الثلاثاء، 28 مارس 2017

قضية لا حل لها


تمكن الإنسان بنجاحٍ غير مسبوق من غزو الفضاء الفسيح وإرسال مندوبٍ بشري إلى سطح القمر، واستطاع بعلمه وخبرته ووسائل التقنية التي يمتلكها من إرسال أدواتٍ ومعدات إلى المريخ، ولكن بالرغم من تخطيه لكل هذه الحدود الجغرافية البعيدة الشاسعة وركوبه إلى الفضاء وسبر غور أسراره وعجائبه، وبالرغم من هذه الانجازات المبهرة والعظيمة، إلا أنه يقف حائراً أمام قضيةٍ تبدو لأول وهلة أنها بسيطة وغير معقدة، فيقعد عاجزاً مكتوف اليدين، قَليل الحِيلة لا يستطيع أن يجد الحل الجذري والمستدام لها.

 

هذه القضية عمرها أكثر من 70 عاماً وما زالت من غير حلٍ ناجع، وتتمثل بكل بساطة في المخلفات الصلبة وشبه الصلبة والسائلة المشعة التي تنجم عن البرامج النووية المتعددة، كتوليد الطاقة الكهربائية في محطات الكهرباء الثابتة وفي المحركات المتنقلة التي تعمل بالطاقة الذرية في الغواصات والسفن، إضافة إلى صناعة الأسلحة والقنابل والذخائر النووية بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها.

 

ولذلك حذرتُ كثيراً من استخدام الطاقة الذرية لتوليد الكهرباء، وكان تحذيري مَبْنياً أساساً على هذه القضية المعقدة والمهددة لأمن الإنسان وسلامة الكرة الأرضية برمتها، فإذا كانت الدول الصناعية الشرقية والغربية المتطورة والمتقدمة تُقاسي منذ عقودٍ طويلة وحتى يومنا هذا من مخلفات الدمار الشامل المشعة التي نجمت عن أنشطتها وبرامجها النووية في الأربعينيات من القرن المنصرم، فماذا سنفعل نحن في بلادنا بقنابل المخلفات المشعة في أرضنا والتي ستنتج عن توليد الطاقة؟ وكيف سنتعامل معها؟ وكيف نَأْمن من تداعياتها المحتملة على مجتمعاتنا؟

 

ولكي أُبيِّن لكم حجم هذه القضية المزمنة والشائكة، سأضرب لكم مثالاً واحداً فقط من أكثر دول العالم تقدماً وتطوراً وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وأُقدم لكم درجة معاناتها، وضَعف حِيلتها تجاه الأطنان من مخلفات الدمار الشامل المخزنة والمتراكمة على أراضيها، والتي ضاقت أرض أمريكا الواسعة من أحجامها الهائلة منذ بدء برنامجها النووي السري لإنتاج أول قنبلة ذرية في الأربعينيات من القرن العشرين وحتى كتابة هذه السطور.

 

فقد بدأ الاهتمام الفعلي بقضية المخلفات النووية المشعة في عهد الرئيس الأسبق ريجن عندما وافق في عام 1982 على قانون "سياسات المخلفات النووية"، حيث طلب من وزارة الطاقة البحث عن موقعٍ مناسب لتخزين المخلفات، وكانت نتيجة البحث اختيار جبال يوكا(Yucca Mountain) في نيفادا عام 1987 كمقبرة دائمة للمخلفات النووية المشعة، حيث وافق الكونجرس عليه وأمر باتخاذ الخطوات التنفيذية، ولكن مع تغير الأجواء السياسية وتغير موازين القوى، وبالتحديد بعد دخول أوباما البيت الأبيض تم إيقاف العمل بالمشروع في عام 2009 دون تقديم أي بديل أو مبرر علمي.

 

والآن وبعد دخول ترمب للبيت الأبيض تم إحياء المشروع من جديد وتخصيص مبلغ محدد لإدارة "الأمن القومي النووي" التابعة لوزارة الطاقة في الموازنة المقترحة لعام 2018، والتي تم طرحها في 16 مارس من العام الجاري، فقد أفردت الموازنة بنداً خاصاً لعمليات التنظيف وجهود التعامل والتخلص من المخلفات النووية المشعة، وتم رفع هذه الموازنة الخاصة بنسبة 11% مقارنة بعام 2017، أي زيادة مبلغ وقدره 1.4 بليون دولار.

 

وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية أَنفقتْ حتى يومنا هذا على إدارة هذه القضية أكثر من 7 مليارات دولار، ولكن دون أن تتخذ خطوة تنفيذية عملية واحدة لعلاج هذه المعضلة المزمنة والمعقدة تقنياً والمهددة لسلامة البيئة والإنسان ليس على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وإنما على مستوى الكرة الأرضية برمتها، أي أنها منذ أكثر من سبعة عقود تسير في دائرةٍ مغلقة عقيمة لا تعلم كيف تخرج منها.

 

وهذه الحالة الأمريكية تتكرر في كل الدول التي استخدمت الطاقة النووية، سواء لأغراض عسكرية أم سلمية، فجميع هذه الدول تقف حائرة أمام هذا الكم المتزايد سنوياً من مخلفات الدمار الشامل المشعة والقنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أية دولة وفي أية لحظة.

 

وانطلاقاً مما سبق فإنني أُنبه دولنا، وأية دولة أخرى تريد أن تتوغل في استعمال الطاقة النووية أن تفكر أولاً وقبل كل شيء في المخلفات المشعة التي ستنجم عن هذا البرنامج النووي، وتخطط ملياً قبل أن تأخذ أية خطوة عملية في كيفية التعامل مع هذه المخلفات وسبل التخلص الآمن والمستدام منها.

 

الجمعة، 24 مارس 2017

قضية التغير المناخي تَسير في نفقٍ مظلم



منذ متابعاتي الحثيثة للقضايا البيئية لأكثر من أربعين عاماً ومراقبتي عن قرب للسياسات والقرارات الدولية حول هذه القضايا، لم أجد قضية شائكة ومعقدة ومتداخلة حيَّرت العَالم برمته وأدخلته في دوامة عصيبة لا يستطيع الخروج منها بأمانٍ وسلامة كقضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

فعندما بدأت خيوط هذه القضية تنكشف رويداً رويداً في السبعينيات من القرن المنصرم، وتأكد العلماء والمختصون أن هناك تغيراً مناخياً ملحوظاً تشهده الكرة الأرضية وأنها فعلياً تعاني من سخونةٍ في حرارة جسمها وتهدد الحياة على سطح الأرض، قرر هؤلاء العلماء والمهتمون بهذه القضية نقلها فوراً إلى مستشفى الأمم المتحدة الدولي لتشخيص مرضها بشكلٍ تفصيلي أدق وأشمل، ووصف العلاج المناسب بصورةٍ جماعية مشتركة تُوقف انتشار المرض وتمنع تداعياته من التفاقم والتوغل في كل أعضاء جسم كوكبنا. وكان هذا في عام 1992 في المؤتمر التاريخي البيئي الذي حضره لأول مرة قادة ورؤساء حكومات دول العالم، وأُطلق عليه بقمة الأرض أو مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو في البرازيل، حيث وافقت الدول بالإجماع على اتفاقية إطارية حول التغير المناخي تُمهِد الطريق لمعاهدة دولية تُلزم كافة دول العالم على مواجهة تحديات التغير المناخي وتتعهد بمنع انبعاث الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض.

وكانت هذه القمة هي البدء في ولوج التغير المناخي في دوامة جدول أعمال المجتمع الدولي ونقطة دخوله في النفق الطويل المظلم الذي لا يُرى آخره حتى الآن، ولا يمكن مشاهدة شُعلة من الأمل في نهاية هذا النفق. فقد بدأت المفاوضات الدولية حول اتفاقية ملزمة للتغير المناخي في عام 1993 وانتهت بعد ثلاث سنوات عصيبة، وبالتحديد في 1996 في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في كيوتو باليابان، حيث وافقت دول العالم على معاهدة مشتركة تَعهدت فيها كل دولة على حِدة من الدول الصناعية والمتقدمة على خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من احتراق الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء.

فالولايات المتحدة الأمريكية وهي أكثر دولة انبعاثاً لثاني أكسيد الكربون، وقعت على معاهدة كيوتو في ديسمبر 1997 في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، ثم عند دخول الجمهوري جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض لم يوافق على المعاهدة ورفض التصديق عليها، مما أدخل المجتمع الدولي في حرجٍ شديد، وأرجعه إلى المربع الأول والنقطة التي بدأ منها وهي عام 1992، حيث قام من جديد بمفاوضات مارثونية دولية استغرقت عشرين عاماً، وبعد مخاضٍ عسيرٍ وشديد وضع مولوداً في ديسمبر 2015 في باريس، ولكن هذا المولود كان غير مكتملِ النمو ويعاني من إعاقات مزمنة، فقد توصل المجتمع الدولي إلى معاهدة غير ملزمة "قانونياً"، وتتعهد فيها دول العالم "طوعياً" إلى خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي.

وهنا يعيد التاريخ نفسه، فقد وقَّعت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان الديمقراطي أوباما يسكن في البيت الأبيض على هذه المعاهدة، والآن بعد تربع ترمب الجمهوري على عرش البيت الأبيض ظهرت سياسات وتوجهات جديدة تختلف عن سياسات الحكومة السابقة في مجال التغير المناخي، مما يُنذر بأن تَلْقى معاهدة باريس للتغير المناخي المصير نفسه كمعاهدة كيوتو للتغير المناخي.

وهناك العديد من الإشارات والدلائل التي تُشير إلى احتمال وقوع هذا المشهد السابق، وهي كما يلي:
أولاً: الرئيس ترمب له رأي مختلف حول ظاهرة التغير المناخي فهو لا يرى بأن لأنشطة الإنسان المتمثلة في حرق الوقود الأحفوري كالبترول والفحم والغاز الطبيعي دوراً رئيساً في وقوع التغير المناخي المشهود ورفع درجة حرارة الأرض.
ثانياً: بُعيد تنصيب دونالد ترمب رئيساً في 20 يناير من العام الجاري، وبعد سُويعات من حفل التنصيب، طرأت تغييرات جوهرية على صفحة البيت الأبيض المناخية، حيث أُلغيت كلياً هذه الصفحة والوثيقة المناخية تحت عنوان:"خطة عمل المناخ" التي وُضعت في يونيو 2013، وتم استبدالها بصفحةٍ ثانية تحتوي على قضايا أخرى غير التغير المناخي، منها الوثيقة تحت عنوان: "خطة أمريكا أولاً في مجال الطاقة"، وهذه الوثيقة تجنبت كلياً مصطلح "التغير المناخي أو سخونة الأرض"، أو عبارة "الطاقة المتجددة"، وركزت بدلاً منها على عبارات عنوانها: "حماية الهواء والماء"، وتعزيز وتشجيع استخدام الفحم، وبالتحديد الفحم النظيف، إضافة إلى الدفع باستعمال الغاز والبترول الصخري الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: عَيَّن ترمب سكوت برويت(Scott Pruitt) رئيساً لوكالة حماية البيئة في 18 فبراير من العام الجاري، وفي أول كلمة له في العشرين من فبراير لم يتطرق كلياً إلى ظاهرة التغير المناخي وكأنها غير موجودة كلياً، كما أدلى بتصريحات في التاسع من مارس من العام الجاري في مقابلة تلفزيونية مع سِي إِن بـِي سِي تتعارض مع الإجماع الدولي والحقائق العلمية الموثقة، وذلك عندما سُئل عن دور ثاني أكسيد الكربون في إحداث التغير المناخي، حيث قال: "إنني لا أتفق بأن الأنشطة البشرية هي المساهمة الرئيس للتغير المناخي الذي نراه"، وأضاف: "لا أرى بأن ثاني أكسيد الكربون هو المساهم الرئيس في حدوث التغير المناخي كما نراه الآن، فنحتاج إلى مواصلة الحوار ومواصلة المراجعة والتحليل".  

وعلاوة على ذلك، فإن هذا التصريحات لا تتوافق مع المرئيات السابقة لوكالة حماية البيئة قبل أن يُعين هو رئيساً لها، ففي صفحة وكالة حماية البيئة على الإنْترنت هناك تصريح سابق يفيد بأن: "ثاني أكسيد الكربون هو الغاز المتهم الرئيس في وقوع التغير المناخي الحالي"، كما تتناقض تصريحاته مع قناعات وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، والإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي "نووا"، حيث أكدا في التقرير المنشور في يناير من العام الجاري على ارتفاع درجة حرارة الأرض منذ نهاية القرن التاسع عشر بقدر 1.1 درجة مئوية نتيجة لزيادة انبعاث ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي.

ولذلك فإن هذه السياسة العَلَنية للإدارة الأمريكية الجديدة تُدخل المجتمع الدولي مرةً ثانية في دوامة من القلق والترقب خوفاً من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة باريس، كما انْسحبتْ من قبل من بروتوكول كيوتو للتغير المناخي.

الاثنين، 20 مارس 2017

أسلحة الصين في الحرب على التلوث


عدو من نوعٍ جديد بدأ يغزو المدن الحضرية العريقة في كل أرجاء العالم، ويهاجم بكل قوةٍ وعنف على مكتسباتها التنموية، فيقتل البشر والشجر والحجر ويهدد صحة الناس بالمرض العضال المستعصي عن العلاج، فهذا العدو لا يغزو موقعاً محدداً صغيراً في المدن، أو يضرب منطقة جغرافية ضيقة، كما تفعل الطائرات أو الصواريخ، وإنما يلقى بظلاله المميتة فيشمل المدينة برمتها دون تمييز أو تفريق أو رحمة، فهو يهاجم الأطفال والشباب والشيوخ، ولا يميز بين الفقير والغني، أو بين الضعيف والقوي، فالجميع سواسية أمامه، والجميع ينزل عليه الضرر والبلاء على حدٍ سواء.

 

والمدن الصينية، على سبيل المثال تقع منذ أكثر من عقدٍ من الزمان تحت رحمة هذا العدو الغاشم المفترس، ويقاسي الملايين من الشعب الصيني من غزو هذا العدو لمدنهم بين الحين والآخر، وعندما يهجم على المدن الصينية تُعلن أعلى درجات حالات الطوارىء، فتنشل الحركة كلياً، فحركة الطائرات تتوقف وتغلق المطارات، وتنعدم الرؤية في الشوارع فتتوقف الحركة المرورية، كما تتوقف معظم المصانع عن العمل، وتغلق المدارس أبوابها ويمكث الناس في منازلهم خوفاً من بطش هذا العدو، ويستمر الحال على هذا الحال حتى يقوم العدو بمحض إرادته من التراجع والذهاب إلى ثكناته العسكرية.

 

هذا الوضع الكارثي اضطر الحكومة الصينية ولأول مرة في تاريخ الصين وربما في تاريخ البشرية من الاعتراف به كعدو لا بد من مقاومته ومواجهته بشتى الوسائل، حتى أن الرئيس الصيني أعلن في عام 2014 "الحرب رسمياً على هذا العدو، وهو التلوث"، وبخاصة تلوث الهواء الجوي الذي يغطي عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة ويقصف على حدود جغرافية واسعة جداً، فحدد الرئيس الصيني الأسلحة المضادة الفاعلة واللازمة للقضاء عليه، أو الحد من جبروته وقسوته، وخفض درجة خطورته وتهديده للمجتمع الصيني.

 

أما الأسلحة الصينية للحرب على التلوث فقد تمثلت في أسلحة قصيرة الأمد، وتستخدم فورياً لمقاومة العدو عندما يهجم على المدن، وأسلحة أخرى إستراتيجية طويلة الأمد تستعمل على مدى زمني طويل لكبح جماح هذا التلوث الضارب ومنع هجومه في السنوات القادمة.

 

والمهم هنا أن نتعلم من الدرس الصيني ونستفيد من خبراتهم في التعامل مع هذا العدو، وبخاصة من ناحية الأسلحة الإستراتيجية، ومنها تقليل استخدام الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى في توليد الكهرباء وتشغيل المصانع، والتوجه نحو مصادر الطاقة البديلة النظيفة والمتجددة، حيث أعلنت الصين في فبراير من العام الجاري أنها ستنفق أكثر من 360 بليون دولار بحلول 2020 في تقنيات ومصادر الطاقة المتجددة، كما أن الصين ستستخدم سلاحاً آخر في هذه الحرب ضد العدو من حيث خفض استخدام السيارات التي تعمل بالديزل واستبدالها بالسيارات التي تعمل بوقود أكثر نظافة بيئياً. ومن الأسلحة التي استحدثتها الصين هي اعتماد الكونجرس القومي الشعبي في الأول من يناير 2017 فرض الضرائب البيئية، وتجريم المخالفين للأنظمة البيئية ومعاقبتهم بشدة.

 

فهذا العدو الذي ضرب الصين، وآلاف المدن في العالم، سيكون حتماً قريباً من ديارنا، وسينقض علينا فجأة، فما هو سلاحنا ضده؟

 

 

الأحد، 19 مارس 2017

هل هناك شبر من كوكبنا لم يصله داء التلوث؟


هل تستطيع أن تُسمي لي موقعاً في الأرض، أو حتى شبراً صغيراً في رحاب كوكبنا الكبير والواسع يكون فيه بمنأى عن التلوث، فلا يتعرض كلياً للملوثات التي تنبعث عن أنشطتنا اليومية؟

 

وجوابي هو أنك لن تنجح مهما أمْعنتَ في التفكير وتدبرت لإيجاد هذا المكان الخالي من التلوث. ولكنني بالرغم من ذلك فإنني سأحاول أن أُسهل مهمتك المستحيلة وأطرح عليك بعض المواقع البعيدة والنائية في أعالي السماء فوق سطح الأرض، وفي غياهب وأعماق البحار السحيقة، وفي ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي، والتي قد تخطر على بالك فتظن بأنها حتماً لن تصلها أيدي التلوث مهما طالت، ولن تتمكن الملوثات مهما كان نوعها من الزحف إليها وإفسادها وتدهور نوعيتها.

 

أما الموقع الأول الذي من الممكن أن يكون بعيداً عن أعين الملوثات فهو فوق رؤوسنا في السماء العليا وعلى بعد مئات الكيلومترات فوق سطح الأرض، ومع ذلك فإن هذا الموقع لم يفلت من داء التلوث. فمن جهة هناك المخلفات الفضائية البشرية الصلبة التي تسبح في هذا الفضاء الفسيح على ارتفاعات شاهقة تتراوح بين 300 و 900 كيلومتر، حيث يُقدر العلماء هذه المخلفات التي جاءت من الأقمار الصناعية المهجورة والمفتتة ومن بقايا الصواريخ الفضائية بنحو 170 مليون قطعة، منها ما يبلغ وزنها كيلوجرامات فقط ومنها ما يزيد على طنٍ واحد. ومن جانبٍ آخر هناك الملوثات الغازية التي انبعثت من أنشطتنا على سطح الأرض، فرَحْلت ساعة بعد ساعة إلى أعالي الجو حتى بلغت طبقة الأوزون على ارتفاعٍ يتراوح بين 15 إلى 30 كيلومتراً فوق سطح الأرض، وهناك بعد انتهاء رحلتها استقرت في تلك الطبقة النائية فدمرت غاز الأوزون الموجود طبيعياً في طبقة الأوزون والتي تحمي وتقي الإنسان من الأشعة فوق البنفسجية الضارة، فخلقت كارثة عقيمة هزَّت البشرية برمتها.

 

وأما الموقع الثاني الذي قد تفكر فيه فهو أكثر بيئات الأرض بُعداً عن أي نشاطٍ إنساني، أو أي عملٍ تنموي عمراني، أو أي مصدر صغيرٍ أو كبيرٍ للتلوث، وهو القطبين الشمالي والجنوبي، حيث البرد القارس، والبيئة الجرداء، وبالرغم من ذلك فإن الملوثات نجحت في تخطي كافة الحدود الجغرافية المصطنعة بين الدول وتمكنت من الوصول إلى هواء هذه المناطق البعيدة وترسبت مع الوقت وتراكمت في الثلوج، وبخاصة الملوثات العضوية متعددة الحلقات الثابتة والمستقرة.

 

وأما الموقع الثالث والأخير الذي قد يخطر في مخيلتك، هو أعماق المحيطات المظلمة العذراء البِكْر، وعلى بعد أكثر من 10 آلاف متر تحت سطح البحر، وهذا المواقع أيضاً أثبت الاكتشافات العلمية اليوم أنه أصبح في مرمى الملوثات، حيث نُشرت دراسة ميدانية في 13 فبراير من العام الجاري في مجلة "البيئة الطبيعية والتطور"(Nature Ecology and Evolution) تحت عنوان: “التراكم الحيوي للملوثات العضوية الثابتة في الحيوانات في أعمق موقع في المحيط"، وكشفت هذه الدراسة عن ظاهرة غريبة لم تخطر على بال أحد، ولم يتوقعها أي إنسان من قبل.

 

فقد قامت الدراسة بجمع عينات الحيوانات عن طريق غواصة الإنسان الآلي في أعمق منطقة لم يصلها الإنسان بعد حتى الآن في المحيط الهادئ، وبالتحديد في الخنادق والوديان المائية الفريدة والبِكر التي تُعرف بـ كِرْمَدك ومَاريانَا (Kermadec and Mariana) وعلى عمقٍ يزيد عن 10 كيلومترات من سطح البحر، ثم قامت بتحليل تركيز الملوثات غير الموجودة أصلاً في الطبيعية والتي هي من صنع البشر في هذه القشريات البحرية التي تعيش في ظلمات المحيط، وبالتحديد رَكز التحليل على مجموعة من الملوثات السامة التي يُطلق عليها الملوثات العضوية الثابتة، منها مركبات الـ بي سي بي. وجاءت نتائج التحليل مخالفة لتوقعات العلماء ونظرياتهم، حيث وُجدت هذه الملوثات السامة في أجسام هذه الحيوانات النائية وبنسبٍ مرتفعة تزيد كثيراً عن تركيزها في أكثر المواقع تلوثاً على الأرض، أي أن أيدي الملوثات امتدت واتسعت فوصلت إلى مواقع لم تتمكن أيدي البشر من الوصول إليها.

 

والآن بعد أن كَشفتُ لكَ عِلمياً بأن الملوثات بلغت عنان السماء، ووصلت إلى أكثر المناطق بُعداً عن أي نشاطٍ بشري في البر والبحر، هل ستشُك بأن الملوثات تغلغلت في كل شبرٍ صغيرٍ من كوكبنا وأنها موجودة مَعَنا أَينما كُنا ولن نستطيع الهروب منها فنَسْلم من شرورها وأضرارها حتى لو كُنا في بروجٍ عالية مُشيَّدة؟

 

الأربعاء، 15 مارس 2017

حرب ضد الضوضاء


الحرب مشتعلة وملتهبة منذ أكثر من خمسين عاماً، وبالتحديد منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، ووقود هذه الحرب المضْطَرمة استمرار معاناة الناس الشديدة من أهوال التلوث الضوضائي والأصوات المرتفعة والمزعجة.

 

فهل للضوضاء هذه القدرة العظيمة، والإمكانية القوية والمشهودة في أن تُشعل وتوقد فتيل الحروب، وتهيِّج وتثير الصراعات بين الناس؟

 

وهل الضوضاء العالية تُعد قضية كبيرة ومشكلة خطيرة إلى درجة أن تكون وقوداً قوياً تحتدم بها المعارك الضارية، وتهدد الأمن والاستقرار، فتجعلها تستمر عقوداً طويلة من الزمن دون توقف؟

 

فهذه الحرب ومعاركها الشرسة المستمرة تدور رحاها في أروقة المحاكم اليابانية، حيث بدأت المعركة الأولى في عام 1982 عندما رفع أكثر من 900 مواطن ياباني يعيشون في جزيرة أوكيناوا دعوى قضائية ضد القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد قاعدة كادينا العسكرية الجوية(Kadena). فحركة الطائرات العسكرية الكثيفة ليلاً ونهاراً وطوال ساعات اليوم، والضوضاء الشديدة والعالية التي تصدر منها خلقت أزمة بيئية وصحية واجتماعية مزمنة للساكنين بالقرب من هذه القواعد الجوية، بحيث إنها سببت للناس مشكلات تتمثل في عدم القدرة على النوم، وفقدان أو ضعف السمع، إضافة إلى التعرض لحالاتٍ نفسية شديدة من القلق والتوتر والاكتئاب والضيق النفسي.

 

وبعد صراعٍ محتدم طويل في المحكمة فاز الناس في هذه المعركة الأولى حيث أمرت المحكمة عام 1998 بدفع مبلغ وقدره 1.37 بليون ين تعويضاً لهؤلاء المتضررين، ولكن بالرغم من هذا الحُكم إلا أن الحرب لم تنته واستمرت ملتهبة، فوقودها المتمثل في التلوث الضوضائي مازال يشعل المعارك ويؤجج النفوس، حيث قام قرابة 5500 ياباني برفع قضيةٍ أخرى ضد حركة الطيران الحربي عند أحيائهم ومساكنهم في عام 2000، وجاء قرار المحكمة بعد تسع سنوات، وبعد مخاضٍ عسير ومرهق، ولكن الأمر القضائي كان  منقوصاً حيث عَوَّض المتضررين بمبالغ مالية ولكن لم يستجب لطلبهم المتمثل في وقف حركة الطيران ليلاً حتى يهنئوا بنومٍ مريح طوال الليل. وهكذا تواصلت الحرب ولم تقف، فاضطرمت المعركة الثالثة من جديد في عام 2011، حيث قام زهاء 22 مواطن في الولوج في هذه المعركة الماراثونية التي انتهت مشاهدها قبيل أيام، وبالتحديد في 23 فبراير من العام الجاري عندما صدر حُكم المحكمة بدفع 267 مليون دولار للمتضررين صحياً واجتماعياً من الضوضاء. ولكن هذه الحرب مازالت في بداياتها بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على اشتعالها، ولن تنتهي معاركها مادام وقودها ماثلاً وموجوداً يُزعج الناس ويؤرقهم ويقاسون من تداعياتها على أمنهم الصحي النفسي والعضوي.

 

فهذه الحالة التي نراها ماثلة أمامنا ونشاهدها في واقعنا اليومي تؤيد وتثبت نتائج الدراسات العلمية التي تُنشر يومياً في المجلات الموثوقة، وكلها توجه أصابع الاتهام نحو الملوثات الفيزيائية والطبيعية المتمثلة في التلوث الضوضائي وارتفاع الأصوات والإزعاج المستمر طوال اليوم والساعة، والتي أكد العلماء والأطباء علاقتها بأمراض نفسية وفسيولوجية متعددة منها أمراض القلب والأوعية القلبية والسمع والموت بسببها. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في مجلة القلب الأوروبية 23 يونيو 2016 تحت عنوان: "الضوضاء من السيارات في لندن يزيد من أمراض القلب والموت"، وغطت 8.6 مليون لندني، وقامت بمتابعة حالتهم الصحية خلال الفترة من 2003 إلى 2010، حيث توصلت إلى استنتاجٍ خطير يتمثل في أن الذين يسكنون بالقرب من مصادر الضوضاء كالشوارع المزدحمة والمكتظة بالسيارات ترتفع عندهم حالات الموت مقارنة بالذين يعيشون بعيدين عن ضوضاء السيارات ومصادرها الأخرى.

 

فهذه الأدلة الصارخة يجب أن تؤكد لنا بأن الضوضاء والأصوات العالية تُعد مشكلة عصيبة يجب ألا نتساهل معها، ولا نستصغر أضرارها، ولا نتهاون أبداً في تداعياتها وانعكاساتها الخطرة على صحتنا واستقرار مجتمعاتنا، وعلينا أن نُسرع في إيجاد الحلول المستدامة والجذرية لها حتى نقى أنفسنا من شرورها ونحمي أفراد مجتمعنا من السقوط في بلاء الموت المبكر.     

الأربعاء، 8 مارس 2017

معاهدة سَلام مع البيئة


حان الوقت لكي يستعجل الإنسان في اتخاذ الخطوات العملية التنفيذية لوضع البنود الرئيسة لعقد معاهدة سلام عادلة وشاملة مع البيئة، وجاء الآن دور المجتمع الدولي لكي يتحرك سريعاً وبدون أي تردد أو تباطىء لعمل اتفاقية دولية ملزمة ترفع الراية البيضاء أمام البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، فتُوقف كل الانتهاكات الصارخة والجائرة المستمرة منذ أكثر من مائة عام والتي تتعرض لها كافة عناصر البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة في كل ثانية وفي كل منطقة قريبة كانت أو بعيدة في بيئتنا، وتنتهك حرماتها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى أنك لن تجد الآن شبراً من البيئة إلا وقد أصابه عدوى التلوث، ولن تجد عضواً من أعضاء أجسامنا إلا وقد تغلغلت الملوثات في أعماقه وأنزلت عليه المرض العضال والسهر والحمى.

 

فالظلم الشديد والدمار العميق الذي وقع على البيئة منذ أكثر من قرن، والتجاوزات التي قامت بها أيدي الإنسان الجائرة على حرمات البيئة لا يمكن السكوت عليها بعد اليوم، فأجهزة المناعة الطبيعية التي خلقها الله سبحانه وتعالى في أعضاء البيئة لن تتحمل أية تعديات جديدة عليها، ولن تقدر على استيعابها وتخفيفها ودرء الضرر عنها، فقد أنهك التلوث المزمن قواها الكامنة، وأتعب مضاداتها الدفاعية، وأرهق كاهلها، حتى سقطت صريعة وأُدخلت فوراً إلى غرفة الإنعاش ووضعت عليها كافة أنواع الأجهزة التي تبقيها أياماً معدودات على الحياة، وهي الآن جثة هامدة مُلقية على سرير الموت تنتظر نحبها.

 

فالكثير من المعاهدات "الجزئية" السابقة التي عقدها الإنسان مع بيئته باءت بالفشل وسقطت حتى قبل التوقيع عليها وتصديقها، فلم يلتزم الإنسان بتعهداته التي قطعها على نفسه، ولم يف بوعده تجاه حماية عناصرها ومكوناتها الحية وغير الحية. كما أن المعاهدات السابقة كانت في أغلب الأحيان "قِطَاعية"، أي أنها متخصصة وتهتم بجانبٍ واحد فقط من جوانب البيئة المختلفة، وتركز على قضية بيئية واحدة دون أن يكون هناك تكامل وترابط بين القضايا البيئية الكثيرة والمتشعبة والمتداخلة.

 

وعلاوة على ذلك، فإن هذه المعاهدات كانت تأتي عادة كردة فعل سريعة وغير متبصرة للإنسان تجاه تدميره لمكونٍ أو عنصرٍ بيئي محدد، كطبقة الأوزون، أو انقراض الأحياء، أو تلوث الهواء والبحار عبر الحدود الجغرافية، فيقوم بشكلٍ عاجل ومتسرع بتجميع كافة القوى الدولية المعنية والعمل على صياغة معاهدة لا تتخذ منهج الوقاية والمنع والتكامل مع القضايا البيئية الأخرى كمدخل وأساس لمواجهة هذه القضية والقضاء عليها جذرياً واجتثاثها من أعماقها وأصولها.

 

ولذلك فمعاهدة السلام الشاملة والجامعة مع البيئة تنظر إلى البيئة وهمومها ومشكلاتها كقضية واحدة مترابطة ومتداخلة ومتشابكة، لا يمكن الفصل بينهما، أو اتخاذ إجراءات منقوصة أحادية الجانب وغير شاملة، فالبيئة أَعْتبرها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

 

فعلى سبيل المثال، هناك اتفاقية التنوع الحيوي التي تقع تحت مظلة الأمم المتحدة، والتي تهدف إلى حماية وتنمية الحياة الفطرية النباتية والحيوانية بمستوياتها المتعددة وصيانة موائلها الطبيعية، فهذه الاتفاقية لكي تكون فاعلة ومؤثرة على المستوى الدولي وتؤتي أُكُلها للجميع في كل دول العالم، عليها أن ترتبط عضوياً باتفاقيات أخرى لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بحماية الأحياء نوعياً وكمياً، وتعمل على منع جميع العوامل التي تؤدي إلى تدهورها وإفسادها مع الوقت.

 

ومن العوامل الرئيسة التي تضُر كلياً بالبيئات الطبيعية والأحياء التي تعيش عليها هي ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض والتداعيات التي تنزل علينا بسبب هذه الظاهرة، كارتفاع مستوى سطح البحر، والفيضانات، وتدمير الغابات، وغيرها من الانعكاسات الخطيرة التي تهدد الحياة الفطرية وموائلها وتؤدي إلى انقراضها بشكلٍ جماعي غير مسبوق. وبالتالي إذا أردنا دولياً أن نُفعِّل من اتفاقية التنوع الحيوي ونحمي الأحياء على كوكبنا ونضمن استدامة عطائها وإنتاجيتها، فعلينا في المقام الأول أن نجد آلية حازمة نُلزم فيها دول العالم جمعاء على التعهد بخفض مستوى التهديدات التي تأتي من التغير المناخي، والمتمثلة في ارتفاع مستوى الملوثات التي يُطْلقها البشر من مصانعهم، ومحطات توليد الكهرباء، ومن وسائل النقل كالسيارات والطائرات والبواخر والقطارات.

 

وبعبارةٍ أخرى علينا أن نربط عضوياً بين اتفاقية التنوع الحيوي وأية اتفاقية ملزمة متعلقة بالتغير المناخي، وننسق جهود الحماية بين هاتين الاتفاقيتين، إضافة إلى التنسيق مع المعاهدات الدولية الأخرى ذات العلاقة. وهكذا، وبمعاهدة "سلام مع البيئة" سننجح بطريقة متكاملة وشاملة أن نحمي كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية ونعيش بأمنٍ وسلام مع بيئتنا، ونضمن استدامة عطائها لنا وللأجيال اللاحقة.