الثلاثاء، 20 فبراير 2018

هل الهاتف النقال يسبب السرطان؟


دراسة علمية جامعة وشاملة كُنت أنتظرها منذ زمن طويل بفارغ الصبر والترقب الشديد، وبالتحديد أنتظر هذه الدراسة الفريدة من نوعها منذ أكثر من عشر سنوات!


 


فهذه الدراسة التي نُشرت في الثاني من فبراير من العام الحالي ليست كباقي الدراسات والأبحاث التي اطلعتُ عليها من قبل، فهي تخص كل إنسان يعيش على وجه الأرض، وفي كل دول العالم الفقيرة منها والغنية، النامية والمتقدمة، وهي دراسة تهم الجميع الصغار والأطفال والكبار على حدٍ سواء، كما تخص الشباب والشيوخ معاً، فالجميع معني بنتائج هذه الدراسة الهامة ولما يتمخض عنها من استنتاجات.


 


فقد استغرق انجاز هذه الدراسة أكثر من عشر سنوات، وكانت كُلفتها رقماً خيالياً قياسياً غير مسبوق، حيث بلغت الفاتورة الإجمالية 25 مليون دولار أمريكي، وقام بها المعهد الوطني الأمريكي للصحة ممثلاً في البرنامج الوطني لعلم السموم، وبتكليف وتمويل من إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأمريكية.


 


فقد تم تقسيم هذه الدراسة الكبيرة إلى بحثين رئيسين يهدفان إلى التعرف على الأضرار الصحية، وبخاصة الإصابة بمرض السرطان،والتي قد تنجم عند التعرض لسنواتٍ طويلة للإشعاعات التي تنبعث من الهاتف النقال، حيث أُجريت التجارب المخبرية الميدانية على3000 من بعض الأنواع من القوارض، وبالتحديد الفئران والجُرْذان، وتم تعريض هذه القوارض لمدة سنتين، ولتسع ساعات يومياً لهذه الإشعاعات، وتراوحت مستويات الإشعاع من 1.5 وات لكل كيلوجرام إلى 10 وات للكيلوجرام، وبترددات900 ميجاهرتز من الجيلين الثاني والثالث، علماً بأن هذه الظروف المخبرية تشابه إلى حدٍ كبير الظروف التي يتعرض لها الإنسان عند استعماله للهاتف النقال كل يوم.


 


ومن أهم النتائج التي تمخضت عن الدراسة هي أن ذكور الجرذان(rat) ظهرت فيها أورام في الأنسجة والخلايا المحيطة بالأعصاب بالقرب من القلب، ويُطلق على هذا الورم السرطاني(schwannomas)، في حين أن إناث الجرذان لم تنكشف عليهن هذه الأورام، كما أن ذكور وإناث الفئران(mice)لم تظهر عليها أية إصابات بأمراض السرطان كلياً. وأما من ناحية الأمراض والأعراض الأخرى غير السرطانية، فقد أفاد الباحثون إلى النتائج أشارت إلى انخفاض وزن المواليد، إضافة إلى حدوث تلف ل.لـ دي إن أيه(DNA) للجرذان.


 


فالخلاصة إذن من هذه الدراسة أن احتمال السقوط في شباك السرطان نتيجة لاستخدام الهاتف النقال ضئيل جداً، ونشرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية التي دعمت هذا البحث بياناً رسمياً انطلاقاً من الاستنتاجات التي تمخضت عن الدراسة جاء فيه أنه حتى يومنا هذا "لا توجد أدلة كافية بأن هناك تأثيرات صحية ضارة على الإنسان ناجمة عن التعرض للأشعة الصادرة من الهاتف النقال".


 


وبالرغم من هذه الاستنتاجات الواضحة والمبنية على تجارب مخبرية حية ولسنوات طويلة، إلا أنني ومن خبرتي مع المنتجات الحديثة التي تُسوق إلينا ونستخدمها كل يوم، علينا تبني الحكمة الطبية القائلة "الوقاية خير من العلاج" والمثل الشعبي المعروف "إللي يزيد عن حدِّه ينْقلب ضده". أي أننا يجب أن نستعمل هذه المنتجات الجديدة، أو الهاتف النقال في هذه الحالة، بقدرٍ واعتدال ووسطية ونتجنب الإسراف والتطرف في استخدامه، إضافة إلى أننا يجب أن نتبع التحذيرات التالية التي تقينا من شر التعرض لفترة طويلة وجرعات عالية من الإشعاعات التي تنطلق من الهاتف النقال، كما يلي:


أولاً: تجنب إعطاء الهاتف النقال للأطفال وهم في سنٍ مبكرة وصغيرة لكي نقلل من الفترة العمرية التي يتعرضون فيها للإشعاع.


ثانياً: عدم التحدث طويلاً عند استخدام الهاتف النقال والتوجه نحو استخدام "النصوص الكتابية" كلما أمكن ذلك.


ثالثاً: استخدام السماعات أو "الإسْبيكر"، كلما أمكن ذلك، وإبعاد الهاتف عن الرأس.


رابعاً: عدم وضع الهاتف بالقرب منك عند النوم.


 


ولكن الطامة الكبرى التي تخرج عن إرادتنا وسيطرتنا أننا لا نتعرض في كل دقيقة من حياتنا للإشعاعات الصادرة من الهاتف النقال فحسب، وإنما نحن نعيش في بحر لجي متلاطم الأمواج من الإشعاعات غير المرئية المؤينة وغير المؤينة التي تنطلق من مصادر كثيرة ومختلفة لا تُعد ولا تحصى، منها ما نعلم عنها كالإشعاعات الصادرة من الراديو والتلفزيون والميكروويف وأجهزة الحاسب الآلي وأبراج الاتصالات وأسلاك الكهرباء في المنزل وخارج المنزل والأجهزة الطبية، ومنها ما لا نعلم عنها وهي موجودة بيننا وحولنا لأغراض أمنية وعسكرية واتصالاتية وغيرها، فالمشكلة إذن ليست في التعرض لإشعاعات الهاتف النقال فقط التي يمكن التحكم فيها، وإنما في التعرض المجموعي والتراكمي لكل هذه الإشعاعات في كل ثانية من حياتنا دون أن ندري أو أن نحس بوجودها معنا.


 

الاثنين، 19 فبراير 2018

هل سيجارة واحدة تؤدي بي إلى الهلاك؟


هناك تهاون شديد وملحوظ عند التعامل مع التدخين بكل أنواعه التقليدي القديم كالسيجارة أو الشيشة، والتدخين الحديث كالسجائر الإلكترونية وغيرها من الأنواع التي ستظهر قريباً في الأسواق. وهذا التهاون وعدم الجدية ليس على مستوى الأفراد فحسب وإنما على مستوى الدولة، وبالتحديد وزارة الصحة والجهات الأخرى المعنية بهذا الوباء القاتل والآفة المدمرة للبيئة والصحة معاً.

 

فلا يوجد منتج صنعه الإنسان حتى الآن ويوجد عليه إجماع دولي على مستوى الحكومات، والأجهزة والجمعيات غير الحكومية، ومنظمات الأمم المتحدة بأنه سم قاتل ومهلك للبدن والصحة كالتدخين. فقد توحدت دول العالم قاطبة على أن التدخين يسبب أكثر من 11 نوعاً من السرطان وفي مقدمتها سرطان الرئة والحنجرة والفم، كما أنه ينقل المدخن ومن يجلس معه إلى مثواهم الأخير وهم في ريعان شبابهم وفي سنٍ مبكرة. بل والأدهى من ذلك والأكثر وضوحاً لما يلحقه التدخين بالبشر هو اعتراف شركات التبغ نفسها التي تصنع السجائر وتسوقها للناس بأن التدخين "قاتل"، فشركات التدخين بدأت مؤخراً بتدشين إعلانات في جميع وسائل الإعلام الأمريكية تؤكد بأن التدخين "قاتل"!

 

وبالرغم من هذه الإجماع إلا أن مواقفنا في البحرين وفي الكثير من دول العالم لم تكن بحجم هذا الإجماع الدولي، ولم ترق إلى مواكبة الأضرار الجسيمة التي تنجم عن التدخين، فمازال التدخين منتشراً بدرجة مشهودة، ومازالت محلات الشيشة مزدهرة وتزيد يوماً بعد يوم بطرق شرعية وغير شرعية. 

 

وبالرغم من هذا الإجماع ووضوح الرؤية حول هلاك التدخين للإنسان، إلا أن الدراسات لا تتوقف والأبحاث العلمية تُنشر يومياً على المستوى الدولي لتؤكد على أن التدخين شر كله ويجب بتره جذرياً من المجتمعات البشرية، فسيجارة واحدة فقط تكفى لتُسقط الإنسان صريعاً يعاني من المرض.

 

فعلى سبيل المثال، نَشرت مجلة بريطانية مرموقة هي المجلة الطبية البريطانية في 24 يناير من العام الجاري بحثاً حول العلاقة بين تدخين سجائر معدودة يومياً ومخاطر التعرض للأسقام المتعلقة بالقلب والموت البكر، حيث أجرت الدراسة تحليلاً شاملاً وتقييماً دقيقاً لـ 141 بحثاً منشوراً حول مخاطر التدخين على القلب في الفترة من 1946 إلى 2015،وتوصلت إلى نتيجة خطيرة جداً  وهي أن تدخين سيجارة واحدة فقط يومياً تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب بنسبة 74% للرجال، ونسبة 119% للنساء، وخلصت الدراسة إلى أنه لا يوجد حد آمن وسالم للتدخين، وبالتالي فالعلاج الجذري والفاعل لتجنب السقوط في أمراض التدخين هو التوقف كلياً عن التدخين والابتعاد عنه بعد المشرق عن المغرب.

 

ولا أدري حقيقة لماذا تُصر دولنا على بيع وتسويق مُنتج "قاتل"، مفسدٍ للبيئة، ومدمرٍ للصحة العامة ومهلكٍ لشبابنا؟

الجمعة، 16 فبراير 2018

البلاستيك يقفز في سُلمْ أولويات الدول



المخلفات البلاستيكية فرضت نفسها بقوة على جدول أعمال الحكومات في الكثير دول العالم، فصعدت مع الوقت رويداً رويدا حتى بلغت الآن أعلى سلم أولويات هذه الحكومات وفي مقدمة قائمة البرامج العاجلة للتنفيذ الفوري، ولم يكن هذا ليحدث مع زحمة جدول أعمال الدول وكثرة القضايا الحيوية الجوهرية للدول لولا أن هذه القضية تحولت إلى همٍ شعبي عام وتهديدٍ للصحة العامة للبشر، وشأنٍ حكومي خطير لا يمكن تجاهله، أو تهميشه وتأجيله إلى أجلٍ غير مسمى ووضعه في أرشيف المواضيع المستقبلية.

ففي بريطانيا، على سبيل المثال، أعلنت تِيريزا مَاي رئيسة الوزراء في العاشر من يناير من العام الجاري عن خطة الحكومة البيئية للـ 25 سنة القادمة، حيث تعهدت بأن الحكومة البريطانية ستتخلص بشكلٍ جذري ونهائي من معظم المخلفات البلاستيكية بحلول عام 2024، وحددت الخطة الحكومية هذه المخلفات بأكياس البلاستيك بمختلف أنواعها، وأعواد البلاستيك، والمواد البلاستيكية المستخدمة في تغليف وتغطية المواد الغذائية، وبرَّرت رئيسة الوزراء هذا القرار الحازم والحاسم ضد البلاستيك قائلة: "نحن ننظر إلى الوراء بشيء من الخوف والفزع على التدمير الذي ألحقناه في الماضي إلى بيئتنا".

وعلاوة على هذا وتأكيداً لخطورة المخلفات البلاستيكية وتهديدها المحتوم لصحة الإنسان والحياة الفطرية البحرية والبرية، فقد بدأ في التاسع من يناير من العام الحالي تنفيذ القانون البريطاني المتعلق بمنع نوعٍ خطير من المواد البلاستيكية المجهرية المتناهية في الصغر والتي قد لا تُرى بالعين المجردة ويُطلق عليها "الميكُروبِيدْز"(microbeads)، أو الخَرَز والحبيبات المجهرية، في كافة المنتجات الاستهلاكية كمعجون الأسنان، وكريمات الوجه والجسم واليد، والعلكة، ومنتجات التنظيف المنزلية والصناعية. وجدير بالذكر فإن الولايات المتحدة الأمريكية سَبَقتْ بريطانيا في حظر استعمال الميكروبيدز أو الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في منتجات الجمال والصحة الاستهلاكية التي تستخدم بشكلٍ يومي حسب قانون "المياه الخالية من الميكروبيدز" لعام 2015، كما قامت كندا ونيوزلندا ودول أخرى بإصدار تشريعٍ مشابه للقانون البريطاني والأمريكي.

وكل هذه التشريعات في دول العالم جاءت استجابة لنداءات وتحذيرات العلماء ورفعهم للعلم الأحمر منذ عقودٍ من الزمن حول التهديدات العصيبة والمخيفة التي تُشكلها المخلفات البلاستيكية الصغيرة منها والكبيرة على البيئة بشكلٍ عام وعلى صحة البشرية بشكلٍ خاص. وهذه التحذيرات المدوية لم تأت من فراغ، أو من تنبؤات واستشراف المستقبل، وإنما هي وليدة استنتاجات الدراسات الميدانية الواسعة والشاملة التي أُجريت خلال السنوات الماضية، ومبنية على المشاهدات الواقعية للمخلفات البلاستيكية في البحار والبراري وفي كل شبرٍ صغيرٍ كان أم كبير، وفي كل بقعة قريبة أو نائية بعيدة كل البعد عن أي نشاط إنساني، فالمخلفات البلاستيكية دخلت وجثمت الآن في كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وانتقلت مع الوقت إلى أجسامنا وتراكمت في أعضاء أبداننا من حيث ندري أو لا ندري.

ودعوني أضرب لكم بعض الأمثلة الواقعية لأثبت بالدليل المادي المحسوس والقاطع بأن المخلفات البلاستيكية فعلاً نراها في كل مكان، ولو كُنا في بروجٍ مشيدة في أعالي السماء، أي لا توجد بقعة على وجه الأرض في البر أو البحر بمنأى عن التلوث البلاستيكي. فقد أكدت دراسة قام بها المعهد النرويجي لأبحاث المياه ونشرت 27 ديسمبر 2017 أن المخلفات البلاستيكية الدقيقة أو الميكروبيدز موجودة في القواقع البحرية الزرقاء في بحار ومحيطات دول العالم سواء في المواقع البحرية العذراء البعيدة والنائية كبحار القطبين الشمالي والجنوبية أو البيئات البحرية الواقعة على المدن الرئيسة، ووجود هذه المخلفات في القواقع يعد أحد المؤشرات القوية على تلوث البحر بالبلاستيك وانتقال البلاستيك في السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي بالإنسان. كذلك اكتشفت إحدى الدراسات المنشورة في 16 نوفمبر 2016 اكتشافاً غريباً تقشعر لها جلود الأبدان حيث وجدت مخلفات بلاستيكية في أمعاء القشريات التي تعيش في أعماق  المحيطات السحيقة وفي الظلام الدامس الحالك والماء البارد حيث تنعدم الرؤية ولم تصل إليها أيدي البشر، وبالتحديد في أعمق بقعة بحرية على وجه الأرض وهي أخدود أو خندق ماريانا(Mariana Trench) المعروف في المحيط الهادئ،وعلى بعد أكثر من عشرة آلاف متر، أو عشرة كيلومترات تحت سطح البحر.

فالمخلفات البلاستيكية إذن موجودة في كل مكانٍ في كوكبنا، وجميع الدول مسؤولة عن هذا التلوث البلاستيكي، والجميع معني بالمساهمة في علاج هذه الكارثة البيئية الصحية العصيبة، وواجبنا في البحرين تحمل مسؤولياتنا مع المجتمع الدولي، والعمل على اتخاذ خطوات محددة للمساهمة في الحل ومواكبة المستجدات والمتغيرات في مجال التعامل مع المخلفات البلاستيكية. فعلى سبيل المثال، علينا توجيه الجهات المختصة إلى منع استيراد المنتجات التي تحتوي على "الميكروبيدز"، والتفكير في إصدار تشريعات تهدف إلى خفض إنتاج المخلفات البلاستيكية من مصادرها المختلفة من جهة، والعمل على إعادة استعمالها وتدويرها من جهةٍ أخرى.

السبت، 10 فبراير 2018

الكُلفة المالية للازدحام في البحرين


مازلتُ أتذكر في عام 2002 عندما كُنت ممتحناً خارجياً لإحدى رسائل الماجستير في جامعة الخليج العربي تحت عنوان: "التكاليف والآثار غير المنظورة لتزايد أعداد السيارات في دولة البحرين"، حيث حاول فيها الباحث تقديم البعد الاقتصادي الناجم عن ارتفاع أعداد السيارات في شوارعنا والازدحام المروري المصاحب لهذه الزيادة، كما قام الباحث ولأول مرة في تحديد مبلغٍ مالي نقدي محسوس لهذه الاختناقات المرورية الخانقة التي نشهدها يومياً في كل شوارع البحرين وفي كل المناطق بدون استثناء وفي كل الأوقات من النهار أو الليل، والتي تزيد حدتها ودرجتها يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة.

 

وقد توصلت هذه الدراسة الفريدة إلى العديد من النتائج الهامة التي يجب أن نضعها أمام أعيننا ونستفيد منها عند التخطيط المستقبلي للشوارع وعند وضع استراتيجيات مستقبل السيارات بشكلٍ عام في البحرين. وهذه النتائج تصب في مهمات وعمل واختصاصات عدة جهات حكومية منها وزارة المالية، ووزارة المواصلات، ووزارة الصحة، وهيئة النفط والغاز، وجهاز البيئة.

 

ومن هذه النتائج أن عدد ساعات الوقت الضائع التي تنشل فيها الحركة المرورية، أو تتكرر وقوفها مرات عدة بسبب الاكتظاظ الشديد أو الإشارات الضوئية، تبلغ كلفتها المالية النقدية على المجتمع البحريني حوالي 6 ملايين دينار لعام 2000، وتتوقع الدراسة أن هذه الخسائر المالية التي نتكبدها جميعاً وتمثل عبئاً غير مباشر على ميزانية الدولة، سترتفع بشكلٍ تصاعدي كبير نتيجة للزيادة المطردة التصاعدية في أعداد السيارات خلال السنوات القادمة، حيث تقدر هذه الخسائر النقدية بأكثر من 31 مليون دينار، علماً بأن هذه التقديرات تمثل التوقعات المنخفضة جداً للتبعات المالية الناجمة عن الازدحام المروري غير المعقول.

 

فلو رجعنا إلى آخر الإحصاءات الرسمية المنشورة من الجهات المختصة حول أنماط زيادة أعداد السيارات لوجدناها مخيفة ومُقلقة جداً مقارنة بمساحة البحرين المحدودة جداً وبعدد وطول الشوارع الموجودة حالياً في البحرين من جهة وبالتضخم السكاني والكثافة السكانية العالية من جهةٍ أخرى، حيث كان عدد السيارات المسجلة 545ألف سيارة عام 2015، وارتفع هذا العدد في عام 2016 إلى653 ألف، وحالياً وصل عدد المركبات إلى أكثر من700 ألف، في حين أن إنشاء الشوارع الجديدة، أو توسعة وتحديث وصيانة الشوارع القديمة أو إنشاء مواقف السيارات لم يواكب هذا النمو الكبير المتعاظم، ولم يلحق بهذا الارتفاع السنوي المشهود لأعداد المركبات.

 

فالنتيجة الطبيعية المتوقعة لهذا الحالة المرورية العصيبة هي الاكتظاظ المروري والزحمة غير المستدامة للسيارات، إلى درجة أَنَّك الآن في البحرين أينما تُولِّي وتذهب وتتحرك فثَم وجه السيارات والزحمة أمامك، فالزحمة عن يمينك وشمالك، ومن أمامك ومن خلفك، وليست في ساعات الذروة فحسب كما كان قبل سنوات، وإنما في كل الأوقات من الليل والنهار والصباح والمساء، والزحمة ليست في بعض الشوارع الرئيسة والحيوية وإنما في كل شوارع وطرقات البلاد.

 

فهذه المردودات المالية الإضافية المتزايدة الناجمة عن ازدياد المركبات والتي تُرهق كاهل الميزانية المريضة والعاجزة تنتج عن عدة عوامل يمكن تلخيصها في النقط التالية:

أولاً: شل الحركة المرورية يؤدي إلى تأخير الإنتاج والعطاء وإنجاز الأعمال وضياع الأوقات دون جدوى، ولهذا انعكاسات مالية كبيرة.

ثانياً: الازدحام المروري وتعطل الحركة المرورية يؤدي إلى استنزاف لا فائدة من للوقود في السيارات، أي هدر مصدر حيوي للطاقة، ولهذا أيضاً انعكاسات مالية ضخمة.

ثالثاً: الاكتظاظ المروري يرفع من درجة تلوث الهواء الجوي وتدهور جودته وصحته، مما ينعكس سلباً على الإنسان من حيث التعرض للأمراض المزمنة التي تصيب أعضاء الجسم وفي مقدمتها الجهاز التنفسي والقلب، ثم مع الوقت السقوط في شباك الموت المبكر، ولهذه مردودات مالية نقدية لا تُقدر بثمن.

 

وانطلاقاً من هذه المعلومات الخطيرة التي قدمتُها لكم، علينا أن لا ننظر إلى قضية الزيادة الكبيرة في أعداد المركبات والازدحام المروري المزعج الذي نعاني منه كل ساعة بأنها قضية مرورية بحتة، فهي قضية معقدة ذات أبعادٍ متشابكة ومتعددة، فهناك البعد المالي الاقتصادي، وهناك البعد الاجتماعي والسلوكي، وهناك البعد المتعلق بهدر الطاقة الناضبة، إضافة إلى البعد البيئي الصحي، ولذلك لا بد من هذه القضية أن تصعد في سُلم أولويات الحكومة وتحظى بالرعاية الكاملة والعاجلة.

الجمعة، 2 فبراير 2018

الطاقة المتجددة والنظيفة، خيارنا الاستراتيجي



سياساتنا الحالية، واستراتيجياتنا المستقبلية في مجال أمن الطاقة يجب أن تواكب المتغيرات الدولية وتلحق بآخر المستجدات في مجال تقنيات الطاقة بشكلٍ عام، كما يجب أن تتماشى وتلتزم باستحقاقات التشريعات والقوانين الدولية المتمثلة في الاتفاقيات الإقليمية متعددة الأطراف، أو المعاهدات الدولية التي ترعاها منظمات الأمم المتحدة، وعلى رأس هذه المعاهدات وفي مقدمتها الاتفاقيات المتعلقة بالتغير المناخي، كمعاهدة باريس الأخيرة.

فإستراتيجيتنا القصيرة والطويلة الأمد يجب أن تعتمد على عدة مبادئ رئيسة، فالأول هو التحول التدريجي مع الزمن في استخدام مصادر الطاقة الناضبة غير المتجددة وغير الصديقة للبيئة في محطات توليد الكهرباء وفي وسائل النقل المختلفة من حيث نسبة وحجم ونوعية الملوثات التي تنبعث منها، وقوة وشدة تدميرها للثروات والموارد الطبيعية ومكونات وعناصر البيئة المختلفة من الناحيتين النوعية والكمية. أي أننا يجب أن ننتقل ونتحول مع الزمن، على سبيل المثال وحسب ظروف كل دولة، من الفحم كوقود أحفوري غير متجدد وكمصدر شديد التلوث للبيئة ومهدد لنوعيتها وجودتها إلى مصدر آخر غير متجدد أيضاً للطاقة ولكنه أقل تلويثاً لمكونات بيئتنا وهو البترول ومشتقاته المتعددة المستخدمة في إنتاج الطاقة وكوقود محرك للمركبات، ثم كُلما أمكن التحول إلى مصدر آخر ناضب وغير متجدد أيضاً ولكنه في الوقت نفسه أقل فتكاً بثرواتنا البيئية الطبيعية، وأقل تدميراً لجودة الهواء والأنهار والبحار والبحيرات، وهو الغاز الطبيعي الذي يمكن استخدامه في محطات توليد الكهرباء وفي تشغيل المركبات، فالغاز الطبيعي يُعد من أنظف أنواع الوقود الأحفوري غير المتجدد مقارنة بالفحم ومشتقات النفط.

أما المبدأ الثاني في الإستراتيجية طويلة الأمد لأمن الطاقة هي الانتقال إلى مصادر الطاقة البيئية النظيفة المتجددة، وتنويع هذه المصادر، وعدم الاعتماد على مصدر واحد فقط من هذه المصادر، أي يمكن الاستفادة من أكثر من مصدر واحد في الوقت نفسه والتزاوج بينهما، بحيث أن كل مصدر يكمل الآخر، وذلك حسب الظروف والإمكانات والتحديات التي تواجهها كل دولة. فمصادر الطاقة البديلة المتجددة كثيرة ومختلفة، ولكلٍ منها سلبياتها وايجابياتها، وحسناتها ومساوئها وعلى كل دولة إجراء دراسات جدوى فنية واقتصادية واجتماعية وبيئية لكل نوع من هذه الأنواع، وأخذ القرار النهائي وبما يتناسب مع خصوصية الدولة. فعلى سبيل المثال، هناك طاقة الرياح التي تحتاج إلى مساحاتٍ شاسعة من الأراضي، وفضاءٍ رحبٍ واسعٍ وفسيح، ولذلك لا تصلح لدولة مساحتها ضيقة وتعاني من شح في الأرض كالبحرين، وهناك الطاقة الشمسية التي تصلح لدولنا ويمكن استخدامها في بعض التطبيقات المحددة، وهناك الطاقة الكهربائية التي يمكن الحصول عليها من حرق المكونات العضوية القابلة للاحتراق في المخلفات المنزلية غير الخطرة التي تنتج كل يوم من أنشطة الإنسان في المنزل والمكتب والمصنع والمعمل ، وتزيد أحجامها يوماً بعد يوم.

وفي المقابل هناك المصدر المعروف للطاقة النظيفة الخالية من التلوث وهو الطاقة النووية، ولهذا المصدر إيجابيات كثيرة، وأنا شخصياً أؤكد الاستفادة من هذا المصدر لأسباب عدة منها سياسية وأمنية، ولكن سلبياتها تتلخص في أمن وسلامة التشغيل، إضافة إلى كيفية إدارة المخلفات المشعة التي تنجم بعد انتهاء عُمر الوقود النووي المستخدم لتوليد الطاقة.

ومن المفيد هنا تقديم نموذج خليجي يعكس هذه الاستراتيجية التي لخصتها لكم، وهو النموذج السعودي، حيث صرح رئيس مكتب تطوير مشاريع الطاقة المتجددة بوزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية في 16 يناير من العام الجاري في مؤتمر الاستدامة في أبوظبي حول تنويع مصادر الطاقة في المملكة، وبالتحديد ركز على مصادر الطاقة البديلة المتجددة، حيث قالبأن المملكة ستُنفق نحو 7 بلايين دولار على مشاريع الطاقة النظيفة في العام الجاري، منها إنشاء محطات لتوليد الكهرباء من الشمس والرياح بقوة إجمالية قدرها 9.5 جيجوات بحلول عام 2023. 

أما الإستراتيجية التي أرى أن نعتمدها في البحرين في مجال أمن الطاقة وتوليد الكهرباء فهي التنويع واستخدام المزيج من مصادر الطاقة غير المتجددة والمتجددة معاً وفي آنٍ واحد، وبالتحديد الاستمرار في استعمال الغاز الطبيعي مُنْخفض الكبريت لإنتاج الكهرباء، إضافة إلى إنشاء محطة لتوليد الكهرباء من حرق مخلفات البلدية الصلبة والاستفادة من الطاقة الشمسية، وعلى المدى البعيد التفكير في الطاقة النووية لتوليد الكهرباء.