الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

مخاطر الطاقة النووية في منطقة الخليج



بِقدر ما أنا سعيد ومبتهج وأؤيد دخول دول الخليج في بحر التقنيات النووية اللُّجِّي المتلاطم الأمواج والمعقد والشائك فنياً وأمنياً وسياسياً، فبالقدر نفسه أتخوف وأُحذر من مخاطر استعمال هذه التقنية الدقيقة، ومن التهديدات والتداعيات غير المحمودة التي قد تنشأ عنها وعن أي خللٍ أو عطلٍ فني قد يطرأ عليها.

وهذا التخوف والتحذير ليس من باب التشاؤم أو التنبؤ العشوائي غير المدروس وغير المعتمد على الحقائق والخبرات المعاصرة، وإنما يأتي هذا التنبيه والتحذير والتخوف عن وقائع شاهدناها أمامنا، ومَبْني على كوارث عصيبة عاصرناها جميعاً في الماضي القريب.

وتنبيهي لدولنا من التوغل برفقٍ وحذر مع أخذ أشد احتياطات وإجراءات الأمن والسلامة صرامة في مجال الطاقة النووية يأتي في قضيتين. القضية الأولى هي حوادث التسربات الإشعاعية التي قد تقع لأسباب مختلفة، منها الإهمال وعدم إتباع إجراءات الصيانة الوقائية والصيانة الدورية المستمرة، ومنها نتيجة لوقوع حوادث طبيعية تؤثر على تشغيل المفاعلات وتؤدي إلى احتراقها أو انفجارها، كما حدث بالفعل في أكبر كارثتين نوويتين عرفهما التاريخ، وهما كارثة تشرنوبيل في 26 أبريل عام 1986 في أوكرانيا بالاتحاد السوفيتي سابقاً، وكارثة فوكوشيما في اليابان في 11 مارس 2011، علماً بأن التأثيرات الإشعاعية التي نجمت عنهما عمَّتْ الكرة الأرضية برمتها وأضرت بالبشر والشجر والحجر، وتوغلت الإشعاعات المتسربة في أعماق مكونات بيئتنا، في الهواء والماء والتربة وفي النبات والحيوان والإنسان، وستظل تداعياتها البيئية والصحية الضارة باقية مخلدة في كوكبنا إلى أن يشاء الله.

واليوم وقعت حادثة تسرب إشعاعي في القارة الأوروبية بشكلٍ محدد، وذكرتني بخطورة التعامل مع التقنية النووية، ولكن لم تنل هذه الحادثة الاهتمام المباشر والكبير من وسائل الإعلام الشرقية خاصة، ولكنني شخصياً أُتابع تحركاتها منذ نزولها على وجه أوروبا، وأراقب عن كثب جميع تفاصيلها وملابساتها وأسباب ومكان وقوعها، لكي نتعلم من دروسها، ونتجنب هُنا في الخليج الوقوع في هفواتها وزلاتها. 

فقد نَشرتْ بعض وسائل الإعلام الغربية في العاشر من نوفمبر من العام الجاري خبراً صادراً عن المعهد الفرنسي للحماية من الإشعاع والسلامة النووية، حيث أكد هذا المعهد عن اكتشاف سحابة مشعة، وغمامة نووية غطت سماء القارة الأوروبية في الفترة من 27 سبتمبر إلى 13 أكتوبر، وكانت هذه الغمامة تحتوي على عنصر الرُوثنيم(Ruthenium 106) المشع الذي يستخدم في المجال الطبي وبخاصة لعلاج الأورام، كما أفاد المعهد بأن مصدر الإشعاع قد يكون من محطة لمعالجة مخلفات الوقود النووية المشعة، أو مركز طبي لمعالجة المخلفات النووية الطبية، وأضاف المعهد بأنه بناءً على اتجاه وسرعة الرياح في تلك الفترة فإن الدول المتهمة قد تكون روسيا أو كازاخستان، ولكن كالعادة، كما كان الحال عند وقوع كارثة تشرنوبيل، أنكرت روسيا بشدة هذا الخبر كلياً.

ولكن بعد ضغوط الدول والجمعيات غير الحكومية للكشف عن مصدر الإشعاع، اعترفت موسكو في 21 نوفمبر بوجود نسبٍ عالية جداً من الروثنيم المشع تزيد عن التركيز العادي بأكثر من 986 مرة في الفترة نفسها في الهواء في عدة مدن روسية، وبخاصة في مدينة ماياك(Mayak)، وهذا العنصر المشع انتقل مع تيارات الرياح إلى هواء معظم المدن الأوروبية التي قامت الأجهزة الخاصة بقياس ومراقبة الملوثات المشعة بقياسه بنسبٍ تزيد عن النسب العادية الطبيعية.

أما القضية الشائكة الثانية المتعلقة بالتعامل مع التقنية النووية فهي المخلفات المشعة التي تنجم بعد الانتهاء من استخدام المادة المشعة، سواء أكانت أعمدة الوقود المشعة التي تستخدم في المفاعلات أو العناصر المشعة المستعلمة في مجالات متعددة. وهذه القضية تُعد من أعقد المشكلات وأكثرها تحدياً وخطورة وتهديداً للبيئة والصحة العامة، إذ أن عَقْل الإنسان الغربي والشرقي لم يتوصل حتى الآن إلى الحل المستدام والآمن لمثل هذه المخلفات التي مازالت مكدسة وتجثم على أراضي الدول النووية، أو أنها مخزنة في أعماق الأرض لأكثر من 60 عاماً.

ولذلك يجب أن نعلم جيداً بأن هذه التقنية تعتبر جديدة بالنسبة لدولنا، والتعامل معها يختلف كلياً عن التعامل مع التقنيات التي أصبحت لدينا خبرة عالية وطويلة في إدارتها، كتقنيات تكرير النفط والغاز الطبيعي والبتروكيماويات، فالمفاعلات النووية تختلف من ناحية التشغيل والأمن والسلامة عن مصانع تكرير النفط، فهي أشد خطورة وتدميراً في حالة وقوع أي خطأ أو حادثة ولو كانت بسيطة، فالتحكم فيها والسيطرة عليها صعب جداً، بل ومستحيل في بعض الحالات، والأضرار التي تنجم ستكون كارثية وتغطي مساحة واسعة من الكرة الأرضية. 

الخميس، 23 نوفمبر 2017

خِطاب تحذيري من 15 ألف عالِم



نشرتُ مقالاً في التاسع من مارس من العام الجاري عنوانه "معاهدة سلام مع البيئة"، وحذرتُ فيه من المخاطر العصيبة التي تواجه الكرة الأرضية برمتها، وبيَّنت التهديدات العميقة التي ألمَّتْ بالأوساط البيئية من ماءٍ وهواءٍ وتربة، وانعكاس كل هذه الأضرار والسلبيات مباشرة على صحة الإنسان والحياة الفطرية التي تعيش معه، وتأثيراتها الكارثية على استدامة التنمية البشرية على وجه الأرض.

واليوم، وبالتحديد في 13 نوفمبر نَشرَ 15364 عالماً من 184 دولة من مختلف دول العالم، والكثير منهم ممن نالوا جائزة نوبل للسلام، خطاباً رسمياً يدق ناقوس الخطر تحت عنوان: "تحذير إلى البشرية"، مضمونه التوافق والتطابق كلياً مع مرئياتي وأفكاري التي طرحتها في مقالي قبل أكثر من ثمانية أشهر، وتقديم تحذير شديد اللهجة من التدهور البيئي العميق والمستمر لقرون، والذي تغلغل الآن في أعماق كوكبنا في كل بقعةٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ في كافة أرجاء المعمورة، وفي كل شبرٍ قريب كان أو بعيدٍ من أنشطة الإنسان وأعماله التنموية.

وهذه التحذيرات المخيفة صُنِّفت إلى عدة قضايا رئيسة على المجتمع البشري مواجهتها فوراً بشكلٍ جماعي مشترك قبل فوات الأوان، وقبل أن ينزل علينا الكَرب العظيم الذي يُسقط ضحايا بشرية جماعية، وهذه القضايا أُقدمها لكم، وأُبين في الوقت نفسه علاقتها المباشرة بوضعنا وحالنا في البحرين.

أولاً: انخفاض حجم مياه الشرب العَذب الفُرات المتوافرة لكل إنسان يعيش على وجه الأرض بنسبة 26%، وذلك نتيجة للاستنزاف المفرط للمياه الجوفية وغيرها من المياه العذب الزُلال من جهة، وتدهور نوعية مصادر هذه المياه، سواء أكانت مياه جوفية أو مياه الأنهار والبحيرات من جهة أخرى بسبب تلوثها من مصادر لا تعد ولا تحصى. وهذا الوضع المائي المتدهور كمياً ونوعياً ينطبق علينا كلياً، فقد انتهت ونضبت وانقرضت مئات العيون العذبة في البر والبحر، فلا نرى اليوم إلا آثارها الباقية التي تحكي ظلم الإنسان تجاه عناصر بيئته والتعدي على حرماتها، فالمياه الجوفية تحولت إلى ملحٍ أجاج غير سائغٍ للشاربين، بحيث إننا نضطر إلى تحليتها لتكون صالحة للشرب.

ثانياً:  ازدياد أعداد المناطق "الميتة" في البحار والمحيطات بنسبة 75% بسبب التلوث ونقص مستوى الأكسجين في الماء، وأكبر منطقة بحرية ميتة من ناحية المساحة موجودة الآن في خليج المكسيك، حيث بلغت مساحتها زهاء 14 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 14 مرة. وهناك اليوم قرابة 405 مواقع بحرية ميتة في مختلف دول العالم وتحولت إلى صحراء جرداء قاحلة لا حياة فيها ولا روح لها. وفي البحرين تدهورت صحة البحر والكائنات الفطرية التي تعيش فيها نتيجة لأعمال الحفر والدفن البحري وصرف المخلفات السائلة والصيد الجائر، بحيث إن سعر الأسماك المستخرجة من بحارنا يفوق الآن بكثير أسعار الكائنات الحية المستوردة من لحوم ودجاج.

ثالثاً: تدمير الملايين من الكيلومترات المربعة من الغابات الكثيفة والبيئات الأخرى المزدهرة بالتنوع الحيوي والقضاء عليها كلياً أو تحويلها إلى أراضي زراعية، مما أدى إلى انخفاضٍ شديد في أعداد الكائنات الفطرية الحيوانية وتدهور حاد في التنوع الحيوي بلغ 29%، وما حدث في البحرين من إفسادٍ تام لغابات النخيل والبساتين التقليدية العريقة، إضافة إلى تدمير وانكماش مساحة البيئات البرية الصحراوية، يُعد مثالاً حياً نشهده أمامنا لهذه الحالة الدولية المأساوية.

رابعاً: ارتفاع تركيز الغازات المسؤولة عن رفع درجة حرارة الأرض هذا العام، وبخاصة ثاني أكسيد الكربون، فنسبة انبعاثات هذه الغازات ارتفعت نحو 2%،حسب تقرير "مشروع الكربون الدولي" المنشور في 14 نوفمبر من العام الجاري.

خامساً: زيادة عدد سكان الأرض بأكثر من 35% مما يشكل عبئاً كبيراً غير مدروس على الموارد والثروات الطبيعية المنهكة حالياً بسبب أنشطة الإنسان الجائرة، وفي البحرين حسب أحدث الإحصاءات الصادرة من هيئة المعلومات والحكومة الإلكترونية، بلغ عدد السكان مليوناً و 501 ألف نسمة، ويُعد هذا رقماً مرتفعاً جداً مقارنة بمساحة البحرين المحدودة والصغيرة، كما يشكل هذا الارتفاع غير المسبوق لعدد السكان ضغطاً شديداً على الموارد الثروات الطبيعية الفطرية الشحيحة الموجودة على أرض الوطن.

ولذلك فمن المفروض أن هذا الخطاب الذي وقَّعه كبار العلماء في مختلف دول العالم أن يكون جرس إنذارٍ قوي، يوقظ رجال السياسة والقانون في كل دول العالم بدون استثناء، ويدعوهم إلى تبني الإجراءات الحاسمة والعاجلة لإنقاذ كوكبنا الذي يحتضر الآن في غرفة الإنعاش.

الأربعاء، 22 نوفمبر 2017

ذَهَبْ في مياه المجاري!


هل سمعتُم أو قرأتم عن وجود الذَهَبْ في مياه المجاري الملوثة وفي مخلفاتها الصلبة وشبه الصلبة القذرة؟

 

وهل يمكن لأغلى عنصر يَستثمر فيه كبار التجار ولا تستطيع النساء الاستغناء عنه أن يكون موجوداً في أقذر مكان على وجه الأرض ومع المياه الآسنة النتنة ذات الروائح الكريهة والمنفِّرة التي يبتعد عنها جميع الناس، وتسعى الدول جاهدة في التخلص منها وتصرف الملايين على معالجتها؟

 

نعم هذا صحيح، فالذهب موجود في مياه المجاري وفي الحمأة أو المخلفات شبه الصلبة التي تنتج عن عملية معالجة هذه المياه! وهذا ما اكتشفه علماء سويسرا الذين يعملون في المعهد السويسري الاتحادي لعلوم وتقنية المياه، وكَتَبتْ عنه وكالة بلومبيرج المختصة أساساً بالأخبار والتحليلات الاقتصادية في 11 أكتوبر من العام الجاري.

 

فقد أَجْرى هؤلاء العلماء تحليلاً شاملاً على مياه المجاري ومخلفاتها الصلبة التي تنتج عن عملية المعالجة في 64 محطة لمعالجة مياه المجاري على مستوى سويسرا كلها للتعرف على تركيز المعادن فيها، وبخاصة المعادن الثمينة التي لها قيمة عالية في السوق كالذهب والفضة والتيتينيوم، واكتشفوا أمراً عجباً لم يتوقعوه أبداً، فقد أكدوا على وجود الذهب والفضة والعناصر الأخرى الثمينة في حمأة مياه المجاري بتراكيز ومستويات عالية جداً تستحق أن تُستخلص من هذه المخلفات العفنة ويُعاد تدويرها وصناعتها وتُعد جدواها الاقتصادية مرتفعة جداً، حيث قدَّروا كمية الذهب سنوياً بنحو 43 كيلوجراماً وقيمتها السوقية قرابة 1.8 مليون دولار أمريكي، كما بلغت كمية الفضة زهاء 3000 كيلوجرام تُقدر قيمتها في السوق بنحو 1.7 مليون دولار أمريكي.

 

إن هذا الاكتشاف المثير يؤكد لنا بأن المخلفات بشكلٍ عام، سواء أكانت غازية أم أم سائلة أم صلبة وشبه صلبة الناتجة عن منازلنا ومصانعنا ليست عديمة القيمة والجدوى الاقتصادية، فنعمل دون تفكير أو تحليل إلى التخلص منها مباشرة كما هي عليها، فهي في الواقع قد تكون مواد خام نُقيم عليها العشرات من المصانع المثمرة التي تشغل الناس في دولنا فتُسهم في حل مشكلة البطالة. فهناك الكثير من المخلفات التي تنتج من أحد المصانع فتُستخدم مباشرة وتُنقل إلى مصنعٍ آخر يقوم على هذه المخلفات، مثل نفايات الكبريت الناتجة من محطات تكرير النفط أو الغاز الطبيعي والتي تنقل إلى مصانع إنتاج حمض الكبريتيك أو غيرها من المصانع التي تستخدم الكبريت كمادة أولية. كذلك هناك مئات المصانع التي تشتغل باستخدام كل عنصر من عناصر القمامة التي تنتج من منازلنا، فتقوم بإعادة استعمالها أو تدويرها، كالورق، والبلاستيك، والألمنيوم، والجزء العضوي من القمامة، والحديد، والمخلفات الإلكترونية.

 

فالمخلفات كما يعرفها الصينيون هي مواد خام لا نعلم كيف نستغلها ونستفيد منها في بعض الأوقات، ففي كل يوم يكتشف العلماء مخرجاً مفيداً واستخداماً نافعاً لهذه المخلفات.

الأحد، 19 نوفمبر 2017

ثقافة التحايل عند الشركات الكبرى


في كل يوم من حياتي أزداد علماً وخبرة، وفي كل يوم أزداد قناعة بأن الشركات الكبرى والشركات العملاقة متعددة الجنسيات لا يهمها رفاهية البشر وأمنهم الصحي وسلامتهم الجسدية أو سلامة وأمن البيئة التي نعيش عليها جميعاً، فالبوصلة التي يضعونها أمامهم تؤشر على اتجاه واحد فقط وهي النمو الكبير، والربح السريع، وجني المال الوفير على حساب كل شيء آخر، مهما كان، فتحقيق هذه الغاية تبرر القيام بأية وسيلة مهما كانت، شرعية أم غير شرعية، عن طرق الحلال أم طرق الحرام.

 

وفي كل يوم أزداد يقيناً وقناعة بأن أسلوب التحايل والخداع والكذب لا يجدي كثيراً، ولا يدوم طويلاً، مهما ابتدعوا من وسائل شيطانية أو تستروا وأخفوا كذبهم، وأحاطوا عليها كومة ثقيلة من السرية والكتمان، فسرعان ما تنكشف الحقائق، وتنجلي الأسرار، وتنفجر الفضائح في وجوههم.

 

وهذه القناعة مبنية على ما أراه أمامي وأشاهده كل يوم من أمثلة واضحة وضوح الشمس على تجذر ثقافة الكذب، وتعمق سلوكيات التحايل وتغلغلها في عروق هذه الشركات عامة.

 

فاليوم أقف أمام مشهدٍ جديدٍ متجدد، يجسد واقعياً قناعتي ويقيني، ففي 26 أكتوبر من العام الجاري قامت السلطات الاتحادية المعنية بالجرائم على المستوى القومي باعتقال ملياردير أمريكي من ولاية أريزونا، كان يُعد قبل اعتقاله من أغنى رجال الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إنه ظهر على صفحة الغلاف لمجلة فوربز(Forbes) المشهورة كأغنى رجال أمريكا وكان ترتيبه السادس في عام 2016. هذا الرجل الذي أودع في السجن الآن اسمه جون كابور(John Kapoor) ومؤسس ومالك لواحدة من أكبر وأنجح شركات صناعة الأدوية على المستوى الدولي(Insys Therapeutics Inc.).

 

فماذا فعل هذا الوجيه المرموق حتى يُعتقل؟ وما هو حجم الذنب الذي ارتكبه والإثم الذي قام به حتى يزج برجلٍ على هذا المستوى في غياهب السجون؟

 

لقد لخص القائم بأعمال النائب العام الأمريكي الأعمال اللاأخلاقية والإجرامية التي قام بها في قائمة الاتهامات الصادرة بحقه في البيان المنشور لوسائل الإعلام في 26 أكتوبر من العام الجاري، حيث قال: "السيد كابور وشركته مُتهمون بتقديم الرشاوى للأطباء، والإفراط في وصف دواء الأفيون الشديد القوة والفاعلية، وتضليل شركات التأمين فقط من أجل الربح".كما جاء في بيان وزارة العدل أن كابور كان "يدير مؤامرة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الربح من خلال تقديم الرشاوى والتحايل للتوزيع غير القانوني لبخاخ الفينتانيل المستخدم لمرضى السرطان".

 

فقد كان هذا التاجر الجشع وزمرته من التنفيذيين الذين يعملون في الشركة والأطباء المتعاونين معه يُسوقون بطرقٍ غير شرعية لدواءٍ يشبه الأفيون ومخصص فقط لتخفيف آلام مرضى السرطان الشديدة والمعروف ببخاخ الفينتانيل(fentanyl) من خلال إنشاء شبكةٍ سريةٍ من الأطباء والصيدليات وتقديم الرشاوى لهم لوصف هذا الدواء المخدر المدمن لأي مريضٍ يشكو من أي نوعٍ من الألم، وتوزيع هذا الدواء المدمن الخطير على أكبر شريحة من الأمريكيين، إضافة إلى تضليل شركات التأمين والتحايل عليهم وتزويدهم بمعلومات خاطئة تجبرهم على تعويض المرضى عن هذه الأدوية، وبذلك فهم كلهم شاركوا في تنفيذ مؤامرة عصيبة واسعة النطاق على الشعب الأمريكي برمته، فحولوه إلى شعبٍ مدمن على هذه الأدوية المخدرة التي تشبه الأفيون، حتى تحول مع الوقت إلى وباءٍ خطير، وآفة مزمنة هددت حياة الملايين من الأمريكيين وقتلت عشرات الآلاف منهم سنوياً إلى درجةٍ لم يشهدها التاريخ الأمريكي من قبل، مما اضطر ترمب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية في 26 أكتوبر بسبب الإدمان على المخدرات عامة والأفيون بشكلٍ خاص.

 

فهذه الإمبراطورية الشامخة التي أسسها رجل الأعمال الأمريكي على ثقافة الكذب والتحايل والتضليل وكسب المال السريع بكل وسيلة من أعلى الهرم إلى أسفله، سُرعان ما انهارت كلياً، وتحطمت إلى أشلاء، وسقطت على الأرض مشلولة لا حركة لها، فقد خسر هذا الرجل ومن معه ماله، وسمعته، وحياته، فقد يُمضي ما تبقى من عمره خلف القضبان وحيداً لا يترحم عليه أحد، ولا يسأل عنه أحد، منبوذاً من الجميع ومن المجتمع برمته.

 

 فهل هناك نتيجة للكذب والتحايل أشد وطأة وتنكيلاً بالإنسان وتجارته وسمعته من هذه الخاتمة السيئة في الدنيا قبل ويلات الآخرة؟ 

 

الأربعاء، 15 نوفمبر 2017

سياسة خليجية مستدامة في أمن الطاقة


يُسعدني كثيراً ولوج دول الخليج في البوابة المحظورة والمحرمة على الدول النامية والضعيفة التي لا حول لها ولا قوة في ميزان القوى بين الدول الصناعية المتقدمة العظمى، وهي بوابة التقنية النووية عامة، والتقنية النووية الذرية في مجال الطاقة وتوليد الكهرباء بصفةٍ خاصة. هذه التقنية التي تعتبرها الآن الدول الصناعية المتقدمة حِكراً عليها، وخطاً أحمر تمنع أية دولة نامية من تجاوزها وتخطيها، بل وأنشأت في الأمم المتحدة منظمة خاصة أُطلق عليها الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعمل كشرطي ورجل أمن يراقب عن كثب ويحظر فقط على الدول النامية امتلاكها، وبخاصة بالنسبة للطاقة النووية في مجال الاستخدامات العسكرية.

 

فقد أعلن رئيس مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الوزاري الدولي للطاقة النووية في القرن الـ 21 والذي عقد في أبوظبي في الأول من نوفمبر من العام الجاري وقامت بتنظيمه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بأن المملكة العربية السعودية انطلاقاً من رؤيتها 2030 للتخطيط الاستراتيجي وضمن المشروع الوطني للطاقة الذرية ستبني مفاعلين نوويين بحلول نهاية عام 2018، وسيكون هذا الخطوة الأولى في برنامج المملكة في الطاقة والنووية، ثم تلحقها الخطوة الثانية وهي استخراج وتخصيب خام اليورانيوم وتنقيته بنسبة 5% من أجل إنتاج الوقود النووي محلياً.

 

ومن قبل أكدت دولة الإمارات العربية المتحدة بأنها ستبني أربعة مفاعلات نووية لتوليد الطاقة الكهربائية ضمن الخطة الاستراتيجية الوطنية للطاقة 2050 التي تهدف إلى زيادة استخدام مصادر الطاقة الصديقة للبيئة بنسبة 50% بحلول عام 2050، علماً بأن أول مفاعل نووي سيبدأ تشغيله بحلول عام 2018.

 

وهذا التوجه السليم والمستدام نحو التقنية النووية يصب ضمن سياسات دول الخليج في مجال أمن الطاقة، والتي تعتمد على عدة أسس وقواعد استراتيجية. أمام الأساس الأول والأهم فهو التنوع في مصادر إنتاج الطاقة الكهربائية وعدم الاعتماد كلياً على مصدر وحيد، كما كان عليه الحال لأكثر من قرابة 80 عاماً، حيث كان النفط والغاز الطبيعي، أي الوقود الأحفوري الناضب غير المتجدد وغير الصديق للبيئة هو المصدر الوحيد لتوليد الكهرباء. ولذلك مع نضوب النفط رويداً رويداً، وانخفاض أسعاره بمستويات متدنية جداً، إضافة إلى الضغوط البيئية الدولية، وعلى رأسها الاتفاقيات المتعلقة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض وبالتحديد اتفاقية باريس، كان لا بد من إيجاد البدائل التي تواكب المتغيرات على الساحة البيئية الدولية فتَكُون مصادر متجددة وغير ناضبة لإنتاج الكهرباء من جهة، ولا تنبعث عنها السموم والملوثات التي تؤدي إلى التغير المناخي وتلويث الهواء الجوي من جهةٍ أخرى. فمن ضمن هذا التنوع في مصادر الطاقة هو الطاقة النووية، إضافة إلى الطاقة الشمسية، حيث أعلنت البحرين على إنشاء محطة للطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء بقدرة إنتاجية تبلغ 100 ميجاوات، كما قامت إمارة دبي بإنشاء واحد من أكبر المجمعات في العالم للطاقة الشمسية وهو متنزه محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية، كذلك أعلنت شركة مصدر في أبوظبي للطاقة النظيفة والمتجددة بأنها ستبني محطة شمسية لتوليد الطاقة بقوة 800 ميجاوات، على أن يتم توسعتها لتصل إلى 5000 ميجاوات بحلول عام 2030.

 

وفي الحقيقة فإنني هنا أريد أن أوجه أنظار دولنا نحو التقنية النووية بشكلٍ خاص، فهي ذات أبعادٍ أمنية خطيرة، إضافة إلى البعد المتعلق بتنويع مصادر الطاقة، فموازين القوى على المستوى الإقليمي والدولي تُحسب على القوة النووية التي تمتلكها الدول، فهي العامل الفصل الذي يرهب الأعداء ويبعدهم عن التحرش بنا أو ابتزازنا أو التفكير في الاعتداء علينا، فعلينا من هذا المنطلق التوغل بعمق في كافة التفاصيل المرتبطة بهذه التقنية والتعرف عليها عن كثب، وإعداد الكوادر الوطنية المخلصة والمؤهلة والقادرة فنياً وعلمياً على تشغيل، وصيانة، وتطوير هذه التقنية في مجالاتٍ متعددة حتى لا نعتمد على الغرب أو الشرق مستقبلاً ونتمتع بالاكتفاء الذاتي في توليد الطاقة، إضافة إلى القدرة على إرهاب أعدائنا، كما قال ربُنا: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون...".

 

كما إنني أريد أن أُحذر إلى قضية مهمةٍ جداً كتبتُ عنها مراتٍ عديدة وهي متعلقة بالمخلفات النووية التي تنتج عن استخدام الطاقة الذرية، فهي تُعد من أصعب وأكثر المشكلات البيئية والصحية تعقيداً على كافة المستويات، وأشدها تنكيلاً وتهديداً لصحة البيئة والناس، فدول الغرب والشرق العريقة في استخدام التقنية النووية منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، مازالت في حيرةٍ شديدة من أمرها بشأن مخلفات وقنابل الدمار الشامل النووية المشعة التي نجمت عن الاستعمال المدني السلمي والعسكري لهذه التقنية، فهي مخزنة على أراضيها وتحت أراضيها ولا تعرف حتى الآن كيف تتعامل معها، فهل نحن أعددنا الخطة المتعلقة بإدارة هذه المخلفات بطرق بيئية وصحية مستدامة؟