الاثنين، 28 أغسطس 2017

العالَم يَتحد ضد ملوثٍ واحد فقط!


لماذا تَترُك دول العالم أجمع عشرات الآلاف من الملوثات والمواد الكيميائية التي تنبعث من وسائل النقل والمصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها من مصادر التلوث التي لا تعد ولا تحصى، فتُشغل وقتها الثمين، وتقضي سنوات طويلة وتصرف أموال طائلة فتركز على ملوثٍ واحدٍ فقط؟

 

فدول العالم تجتمع منذ عقود طويلة من الزمن وتتفاوض حول كيفية القضاء على هذا الملوث، وسبل اجتثاثه من المجتمع البشري كلياً ومن البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية بشكلٍ عام، ولم تنته هذه المشاورات والمفاوضات الدولية إلا في 15 أغسطس من العام الجاري عندما صادقت 74 على الاتفاقية الخاصة بهذا الملوث، فدخل حيز التنفيذ والتطبيق من الدول الموقعة.

 

هذا الملوث الغُول الفريد الذي حظي باهتمام العالم برمته هو الزئبق، وهو العنصر السائل الذي تشاهده في الثرموميتر الذي يقيس درجة حرارة جسمك.

 

هذا العنصر له تاريخ أسود طويل مع الإنسان يزيد عن 80 عاماً، وسجله كئيب ومليء بالكوارث والضحايا البشرية، وصفحات تاريخه تقطر بالأحزان والمآسي البشرية العصيبة، وذاكرته المؤلمة مازالت حية حتى يومنا هذا وستبقى مخلدة أبد الدهر، فمعاناة الضحايا ماثلة أمام الناس ويرونها بأم أعينهم، وآثار تداعياتها على المرضى والمصابين باقية ومستمرة ولا تخفى على أحد وتنتقل من جيلٍ إلى آخر.

 

فالإنسان نفسه هو المتهم في قضية هذا الملوث، فهو الذي سمح بيديه الآثمتين وبمحض إرادته لدخول هذا الملوث السام الخطير إلى بيئته، وبالتحديد إلى البيئة البحرية بدءاً من الأربعينيات من القرن المنصرم في خليج مِينَماتا الواقع في مدينة مِينَماتا اليابانية، حيث قام أحد المصانع بصرف مخلفاته السائلة التي تحتوي على كميات صغيرة من الزئبق إلى هذا الخليج الصغير الآمن، ولم يعرف الإنسان أنه بهذا العمل البسيط قد غرس بذرة خبيثة سيئة المذاق في البحر، فأنتجت بذلك شجرة خبيثة كشجرة الزَّقُّوم الملعونة التي ضربت جذورها في أعماق البيئة البحرية، فنمت وترعرعت يوماً بعد يوم وأنتجت ثمراً قاتلاً عقيماً، فأكلت من هذا الثمر الكائنات النباتية والأسماك، ثم مع الوقت امتدت فروعها الضاربة إلى كل أرجاء البحر حتى خرجت إلى سطح البحر في مطلع الخمسينيات، فأكل منها الإنسان والطير والحيوان، وسقط أكثر من 200 ألف من البشر صرعى، بين ميتٍ نُقل على مثواه الأخير ومريضٍ مرضاً غريباً لم يعرفه الإنسان من قبل ولم يتمكن من علاجه سنواتٍ طويلة، ولذلك لم تعترف الحكومة اليابانية رسمياً بهذا المرض إلا في عام 1968!

 

واستمر هذا الكَرب العظيم ينزل على المجتمع الياباني عدة سنوات عصيبة وفي أكثر من مدينة واحدة، ولا يعرف كيفية التعامل معه وما هي أسبابه ومصادره إلا بعد سنواتٍ عجاف من المعاناة والبحث والتنقيب والجهود المضنية دون توقف ودون تعبٍ أو كلل حتى اكتملت الصورة وتم تفكيك اللغز وربط جميع المشاهد بعضها ببعض، وهي صرف الزئبق السام في البحر، وتحول الزئبق في التربة القاعية إلى ملوثٍ أشد خطورة وأشد بأساً وتنكيلاً، ثم انتقاله إلى النباتات البحرية فالأسماك وأخيراً إلى الإنسان. 

 

والآن وبعد مُضي أكثر من 61 عاماً على هذه الطامة الكبرى التي حَلَّتْ على الشعب الياباني، هناك من أحياها الله من ضحايا هذه الكارثة المؤلمة لتشهد على جرائم الإنسان تجاه بيئته وتجاه نفسه، فقد نجاها الله ببدنها وروحها وأطال في عمرها لتكون لنا الآن ولمن خلفنا وبعدنا آية نعتبر منها ونتعظ بها، وهذه الضحية البيئية هي شينابو ساكاموتو (Shinobu Sakamoto)البالغة من العمر 61 عاماً والتي انتقل إليها الزئبق وهي نُطْفة وعلقة ضعيفة وبسيطة لا حول لها ولا قوة في رَحم أمها، فتسممت وخرجت إلى الحياة الدنيا وهي شبه مشلولة لا تستطيع المشي دون مساعدة، وأعضاؤها مشوهة وتعاني من عيوبٍ خَلْقية شديدة، وستُشارك كشاهد عيان على مأساة مينماتا، وستحكي قصتها كاملة وحجم معاناتها خلال ستة عقودٍ من عمرها في أول اجتماعٍ لاتفاقية مينماتا للأمم المتحدة حول الزئبق، والتي ستعقد في الفترة من 24 إلى 29 سبتمبر من العام الجاري في جينيف.

 

فهل هناك شاهد نتعلم منه، ونستفيد من معاناته، ونستقى منه الدروس والعِبر أكثر من هذه المرأة المعوقة والمشلولة التي تقف أمامنا وتحكي لنا قصةً حية عُمرها 61 عاماً منذ ولادتها إلى آخر يومٍ في حياتها؟

 

الجمعة، 25 أغسطس 2017

دروس وعِبر من كارثة البَيْض الملوث



قبل أن أدخل في تفاصيل هذه الفضيحة الأوروبية، والكارثة الصحية البيئية، أُقدم لكم أهم المشاهد والمظاهر التي انكشفت أمام الناس بسبب وقوع هذه الفضيحة، وذلك لكي تدركوا بأنفسكم حجم هذه الكارثة بيئياً وصحياً واقتصادياً واجتماعياً، والضرر العميق الذي نزل على المجتمع الأوروبي خاصة، وباقي دول العالم عامة، وهي كما يلي:
أولاً: ذبح مئات الآلاف من الدجاج في هولندا وبلجيكا مصدر هذه الفضيحة الكبرى، بدءاً من نهاية يوليو عندما انكشف النقاب عن هذه الطامة الصحية العقيمة.
ثانياً: سحب مئات الملايين من بيض الدجاج بدءاً من الأول من أغسطس من البرادات والمحلات وغيرهما من جميع الدول الأوروبية وإتلافها فوراً، منها على سبيل المثال قرابة 10.7 مليون بيض مسموم في ألمانيا، وأكثر من 700 ألف في بريطانيا، ونحو 250 ألف في فرنسا.
ثالثاً: الإتلاف الفوري لأعدادٍ كبيرة من المنتجات والأطباق الغذائية التي دخل هذا البيض الملوث في تركيبها، مثل سلطات البيض بأنواعها المختلفة، والسندويشات، والميونيز، والكعك، وغيرها.
رابعاً: إغلاق أكثر من 180 مزرعة دجاج في هولندا فقط.
خامساً: وصول البيض الملوث إلى دول غير أوروبية منها، على سبيل المثال هونج كونج في 12 أغسطس، والكونجو في أفريقيا في 14 أغسطس.

فهذه المشاهد المخيفة والمؤثرة على نفسيات مئات الملايين، شاهدناها جميعاً من خلال وسائل الإعلام وقرأنا تفاصيلها المكشوفة، ولكن هناك ما خفي على الكثير من الناس غير المتخصصين والذين لم يتابعوا هذه الفضيحة منذ بداياتها وعند كشف عورتها. فقد أكدت تقارير المحَققين الذين كُلفوا بسبر غور هذه الفضيحة وهم أكثر من 140 محققاً، بأن البذرة الخبيثة لهذه الطامة غُرست في نوفمبر من العام المنصرم، أي قبل نحو تسعة أشهر وبدون أن يعلم أحد عن هذه الغرسة المهلكة، وذلك عندما قامت شركة بلجيكية بتصدير مبيدٍ حشري محظور يُطلق عليه فيبرونيل (fipronil) لكي يُستخدم في غذاء الإنسان إلى أكبر شركة لإنتاج الدجاج والبيض في هولندا تُعرف بشِيك فريند(Chickfriend)، حيث قامت باستعمال هذا المبيد السام الممنوع ورشه في مزارع الدجاج، وبالتحديد في مزارع إنتاج البيض. وهكذا ولمدة أشهر طويلة جداً كانت هولندا، وهي أكبر مُصدر للبيض، تعمل بصمتٍ شديد وسرية تامة فتُوزع وتنشر السم إلى شرايين دول القارة الأوروبية، فيأكل الناس هذا البيض المسموم دون أن يعلموا بتوغل هذا الملوث في البيض وانتقاله يوماً بعد يوم إلى أعضاء أجسامهم.

ولم ينكشف سر هذه الشركة الهولندية إلا في العشرين من شهر يوليو عندما انتقل الخبر إلى سكرتارية الاتحاد الأوروبي، حيث أصدر تعليماتٍ فورية للتخلص من الدجاج والبيض، ولم يصل إلى وسائل الإعلام وعموم الناس إلا في الأول من أغسطس عندما شَبعَ الناس من أكل هذا السم وتراكم في أجسامهم خلال التسعة أشهر الماضية.

فهذا الكَرب العظيم الذي وقع على شعوب القارة الأوروبية وبعض دول العالم يؤكد بأن الكوارث الكبرى تقع بحدثٍ بسيط، أو ممارسة بشرية لا يلقي أحد لها بالاً، كما يقول المثل العربي "مُعظم النار من مُسْتصغر الشرر"، وتَمَثل في هذه الحالة برش مبيدٍ حشري يُستخدم عادةً للقضاء على الحشرات في الحيوانات المنزلية، ولكن هنا استخدم في مجالٍ آخر هو الدجاج الذي يستهلكه الإنسان، فانتقل هذا المبيد بعد فترةٍ من الزمن إلى جسم الدجاج ثم البيض فتلوث وتسمم بهذا المبيد، وأخيراً وفي نهاية الأمر كما هو في كل الحالات، وصل هذا التلوث إلى هرم السلسلة الغذائية وهو الإنسان، ونتيجة لهذا قد يصاب الإنسان بعد حينٍ من الدهر ليس بِبَعيد بأمراضٍ مزمنة ومستعصية على العلاج دون أن يعلم السبب.  

فهذه المبيدات بأنواعها المختلفة والمتعددة كلها سامة وملوثة للبيئة ومواردها الحية وغير الحية بدرجاتٍ متفاوتة، ونستخدمها يومياً في منازلنا، ومكاتبنا، ومزارعنا، وحدائقنا، ومصانعنا، وفي الكثير من مجالات حياتنا، وهناك من لا يستطيع الاستغناء عنها، ولذلك فإنني أُقدم التنبيهات التالية للحد من خطورتها وتهديداتها للصحة العامة:
أولاً: تَأَكُد الجهات المعنية بالدولة من نوعية وسمية ومجالات استخدام كل مبيد يدخل البلاد.
ثانياً: تجنب استخدام المبيدات في المنزل، وإذا كان لا بد من استخدامها فأن يكون باعتدال وعند الضرورة القصوى وبأقل كمية ممكنة، وإبعاد الأطفال عن مكان رشها، فهذه المبيدات قد ترجع إلينا وتُسمننا.
ثالثاً: التفتيش الدوري للمزارع وشركات إنتاج الأغذية للتأكد من نوعية المبيدات المستخدمة ومجالات استخدامها وطرق رشها.
رابعاً: التحليل الدوري للمواد الغذائية النباتية والحيوانية التي تُنتج في البلاد، أو التي تُصدَّر إلينا من الخارج للتأكد من خلوها من هذه المبيدات. 
خامساً: هذا الكارثة الأخيرة التي نزلت على أوروبا بالرغم من تطورها ومراقبتها الشديدة للأمن الغذائي، قد تنزل علينا في أية لحظة إذا تهاونا في قضية نوعية المواد الغذائية التي ننتجها داخل البلاد، أو التي نستوردها من الخارج.

الثلاثاء، 22 أغسطس 2017

حتى المواصفات الصحية البيئية يتم تسْييسُها!


نعيش اليوم في عالمٍ مُسيَّس، فالرياضة يتم تسييسها لتحقيق أهدافٍ شخصية أو حزبية، والثقافة مسيسة لتصب في مصلحة أفرادٍ أو جماعاتٍ أو دول، والقرارات في كل المحافل تُتخذ بطابعٍ سياسي بحت، حتى القضايا التي تهم أمننا البيئي والصحي والمتعلقة بضمان استدامة حياتنا وسلامة بقائنا على وجه الأرض أصبحت الآن مسيسة وتصب أولاً في الوصول إلى مآرب آنية واقتصادية للتنظيمات السياسية قبل أن تصب في حماية صحة البشر والحفاظ على الثروات والموارد الفطرية الطبيعية الحية وغير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة.

 

ولذلك فمُتخذ القرار على كافة المستويات وفي معظم دول العالم يصب جُل اهتمامه وتفكيره عند اتخاذ أي قرار في أية قضيةٍ مهما كان نوعها على المصالح الآنية الضيقة وتحقيق أطماعه الشخصية الذاتية لنفسه أولاً، ثم لحزبه أو تنظيمه ثانياً، وأخيراً للجهات والمؤسسات الداعمة والمساندة له معنوياً أو مادياً، فمعيار اتخاذ القرار عندهم لا يسعى لتحقيق المصالح العامة العليا السامية المشتركة التي تهم كل الناس، كرعاية شؤون الإنسان عامة وحماية الموارد الطبيعية المشتركة التي نحن مُؤتمنين عليها وعلى الحفاظ على سلامتها نوعياً وكمياً لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا.

 

ولذلك نُشاهد أمامنا وقائع ودلائل قاطعة تؤكد انتشار هذه الظاهرة في معظم دول العالم، فرجال العلم يكتشفون المشكلات التي نعاني منها ويؤكدون وقوعها بما لا يدع مجالاً للشك، ويُجمعون في مؤتمراتهم ومنتدياتهم العلمية على وقوعها وآثارها السلبية على الإنسان، ولكن عندما تنتقل هذه المشكلة إلى متخذي القرار ورجال السياسة فإنها تتعثر في أروقتها ومجالسها، وتختلف حولها الآراء والحلول، فتُراوح مكانها دون أن تتحرك شبراً واحداً، فلا يتم علاجها عشرات السنين، كما حدث بالفعل لمشكلة التغير المناخي والتي مازالت قيد البحث والمناقشة في الأمم المتحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

 

وهناك مشكلة أخرى في هذا السياق متعلقة بالمواصفات البيئية، أو بتحديد معايير جودة الهواء الجوي، وهي المواصفات التي تضعها الدول لتحديد التركيز "المسموح به" لأي ملوثٍ كيميائي في الهواء الجوي من أجل حماية صحة الإنسان ورعاية مكونات البيئة الحية وغير الحية. فمن المفروض أن لا يكون هناك خلاف كلياً حول هذه المعايير البيئية الصحية لأن هدفها حماية صحة الإنسان وسلامة البيئة، ولأنها تعتمد على الحقائق العلمية البحتة والنسبة التي تؤثر بها هذه الملوثات على الصحة العامة وصحة البيئة. ولكن بالرغم من ذلك يختلف رجال السياسة ومتخذو القرار وتحتدم بينهم المعارك عند وضع هذه المواصفات لأنها تضر بمصالح المصانع الكبرى ومحطات توليد الكهرباء وصناعة السيارات.

 

فعلى سبيل المثال، المواصفة الخاصة بتركيز غاز الأوزون السام في الهواء الجوي تغيرت مع الزمن في الولايات المتحدة الأمريكية وفي معظم دول العالم التي تعتمد على المعايير الأمريكية، فقد بدأت في عام 1971 بـ 80 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، ثم تبين بأن هذا التركيز "المسموح به" يُعد مرتفعاً ولا يحمي صحة الناس ويسبب لهم مشكلات صحية مزمنة، فتم في عهد الرئيس الأسبق بوش وبعد سنواتٍ عقيمة من الجدال والكَر والفر بين أعضاء الكونجرس، وبالتحديد في 27 مارس 2008 الوصول إلى حلٍ سياسي توافقي يرضي كافة الأطراف، ولكن لا يحمي صحة الناس من شُرور هذا الملوث القاتل، وهو خفض هذا التركيز إلى 75، ثم مع مرور الزمن أكد العلماء وأجمعوا بأن الأوزون يفسد صحة الإنسان بأي تركيزٍ كان موجوداً في الهواء الجوي، فاقترح أوباما عام 2011 إلى خفض التركيز ليكون 70، ولكن واجه عاصفة جارفة وريحاً صرصراً عاتية من جماعات الضغط التي تدافع عن المصالح الضيقة الاقتصادية للمصانع الكبرى، ومن رجال السياسة والتشريع في الكونجرس، فاضطر خائباً إلى سحب اقتراحه بسبب هذه الضغوط السياسية العنيفة، مما يعني أنه لا بأس من أجل أن يبقى أوباما في منصبة أن يموت ويمرض الملايين من البشر لسنواتٍ عجافٍ قادمة، ليس في أمريكا وحدها وإنما في كل دول العالم لأنها معظمها يطبق المواصفات الأمريكية.

 

وبعد أن اشتد عُوده وتثبتت قدماه في البيت الأبيض عند انتخابه للدورة الرئاسية الثانية، طرح هذه المواصفة التوافقية "المعتدلة" مرة أخرى في الأول من أكتوبر عام 2015، علماً بأن العلماء كانت توصيتهم أن يكون التركيز 60 جزءاً من الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي وليس 70 ليقي الصحة العامة من الأمراض التي يسببها غاز الأوزون. وبالرغم من هذا كله إلا أن هذه المواصفة دخلت في نفقٍ مظلم مُسيس عندما فاز ترمب بالحكم وعيَّن رئيساً لوكالة حماية البيئة يُعرف بعدم صَدَاقته للهموم البيئية بشكلٍ عام، فأعلن رئيس البيئة في يونيو بأنه سيؤجل تنفيذ هذه المواصفة البيئية عاماً واحداً، وفور صدور هذا الإعلان رَفَعتْ 15 ولاية قضية ضد وكالة حماية البيئة الأمريكية لتأجيلها تطبيق المواصفة، مما اضطر في الثالث من أغسطس إلى الرضوخ أمام هذه الضغوط وتغيير القرار ليسمح بتنفيذ هذه المواصفة الجديدة.

 

فهذا المثال وأمثلة كثيرة أخرى تؤكد بأن البعد السياسي والاقتصادي ومصالح وأطماع متخذي القرار هي التي تحسم تحديد المواصفات البيئية الصحية وتاريخ تنفيذها في أرض الواقع، وما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية ينعكس علينا مباشرة لأن معظم دول العالم تَتَبنى المواصفات الأمريكية المسيسة.

الاثنين، 21 أغسطس 2017

سمكة بريئة تُرهب الولايات المتحدة الأمريكية


سمكة بريئة لا حول لها ولا قوة تُرهب المجتمع الأمريكي برمته، وتحيِّر علماء أمريكا، وتُدوِّخ رجال السياسة والاقتصاد منذ الستينيات من القرن المنصرم حتى كتابة هذه السطور، فأخبارها وأحوالها وشؤونها تفرض نفسها في الدراسات العلمية، وفي الصفحات الإعلامية، وفي البيت الأبيض وأروقة الكونجرس.

 

وآخر خبرٍ نزل في الصحف الأمريكية عن أحوال هذه السمكة وتحركاتها كان في الثامن من أغسطس من العام الجاري، ويتحدث هذا الخبر عن الجهود المكثفة التي تبذلها أمريكا لمنع هذه السمكة التي أرهبت الدولة من الدخول في منطقة البحيرات العظمى التي تُعد رئة الثروة السمكية في أمريكا، كما يورد الخبر توصية العلماء والمهندسين لاستخدام سلاحٍ جديد لمحاربة هذه السمكة المرعبة، ويتمثل في بناء جدارٍ صوتي فاصل في نهر ميسيسيبي لمنع غزو هذه السمكة وانتقالها من هذا النهر إلى هذه البحيرات.

 

فما هي قصة هذه السمكة الإرهابية التي تهدد أمريكا بيئياً واقتصادياً، وتحظى بهذا الاهتمام غير المسبوق من كل قطاعات المجتمع الأمريكي؟

 

يأتي المشهد الأول من أحواض نهر ميسيسيبي العظيم قبل أكثر من خمسين عاماً، عندما تم استيراد هذه السمكة التي تُعرف بالكارب الآسيوي (Asian carp) من آسيا لتوضع في مزارع تنمية الأسماك ومحطات معالجة مياه المجاري، ومع الوقت ننتقل إلى المشهد الثاني الذي غَرَس بذرة خبيثة في البيئة النهرية لأمريكا، حيث بدأت هذه السمكة الأجنبية الغريبة من الخروج من هذه البيئات المغلقة والدخول في عمق النهر.

 

وعندها تلاحقت المشاهد الدرامية وتسارعت أحداث هذه القصة، فوجود هذه السمكة الضخمة في بيئةٍ غير البيئة الطبيعية التي كانت تعيش فيها، أدى إلى إحداث خللٍ عظيم في توازن الكائنات الحية في نهر ميسيسيبي، فقضت يوماً بعد يوم على الأسماك التجارية الصغيرة، حتى بدأت أعداد هذه الأسماك التي يعيش عليها ملايين الأمريكيين في النقصان، ولم تكتف هذه السمكة باحتلال نهر ميسيسيبي والقضاء على أسماكه فحسب، وإنما بدأت تزحف رويداً رويداً حتى غزت البحيرات العظمى، وهنا اضطر العلماء إلى دق جرس الإنذار، وإعلان حالة الطوارئ القصوى.

 

ومنذ ذلك الوقت وعقول أمريكا تفكر في إبداع السلاح الفتاك الفاعل لمنع زحف هذا العدو الغاشم، وصرفت حتى الآن أكثر من 300 مليون دولار لمحاربة هذه السمكة الإرهابية، منها 50 مليون دولار خصصها أوباما لمنع دخول هذه السمكة إلى أهم مورد للثروة السمكية في أمريكا وهو البحيرات العظمى، فهو خط أحمر لا يمكن تجاوزه. وقد فشلت كل الجهود السابقة لوقف زحف هذا العدو، ومنها وضع جدران كهربائية تحت الماء لصعق وإبعاد هذه السمكة.

 

وقد بلغت الجهود ذروتها عندما أعلن حاكم ولاية ميتشيجن في الثاني من أغسطس من العام الحالي عن مسابقة دولية أَطلق عليها "تحدي سمكة الكارب الغازية"، ودعا فيها الشعب الأمريكي وعلماء العالم كلهم لتقديم فكرة إبداعية للقضاء على هذا الإرهابي.

 

ولذلك نجد بأن ممارسة بريئة وبسيطة قام بها البعض دون دراسة معمقة ومتكاملة وشاملة أدت إلى هذه الكارثة البيئية والاقتصادية والاجتماعية، فالحذر الحذر من التدخل في شؤون البيئة دون علمٍ وخبرة ودراسة كافية.

 

السبت، 19 أغسطس 2017

صَرْخَة نائب بريطاني داعياً لاستخدام الحشيش!


وَقفَ عضو مجلس العموم البريطاني من حزب العمال بول فلين(Paul Flynn) يوم 18 يوليو من العام الجاري في إحدى جلسات المجلس، وهو يصرخ بكل شغفٍ وحرقة أمام الجميع وكأنه يعاني من أمرٍ ما قائلاً لزملائه البرلمانيين وللناس كافة: "خالفوا القانون... دخنوا الحشيش في البرلمان وتحدوا الحكومة والسُلطات..".

 

فقد كان هذا النائب العُمالي يُوجه هذا النداء العاطفي والقوي والمتَمرِّد على النظام والقانون في سياق مناقشة المجلس لسياسة التعامل مع المخدرات والخمر والمواد الأخرى التي تقع في هذا القائمة، فيدعو إلى السماح رسمياً باستخدام الحشيش أو الماريوانا أو القنب(cannabis) في مجال الطب والدواء والعلاج.

 

وفي الواقع فإن الدَّاعين إلى السماح لاستعمال المخدرات، وبالتحديد هنا الحشيش أو الماريوانا يبدؤون حملتهم أولاً بوجهٍ إنساني بريء، ودعوة أخلاقية سليمة وعَفِيفة وعاطفية لا خلاف عليها بين معظم الناس، من حيث الاستفادة من الحشيش لعلاج المرضى وتخفيف آلامهم ومعاناتهم اليومية، وتقديم الدواء الشافي لأسقامهم وعللهم، ثم ينطلقون إلى ما هو أبعد من هذا الجانب الإنساني الذي يتسترون وراءه، ويمشون خلفه، فيُفصحون عن نواياهم الحقيقية، وهي الدعوة إلى إطلاق سراح هذا المخدر في المجتمع برمته للاستعمال الشخصي، وبهدف الترويح عن النفس والتسلية الفردية البريئة، ومن باب الحرية الشخصية للأفراد، ثم يأتي المشهد الأخير من المسرحية فيصبح الحشيش كالسجائر التي تباع في كل مكان، ويستطيع أي إنسان أن يستخدمها دون حرج، أو خوف، أو استحياء من الآخرين.

 

وهكذا فعلاً بدأت القصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا كانت نقطة الصفر في تفشي الحشيش وتغلغله في عمق المجتمع الأمريكي، حتى تحول الحشيش إلى مَقَام تدخين سجائر التبغ، فيباع في المحلات عامة، ويمكن الحصول عليه الآن وبدون حتى أن تخرج من سياراتك من خلال نافذة خاصة تشتري منها الحشيش كما تشتري الهمبرجر، بل وقد استفحل استخدام الحشيش في مدن أمريكا لدرجة أنك تجد "الصراف الآلي في الطرقات لبيع الحشيش"!

 

فبداية انتشار الحشيش في أمريكا كانت من إحدى أكبر الولايات مساحة، وسكاناً، وأهمية في أمريكا، وهي ولاية كاليفورنيا، وذلك عندما صوت جمهور الولاية في عام 1996، أي قبل 21 عاماً على السماح لاستخدام الحشيش في الأغراض الطبية ولعلاج بعض الحالات المرضية، وبهذا التوجه الجديد انفتح الباب على مصراعيه لباقي الولايات لتُنظم استفتاءات شعبية حول استخدام الحشيش بشكلٍ عام لأغراض طبية علاجية، أو أغراض شخصية للتسلية والترويح عن النفس، فكانت المحصلة حتى يومنا هذا موافقة 28 ولاية أمريكية على السماح لاستعمال الحشيش في مجال الطب، وثمان ولايات تستطيع فيها شراء الحشيش علانية وبشكلٍ رسمي في المحلات الخاصة بذلك.

 

وفي تقديري هناك سببان لاتساع وازدياد مَدِّ استخدام الحشيش في أمريكا. الأول هو الناحية الأمنية المتعلقة بتفشي ظاهرة تدخين الحشيش في المجتمع الأمريكي لدرجةٍ كبيرة ومتسارعة بحيث إن السلطات الرسمية في الولايات من أجهزة الأمن والقانون والسجون لا تتمكن من مواكبة وملاحقة هذه الأعداد المتعاظمة من المتعاطين للحشيش وتجريمهم، ومحاكمتهم، وإيداعهم في السجون والمعتقلات التي تشبعت بالمجرمين والمدانين بتهم مختلفة أشد خطورة بالنسبة لهم على المجتمع من تدخين سيجارة حشيش.

 

والثاني وهو في نظري الأهم لأنه عصب الحياة في أمريكا، وهو عماد قيام دولتهم، وهو الجانب الاقتصادي المالي البحت، فهناك مال عظيم يمكن جَنْيه من السماح للحشيش، وهناك ربح سريع وكبير يمكن الحصول عليه، وهناك أموال ضخمة ستدخل في جيوب المستثمرين من جهة وميزانية الولاية من جهةٍ أخرى من الضرائب التي تفرضها على الحشيش، وعلاوة على الجانب المالي فهناك الجانب المتعلق بخلق الوظائف وخفض مستوى البطالة في الولاية. فعلى سبيل المثال، تُدخل ولاية كُولُورَادُوا، وهي أول ولاية بدأت في بيع الحشيش للترفيه والتسلية في الأول من يناير 2014،أكثر من 13 مليون دولار شهرياً في ميزانيتها من ضرائب الحشيش. وتُقدر التقارير المختصة بأن إنتاج وتسويق وبيع الحشيش يساوي نحو ستة بلايين حالياً على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وسيرتفع بحلول عام 2026 إلى قرابة 50 بليون دولار، ويخلق أكثر من نصف مليون وظيفة بحلول عام 2020.أما في ولاية كاليفورنيا فإن سوق صناعة الحشيش تساوي قرابة سبعة بلايين دولار، وحصة الولاية من الضرائب تبلغ زهاء بليون دولار سنوياً.

 

ولذلك بالنسبة لأمةٍ رأسمالية مادية لا روحانية فيها، فإن إنتاج الحشيش وبيعه وتسويقه في المجتمع تجارة مربحة من جميع النواحي، وسيَسيلُ لعابهم جرياً وراء السماح له في كل بيت وفي كل ولاية أمريكية، كما حصل أمامنا بالنسبة للآفة الكبرى والوباء العظيم وهو تدخين سجائر التبغ.

 

وما أخافه فعلاً هو الضغط على دولنا في المستقبل القريب للسماح لبيع الحشيش من باب اتفاقيات التجارة الحرة، والسوق المشتركة، أو الابتزاز السياسي والأمني، وما إلى ذلك من المسميات التي لا تعد ولا تحصى.

 

الجمعة، 11 أغسطس 2017

حتماً سينقرض الإنسان



استدامة واستقامة حياة الإنسان على وجه الأرض تعتمد على شيءٍ واحدٍ فقط وهو الذي وصفه الله جلت قدرته في القرآن الكريم وأَطلق عليه كلمة الماء "المَّهِين" الذي هو أساس خَلْق الإنسان، مصداقاً للآية الكريمة: "ألَمْ نَخْلُقكم من ماءٍ مهين"، وفي آية ثانية قال تعالى: "ثم جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلالةٍ من ماء مهين". 

فهذا الماء المهين، أو المَنِي هو الذي يضمن استمرارية حياة الإنسان واستدامة وجوده وإعماره للأرض منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم عليه السلام، فهذا الماء يحقق بقاء الجنس البشري على سطح الأرض، ولذلك فالحفاظ على هذا الماء وحمايته، والتأكد من سلامته من الناحيتين الكمية والنوعية هو حماية لنظام التناسل البشري، وضمان لاستمرارية عملية التناسل والتكاثر بشكلٍ طبيعي سليم من جيلٍ إلى آخر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فأي تغييرٍ في نوعية أو كمية هذا الماء، وأي خللٍ يحدث على هذا الماء، فإن التأثيرات طويلة المدى ستكون كارثية على ذرية بني آدم، كما إنها لو استمرت فترة من الزمن فإن عواقبها ستكون وخيمة ولا يمكن التكهن بها وبالأضرار العقيمة التي ستلحق باستدامة بقاء الإنسان.

واليوم نشهد وضعاً مأساوياً يمس هذا الماء، ويتمثل في التدهور الشديد في كمية وحجم هذا الماء من ناحية، والفساد الكبير الذي طرأ على صحته وسلامته ونوعيته من ناحيةٍ أخرى، مما يُشكل تهديداً غير مسبوق للإنسان لم تشهده البشرية من قبل.  

فالدراسات والأبحاث بدأت تنهمر علينا يوماً بعد يوم لتوثق التغيرات التي تطرأ على هذا الماء المهين، وتؤكد على أن صحة وأمن وسلامة هذا الماء في خطرٍ شديد، وقد يؤدي مع الوقت إلى انقراض الجنس البشري. ودعوني على سبيل المثال لا الحصر، أقدم لكم آخر دراسة منشورة هزَّت المجتمع البشري برمته، وألزمته إلى دق ناقوس الخطر ورفع درجة التحذير من وقوع كارثة وشيكة.

فقد نُشرت دراسة شاملة في 26 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "الأنماط الزمانية لأعداد الحيوانات المنوية" في مجلة مستجدات تناسل الإنسان(Human Reproduction Update)، حيث قامت هذه الدراسة بحصر أكثر من مائة دراسة سابقة وتحليلها حول قضية الحيوانات المنوية في دول العالم وشملت أكثر من 50 ألف رجل يمثلون 50 دولة، منها الولايات المتحدة الأمريكية، وقارة أوروبا، وأستراليا، ونيوزلندا وبعض الدول غير الصناعية في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وتوصلت إلى نتائج مرعبة للجنس البشري، حيث أكدت على أن عدد الحيوانات المنوية في الإنسان الغربي المتقدم قد انخفض خلال الأربعين سنة الماضية، وبالتحديد خلال الفترة من 1973 إلى 2011 بدرجةٍ مخيفة تنذر بوقوع طامةٍ بشريةٍ كبرى وبنسبة تتراوح بين 50% إلى 60%، وهذه النسبةتزيد سنوياً بمعدل 1.4%، أي أنها مع الوقت وإذا لم يواجه الإنسان الغربي هذه الحالة العصيبة فتؤدي به إلى الهلاك والانقراض.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبحاجة إلى إجابة شافية ومقنعة هو ما هي الأسباب التي أدت إلى بُروز هذا الكَرْب العظيم في الإنسان الذي يعيش في الدول الغربية عامة مقارنة بالإنسان في الدول الأخرى؟ وما هي العوامل التي أدت إلى نزول هذه الظاهرة العقيمة عليهم؟

وفي الحقيقة فإن هذه الحالة المرعبة تحير العلماء منذ نشر البحث الأول حول هذه القضية عام 1992، ومازالوا حتى يومنا هذا يبحثون عن الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة، ولكن بشكلٍ عام فإنهم يعزون وقوعها إلى نمط حياة الإنسان الغربي وتوغله في استخدام المواد الكيميائية والمنتجات الاستهلاكية في حياته اليومية، وتعرضه في كل ثانية ومنذ عقودٍ طويلة للملوثات الخطرة والسامة التي توجد فيها. فالإنسان الغربي يدفع الآن ضريبة هذا التقدم والرفاهية والحياة الاستهلاكية غير المقننة التي وصل إليها، فقد أسرف في استخدامه للمبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب والطفيليات في المنزل والملعب وحقول زراعة المحاصيل الكبيرة ذات المساحات الواسعة، والإنسان الغربي تطرف في تناول الوجبات السريعة والمواد الغذائية المعلبة التي تحتوي على مواد كيميائية سرية لا يُعرف الكثير عن هويتها وسُميتها، كالألوان والمضافات الأخرى الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، والإنسان الغربي نفسه وبيده ولج في سلوكيات غير صحية ومهلكة كتعاطي المخدرات، وتدخين السجائر، وشرب الخمر، كما أن الإنسان الغربي أدخل في بيئته وفي أسواقه عشرات الآلاف من المنتجات الاستهلاكية لأغراض كثيرة دون التأكد من سلامتها وصلاحيتها بيئياً وصحياً، فعَرَّض نفسه للآلاف من الملوثات التي يجهل الإنسان نفسه الآثار التي يتركها على أمنه الصحي.

فكل هذه العوامل، وعوامل أخرى كثيرة أدت إلى انكشاف ظاهرة التناقص المطرد في أعداد الحيوانات المنوية في المجتمع الغربي، وكلي أمل أن لا نسقط في فخ هذه الحالة المرضية وأن لا يُعدينا الغرب بنمط حياته غير المستدام.