَجري عبر مجاري هذه الجبال الخلابة وقنواتها إلى الأرض، فتسقط ماءً غير آسن على هيئة شلالات مهيبة تسمع أصواتها من بُعد، ثم تجري أنهاراً غدقاً على الأرض، وتُكونُ بركاً وبحيرات جذابة من هذا الماء الصافي الزلال.

وهذه الأمطار الخفيفة التي تنزل على هذه الأرض المباركة، وهذه الحرارة اللطيفة للجو، تُنبت غابات كثيفة من شتى أنواع الفواكه الطيبة واللذيذة وعلى رأسها أشجار جوز الهند الباسقات ولها طلع نضيد، وأشجار المانجو والرمان والليمون.

وعندما تعيش في هذه الأجواء العليلة بعض الوقت، وتقضي فترةٍ من الزمن مع هذه البيئات الخضراء المتزينة بتغاريد الطيور الغناء التي تكسر صمت الجبال والسهول، وتشم هواءً نقياً صحياً وعليلاً، فإنك حقاً ستشعر براحةٍ نفسية عجيبة لا مثيل لها، وتحس بطمأنينةٍ وأمانٍ وراحة البال، وستعيش حالة من الاسترخاء لا يمكن وصفها والتعبير عنها مهما كُنتُ بليغاً في الكتابة والوصف البياني.  

وفي الحقيقة ما يحتاج مني إلى الإشادة والثناء هو الحفاظ على هذا التراث الفطري الفريد من الحياة الفطرية الحية وغير الحية عبر السنين، وحماية كل مكوناتها وعناصرها كما خلقها الله سبحانه وتعالى من بيئاتٍ جبلية خضراء مزينة بالأشجار والأعشاب، وسهول شاسعة لم تفسدها أيدي البشر، وأنهارٍ وبحيراتٍ وعيون صافية ونقية، ثم نقل هذا التراث العجيب من جيلٍ إلى آخر، وتسليمه لهم دون تدميرٍ أو تشويه أو تغيير في نوعيتها وكميتها.

فهذه الظاهرة التي تتميز بها صلالة تُعد الآن من التحديات الخطيرة والصعبة التي تواجهها الدول عند القيام بالأعمال التنموية، سواء أكانت في قطاع السياحة، أو الصناعة، أو التجارة، أو عمارة الأرض بالمباني والمساكن، وقد فشلت الكثير من الدول أمام هذا التحدي الصعب والمعقد ولم تتمكن من مواجهته، وسقطت في فخ التنمية غير المستدامة، فدمرت الهواء الجوي وتشبع بالملوثات القاتلة والسامة، وقضت على البحر فأكلت جزءاً كبيراً من جسمه وذهبت معها الكائنات الفطرية التي تعيش عليها، وعبثت في العيون الطبيعية حتى انتهت وأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي المعاصر فلا يمكن مشاهدتها إلا في أرشيف الكتب القديمة، فأخلت كلياً بالتوازن البيئي الهش الذي خلقه الله ولم يبق الآن من البيئة إلا اسمها ومن الكائنات الفطرية إلا رسمها.      

الأحد، 14 أغسطس 2016

بين الجَسْرين، وتوجيهات رئيس الوزراء


"بين الجَسْرين" عنوانٌ لمقالٍ نشرته في أخبار الخليج في يناير 1997، ولا أتذكر يوم النشر بالتحديد، وكُنتُ أقصد بالجسرين، جسر الشيخ حمد بن عيسى وجسر الشيخ عيسى بن سلمان الذي افتتح رسمياً في السابع من يناير عام 1997، حيث رأيتُ في هذه البحيرة الجديدة الواقعة بين البحرين كل مقومات السياحة البيئية العائلية التي يمكن الاستفادة منها، وإنشاء مشاريع سياحية وترفيهية عليها.

 

فمن خلال المقال دعوتُ إلى استغلال هذه الدوحة الجميلة التي تتميز بصفاء مائها، وهدوء التيارات البحرية فيها، وضحالة عمقها، وموقعها الاستراتيجي الهام في عمق جزيرة البحرين، وفي وسط المنطقة الحضرية الصاخبة المكتظة بالعمران وحركة السيارات والأنشطة الأخرى، والتي يمكن للجميع الوصول إليها دون تحمل عناء السفر، أو مشقة قطع المسافات الطويلة للوصول إليها، أو صرف أموال باهضة للتمتع بها، فهي يمكنها أن تكون منطقة جذبٍ سياحي للمواطنين والمقيمين في الداخل، إضافة إلى القادمين إلينا من خارج البحرين، وبخاصة بالنسبة للرياضات المائية البحرية كالسباحة، والقوارب بجميع أنواعها وأشكالها، والـ"جِــيتي سكي"، وغيرها من الألعاب الأخرى.

 

وقد غمرني الآن السرور والفرحة الكبيرين عندما قرأتُ مؤخراً عن توجيهات رئيس الوزراء لعمل خطةٍ ميدانية تنفيذية لتطوير هذه المنطقة التي أشرتُ إلى الاهتمام بها قبل 19 عاماً، وجعلها متنفساً للأهالي ومعلماً ترفيهياً وجمالياً وسياحياً، حيث أكد رئيس الوزراء على ضرورة أن تشتمل الخطة على مرافق ومنشآت تتيح للناس فرص الاستجمام والراحة وممارسة مختلف الهوايات والأنشطة وتكون نقطة جذبٍ سياحي عائلي.

 

ولذلك فإنني أدعو مرة ثانية إلى استخدام سياسة واستراتيجة "التنمية المستدامة" لأعمال التطوير في هذه البحيرة، أي التنمية دون تدمير ٍأو إفسادٍ للمنطقة البحرية والحياة الفطرية التي تزخر بها بشقيها النباتي والحيواني، وهذا يعني تنمية المنطقة بيئياً، واقتصادياً، واجتماعياً، دون أن يطغى الجانب الاقتصادي على البعديد الآخرين البيئي والاجتماعي، وبالتحديد فإنني أقترح ما يلي:

أولاً: إعلان المنطقة البحرية "محمية بحرية طبيعية" بمرسومٍ ملكي يوضح فيه حدود المحمية كلها من كافة جهاتها، وتُصدر لها شهادة مسح وتنشر للجميع، حتى لا يتعدى أي مستثمرٍ على حرماتها وحدودها وجسمها البحري والحياة الفطرية فيها، ولا يتم دفن أي شبرٍ منها بحجة "التنمية والتعمير".

 

ثانياً: عدم المساس بهوية البحيرة وخصوصيتها من حيث الحظور الموجودة في البحر حالياً، وعدم التعدي على أساليب الصيد التقليدية الأخرى التي تمارس في هذه البحيرة، فهذه جزء من السياحة البيئية التي يدعو إليها المجتمع الدولي، كما هي جزء هام من تراث البحرين التقليدي البيئي والاجتماعي الذي يجب حمايته والمحافظة عليه، وتثقيف السواح وتوعيتهم بأهمية هذا النوع من الصيد غير الجائر والمستدام.  

 

ثالثاً: وضع لوائح وأنظمة حازمة وصريحة على الأسلوب المسموح استخدامه في التعمير والبناء ونوعية الآليات التي يمكن الاستفادة منها، بحيث يأخذ في الاعتبار تقنيات وأساليب "العمارة البيئية" أو "التصميم البيئي".

 

رابعاً: الاستفادة من تجربة وخبرات إنشاء "محمية دوحة عراد البحرية"، والتي ساهمتُ أكثر من سبع سنوات في السهر على تنفيذها، منذ أن كانت فكرة بسيطة وليدة إلى أن تحولتْ إلى معلمٍ بيئي واجتماعي وترفيهي لكل سكان البحرين وليس لأهالي المحرق فحسب، فهذه البحيرة الجديدة لا تختلف في الكثير من مقوماتها ومعالمها ومميزاتها عن محمية دوحة عراد البحرية. 

 

خامساً: تصنيف المنطقة البحرية الساحلية كـ"مُلك عام"، وليس ملكاً خاصاً يستغله وينتفع به أحد مالكي الفنادق أو المرافق التي ستبنى في المنطقة، فالجميع يجب أن يتمتع بهذه الثروة الطبيعية المشتركة والعامة، والجميع يستفيد من جمال البحر وخيراته الوفيرة، والجميع يستحم فيه ويمارس هواياته البحرية بكل حريةٍ وطلاقة.

 

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت مستمرة


الولايات المتحدة الأمريكية دخلت معارك كثيرة وفي جبهات متعددة، وانتصرت في البعض منها، ولكنها ومنذ قرابة خمسين عاماً تعاني من حربٍ ماراثونية فريدة من نوعها كحرب داعس والغبراء، دَخَلت فيها دون إرادتها ودون أي تخطيطٍ مسبق لها، ولم تتمكن حتى الآن من حسم هذه الحرب الضروس لصالحها. وهذه الحرب تختلف كلياً عن الحروب والمعارك التقليدية التي خاضتها من قبل، فهي حرب من نوعٍ آخر جديد دوغت الإنسان الأمريكي ووقف جيشها المتطور الجرار أمامها متحيراً مكتوف اليدين، وكبَّدت الخزينة الأمريكية مبالغ مالية طائلة، فهي إذن حرب حديثة لم يتعود عليها الإنسان، وليست له خبرة طويلة في مكافحتها، إذ لا تُستخدم فيها الدبابات والصواريخ والمدرعات العسكرية القتالية، فأسلحتها مختلفة، وتكتيكاتها لمواجهتها جديدة، والتعامل معها بحاجةٍ إلى أساليب إبداعية مازال العقل الأمريكي المتقدم يجهل معالمها، ولا يعرف الكثير عن تفاصيلها وهويتها.

 

هذه الحرب تبدأ عندما يُدخل الإنسان بإرادته أو عن طرق الصدفة كائناً حياً نباتياً أو حيوانياً في وسطٍ بيئي، كالمسطحات المائية من الأنهار والبحار والبحيرات، وهذا الكائن لا ينتمي أصلاً إلى تلك البيئة، فهو أجنبي ودخيل عليها وعلى كائناتها الفطرية التي تعيش في تلك البيئات منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، فتبدأ هذه الكائنات بغزوٍ عسكري بطيء وهادىء لهذه الأوساط البيئية عندما تتكاثر بشكل طفري كبير وتتزداد أعداها مع الزمن، وعندها تحتل هذه المنطقة كلياً وتقضي على الكائنات الفطرية التجارية وغير التجارية وتهدم النظام البيئي الطبيعي من جذوره وتسبب في وقوع كارثةٍ بيئية واقتصادية وغذائية عامة، تنعكس بشكلٍ مباشر على أنشطة الإنسان التنموية، فيضطر الإنسان إلى إعلان الحرب للدفاع عن نفسه وبيئته ومكتسباته من هذا الغزو الأجنبي والاحتلال القسري.

 

وهذا ما حدث بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم في السبعينيات من القرن المنصرم غرس أول بذرةٍ عدائية خبيثة، وأول فتيلة صغيرة أشعلت نيران الحرب عندما قامت أمريكا بتوطين ومنح الجنسية الأمريكية لنوعٍ من الأسماك يعرف بالشبوط أو الكارب الآسيوي(Asian carp)، وذلك من أجل تربيتها وإكثارها في مزارع الأسماك الواقعة على نهر ميسيسيبي العظيم.

 

ولكن مع الوقت لم تمكث هذه السمكة في مكانها، حيث بدأ هذا العدو في غزو بيئاتٍ أخرى غريبة عليه، وبالتحديد في أعماق نهر ميسيسيبي، فبدأ بالعيش والتكاثر في هذه البيئة الجديدة والقضاء على الكائنات الفطرية الأصيلة فيها، ثم مع الزمن احتل مواقع أخرى في بيئات نهرية مجاورة حتى وصل هذا العدو إلى المركز الإقتصادي والغذائي لأمريكا وهو بيئة البحيرات العظمى، فأوقع خسائر عظيمة للثروة السمكية والتوازن البيئي في تلك البحيرات.

 

وبعد أن وصل العدو إلى رئة الاقتصاد الغذائي لأمريكا، عقد البيت الأبيض قمة خاصة في فبراير 2010 أُطلق عليها بقمة سمكة الكارب الآسيوي(Asian Carp Summit) من أجل مواجهة هذا العدو، حيث قررت إدارة أوباما صرف 80 مليون دولار، ثم وافق الكونجرس على تخصيص 300 مليون دولار لهذا الغرض، كما أعلنت وزارة الداخلية الحرب على هذا العدو واتخذت إجراءات حاسمة منها سحب الجنسية والإقامة الدائمة لهذه السمكة وتصنيفها كسمكة ” غازية“، بل وإن هذه السمكة أصبحت مطلوبة حية أو ميتة، ووُضِعت مبالغ مالية مجزية لمن يتمكن من أسرها واصطيادها، ونظمت الجهات المعنية سباقاً سنوياً وخصصت جوائز كبيرة لمن يصطاد أكبر عدد ممكن من هذه السمكة.

 

وعلاوة على كل هذه الإجراءات الدفاعية والهجومية التقليدية، اضطرتْ العقول المفكرة في أمريكا إلى إبداع طرقٍ حديثة لمكافحة هذا العدو غير التقليدي وإنتاج سلاحٍ يقاوم غزو العدو ويوقف إنتشاره وتوسعه في بحار أمريكا، ومنها فصل البيئات المائية بجدارٍ كهربائي يمنع إنتقال وحركة هذا العدو من احتلال مواقع جديدة، وبناء سدودٍ من أجل شل حركته، ومنها أيضاً ما نُشر في 29 يوليو من العام الجاري في مقالٍ في صحيفة النيويورك تايمس تحت عنوان: "أَحْدثُ سلاحٍ يستخدم في القتال ضد سمك الكارب الأسيوي"، ومقال آخر في صحيفة اللوس أنجلس تايمس في 31 يوليو بعنوان:"كيف نكافح سمك الكارب الآسيوي"، حيث اقترح علماء الأحياء اللجوء إلى سمكةٍ أخرى أكثر شراسة من هذا العدو، وأشد قوة وفتكاً منه، وبقدرته القضاء عليه، وهو سمك التمساح أو ما يطلق عليه بوحش النهر، الذي يتميز بقوة بُنيته، وكبر حجمه، وأسنانه الحادة كأسنان سمك القرش.

 

فهل تنجح قوة الولايات المتحدة الأمريكية العظيمة من كَسب هذه الجولة الجديدة من الحرب التي استمرتْ قرابة الخمسين عاماً؟