الثلاثاء، 24 يناير 2017

تَذكير إلى المواطن والحكومة


الأعباء المالية تزيد علينا يوماً بعد يوم، ونفقاتنا الشهرية في ارتفاع مطرد، ومصروفاتنا في تنامي مع كل شهر وكل سنة، ودخلنا الشهري لا يتحرك ويكاد يُراوح في مكانه، فقد رُفع الدعم عن اللحم وجازولين السيارات، وغيرهما قادم، وفي المقابل توقفت جميع الحوافز وزادت الرسوم والضرائب هنا وهناك تحت عناوين ومسميات مختلفة، ولذلك لا نريد أن نفتح على أنفسنا باباً جديداً يزيد من نفقاتنا، ولا نريد بنداً إضافياً يرفع من سقف مصروفاتنا ويحملنا عبئاً ثقيلاً يقصم ظهورنا ويدفعنا إلى هاوية الديون والإفلاس.

 

فهناك قضية جوهرية إذا لم نهتم بها، ونقدم لها جُل عنايتنا، ونرعاها بصفةٍ يومية، فإنها ستُشكل لنا على المدى القريب حِملاً مالياً جديداً مرهقاً، وبنداً نحن في غنى عنه في مصروفاتنا اليومية والشهرية والسنوية، وهذا العبء الثقيل لن يتحمله المواطن البحريني لوحده، وإنما سيكون عبئاً أثقل وأكبر على الحكومة نفسها، وهذه القضية الشائكة هي حماية البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية بصفة عامة، وصيانة ورعاية الهواء الجوي ومنع تدهور نوعيته وفساد جودته بصفةٍ خاصة.

 

وسأركز حديثي معكم اليوم فقط على قضية واحدة متعلقة بالتلوث وهي تلوث الهواء الجوي بالتحديد والنفقات الإضافية المباشرة التي علينا كأفراد وعلى الحكومة تحملها ودفعها شهرياً أو سنوياً لحماية أنفسنا وفلذات أكبادنا من شروره ومن الانعكاسات الصحية القاتلة التي تنجم عنه، وليس هذا من باب التنظير أو التخويف، وإنما ما أقوله هو مَبْني على تجارب ميدانية واقعية أراها بأم عيني الآن، وأقف أمامها لتفحصها ودراستها كل يوم في الكثير من مدن العالم.

 

فإذا أهملنا جودة الهواء الجوي، وسمحنا لمصادر التلوث من إلقاء الملوثات السامة والخطرة على الهواء الجوي، وتركنا هذه القضية دون عناية مباشرة، ورقابة صارمة وشديدة، فإن الهواء الجوي سيتشبع بهذه الملوثات، وعندها بدلاً من أن نستنشق هواءً عليلاً يحمي صحتنا وصحة أطفالنا ويقينا من الأمراض والأسقام والعلل، فإن هذا الهواء الجوي الملوث نفسه سيتحول إلى سببٍ لأسقامنا ويصبح التهديد الأكبر لأمننا الصحي. وإذا وصلنا إلى هذه الدرجة، كما هو الحال في المدن الحضرية المكتظة بالسيارات والمصانع، فسنضطر جميعاً دون استثناء، مواطنين وحكومة، إلى تحمل الأعباء المالية الناجمة عن هذا التلوث، وسنُدخل بأيدينا بنداً للمصروفات المتكررة نُطلق عليه: "نفقات حماية أنفسنا من التلوث"، وستكون هذه النفقات على المستوى الفردي كما يلي:
أولاً: شراء كمامات واقية من تلوث الهواء، توضع على الفم والأنف لتمنع دخول الملوثات إلى أجسامنا، وهذا الكمامات تستخدم عادة لمرةٍ واحدة أو مرتين ثم ترمى، وهي تكلف نحو ثلاثة دنانير للعلبة للفرد الواحد، وأضف على ذلك كلفة شرائه لباقي أفراد الأسرة كل شهر.
وإذا كُنت ممن يتبعون "الموضة" في لباسك وهيئتك الخارجية وتهتم بمثل هذه المظاهر العامة، فهناك الآن كمامات أيضاً على الموضة ولكن أسعارها أعلى من الكمامات العادية.

ثانياً: شراء أجهزة تنقية وتصفية للهواء الجوي تقوم بترشيح الهواء الفاسد والخطر حتى تمنع انتقال الملوثات السامة إلى داخل المنزل، فتستنشق وأنت في عقر دارك هواءً نظيفاً سليماً، وهذه الأجهزة مكلفة تصل إلى أكثر من ألف دينار للمنزل برمته، ثم عليك شهرياً عبء تغيير المرشحات وصيانة الأجهزة، وهذا يضاف إلى مصروفاتك المتكررة أيضاً. وعلاوة على هذا فإن هذه الأجهزة كالمكيفات في المنزل عليك استبدالها بعد انتهاء عمرها. 

ثالثاً: الهواء الملوث يصيبك بالحساسية الحادة ومع الزمن ستعاني من أمراض الجهاز التنفسي والقلب، وعليك دفع فواتير العلاج لك ولأسرتك، مما قد يحملك فوق طاقتك المالية وميزانيتك الشهرية.

رابعاً: ستقوم المدارس الخاصة بوضع أجهزة لترشيح وتنقية الهواء الجوي في الصفوف وصالات الرياضة، وهذه النفقات الإضافية ستزيد من الرسوم الدراسة الشهرية للتلاميذ، وستقع في نهاية المطاف على كاهلك أنت كولي الأمر.

خامساً: قد تضطر في بعض الأوقات إلى شراء علبٍ من الهواء الصحي النقي الخالص والخالي من الشوائب، وهذه تبلغ قيمتها نحو أربعين ديناراً للعلبة، فكم علبة تحتاج لك شخصياً ولعائلتك وأفراد أسرتك؟

 

أما على مستوى الحكومة فستكون المصروفات كما يلي:

أولاً: شراء وتركيب أجهزة تنقية الهواء في المباني الحكومية والتي تكلف الملايين، ثم أضف عليه النفقات الشهرية المتمثلة في التشغيل، والصيانة، وقطع الغيار.

ثانياً: شراء أجهزة دقيقة وغالية الثمن وذي تقنية عالية لمراقبة ومتابعة جودة الهواء والتغييرات اليومية التي تطرأ على نوعيتها، وتخصيص مبالغ مالية متكررة للتشغيل والصيانة الدورية.

ثالثاً: تحمل الكلفة العالية لعلاج المرضى الذين يسقطون ضحايا لتلوث الهواء الجوي.

 

وختاماً أقدم لكم ما تتكبدها الصين من خسائر مالية فادحة بسبب إهمالها لجودة الهواء طوال السنوات الماضية وتركيزها كلياً على النمو الاقتصادي، ومنها خسارتها في عام 2012 لأكثر من 535 بليون دولار بسبب التلوث عامة، وتلوث الهواء خاصة، ومنها اقتراضها من بنك التنمية الآسيوي في 14 ديسمبر 2016 لمبلغ قدره 499.6 مليون دولار لإنفاقه على برنامج تحسين جودة الهواء، ومنها أيضاً تخصيص 2.6 بليون دولار في 14 يناير من العام الجاري لحماية الهواء في عام 2017.

 

فهذه أمثلة سريعة للكلفة العالية لتلوث الهواء على الفرد والحكومة، فهل نحن مستعدون لتحمل هذه المصروفات والنفقات التي نحن في غِنى عنها في هذه الظروف المالية الصعبة؟

   

 

السبت، 21 يناير 2017

حَبْل الكَذِب قَصير: فولكس واجن مثالاً


عندما غرس أحد مهندسي شركة فولكس واجن في مايو عام 2006، وبدعمٍ قوي وإشادة من رجال النفوذ والسلطة، بذرة خبيثة في جسد سيارات فولكس واجن ووضع جهازاً وبرنامجاً للحاسب الآلي يُضلل ويغش الحكومات والمستهلكين في كل أنحاء العالم، اعْتَبر الجميع في هذه الشركة العملاقة هذا الغش التجاري ذكاءً وعبقرية، واعتبروا هذا الكذب المتعمد مع سبق الإصرار والترصد إنجازاً فريداً وعملاً مميزاً سيَدُر على الشركة أرباحاً خيالية عظيمة، ومن خلالها ستتمكن الشركة من الهيمنة وتحقيق الريادة والسبق على المستوى الدولي في سوق السيارات النظيفة منخفضة الانبعاث للملوثات، وبخاصة سيارات الديزل.


 


وهذا ما حدث بالفعل، فقد نجحت الشركة مؤقتاً في تحقيق المال الوفير والربح الغزير، وتمكنت من الحصول على لقب أكبر شركة في العالم لبيع السيارات، واستطاعت إقناع الدول والأفراد بأن سيارات الديزل التي صنعتها هي بالفعل الأقل تلويثاً للبيئة، والأكثر حماية لصحة الإنسان.


 


ولكن هل اسْتَدام هذا "الرِزق الحرام" على الشركة؟


وهل استدام هذا الرقم القياسي الذي حققته في بيع السيارات؟


وهل استدام نجاحها في تضليل العالم وغش الناس؟


 


فلم تمض سنوات قليلة، لم تزد عن 8 سنوات حتى فاحت رائحة الكذب النتنة رويداً رويدا، وانكشف يوماً بعد يوم ستار الغش والتحايل، فبَدتْ سوءة الشركة تظهر، وانكشفت عورتها التي أخفتها طوال السنوات الماضية.


 


ففي سبتمبر من عام 2014، بدأت خيوط الجريمة الكبرى والفضيحة العظمى تظهر، فقد كشفت الصُدف حبل الكذب في الولايات المتحدة الأمريكية عندما أَجْرت إحدى جامعات أمريكا تجارب ميدانية على نسبة انبعاث الملوثات من السيارات التي صنعتها فولكس واجن وأكدت بأن درجة التلوث الناجمة عن عوادم هذه السيارات لا تتطابق مع ادعاءاتها وأقوالها، وأثبتت زيف وتحايل الشركة على حكومات دول العالم وعلى سكان الأرض أجمعين، حيث إنها باعت 11 مليون سيارة مغشوشة، منها 600 ألف سيارة مزيفة في الولايات المتحدة الأمريكية.


 


ثم جاء المشهد الثاني من إزالة النقاب عن هذه الجريمة، وهو مشهد كشف "سلاح الجريمة" والذي تمثل في تصميم برنامجٍ خاص يوضع في جهاز الحاسب الآلي(الكمبيوتر) الخاص بهذه السيارات، بحيث إن هذا البرنامج يُوهم الحكومات والمستهلكين بأن نسبة الملوثات المنطلقة من عادم السيارات منخفضة وتتوافق مع معايير الإنبعاث الخاصة بسيارات الديزل.    


 


ومع اكتشاف سلاح الجريمة، اضطر المجرم إلى الاعتراف بجريمته وذنبه العظيم الذي لا يغتفر، فما هي المحصلة النهائية لهذا الغش والكذب والتحايل على الناس؟


 


أولاً: تكبدت شركة فولكس واجن أكبر خسارة في تاريخها، وغرمتها الحكومة الأمريكية أعلى غرامة في تاريخ البشرية، ففي 27 يونيو من عام 2015 وافقت الشركة على دفع مبلغ وقدره 14.7 بليون دولار لتسوية الدعاوى المدنية المرفوعة ضدها من وكالة حماية البيئة الأمريكية ومن ملاك السيارات حيث سيُنفق المبلغ على شراء السيارات المتضررة والمغشوشة وتعويض أصحاب السيارات، وفي 11 يناير من العام الحالي ألزمت محكمة أمريكية اتحادية فولكس واجن على دفع مبلغ وقدره 4.3 بليون دولار كغرامات مدنية وجنائية، مما يعني أن فولكس واجن وافقت حتى يومنا هذا على دفع مبلغ 19 بليون دولار كغرامات في الولايات المتحدة الأمريكية فقط، علماً بأن هناك المئات من الدعاوى المرفوعة ضد الشركة في الكثير من دول العالم الأخرى.


ثانياً: أدانت المحكمة الأمريكية ستة مسؤولين كبار في الشركة بتهم جنائية، وبعضهم يقبع الآن في غياهب السجون.


ثالثاً: تشويه سمعة الشركة برمتها من جهة، وسمعة صناعة السيارات في ألمانيا بشكلٍ عام من جهةٍ أخرى، والخسائر المالية الناجمة عن هذه السمعة السيئة لا يمكن تقديرها بثمن على المدى القريب والبعيد. 


 


والآن وبعد هذه الخسائر المالية التي نزلت كالصاعقة المدمرة على الشركة بسبب الغش والكذب، هل ستلجأ أية شركة إلى هذا الأسلوب الأعوج وغير الأخلاقي لجني المال السريع؟


 



 

الثلاثاء، 17 يناير 2017

منازل الرصاص السامة مازالت موجودة في أمريكا!


في عام 1984 كُنتُ أُجري دراسة ميدانية في البحرين بتمويلٍ كريم من مركز البحرين للدراسات والبحوث حول تركيز الرصاص في المنازل، فحَملتُ أجهزتي وأدواتي الخاصة بالتحليل وذهبت إلى بعض البيوت في البحرين وجَمَعتُ عينات من دهان الجدران والأسطح لتحليها مخبرياً والتعرف على نسبة الرصاص السام في الدهانات المستعملة في منازلنا.

 

وكان الهدف الرئيس هو معرفة ما إذا كان المواطن يتعرض لهذا السم القاتل وهو في منزله، وبخاصة بالنسبة للأطفال الذين يضعون في أفواههم كل ما تصل إليه أيديهم فيتسممون نتيجة لذلك، ودهانات المنازل عندما تجف مع الزمن تنسلخ من الجدران والأسطح وتسقط على الأرض فيضعها الأطفال في فمهم.

 

وكانت النتيجة النهائية لهذه الدراسة هي انخفاض تركيز الرصاص في هذه المنازل، ويُعزى السبب في ذلك هو أن الدهان الذي كان يُصنَّع قبل أكثر من قرن، وبخاصة اللون الأبيض المستخدم في المنازل، كان يحتوي على أملاح الرصاص، ولكن بعد اكتشاف حقيقة سُمية الرصاص على الإنسان، وتعرض الأطفال له في المنزل، تم منع إنتاجه نهائياً للاستخدام المنزلي.

 

ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الأكثر تطوراً من الناحية العلمية، والأكبر من ناحية التقدم التقني وغزو الفضاء، فإن مشكلة الرصاص في المنازل مازالت منتشرة حتى يومنا هذا، فهناك الكثير من منازل وشقق أمريكا، وبخاصة عند طبقة الفقراء والمستضعفين وذوي الدخل المحدود والمعدوم، التي مازال الرصاص يعيش بينهم، ومازال الطفل الأمريكي يتجرع من هذا السم وهو في عقر داره!

 

وقد تنبهت وسائل الإعلام إلى هذا التخلف الأمريكي، والرجعية الصحية والبيئية التي تعاني منها فئة ليست بقليلة من المواطنين، حيث نشرت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية تحقيقاً مطولاً في صدر صفحتها الأولى في 26 ديسمبر عام 2016حول هذه الظاهرة المتفشية في بعض المدن، وأكدت على وجود عمارات بُنيتْ في مطلع القرن العشرين، أي منذ قرابة المائة عام، كالمباني في مدينة بالتيمور(Baltimore) بولاية ميريلاند وقد تم دهنها بأصباغ تحتوي على الرصاص، وهذا الرصاص مازال يعبث في هذه المنازل فيتعرض له الملايين من سكان أمريكا، وبخاصة الأطفال الذين هم الأكثر تضرراً من هذه الظاهرة الخطرة، حيث أكدت الإحصاءات بأن عدد الأطفال الذين يتم اكتشاف الرصاص في دمائهم يصل إلى 535 ألف حالة سنوياً.

 

وفضيحة التسمم بالرصاص في أمريكا ليست محصورة في دهان المنازل القديمة، وإنما موجودة أيضاً في مياه الشرب التي يستخدمها الملايين من سكان أغنى وأكثر دول في العالم ثراءً وتقدماً، وآخر فضيحة مدوية خرجت فوق السطح وتحرك للتستر عليها البيت الأبيض نفسه، كانت قبل عام في مدينة فلينت بولاية ميشيجن، حيث كانت المياه التي تصل إلى منازل وشقق المواطنين ملوثة بالرصاص وأثرت بشكلٍ مشهود على دماء أطفال المدينة.

 

فظاهرة وجود الرصاص في البيئات المنزلية كانت من مشاكل القرن المنصرم التي انتهت الآن في معظم دول العالم المتطورة منها والنامية على حدٍ سواء، ولكن أمريكا حتى يومنا لم تنجح في التخلص من هذه المشكلة القديمة.

هل هذا هو النَّمُوذَج التنموي الذي نريده في البحرين؟


 
إذا غَرسنا بذور أي شجرةٍ في الأرض مهما كان نوعها، فإن هذه البذور عندما ترويها وتسقيها بالماء عذباً فراتاً كان أم ملحاً أجاجاً فإنها حتماً ستنمو وتكبر وتؤتي ثمارها وأكلها، ولكن الثمرة ونوعها وطعمها يكون حسب نوع البذرة والنبتة، فقد يكون الثمر حلواً سائغاً طيب الطعم والمذاق، أو يكون مُراً قاسياً عَلْقَماً، رديء المذاق، خشن الملمس كالحنظل الذي يضرب به الأمثال.
 
والعمليات التنموية في أي بلد هي كالبذرة والنبتة التي تغرسها الدولة في التربة، فيعتمد نوع ثمرها، وجودة حَصادِها وفائدتها على نوع النبات المزروع، أي نوع ونمط التنمية الذي تتبعه هذه الدولة. فإذا كانت التنمية أحادية الجانب وتعتمد فقط على تحقيق النمو الاقتصادي السريع، فإن الثمرة ستكون خبيثة ورديئة وغير ناضجة، وسيكون الحصاد غير صالحٍ بل وضار، وعلى المدى البعيد ستفشل ولا يمكن الاستمرار فيها، ولكن إذا كانت التنمية شاملة تأخذ في الاعتبار تحقيق التنمية الاجتماعية والبيئية إلى جانب التنمية الاقتصادية، فإن الثمرة ستكون صالحة وطيبة وينتفع الجميع من هذا الحصاد الطيب، وبالتالي ستكون تنمية مستدامة عامرة للبلاد والعباد.
 
فالصين التي هي مضرب الأمثال للكثيرين في تحقيق معجزة النمو الاقتصادي، قد تبنت النموذج المعَوق للنمو، فزرعت بذرة خبيثة وجنت ثمرتها، ولكنها ثمرة غير مكتملة النمو، والحصاد غير صالحٍ للجميع، فها هي الآن تعُض أصابع الندم، ويعلو صراخها، ويرتفع أنينها، وتتفاقم معاناتها من هذه الثمرة التي جنتها بيديها، وتتجرع يومياً مرارتها ولا تدري كيف تتخلص منها الآن.
 
فالصين اليوم ولأول مرة في تاريخها تعلن الحرب، ولكن ليس على عدوٍ تقليدي يعرفه الجميع، ولكنه على هذه الثمرة الخبيثة التي قطفتها بنفسها من هذه التنمية، فأعلنتْ في عام 2014 الحرب على "التلوث"، وفي الوقت نفسه أعلنت أرفع درجات حالات الطوارئ (التحذير الأحمر)، وبخاصة من تلوث الهواء والضباب القاتل المشبع بالسموم والذي ينزل ضيفاً ثقيلاً دائماً على الكثير من المدن الصينية وعلى صدور الناس، ولا ينقشع هذا الضيف إلا بعد أن يُسقط الضحايا البشرية بين جريحٍ وقتيل، ويشل عجلة الإنتاج، وتتوقف التنمية كلياً.
 
ودعوني أُقدم لكم مشاهد تقع بشكلٍ دوري مستمر في مدن الصين، ويخلفه وراءه هذا الضيف المرعب عندما ينزل على البلاد. وأضرب لكم على سبيل المثال فقط ما وقع في مدينة تيانجن(Tianjin) و 32 مدينة صينية من مدن شمال الصين في الأسبوع الأول من يناير من العام الجاري، فقد تم إلغاء 154 رحلة طيران في مطار تيانجن بنهاي الدولي حيث شُلت حركة المواصلات العامة جميعها وتوقفت عن العمل من الطائرات، والقطارات، ومعظم حافلات النقل العام، وتم إغلاق الكثير من الشوارع بسبب الضباب الذي غطى مساحة قُدِّرت بنحو 150 ألف كيلومتر مربع، فأدى إلى انعدام الرؤية لدرجةٍ شديدة بحيث أنك إذا أخرجت يَدَكَ لم تكد تراها، فأغلقت المدارس أبوابها حماية لصحة الأطفال، وتوقفت آلاف المصانع والورش الكبرى عن العمل لخفض انبعاث الملوثات، كما أُجبر الناس إلى المكوث في منازلهم خوفاً من التعرض للسموم القاتلة، ومَنْ منهم اضطر للخروج فقد حمى نفسه بالكمامات الواقية التي توضع على الأنف والفم، وقد بلغ الأمر ذروته حتى أن عملية الشواء في المتنزهات والحدائق والأماكن العامة تم حظرها، بل وتغريم كل من يقوم بذلك. ونتيجة لهذه الحالة العقيمة، اكتظت المستشفيات بالمرضى وسقط الناس صرعى، وكأن قنبلة قد تفجرت في أنحاء المدينة.
 
فهذه الحالة الكارثية والمشاهد العصيبة التي وصفتُها لكم أصبحت الآن شديدة التكرار في مدن الصين العريقة ومنذ أكثر من عشر سنوات، فلا يمر شهر إلا وهذه الحالة تنزل على مدن الصين، مما أدى بدرجةٍ مشهودة إلى تدني مستوى النمو في الصين عن العقود الماضية، وبطء عجلة التنمية، وخسائر اقتصادية بالغة لا يمكن تقديرها، فعلى سبيل المثال، ستنفق الصين في هذا العام فقط 2.7 بليون دولار أمريكي لمكافحة تلوث الهواء، حسب التصريحات الرسمية المنشورة في 14 يناير من العام الجاري.
 
فالصين الآن تحصد ثمرة البذرة الخبيثة التي غرستها ورعتها وسقتها سنواتٍ طويلة فأتت أكلها خبيثة غير طيبة ولا يمكن أن تنعكس منافعها على الجميع فيستمر البناء والعطاء، مما اضطر الصين إلى تغيير نمط التنمية وإدخال الجوانب المتعلقة بحماية البيئة كركيزة قوية تقف عليها عجلة التنمية وتُدعم وتُثبت قواعدها فتعطي حصاداً نافعاً طيباً مستداماً يحقق الرفاهية والأمن للجميع.
 
ولذلك ألا يكفي هذا الدرس الصيني الذي نراه أمامنا حُجةً لنا في البحرين لنتجنب نموذجهم في التنمية؟
وألا يكفي ما وقع في الصين من كوارث بيئية وصحية وبشرية وتدهور اقتصادي ملموس مبرراً لنا لكي لا نتبع سَنَنَ الصين في العملية التنموية المعوقة وغير المستدامة؟


 

الأحد، 15 يناير 2017

تحذير شديد من المسؤول الصحي الأول في أمريكا



في الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في 12 يوليو عام 1957حذَّر المسئول الأول عن الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية ليروي بيرني(Leroy Burney)، والذي يُطلقون عليه لقب "الجراح العام"(surgeon general) من تدخين السجائر التقليدية، أو سجائر التبغ بمختلف أشكالها وأنواعها، وأكد في إعلانه في ذلك اليوم التاريخي بما ليس فيه أدنى شك أن التدخين يؤدي إلى السقوط في المرض العضال المستعصي عن العلاج وهو سرطان الرئة بالتحديد، واليوم يعيد التاريخ نفسه، وبعد أكثر من ستين عاماً، وبالتحديد في الثامن من ديسمبر عام 2016، حيث أعلن فيفك مورثي(Vivek Murthy) المسئول الأول عن الصحة العامة، وبعباراتٍ شديدة وصارمة لا ريب فيها عن مخاطر نوعٍ آخر من السجائر، وعن بدعةٍ جديدة ظهرت مؤخراً في الأسواق وتُعرف بالسجائر الإلكترونية.

 

فقد اعترف المسئول الأمريكي الأول عن صحة المواطنين بأن السجائر الإلكترونية خطرة جداً وتهدد الصحة العامة، وبخاصة لدي فئة الأطفال والشباب الذين يتم إغراؤهم وتشجيعهم على القيام بتجربة تدخين هذه السجائر من خلال المضافات، والنكهات، والمذاقات التي لا تعد ولا تحصى التي توضع فيها، كما يتم إلهاب شعورهم نحو هذا النوع الجديد والغريب من السجائر عن طريق التسويق المغري والشيطاني الذي يستعمل في إعداده جميع أنواع العلوم الحديثة من علم النفس، والاجتماع، والإعلان.

 

فمنذ عام 2010، حيث بدأت هذه السجائر في الولوج في الأسواق الأمريكية والعالمية ببطءٍ شديد إلى أن أصبحت الآن الأكثر إنتشاراً بين الشباب، ففي عام 2011، أفادت الإحصاءات بأن 5% فقط من طلاب المدارس جربوا هذا النوع الجديد من السجائر في الأسواق، منهم 1.5% يمثلون طلاب المدارس الثانوية، وارتفعت هذه النسبة في عام 2015 لتصل إلى 16% من طلاب المدارس الثانوية، كما أشارت الإحصاءات أن 55% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 25 قد استخدموا هذه السجائر.

 

ولذلك أتمنى من السلطات الصحية في البلاد التنبه إلى هذا المنتج السام الجديد ووضع الضوابط والآليات الحازمة والصارمة التي تمنع انتشاره وتعاطيه، وبالتحديد بين فلذات أكبادنا، وخاصة إذا تأكدنا بأن هذه الظاهرة موجودة الآن في المجتمع البحرين، ومشكلة تعاطيها بدأت تستفحل يوماً بعد يوم، والتحقيق المنشور في أخبار الخليج في الثاني من يناير 2017 يؤكد انتشار استخدام الشيشة الإلكترونية في البحرين، وبخاصة بين طلبة الجامعات.

 

وفي هذا السياق أُشير إلى أهم الحقائق الصحية والبيئية المتعلقة بالسجائر الإلكترونية:

أولاً: هذا النوع من السجائر يحتوي على مخلوطْ مُعقد من السوائل، ومن مكوناته الرئيسة النيكوتين والمعروف بأنه مركب سام يؤثر على الخلايا العصبية، ويؤدي استخدامه واستنشاقه تدريجياً إلى الإدمان.

 

ثانياً: هناك أكثر من سبعة آلاف مادة كيميائية مجهولة الهوية تُضاف إلى خليط السجائر الإلكترونية، لتُقدم لنا ما لا يخطر لا بال أحد من شتى أنواع النكهات اللذيذة، والمذاق الحلو، والطعم الجذاب الذي لا يمكن مقاومته، أي أن المدخن يتعرض لهذا العدد الهائل من المركبات التي لا يعلم أحد حتى الآن عن مردوداتها الصحية والبيئية.

ثالثاً: آلية عمل السجائر الإلكترونية تعتمد على التحويل الحراري باستخدام البطارية للمخلوط من الحالة السائلة إلى خليطٍ معقد يكون على هيئة البخار أو الغازات والجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، ومن مكونات هذا البخار هي النيكوتين، ومركب الفورمالدهيد المعروف بأنه يسبب السرطان للإنسان، ومركب الـ دَاي أَسِتِيل الذي يُعرف بأن التعرض له يسبب حالة مرضية أُطلقت عليها حرفياً "رئة الذرة"(Popcorn Lung)، وهي نوع من الأمراض الذي يصيب الجهاز التنفسي. وعلاوة على هذه الملوثات السامة والخطرة، فإن هناك المئات الأخرى من الملوثات التي سيكشف العلم قريباً عن هويتها وتهديدها لصحة الفرد والمجتمع.

رابعاً: أشارت العديد من الدراسات إلى أن البخار والجسيمات الدقيقة الصغيرة الناجمة عن تدخين السجائر الإلكترونية لها تداعيات خطرة طويلة الأمد على الأوعية القلبية، كما هو الحال بالنسبة لسجائر التبغ التقليدية.

وإنني على يقين وثقة تامة بأن الأيام القادمة ستكشف لنا المزيد من مخاطر السجائر الإلكترونية والتهديدات التي يمثلها للمجتمع برمته، فهل نحن مُنْتهون.

الثلاثاء، 10 يناير 2017

إجلاء 50 ألف من منازلهم يوم الكِرِيسمِس!


أيام الأعياد المسيحية، عيد الكريسمس، أيام الفرح والسرور والبهجة والسعادة، تحولت هذا العام بين عشيةٍ وضحاها إلى خوفٍ ورعبٍ وفزع، وترقبٍ وانتظار من مصيرٍ مجهول، فبدلاً من أن يكون الناس في منازلهم آمنين مستقرين وسالمين على أرواحهم وصحتهم يتناولون مع بعض وجبة العيد في جوٍ من الراحة والاسترخاء ولـمِّ شمل الأسرة والأهل والأقارب، اضطر الناس إلى النزوح من بيوتهم وإخلائها بالسرعة الممكنة وكأنهم حُمرٌ مستنْفرة فرَّتْ من قَسْورة، وذلك تجنباً لوقوع كارثةٍ محتملة وأزمة حادة عقيمة.

 

فقد أَمرتْ السلطات الألمانية في مدينة أيجزبيرج(Augsburg) في يوم عيد الميلاد الماضي، وبالتحديد في 25 ديسمبر عام 2016أكثر من 54 ألف مواطن ألماني من الخروج من منازلهم وإخلاء أحيائهم وطرقاتهم فوراً، وتَرْك كل مستلزماتهم وحاجياتهم وراءهم في المنزل، والذهاب مباشرة إلى مراكز الإيواء والاستقبال التي خُصصت لهم في المدارس والملاعب الرياضية، وفي الوقت نفسه أُعلنت حالة الطوارئ وأُمرت سيارات الشرطة والإسعاف لكي تكون على أهبة الاستعداد الأمني.

 

فما هو الأمر الجلل والمصيبة العظمى التي ستنزل على هذه المدينة الآمنة المستقرة حتى تأخذ السلطات هذه الإجراءات الجذرية الحاسمة والسريعة؟

 

لقد اكتشف ما لا يخطر على بال أحد، ولا يفكر في وجوده بين ظهرانيه أي إنسان، فأثناء الحفر في هذه المدينة لبناء مواقف تحت الأرض للسيارات تم العثور على جسمٍ حديدي ضخم لم يشهده الناس من قبل ولم يتمكنوا من التعرف عليه، حيث تم مباشرة استدعاء الجهات المختصة للتعرف على هذا الجسم الغريب.

 

فقد تأكد بعد الفحص والتدقيق أن هذا الهيكل الكبير هو من مخلفات الحرب العالمية الثانية التي انقضى عليها الزمن أكثر من سبعين عاماً، فهي قنبلة بريطانية تزن قرابة ألفين كيلوجرام أُلقيت على هذه المدينة الألمانية أثناء الحرب ولم تنفجر منذ ذلك الوقت ومكثت في مكانها تنتظر نحبها، وكادت لو انفجرت أن تحدث كارثة عظيمة ومأساة بشرية يذهب ضحيتها الآلاف من الناس.

 

ووجود مخلفات الحرب من قنابل وصواريخ ودبابات وطائرات وسفن حربية وذخائر حية في البر والبحر أصبح ظاهرة يتم اكتشافها بالصدفة بين الحين والآخر، فهذه الحادثة ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فهناك في مكانٍ ما على وجه الأرض، في البر أو البحر عشرات الآلاف من الأسلحة والمعدات الفتاكة الجاثمة والتي لا يعلم مصيرها إلا الله.

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر، في أغسطس من عام 2015 تم العثور على قنبلة تزن 250 كيلوجراماً في موقع للبناء شرقي العاصمة البريطانية وأدى أيضاً إلى إخلاء جميع السكان من تلك المنطقة، وفي يناير 2014 اصطدمت آلية بقنبلة في مدينة إيسكيرشن الألمانية فانفجرت في وجه السائق وسقط صريعاً في الحال وجرحت الآخرين، وفي الثاني من أكتوبر عام 2015 تم اكتشاف مخلفات طائرة عسكرية أمريكية من طراز بي 17 على عمق 75 متراً في قاع البحر بالقرب من ميناء بالميرو(Palermo) جنوب إيطاليا عندما تم إسقاطها من قبل الجيش الألماني في 18 أبريل عام 1943، وفي 17 أبريل 2013 تم العثور على دبابةٍ من طراز فانتوم،تزن 30 طناً، وطولها ستة أمتار، وعرضها3 أمتار، وهي جاثمة في قاع مقبرةٍ لمخلفات الحرب العالمية الثانية في بحيرة هامانا(Hamana) في مقاطعة شيزوكا(Shizuoka Prefecture) اليابانية.

 

فلا يمر إذن شهر إلا ونسمع ونقرأ عن اكتشاف أحد مخلفات الحروب السابقة منذ الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا، وخليجنا العربي له حصة كبيرة من هذه المخلفات الجاثمة في بيئتنا بسبب الحروب المؤسفة التي تعرضنا لها خلال العقود الماضية، ولذلك هناك حاجة ماسة لإجراء دراساتٍ معمقة وشاملة تُقدر لنا نوعية هذه المخلفات الحربية وأحجامها ومواقع وجودها، سواء أكانت في المناطق الصحراوية البرية أو في أعماق مياه الخليج.

 

وخلاصة القول فإن الحروب تنتهي يوماً ما مهما طالت واستفحلت وانتشرت، ولكن تداعياتها ستبقى قروناً طويلة من الزمن، والبعض من هذه التداعيات كالمخلفات الصلبة الخطرة التي تنجم عنها تمكث في الأرض خالدة مخلدة فيها تُذكر الإنسان بين الحين والآخر بأهوال الحروب وفتكها للإنسان وبيئته، لعَلَّنا نتعظ ونتعلم منها، فنعمل دائماً جاهدين على تجنبها ومنع الوقوع في مهالكها.

 

الأربعاء، 4 يناير 2017

إخفاقات شركة جونسون و جونسون


ذكرتُ في مقالات سابقة بأن الشركات العملاقة العريقة المتعددة الجنسيات لا ترقُب في أحدٍ إلاًّ ولا ذِمة عند القيام بأعمالها وتجارتها وتسويق منتجاتها، فلا يهمها مصلحة الإنسان وأمنه الصحي وسلامة أفراد المجتمع بقدر ما يعنيها تحقيق الربح السريع، وجني المال الوفير على حساب كل شيء، وبكل الطرق الممكنة والوسائل المتاحة، شرعية كانت أم غير شرعية.

 

وهذه الممارسات مُتجذرة في ثقافة هذه الشركات ورؤيتها وسياساتها ولذلك تجدها جميعاً تسير على النهج نفسه وتمشى على هداه، وفي كل يوم نشاهد أمامنا ونقرأ في وسائل الإعلام ما يؤكد واقعية هذه الظاهرة ويثبت حقيقة وجودها.

 

فشركة جونسون و جونسون التي تجاوز عمرها المائة عام والمشهورة دولياً في صناعة وإنتاج الأدوية، والمواد التجميلية، ومساحيق الزينة، وأدوات ومعدات زراعة أعضاء البشر، تعاني منذ سنوات من شرخٍ واسعٍ في سمعتها، ومن نقطٍ سوداء في تاريخها الطويل، وإخفاقات صحية وبيئية في جودة منتجاتها بحيث أصبحت تُسيء إلى ماضيها المشرق الجميل، وتُعكر سجلها المضيء.

 

ففي الأول من ديسمبر من عام 2016 أَمَرتْ محكمة اتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الشركة لدفع مبلغٍ مالي ضخم قدره أكثر من بليون دولار أمريكي بسبب الشكوى التي رفعتها مجموعة متضررة صحياً من المرضى الذين قاموا بزراعة مفصل الوَرك، وهو العظمة بين الفخذ والحوض. فقد تمثل الضرر الجسدي والنفسي في المضاعفات المعقدة والمشكلات الصحية التي نجمت بعد زرع الورك، مما اضطر هؤلاء المرضى إلى الخضوع لعملية جراحية ثانية لترقيع وإصلاح الأخطاء الطبية التي وقعت أثناء العملية الأولى الفاشلة، ومعالجة التلف الذي وقع على الأنسجة، إضافة إلى تكبد عناء الويلات والمعاناة العضوية التي تصاحب مثل هذه العملية، حيث تأكد بعد سنوات من بيع وتسويق واستخدام هذا المفصل الصناعي المعدني المكون من عنصري الكوبلت والكروميوم أن هناك عيوباً في تصميم هذا المفصل، وخللاً في إنتاجه وتصنيعه.

 

والأدهى من ذلك والأمر هي الممارسة اللاأخلاقية وغير المسئولة التي قامت بها شركة جونسون و جونسون في أنها كانت على علمٍ تام بهذه العيوب والمساوئ، ولكنها تسترت عليها، وتعمدت على تجاهلها كلياً وغض الطرف عنها، واستمرت في الدعاية لها وبيعها وزرعها في أجساد البشر للحصول على المزيد من الربح على حساب الأمن الصحي للإنسان والمعاناة البشرية، ولم تتوقف عن بيعها إلا في عام 2013 بعد تدخل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.

 

وقبل هذه القضية، وبالتحديد في مارس من عام 2016، أَمَرتْ محكمة أخرى في مدينة دالاس بولاية تكساس الأمريكية شركة جونسون و جونسون إلى دفع غرامة قدرها 500 مليون دولار لمجموعة من المتضررين الذين وقعوا أيضاً تحت معاناة مماثلة من جراء أخطاءٍ في زرع مفصل الورك، كما أن هناك قضية أخرى مشابهة سيتم الحكم فيها في سبتمبر من عام 2017، إضافة إلى وجود قائمةٍ طويلةٍ من الشكاوى والقضايا التي تنتظر دورها، وتقدر بنحو 9000 قضية!

 

وهذه القضايا السوداء الجديدة تنضم إلى الفضائح السابقة التي ضربت سمعة هذه الشركة وهزَّت شباكها من الداخل، منها فضيحة "بَوْدرة تَالْكَمْ"( talcum powder)، أو مسحوق الأطفال المشهور الأبيض اللون الذي لم يستطع الأطفال والصغار والشباب والشيوخ من الاستغناء عن استخدامه لعقودٍ طويلةٍ من الزمن، والذي قامت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية بتصنيفه عام 2006 بأنه من "المحتمل أن يسبب السرطان" للإنسان.   

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر، حكَمتْ محكمة في مدينة سينت لويس الأمريكية في الرابع من مايو عام 2016 على الشركة بدفع مبلغٍ وقدره 55 مليون دولار لامرأةٍ تعاني من سرطان المبيض نتيجة لتعرضها لسنوات لهذا المسحوق المسرطن، علماً بأن هناك محكمة أخرى أيضاً وبالتحديد في شهر فبراير أخذت الحكم نفسه وغرمت الشركة 72 مليون دولار تعويضاً لامرأةٍأصيبت بسرطان المبيض، وهناك الآلاف من القضايا المرفوعة ضد الشركة وجميعها متعلقة بهذا المسحوق القاتل.

 

كما أن الشركة اضطرت في عام 2015 مجبرة وصاغرة وبضغوطٍ شديدة من المستهلكين على إزالة مواد كيميائية مسرطنة مثل الديوكسين والفورفالدهيد من كافة منتجاتها.

 

ولذلك ما قدمته لكم ما هو إلا غيض من فيض، يُثبت التاريخ المظلم والأسود لشركة جونسون و جونسون ودورها المتعمد في تعريض البشرية في كل أنحاء العالم للسقوط في شباك الأمراض المستعصية والقاتلة وعلى رأسها السرطان.