الخميس، 22 يونيو 2017

تداعيات انسحاب أمريكا من اتفاقية التغير المناخي على البحرين



المشكلات البيئية التي نواجهها اليوم تختلف في حِدتها ودرجة تأثيرها على الإنسان والكائنات الحية التي تعيش معه، وتتفاوت في حجم أضرارها والمساحة الجغرافية التي تنزل عليها وتضرب فيها، كما إنها تختلف في أسلوب إداراتنا لها وطرق معالجتها حسب بعدها الجغرافي والسياسي.

واليوم أريد أن أقف معكم وأُركز على نوعٍ واحدٍ فقط من هذه القضايا البيئية، وبالتحديد المشكلات التي لها بعد عالمي وتؤثر سلباً على الكرة الأرضية برمتها، ومردوداتها العقيمة تضرب كل كائنٍ حي يعيش على كوكبنا أينما كان، وفي أية بقعةٍ يعيش فيها، حتى ولو كانت بعيدة ونائية، في أعالي الجبال الشاهقة، أو في أعماق البحار السحيقة والمظلمة، أو في الصحاري الجافة القاسية، أو في الأدغال الكثيفة والمخيفة، أو في الثلوج القارسة والشديدة البرودة. فهذا النوع من المشكلات البيئية لا يفرق بين البشر، ولا يميز بين أحد، سواء أكان عالماً متبحراً في المعرفة، أو جاهلاً مدقعاً في الجهل، غنياً فاحشاً في الغنى كان أم فقيراً معدماً.

ولذلك فالمدخل للعلاج المستدام لمثل هذه المشكلات هو وقوف كل دول العالم التي تساهم في تكوينها سواء بدرجةٍ بسيطة أو كبيرة جنباً إلى جنب وبشكلٍ جماعي مشترك من خلال التفاوض حول معاهدة دولية شاملة تلزم كل دولة على القيام بواجبها ودورها في التخلص من أسباب نشؤ هذه المشكلة، بحيث تقوم كل دولة في القيام بمسؤولياتها حسب مساهمتها في وقوع المشكلة، وتُعاقب إذا لم تقم بدورها. 

وسأقدم لكم مثالين عاصرتهما شخصياً، وتابعت تفاصيلهما وجميع الأمور المتعلقة بهما. أما المثال الأول فهم مختص بمشكلة انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون الموجودة نحو 20 كيلومتراً فوق سطح الأرض. فالإنسان، وبخاصة في الدول الصناعية المتقدمة نتيجة لجهله بالملوثات وقلة علمه بمصيرها عندما تنبعث إلى البيئة، أَطلق أحجاماً كبيرة من غازات يُطلقُ عليها بالفريون أو مركبات الكلوروفلورو كربون، حيث إن هذه الملوثات عندما تلج إلى الهواء الجوي تتحرك مع الوقت وتنتقل إلى أعالي السماء حتى تصل إلى طبقة الأوزون التي تعمل كمظلة واقية تحمي كل كائن حي من شرور الأشعة البنفسجية التي تأتي من الشمس ومن مصادر أخرى، فهناك تُحَلل هذه الملوثات غاز الأوزون فتسمح بكمياتٍ كبيرة من الأشعة القاتلة للوصول إلى سطح الأرض. فهذه الظاهرة المهددة لكوكبنا ولكل كائن حي أينما يعيش، استدعت أن تُشمر دول العالم قاطبة وتعلن حالة الطوارئ القصوى وتعمل بجهدٍ جماعي مشترك على حظر استعمال هذه الملوثات المدمرة لطبقة الأوزون، حيث تمخض عن هذا العمل المشترك أول اتفاقية دولية تاريخية ملزمة في مدينة مونتريال الكندية في 16 سبتمبر 1987.

أما المثال الثاني فهو أكثر تعقيداً وأشد بأساً وتنكيلاً بالكرة الأرضية ومن عليها، وأُطلقُ عليه بقضية القرن البيئية، وهي التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض. فهذه القضية أيضاً دولية وتؤثر على الأرض برمتها، وسببها هو انبعاث الغازات التي تحبس الحرارة فوق سطح الأرض وتؤدي إلى سخونتها ووقوع ظواهر مناخية كارثية ومدمرة، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري في محطات الكهرباء، والمصانع، والسيارات، والطائرات. وتُعد الدول الصناعية المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية المتهم الرئيس في إطلاق الغازات التي ترفع درجة حرارة الأرض، ولكنها في الوقت نفسه هي من تتهرب عن مسؤولياتها تجاه كوكبنا وعن تدميرها للأرض لعقودٍ طويلة من الزمن، فكلما وصلتْ دول العالم إلى اتفاقية لخفض انبعاث الملوثات، قامت الولايات المتحدة بالانسحاب منها وهجرها كلياً وعدم الالتزام بواجباتها الأخلاقية، كما حدث بالفعل في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن عندما أعطى صفعة للمجتمع الدولي بعدم المصادقة على بروتوكول كيوتو للتغير المناخي لعام 1996، واليوم وبالتحديد في الأول من يونيو من العام الجاري خيَّب ترمب آمال الدول والشعوب بإعلانه الانسحاب من اتفاقية باريس للتغير المناخي.

فهذا الانسحاب يعني أن الولايات المتحدة وهي اليوم ثاني أكبر دولة مسئولة عن حدوث التغير المناخي للكرة الأرضية لن تتعهد بخفض انبعاثاتها من الملوثات التي ترفع درجة حرارة الأرض، مما يؤدي إلى وقوع كوارث مناخية في بعض دول العالم التي ليس لها دور يذكر في وقوع هذه المشكلة العصيبة من جهة، وشديدة التأثر بأي تغيرٍ مناخي أو ارتفاعٍ في حرارة الأرض وغير قادرة على التكيف مع هذه التغييرات المفاجئة من جهة ثانية، وبخاصة الدول الساحلية، أو دول الجزر الصغيرة منخفضة السطح وغير المرتفعة عن سطح البحر، مثل البحرين.   

فنتيجة لارتفاع درجة حرارة الأرض، ترتفع معها حرارة مياه البحر فتتمدد ويرتفع مستوى سطح البحر، ويؤدي إلى غرق المناطق الساحلية المنخفضة كلها، فيقضي عليها كلياً ويزيلها من وجه الأرض، وكأنها لم تك شيئاً. وعلاوة على هذا التدمير الشامل الذي ينجم عن التغير المناخي، فإننا في البحرين في غِنى عن أي ارتفاعٍ للحرارة، ولو بنصف درجة، فحرارتنا تبلغ أكثر من 43 درجة مئوية في الصيف.

ولذلك من الواضح أن بعض القرارات البيئية التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة تلك المتعلقة بتلوث الهواء الجوي لها انعكاسات خطيرة ليست على مستوى أمريكا فحسب، وإنما على الكرة الأرضية قاطبة فتتأثر بها دول بعيدة لا دور لها في إنتاج أو انبعاث هذه الملوثات.

الأربعاء، 14 يونيو 2017

الغرب يستورد النفايات!


استغربَ الجميع من الخبر المنشور مؤخراً في معظم الصحف الغربية والشرقية حول رغبة سويسرا والسويد وبعض الدول الغربية الأخرى في استيراد المخلفات، أو القمامة المنزلية وغيرها من المخلفات غير الخطرة إلى بلادهم.

 

فكيف لهذه الدول الصناعية الغنية المتقدمة والمتطورة المعروفة بنظافتها وحمايتها لبيئتها ورعايتها لكافة مكونات وعناصر البيئة الحية وغير الحية أن تقوم بشكلٍ علني رسمي على استيراد النفايات من الدول الأخرى؟

 

والجواب على هذا السؤال الغريب هو أن هذه الدول المتقدمة، ودول كثيرة أخرى في العالم لا تعتبر "النفايات" أو "المخلفات" أو "القمامة" مواد يجب التخلص منها مباشرة عن طريقها دفنها في مقابر جماعية خاصة بهذه المواد، وإنما تقوم بتصنيفها كثروة وطنية، ومواد خام تقوم باستثمارها والاستفادة منها، وتُشيد عليها العديد من الصناعات المختلفة، وتوظف عشرات الآلاف من البشر لتشغيل هذه المصانع، فتحل مشكلة البطالة، وتعجل في نهاية المطاف من مسيرة التنمية في البلاد وتنعش الاقتصاد الوطني وترفع من مستوى دخل الأفراد. وعلاوة على ذلك كله فإن المخلفات تدخل ضمن استراتيجية هذه الدول في تحقيق "أمن الطاقة"، وخفض الاعتماد على الوقود اللأحفوري وعلى الدول الأجنبية في الحصول على مصادر للطاقة، فالمخلفات تُعد بشكلٍ عام من مصادر الطاقة المتجددة التي تحقق التنمية المستدامة في الدول.

 

فهناك تعريف عام للمخلفات يخفى على الكثير من الناس، وهو أن المخلفات مواد لا يعرف الإنسان طرق الاستفادة منها لعدم توصل علمه وخبرته لتقنيات مجدية في هذا المجال، وفي حالة توصل الإنسان لأساليب وتقنيات مجدية فإن هذه المخلفات تتحول إلى "مواد أولية خام" تدخل في دورة العملية الصناعية.

 

فلو أخذنا "القمامة المنزلية" كمثال على المخلفات التي تنتج عن أنشطة الإنسان، لوجدنا أن الإنسان نفسه ابتكر طرقاً إبداعية جديدة، وأوجد وسائل مجدية تقنياً واقتصادياً يقوم فيه على إنشاء مصنعٍ خاص لكل جزءٍ ومكونٍ من مكونات القمامة أو المخلفات المنزلية.

 

فعلى سبيل المثال، يقوم الإنسان بإنتاج الكهرباء وتوليد الطاقة، أو إنتاج الماء الساخن للتدفئة في فصل الشتاء القارس عن طريق مصنعٍ خاص يقوم بحرق الجزء العضوي من المخلفات المنزلية والاستفادة من هذه الحرارة المنبعثة من الحرق، أو إنشاء مصنعٍ آخر يقوم أيضاً بالاستفادة من المكونات العضوية في القمامة، ولكن لإنتاج السماد العضوي، أو مواد مخصبة للتربة يُطلق عليها بالكمبوست، كما أنه في بعض الأحيان يتم تحويل هذا الجزء العضوي من القمامة إلى وقود، وبالتحديد تحويله إلى غاز الميثان أو الغاز الطبيعي، والذي يستعمل في أفران المطابخ، أو لتوليد الكهرباء.

 

وفي المقابل فإن هناك العديد من المصانع الأخرى التي يمكن إنشاؤها باستخدام المواد غير العضوية الموجودة في القمامة كمواد خام أولية. فهناك مصنع خاص بتدوير وإعادة إنتاج المخلفات البلاستيكية في القمامة المنزلية، ومصنع ثان لإعادة إنتاج مخلفات الحديد والمعادن الأخرى، ومصنع ثالث لتدوير الألمنيوم، ومصنع رابع لتدوير وإعادة إنتاج الأوراق والكرتون، ومصنع خامس لفَكِ وفصل مكونات المخلفات الإلكترونية الموجودة في القمامة المنزلية، ومصنع سادس لإعادة صناعة المخلفات الزجاجية، ومصنع سابع يقوم بتدوير مخلفات الأخشاب.  

 

فهل بعد كل هذه المصانع التي تُشيد وتبنى، وتقوم كلياً على الاستفادة من كل جزءٍ صغيرٍ أم كبيرٍ من القمامة المنزلية نستغرب من سويسرا أو السويد على استيرادها للمخلفات؟  

 
ولكن الأمر المستغرب لدى الجميع يجب أن يُوجه حقاً إلى بلادنا لعدم قيامها حتى الآن بإنشاء مثل هذه المصانع، وبما يتناسب مع ظروفنا واحتياجاتنا الخاصة، علماً بأنني نبهت إلى هذه القضية منذ أكثر من ثلاثين عاماً في كتابي تحت عنوان: "القمامة المنزلية وطرق الاستفادة منها".

السبت، 10 يونيو 2017

مخلفات الدمار الشامل كَادتْ أن تنفجر


التحدي الكبير بالنسبة لي ليس في صناعة قنبلة ذرية أو نووية، وما يُطلق عليها بسلاح الدمار الشامل، فتقنيات صناعتها موجودة، ويمكن الحصول عليها بطريقة أو بأخرى إذا توافر المال، بالرغم من صعوبتها والسرية التامة التي تحيط بها وتحوم حولها، ولكن التحدي الأعظم في تقديري هو كيفية التخلص الآمن والسليم والمستدام للمخلفات الناجمة عن إنتاج هذه القنابل، أو حتى عند توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الطاقة النووية.

 

فدول العالم جميعها، بالرغم من تطورها وتقدمها ورقيها العلمي والتقني، إلا أنها تقف مكتوفة اليدين عاجزة عن التعامل معها، ويقف علماؤها في مجال الطاقة الذرية منذ أكثر من 80 عاماً حائرين لا يعرفون سبل التخلص منها وإدارتها بطريقة بيئية وصحية سليمتين.

 

ولذلك فسياسة كل دول العالم في التعامل مع هذه المخلفات الشديدة الإشعاع التي تعتبر قنابل دمار شامل مَوقوتة، هي إبعادها عن أنظار عامة الناس وكأنها غير موجودة، ولذلك فهي عادة ما تخزن في مناطق نائية في مواقع بعيدة عن أعين البشر، أو أنها تخزن في الأعماق السحيقة تحت الأرض.

 

وكل هذه المواقع التي تدفن فيها هذه المخلفات تُعد من أخطر المناطق على سطح الأرض، وتعتبر من أهم المخاطر التي تهدد العالم أجمع من بشرٍ، وطيرٍ، وحجر، وتؤثر على استدامة حياتنا على هذا الكوكب، فأي تسربٍ إشعاعي من هذه المخلفات، أو انفجارٍ نووي داخل خزانات المخلفات لأي سببٍ من الأسباب، يُعرض الملايين للأمراض المستعصية المزمنة، أو الموت المباشر السريع.

 

وبين الحين والآخر تقع حوادث في مواقع هذه المخلفات تُنذر بحتمية حدوث كارثةٍ بشرية، وتحذر من وقوع الكَربْ العظيم الذي يقضي علينا وعلى الأرض برمتها، فتذكرنا بضرورة التنبه إلى مخلفات الدمار الشامل هذه وإيجاد الحلول الدائمة لها، وآخر هذه الحوادث ما وقع في التاسع من مايو من العام الجاري في أخطر وأكبر موقعٍ للمخلفات المشعة على وجه الأرض.   

 

فقد صاحت أجراس الإنذار في مركز عمليات الطوارئ في موقع هانفورد النووي(Hanford Nuclear Reservation) بالقرب من مدينة سياتل بولاية واشنطن الأمريكية في الساعة الثامنة وعشرين دقيقة صباحاً، واشتعلت أضواء المصابيح مُنذرة بوجود خطأ وخللٍ ما في إحدى المحطات في الموقع، ومحذرة بوجود حالةٍ طارئة بحاجة إلى استنفارٍ عام، ولذلك أُعلنت حالة الطوارئ في الموقع على الفور،وتم إخلاء آلاف العمال من الأنفاق التي تخزن فيها المخلفات منذ الحرب العالمية الثانية، أي منذ أكثر من ستين عاماً، وتوجهوا جميعاً نحو الملاجئ المخصصة لحالات التسرب الإشعاعي. كما تم في الوقت نفسه إرسال فريقٍ متخصص في الحالات الطارئة، حيث هرعوا إلى موقع الخلل وهم يرتدون الملابس الواقية البيضاء والتي تغطي كامل الجسم من أصغر عضوٍ في الجسم إلى أكبر عضو، من أخمص القدمين إلى أعلى الرأس، وكأنهم رواد الفضاء. وعند وصولهم وجدوا حفرة واسعة تبلغ مساحتها نحو 400 قدم مربع فوق رؤوسهم في نفقٍ طوله قرابة 110 أمتار يستخدم لتخزين المخلفات المشعة الخطرة والكيماوية السامة،حيث خَرَّ عليهم السقف فانهار من فوقهم، وأتاهم الدمار من حيث لا يحتسبون، فهذه الأنفاق متهالكة وقديمة عُمرها أكثر من 60 عاماً.

 

والجدير بالذكر أن هذه الحالة التي وقعت في هذا الموقع الكارثي لم تكن الأولى، فقد تسربت عدة مرات المواد المشعة من الصهاريج البالية العتيقة التي تحمل في بطنها قنابل الدمار الشامل، كما أن هذا الموقع لتخزين قنابل المخلفات المشعة ليس الوحيد من نوعه، فهناك16 موقعاً منتشرين في عدة ولايات من أشهرها موقع سافانا ريفر(Savannah River Site) في ولاية جنوب كارولاينا، والذي افتُتح في مطلع الستينيات لإنتاج البلوتونيوم، وهناك في هذا الموقع الآن نحو 40 مليون جالون من المخلفات السائلة المشعة المخزنة في صهاريج قديمة بالية أصابها الهَرَم ودَبَّ في قلبها سوس التآكل والتحلل.

 

وهذا الوضع المأساوي المهَدد لحياة الأمريكيين والكرة الأرضية برمتها لا يخفى على المسئولين في أمريكا، فالكلفة التشغيلية السنوية لموقع هانفورد فقط تبلغ 6 بلايين دولار، وصَرَفتْ حتى يومنا هذا أكثر من 19 بليون دولار، والكلفة النهائية لإدارة الموقع تصل إلى أكثر من مائة بليون دولار ويستغرق العمل فيه حتى عام 2060، وبالرغم من صرف هذه الأموال الباهظة إلا أن حُلم التعامل المستدام الآمن مع هذه المخلفات المشعة سيكون كابوساً ثقيلاً مرعباً سيُلاحق الشعب الأمريكي جيلاً بعد جيل وسيُنغص عليه حياته، ويُعكر صفاء عيشه.

 

فنصيحتي إلى كل دولة تريد أن تلج في هذا المجال النووي أن تفكر ملياً وقبل أن تتخذ الخطوة الأولى في كيفية التعامل مع مخلفات الدمار الشامل التي ستنتج حتماً عن كل نشاطٍ نووي عسكري أو مدني قبل أن تواجه مصير أمريكا والدول النووية الأخرى، فتقعُد مَلُوماً محسُورا.

السبت، 3 يونيو 2017

وانْسحبتْ أمريكا كما توقَعت


يعيش العالم بأسره منذ قمة الأرض عام 1992، أي قبل 25 عاماً في دوامةٍ صرصرٍ عاتية نواتها الولايات المتحدة الأمريكية، فكلما هدأت العاصفة العقيمة واستقر الوضع الدولي قليلاً، جاءت أمريكا بقراراتها الفردية المنعزلة بتعكير الصفو العام، وتأزيم الحال من جديد، وخلط الأوراق الدولية مرة أخرى.

 

فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الأول من يونيو من العام الجاري إعلانه المخيب لآمال الدول والشعوب انسحابه من اتفاقية باريس المتعلقة بمواجهة التغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض، والتي تمخضت عن مفاوضات ماراثونية دولية استمرت عقدين من الزمن وجاءت بعد مخاضٍ عسيرٍ وطويل وكلفت الكثير من الجهد والمال والوقت، ووقعت عليها 195 دولة.

 

وفي الحقيقة فإنني شخصياً لم أتفاجأ من هذا القرار الأمريكي الشاذ، وتوقعت حدوثه في عدة مقالات سابقة لسببين رئيسيين.

 

أما السبب الأول، فهذه ليست المرة الأولى التي تكسِر فيها الولايات المتحدة الأمريكية الإجماع الدولي وتلقي صفعة أليمة للمجتمع الدولي برمته. ففي المؤتمر التاريخي البيئي الذي حضره لأول مرة قادة ورؤساء حكومات دول العالم في ريو دي جانيرو في البرازيل 1992، وافقت الدول بالإجماع على اتفاقية إطارية حول التغير المناخي تُمهِد الطريق لمعاهدة دولية تُلزم كافة دول العالم على مواجهة تحديات التغير المناخي وتتعهد بمنع انبعاث الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض. وكانت هذه القمة هي البدء في ولوج التغير المناخي في دوامة جدول أعمال المجتمع الدولي ونقطة دخوله في النفق الطويل المظلم الذي لا يُرى آخره حتى الآن. فقد بدأت المفاوضات الدولية حول اتفاقية ملزمة للتغير المناخي في عام 1993 وانتهت بعد ثلاث سنوات عصيبة، وبالتحديد في 1996 في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في كيوتو باليابان، حيث وافقت دول العالم على معاهدة مشتركة تَعهدت فيها كل دولة على حِدة من الدول الصناعية على خفض انبعاثاتها من الغازات المعنية برفع درجة حرارة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من احتراق الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الطاقة.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية وقعت على معاهدة كيوتو في ديسمبر 1997 في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، ثم عند دخول الجمهوري جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض لم يوافق على المعاهدة ورفض التصديق عليها فأرجع المجتمع الدولي إلى المربع الأول والنقطة التي بدأ منها وهي عام 1992، حيث قام من جديد بمفاوضات ماراثونية دولية استغرقت عشرين عاماً، وبعد مخاضٍ عسيرٍ وشديد وضع مولوداً في ديسمبر 2015 في باريس.

 

وهنا يعيد التاريخ نفسه، فقد وقَّعت أمريكا عندما كان الديمقراطي أوباما يسكن في البيت الأبيض على هذه المعاهدة، والآن بعد تربع ترمب الجمهوري على عرش البيت الأبيض، توعد أثناء حملاته الانتخابية الرأسية بالخروج من اتفاقية باريس، والآن جاء الوقت ليوفي بوعده، فانسحب كلياً منها.

 

وأما السبب الثاني فهناك العديد من الإشارات والخطوات العملية التي اتخذها ترمب قبل وبعد تسلمه زمام البيت الأبيض، وجميعها تتوجه نحو التخلي عن معاهدة باريس، منها أن ترمب شخصياً له رأي مختلف حول ظاهرة التغير المناخي فهو لا يؤمن أصلاً بأن لأنشطة الإنسان المتمثلة في حرق الوقود الأحفوري كالبترول والفحم والغاز الطبيعي دوراً رئيساً في وقوع التغير المناخي المشهود ورفع درجة حرارة الأرض. كذلك بُعيد تنصيبه رئيساً في 20 يناير من العام الجاري، وبعد سُويعات من حفل التنصيب، طرأت تغييرات جوهرية على صفحة البيت الأبيض المناخية، حيث أُلغيت كلياً هذه الصفحة والوثيقة المناخية تحت عنوان:"خطة عمل المناخ" التي وُضعت في يونيو 2013، وتم استبدالها بصفحةٍ ثانية تحتوي على قضايا أخرى غير التغير المناخي، منها الوثيقة تحت عنوان: "خطة أمريكا أولاً في مجال الطاقة"، وهذه الوثيقة تجنبت كلياً مصطلح "التغير المناخي أو سخونة الأرض"، أو عبارة "الطاقة المتجددة"، وركزت بدلاً منها على عبارات عنوانها: "حماية الهواء والماء"، وتعزيز وتشجيع استخدام الفحم، وبالتحديد الفحم النظيف، إضافة إلى الدفع باستعمال الغاز والبترول الصخري الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلاوة على ذلك كله فقد عَيَّن ترمب سكوت برويت(Scott Pruitt) رئيساً لوكالة حماية البيئة في 18 فبراير من العام الجاري، وفي أول كلمة له في العشرين من فبراير لم يتطرق كلياً إلى ظاهرة التغير المناخي وكأنها غير موجودة كلياً، كما أدلى بتصريحات في التاسع من مارس من العام الجاري في مقابلة تلفزيونية مع سِي إِن بـِي سِي تتعارض مع الإجماع الدولي، وذلك عندما سُئل عن دور ثاني أكسيد الكربون في إحداث التغير المناخي، حيث قال: "إنني لا أتفق بأن الأنشطة البشرية هي المساهمة الرئيس للتغير المناخي الذي نراه"، وأضاف: "لا أرى بأن ثاني أكسيد الكربون هو المساهم الرئيس في حدوث التغير المناخي كما نراه الآن، فنحتاج إلى مواصلة الحوار ومواصلة المراجعة والتحليل".

ولهذين السببين توقعتُ من قبل بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستنسحب مرة ثانية من اتفاقيات التغير المناخي وترجع المجتمع الدولي إلى هذه الدوامة من جديد.