السبت، 22 يونيو 2024

الزيادة السكانية وتلوث أنهار أوروبا

 

سباق "الترياثِلُون" على نهر التايمز في ضواحي لندن في 9 يونيو 2024 لم يكن كباقي السباقات الرياضية التي أُجريت في المرات السابقة. فهذا النوع من أنواع الرياضات يتطلب التنافس في الوقت نفسه في ثلاثة أنواع من الرياضات المعروفة، وهي السباحة في البحر، أو النهر، أو البحيرة، ثم الجري، وأخيراً ركوب الدراجة.

 

فالأمر الغريب الذي وقع هذه المرة كان في الجزء المتعلق بالسباحة في نهر التايمز اللندني العريق الذي يُعد من أهم معالم لندن، حيث خرج أكثر من 35 متسابقاً مسرعين ومتألمين قبل الانتهاء من المسافة المطلوبة للسباحة، ولكن لم يكن بسبب التعب، أو الإرهاق من المسافة الطويلة التي يجب أن يقطعها المتسابق لينهي هذا الجزء من السباق، ولكن خرجوا متوجهين مباشرة إلى المستشفى، وهم يعانون من وعكة عقيمة وأعراضٍ مرضية حادة، تتمثل في الإسهال الشديد، والشعور بالدوار والغثيان، وآلام في البطن، وبعضهم تقيأ دماً، علماً بأن هذه الأعراض المرضية الحادة استمرت معهم عدة أيام.

 

وبعد إجراء التحاليل المطلوبة والاختبارات اللازمة لمثل هذه الحالات لمياه النهر من جهة، ودم المتسابقين المرضى من جهة أخرى، تأكد بأن المتسابقين كانوا يسبحون في مياه نهر التايمز التي كانت ملوثة ومسمومة بمياه المجاري الخام وغير المعالجة التي تصرف مباشرة في مياه النهر بشكل دوري مستمر منذ سنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، أفادت التقارير بأنه قرابة 72 بليون لتر من مياه المجاري تم صرفها في نهر التايمز في لندن خلال سنتين فقط. 

 

ولذلك مع السنوات الطوال من صرف مياه المجاري مباشرة إلى بطن النهر، تحول نهر التايمز التاريخي المعروف وطنياً وعالمياً إلى مستنقع آسن مشبع بمياه المجاري، حتى أن عمدة لندن، صادق خان، وصف هذه الحالة الصحية والبيئة الكارثية التي وصلت إليها مياه النهر بأنها "مصدر إحراج وطني"، كما أعلن بأن مياه النهر غير صالحه وغير آمنة كلياً للسباحة الآن، وأن جهود التنظيف وإعادة التأهيل ستستغرق قرابة عشر سنوات. أي أن الشعب البريطاني، وبخاصة أهل لندن وضواحيها سيكونون محرومون أكثر من عقد من الزمان بالتمتع بهذه الطبيعة النهرية الجميلة، وهذه الهبة الربانية لشعب بريطانيا.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الحالة البريطانية ليست مقتصرة على بريطانيا العظمى فقط، وإنما أصبحت الآن ظاهرة تعاني منها بعض الدول المشهود لها تاريخياً بالرقي والتطور، كفرنسا العريقة على سبيل المثال لا الحصر.

 

فمدينة باريس هذه الأيام في سباق محتدم مع الزمن بسبب الاستعداد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي ستنطلق في 26 يوليو، فعليها تجهيز واعداد كافة الملاعب التي ستُقام عليها المنافسات والألعاب الرياضية وجعلها صالحة للرياضيين وتتوافق مع المعايير الأولمبية المعتمدة والاشتراطات الدولية. ومن بين هذه الملاعب هو نهر السين(Seine) الذي سيحتضن مختلف أنواع الرياضات المائية، وبخاصة السباحة. ولكن هذا الملعب الرياضي يعاني من مشكلة صحية وبيئية مزمنة، وهي عدم صلاحيته للمتسابقين. فهذا النهر العظيم يعاني من تدهور شديد في جودته ونقاوته، فهو غير آمن وغير صحي للسباحة فيه بسبب التلوث الحيوي البكتيري المزمن والمرتفع جداً منذ سنوات طويلة جداً والناجم عن صرف مياه المجاري.

 

ولكن لماذا تقوم دول متقدمة وعريقة في مجال البيئة والصحة العامة مثل بريطانيا العظمى وفرنسا وغيرهما من الدول المتطورة بمثل هذه الممارسات الرجعية التي لا نشاهدها إلا في الدول الفقيرة والمتأخرة التي تفتقر إلى الوعي والتعليم، وينقصها المال والقناعة السياسية لمعالجة مياه المجاري وإنشاء المحطات اللازمة لذلك؟ فلماذا تضطر هذه الدول إلى صرف مياه مجاري خام مشبعة بكافة أنواع الجراثيم المسببة للأمراض والعلل الحادة، إضافة إلى الملوثات الكيميائية الخطرة في قلب الأنهار؟

 

في تقديري فإن السبب الرئيس هو عدم مواكبة وملاحقة تطوير وإنشاء الخدمات الضرورية والأساسية للبرامج التنموية والعمرانية والصناعية، مما يعني بأن التنمية في هذه الدول كانت تسير بخطى أسرع بكثير، وتنمو بشدة أكبر من بناء وتحديث الخدمات العامة، والتي من المفروض أن تصاحب وتنمو مع نفس نمو البرامج التنموية جنباً إلى جنب، وخطوة بخطوة.

 

فإذا زاد عدد السكان، سواء من الذين يقيمون أصلاً في البلاد، أو من الزوار المقيمين فترة طويلة، أو من السياح والأجانب، فإن هذه الزيادة السكانية تُشكل عبئاً على المرافق والخدمات العامة الموجودة في البلاد، سواء أكانت خدمات معالجة مياه المجاري، أو توفير مياه الشرب، أو الطرق، أو العلاج الصحي، أو خدمات جمع ومعالجة المخلفات الصلبة، أو الخدمات التعليمية، أو خدمات الطرق وغيرها من المرافق الخدمية الضرورية.

 

ولذلك إذا كانت هذه الزيادة السكانية لا تصاحبها في الوقت نفسه زيادة وتحديث وتوسعة في الخدمات العامة، فستمثل ذلك ارهاقاً على جودة هذه الخدمات، وتسبب لها تشبعاً سلبياً، فتتحول مع الوقت إلى مرحلة ما فوق التشبع، فتتدهور كل هذه الخدمات، وتتحول التنمية إلى نقمة وبلاء بدلاً من أن تكون نعمة ورخاء.

 

فمع الزيادة السكانية، ترتفع أحجام مياه المجاري، وإذا لم توجد محطات معالجة ذات كفاء تشغيلية عالية، وبقدرتها استيعاب الأحجام المتزايدة من المجاري، فإن مصيرها سيكون بصرفها في المسطحات المائية، أو البرية، أو أية مسطحات أخرى. وهذا ينطبق على مياه الشرب، والقمامة المنزلية، والازدحام في الطرق وأمام المستشفيات والمراكز الصحية ومحطات المحروقات وكافة الخدمات الأخرى.

 

فهذا ما حدث في الدول العظمى المتقدمة التي لم تتمكن فيها الخدمات من استيعاب وتحمل ومواكبة أعباء البرامج التنموية المختلفة والمتنوعة المتزايدة والمتسارعة، سواء من ناحية تحديث وتأهيل المرافق الخدمية القديمة، أو توسعتها، أو بناء مرافق حديثة وجديدة، فكانت النتيجة عكسية ومَرَضية، وفساد صحي وبيئي عام.

 

فهذا الدرس من الدول الغربية المتطورة يجب أن نقف عنده كثيراً، ونعتبر منه، ونتجنب الوقوع فيه، حتى تصبح التنمية أداة بناء ورقي للجميع، وآلية لتحسين معيشة المواطن والمقيم على حدٍ سواء.

الاثنين، 17 يونيو 2024

أيهما أولى بالاتباع سياسة العلاج أم المنع؟


سياسات الإنسان في المجالات البيئية الصحية تغيرت وتطورت مع الزمن ومع تجاربه وخبراته العقيمة مع التلوث، كما أن أسلوب تعامل الإنسان وإدارته للملوثات تقدمت كثيراً مع تطور نضوج فكره وانكشاف حقائق جديدة متعلقة بأضرار الملوثات على البيئة والحياة الفطرية من جهة، ومن جهة أخرى تأثيرات هذه الملوثات الحادة والمزمنة على الصحة العامة للبشر واصابته بالأمراض المزمنة المستعصية على العلاج.

 

فقبل أكثر من قرنٍ من الزمان كان الإنسان يجهل حقائق كثيرة متعلقة بهوية الملوثات، وبكيفية تصرفها عند دخولها في مكونات البيئة، وما هو مصيرها النهائي بعد أن تمكث في الماء، والهواء، أو التربة فترة من الزمن، وهل تنتقل عبر الأوساط البيئية المختلفة فتصل إلى الإنسان؟

 

فجهله بهذه الحقائق والثوابت البيئية جعله يسمح بالملوثات في الانطلاق إلى كافة عناصر البيئة دون أي قيد أو نظام يقنن حجمها ونوعها، فكان يعتمد كلياً على ظاهرة أن عناصر البيئة واسعة وكبيرة، وبقدرتها تحمل هذه الملوثات من خلال عملية "طبيعية" تتمثل في تخفيف وتمييع تركيزها مع الزمن، ثم انتهاء تأثيرها وأضرارها يوماً بعد يوم. وهذه الظاهرة الطبيعية صحيحة إلى حدٍ ما، ولكن مع ارتفاع عدد مصادر التلوث في كل بقعة من كوكبنا، وازدياد حجم ونوعية التلوث، أصبحت مكونات البيئة غير قادرة على تخفيف تركيز الملوثات، بل وتحولت إلى حالة التشبع بها، ثم انتقلت إلى حالة ما فوق التشبع، مما اضطر الإنسان إلى تغيير سياسته المدمرة للحرث والنسل.

 

فتحول الإنسان إلى سياسة المعالجة، أي التحكم في الملوثات ومعالجتها قبل انطلاقها إلى البيئة من خلال أجهزة التحكم والمعالجة، ولكن هذه السياسة الجديدة لم تجد نفعاً، ولم تحل تبعات وجود الملوثات في بيئتنا من جذورها، ولم تنجح في استئصالها من أجسادنا وتجنيبنا الأمراض الناجمة عن التلوث. 

 

ولذلك اضطر الإنسان إلى التفكير في استراتيجية جديدة للتعامل مع الملوثات وإدارتها بأسلوب مستدام، فاتجه نحو الحكمة الصحية القائلة "الوقاية خير من العلاج"، أي أن منع المرض ومنع مصادر المرض خير وأجدى صحياً واقتصادياً وبيئياً من علاجه بعد أن ينزل على الإنسان. فتبنى الإنسان سياسة "المنع"، أي منع الملوثات كلياً من السماح لها في الولوج في عناصر بيئتنا من خلال الإدارة المستدامة لجميع مصادر الملوثات، سواء أكانت المصادر المتنقلة كالسيارات، والطائرات، والبواخر، أو المصادر الثابتة، كالمصانع، ومحطات توليد الكهرباء.

 

فهذه السياسة اعتبرتْ الآن الحل العملي الواقعي، وليست الأمثل لدرء خطر وباء التلوث ومنع انتشار الأمراض الناجمة عن التعرض للملوثات، وهذه الاستراتيجية في إدارة التلوث هي آخر ما توصل إليه عقل الإنسان للوقاية من تهديدات الملوثات.

 

وهناك العديد من الأمثلة التي أستطيعُ تقديمها لتوضيح هذه السياسة البيئية الصحية العامة التي تبنتها منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة، وتطبقها بعض دول العالم.

 

أما بالنسبة للمصادر المتنقلة للتلوث، وعلى رأس القائمة السيارات، فقد تبنى الإنسان عدة أدوات ووسائل لمعالجة التلوث الناجم عن عوادمها. ففي السنوات الأولى من عمر السيارات قام بتحسين نوعية الوقود المستخدم فيها حتى يُخفض من نوع وحجم الملوثات الناجمة عن حرق الوقود فيجعلها أقل ضرراً على البيئة والإنسان والحياة الفطرية، فقام بإزالة مركبات الرصاص التي كانت تُضاف إلى الوقود لتحسين أداء المحرك، ثم زاد من مركبات الأكسجين في الوقود. وفي الوقت نفسه تم وضع أجهزة معالجة وتحكم في مؤخرة عادم السيارة، وهي تقوم بتحويل الملوثات السامة والخطرة إلى مواد أقل خطورة وأقل سمية، أو في بعض الحالات غير سامة. وأخيراً فكر الإنسان في تغيير نوعية الوقود كلياً فتحول أولاً إلى الغاز الطبيعي، والهيدروجين، ثم الآن يتوجه لتعميم السيارات الكهربائية التي لا تنبعث عنها من المصدر نفسه أية ملوثات، أي السيارات التي تعمل بالبطاريات وليس بعملية حرق الوقود، فتَمْنع انطلاق أية ملوثات. وفي هذه الحالة الأخيرة تبنى الإنسان سياسة الوقاية ومنع التلوث من مصدره، وهي السياسة الأفضل والأكثر استدامة بيئياً وصحياً.

 

وفي المقابل هناك المصادر الثابتة للتلوث، وفي مقدمتها محطات توليد الكهرباء والطاقة عامة. وفي هذه الحالة فقد لعبتْ عدة اعتبارات دوراً في إدارة الملوثات الناجمة، منها الجانب العملي والواقعي، من ناحية الوقود المتوافر في البلد، ومنها الجانب الاقتصادي من ناحية سعر الوقود وسهولة الحصول عليه وبأرخص الأثمان، ومنها أخيراً الجانب البيئي الصحي. ولكي أكون واقعياً وصادقاً، فإن الجانب البيئي يقع في مؤخرة قائمة الأولويات لاختيار الوقود المستعمل لتوليد الطاقة، أي عند الاختيار يتم تفضيل الجانب العملي والاقتصادي على الجوانب الأخرى، كالبيئة والصحة العامة.

 

فعلى سبيل المثال، الدول التي لديها مخزون كبير من الفحم في باطن أرضها، لن تُؤْثر مصادر الطاقة الأخرى غير الموجودة عندها على الفحم، حتى ولو كانت هذه المصادر أكثر نظافة بيئياً، وأقل تلويثاً لمكونات البيئة، وأخف تدميراً للصحة العامة. ولذلك بالرغم من سلبيات استخدام الفحم في تشغيل مصانع توليد الكهرباء، وبخاصة في بروز مشكلة العصر العقيمة، وهي التغير المناخي التي تؤثر على الكرة الأرضية برمتها، إلا أن كل الدول التي لديها وفرة من الفحم، أو أنها تشتري الفحم بأسعار زهيدة، فإنها لا تتردد في استخدامه، حتى بعد دعوة المجتمع الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة إلى مقاطعة الفحم كمصدر للطاقة والوقود. فحرق الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم يُعد السبب الرئيس في وقوع مشكلة التغير المناخي على كوكبنا وارتفاع حرارة الأرض وسخونتها، وما يصاحب هذا التغيير من تداعيات عقيمة على الأرض والإنسان والحياة الفطرية.   

 

ولذلك فالسياسة التي تتبعها الدول هي تنظيف الفحم ومعالجته قبل حرقة وإزالة الكبريت والشوائب الأخرى منه، ثم وضع أجهزة للتحكم ومعالجة الملوثات قبل انبعاثها إلى الهواء الجوي، أي أنها تتبع سياسة "المعالجة"، وليست سياسة الوقاية والمنع. وفي الوقت نفسه تسعى هذه الدول إلى استخدام مصادر بديلة للطاقة المتجددة والنظيفة لدعم وقود الفحم، مثل الغاز الطبيعي كمصدر أفضل بيئياً وصحياً من الفحم، إضافة إلى الطاقة النووية، والطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة الماء عن طريق بناء السدود.

 

ولذلك نجد أنه بالرغم من أن سياسة الوقاية ومنع انبعاث الملوثات من مصادرها تُعد السياسة الأكثر استدامة والأكثر جدوى من الناحية البيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن هناك بعض الدول التي مازالت تتبع سياسة المعالجة والتحكم في الملوثات لأنها بالنسبة لها أكثر عملية وواقعية، وتُعد بالنسبة لهم الاختيار الأنسب اقتصادياً. 

 

الاثنين، 10 يونيو 2024

استعمار الثروات المشتركة بدأ مرحلة جديدة


بعد أن أَحكمتْ الدول الصناعية المتقدمة الكبرى قبضتها على جميع الموارد والخيرات الموجودة على سطح الأرض وفي باطنها في جميع دول العالم، سواء أكانت تحت سيادتها القانونية، أو كانت تحت هيمنة وسيادة دول أخرى، اتجهتْ الآن نحو ثروات كوكبنا العامة والمشتركة أينما كانت، سواء في أعماق المحيطات السحيقة، أو في أعالي السماء في الفضاء الواسع والشاسع وفي الكواكب والأجرام السماوية، أو في أي موقع جديد من كوكبنا يتم اكتشافه مستقبلاً.

 

فهذه الموارد والثروات العظيمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى لسكان الأرض من المفروض أن يتمتع بها كل شعوب العالم على حدٍ سواء، وأن ينعموا جميعاً بالاستفادة منها لتعمير دولهم ورفع مستوى معيشة شعوبهم، فهي خيرات عامة، وثروات تشترك فيها كل دول العالم، وهي لا تقع جغرافياً تحت سيادة وسيطرة أية دولة، أي أنها ملك عام للجميع.

 

فالدول الاستعمارية الكبرى بدأت رحلة البحث عن ثروات كوكبنا أولاً فوق سطح الأرض، وبالتحديد في الغابات والبراري الفطرية العذراء البِكْر حيث التنوع الإحيائي الشديد والأحياء النباتية والحيوانية الجديدة والفريدة من نوعها على مستوى نوع الكائن الحي وعلى مستوى جيناته الخاصة به. فتم استخلاص الأدوية والعقاقير منها واحتكار تسويقها وبيعها بأغلى الاسعار، ثم انتقلت رحلة الاستكشاف إلى باطن الأرض حيث المعادن النادرة والثمينة وأغلى مصدر للطاقة استخرجه الإنسان من باطن الأرض، بعد الفحم، وهو النفط والغاز الطبيعي. فعلى هذه الثروات قامت الثورة الصناعية الأولى في بلاد الغرب، وعلى هذه الخيرات ازدهرت وتسارعت عجلة نهضة الدول الصناعية وتطورت كثيراً، وعلى هذه الموارد الحية وغير الحية استمر النماء والتقدم والرقي، فقامت الثورة الصناعية الثانية، كما أن على هذه الخيرات تحسنت وتقدمت معيشة شعوب هذه البلاد الصناعية المتقدمة.

 

وبعد أن وصلت هذه الرحلة الطويلة إلى نهايتها، واستنفدت كل سبل البحث عن هذه الثروات في هذه المواقع من كوكبنا وانخفضت كمياتها وأحجامها من فوق سطح الأرض وفي بطنها فأصبحت لا تفي باحتياجات التنمية في الدول الصناعية العظمى، كان لا بد من البحث من جديد ومرة ثانية على كنوز وثروات جديدة وفي مواقع من كوكبنا غير مألوفة قديماً، وغير متوقعة للبشر.

 

فكان الموقع الأول في أعماق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البرودة، وعلى عمق أكثر من 5 كيلومترات، والتي يتوقع الإنسان أن تكون في الغالب صحراء مائية مقفرة وجرداء ميتة، لا حياة فيها ولا روح لها، وبخاصة توجه البحث نحو مناطق عامة ومشتركة لكل شعوب العالم وفي مناطق التراث الطبيعي الخاص بالجميع، فليست لأية دولة حق السيطرة عليها واستكشاف واستخراج ثرواتها الحية وغير الحية والاستفادة منها دون الدول الأخرى.    

 

وفي هذه المواقع تم البحث عن موارد حية وغير حية كالتي كانت على سطح وباطن الأرض. أما الأول فهو دراسة التنوع الحيوي من ناحية إمكانية وجود كائنات حية حيوانية ونباتية مختلفة عن التي يعرفها الإنسان، وفريدة من نوعها، ثم الكشف عن فوائدها البيولوجية للبشر في المجالات الطبية العلاجية والمجالات الكثيرة الأخرى كمواد التجميل والزينة. وقد نُفِّذت عدة عمليات ودراسات استكشافية في الأعماق البعيدة جداً عن سطح البحر، ونُشرت بعض النتائج في مجلة (Current Biology) في 19 يونيو 2023، تحت عنوان: "كم عدد الأنواع التي تعيش في أكبر منطقة للتنقيب عن المعادن؟".

 

وقد أكدت الدراسة الميدانية عن وجود ما يتراوح بين 6000 إلى 8000 نوع جديد لم يعرفه الإنسان من قبل، في المواقع التي درجة حرارتها أقل من درجة مئوية واحدة، ولا تصلها أشعة الشمس، حيث الظلام الشديد المدقع. فبعض هذه الكائنات القاعية الغريبة والغامضة يعيش ويسبح في عمود الماء، والبعض الآخر يعيش في تربة قاع البحر. وكل هذه الكائنات تعيش في نظام بيئي فريد وغامض حتى الآن، ولا يعرف العلماء حتى الآن عن الكثير من أسراره وخفاياه، من حيث علاقة هذه الكائنات بعضها ببعض من جهة، وعلاقة هذه الكائنات القاعية بتلك الأحياء التي تعيش فوق السطح، أو في أعماق أعلى من بيئتها الفطرية القاعية.

 

وأما الكنز الخفي الثاني فهو البحث عن المعادن النادرة والمطلوبة بشدة للمرحلة القادمة من عمر البشرية، والتي تتجه نحو اقتصاديات مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة التي لا تلوث مكونات البيئة ولا تفاقم قضية التغير المناخي وسخونة الأرض، كطاقة الرياح، والطاقة الشمسية، والطاقة الكهربائية لإنتاج السيارات الكهربائية التي تعمل بالبطارية وتحتاج إلى معادن أصبحت شحيحة الآن في المواقع التقليدية في جوف الأرض، مثل الليثيوم، والكوبلت، والنحاس، والمنغنيز، وغيرها. وقد وجد الإنسان ضالته لاستخراج هذه المعادن في الأعماق السحيقة في قاع المحيطات والتي تشترك فيها البشرية جمعاء.

 

ومع أعماق المحيطات يجري البحث في أعالي السماء في الفضاء العليا والكواكب والأجرام السماوية عن كنوز وثروات جديدة لتزويد واستدامة عمليات التنمية على سطح الأرض، حيث زادت في السنوات القليلة الماضية رحلات الإنسان إلى سطح القمر، وكان آخرها نزول السفينة الفضائية الصينية ولأول مرة في التاريخ البشري في أبعد منطقة فوق سطح القمر في 2 يونيو 2024.

 

ولكي يقطف الجميع ثمرة هذه الاستكشافات في موارد كوكبنا العامة المشتركة فلا تنهبها وتحتكرها الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة، اقترحتْ منظمة تابعة للأمم المتحدة هي "السلطة الدولية لقاع البحر" (The International Seabed Authority) إنشاء صندوق تحت مسمى "صندوق استدامة قاع البحر"(Seabed Sustainability Fund). وهذا الصندوق المقترح الخاص بكنوز وثروات قاع البحر وتوزيع العوائد والخيرات المستخرجة منها من الممكن أن يعمم على المواقع الأخرى، كالفضاء والكواكب والأجرام السماوية، إضافة إلى المواقع الجديدة في المستقبل المنظور.

 

ولكن هل ستُوافق الدول العظمى ذات السلطة العليا على معظم دول العالم على هذا الصندوق الدولي الذي سيُضيِّق عليهم، ويقيد حريتهم، ويقنن عملهم في الاستمتاع بمخزون الأرض من الثروات والموارد؟

 

الجمعة، 7 يونيو 2024

تفاقم ظاهرة تكاثر البعوض مع التغير المناخي


لا أظن بأن هناك إنساناً صغيراً أو كبيراً يعيش على هذه الأرض الطيبة إلا وقد تعرض مباشرة للدغةٍ ولسعةٍ مزعجة ومؤلمة من البعوض خلال الشهرين الماضيين، فلم يسلم أحد، ولم ينج أحد حتى من عضة واحدة، فالجميع اكتووا بنار لسعته أثناء هذه الفترة الزمنية.

 

فقد لاحظ الجميع الهجوم الشرس للبعوض علينا، وملاحقتنا أينما كُنَّا وبأعدادٍ كبيرة لم نشهدها من قبل في البحرين. فكل من يمشي أو يمارس رياضة الجري في الشوارع والحدائق والمتنزهات قد عانى من هذه الظاهرة، وكل من فتح النوافذ في سيارته تعرض لجيش من البعوض يغزو سراعاً إلى داخل السيارة، وأصبح ضحية لعضاته، وكل من ترك نوافذ وأبواب البيت مفتوحة فقد كوَّن ممراً آمناً لتحرك أسراب من البعوض إلى داخل البيت وامتصاص دماء الناس.

 

وهذه الظاهرة المتمثلة في الزيادة الكثيفة لأعداد البعوض، وبخاصة بعد موسم نزول الأمطار ليست وليدة اليوم، وليست ظاهرة شاهدناها في البحرين فقط، وإنما هي واقعة في المدن الحضرية بشكلٍ عام، وآخرها ما تناقلتها ونشرتها وسائل الإعلام الأمريكية، وبالتحديد في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية. فبعد موسمٍ شديد لنزول الأمطار ودفء الجو في شهر مايو 2024، تحولت المدينة إلى مستنقعاتٍ مائية متفرقة ومتناثرة في مناطق كبيرة من المدينة، مما خلق بيئة مناسبة ومثالية لتكاثر البعوض، من حيث زيادة مواقع وضع البيض أولاً، ثم سهولة ونجاح فقسه ونمو اليرقات بشكلٍ كبير، وأخيراً بدء عملية الهجوم والانتشار في كل أرجاء مدينة هيوستن الواسعة، وتعريض الناس للعضات الحادة المؤلمة.

 

ولكن مثل هذه الظاهرة العامة المتمثلة في انتشار البعوض وبأعداد هائلة في المدن زادت في السنوات الأخيرة وأصبحت مشهودة أكثر للناس ويتحسسون عن كثب أضرارها وارتفاع معاناتهم منها، كما توسعت دائرة انتشارها في مدن كثيرة حول العالم لم تكن من قبل تعاني بقوة من هذه الظاهرة، بل وأصبحت هذه الظاهرة يتكرر وقوعها أكثر وتستمر فترة أطول من الزمن مقارنة بالعقود الماضية.

 

وهناك عدة أسباب لنشوء وبروز هذه الظاهرة في المدن حالياً مقارنة بالعقود الماضية، ومن أهمها وقوع قضية العصر، وهي التغير المناخي، وانكشاف عدة تداعيات مشهودة لهذا التغير، كارتفاع حرارة الجو وزيادة سخونته، وانعكاس هذا الارتفاع على درجة حرارة مياه البحر وتوسعها ووقوع الفيضانات والأعاصير الساحلية، إضافة إلى التغيرات في شدة وتكرار نزول الأمطار في المدن المعروفة بجفافها وندرة أمطارها.

 

وقد أكدت دراسة علمية منشورة في مجلة دولية موثوقة على واقعية مشكلة التغير المناخي وتداعياتها على مكونات البيئة والإنسان، وبخاصة من ناحية الارتفاع الملحوظ والمطرد للبعوض، وازدياد أعداده وسرعة انتشاره في المدن وإصابة الناس بمرض الملاريا. فقد صدرتْ الدراسة في 9 مايو 2024 في مجلة "العلوم"(Science) تحت عنوان:" تُعتبر الملاءمة البيئية المستقبلية للملاريا في أفريقيا حساسة للهيدرولوجيا".

 

فقد أفادت الدراسة بأن التغير المناخي يعني تغيراً في حرارة الأرض ودرجة سخونتها، كما تعني في الوقت نفسه تغيراً جذرياً ملموساً في أنماط سقوط الأمطار في مدن العالم

 زيادة أو نقصان، وتغيراً في حجم ومساحة الأعاصير والفيضانات التي تنزل على سواحل المدن.

 

أما بالنسبة لزيادة هطول الأمطار من الناحيتين الكمية وعدد مرات النزول، فإنها تؤدي إلى اتساع رقعة وعدد المستنقعات الرطبة وزيادة مواقع المياه الراكدة التي تتكون من هذه الأمطار. ومع ارتفاع حرارة الجو فإن مثل هذه المواقع التي لا تتحرك فيها المياه وتبقى فترة طويلة من الزمن دون أن تُسحب مياهها، فإنها تُعد البيئات المناسبة والمفضلة لتكاثر وانتشار البعوض المسبب للملاريا وأمراض أخرى كثيرة، ليس للإنسان فحسب وإنما للحيوان على حدٍ سواء.

 

كذلك نُشرت دراسة في 4 مايو 2024، حول التغيرات الدولية ومخاطر الأمراض المعدية، في مجلة "الطبيعة"(Nature). وهذه الدراسة الدولية الشاملة أفادت بأن يد الإنسان التي عبثت في البيئة بغير علم وسلطان ودراية دقيقة بالعلاقات والتفاعلات التي تحدث بين مكونات البيئة والكائنات الحية النباتية والحيوانية، قد أحدثت تغيرات جوهرية وجذرية وتسببت في تفاقم انكشاف الأمراض المعدية في بيئات لم تكن تُعرف من قبل بوجود هذه الأمراض، أو أنها في الأقل زادت من نزولها على الإنسان بنسب مرتفعة جداً. ومن هذه التغيرات التي تسبب فيها الإنسان هي انخفاض شدة التنوع الحيوي وغزو كائنات حية نباتية أو حيوانية دخيلة وغير فطرية في بيئات لم تكن أصلاً موجودة فيها، إضافة إلى التغير المناخي والتلوث البيئي وتدهور البيئات من الناحيتين الكمية والنوعية. كما توصلت دراسة أخرى إلى استنتاجات مطابقة حول دور الإنسان في نقل الأمراض المعدية، والمنشورة في مجلة "شؤون الصحة البيئية"(Environmental Health Perspectives) في 22 أبريل 2024 تحت عنوان: "زيادة سريعة في أمراض الفطريات البشرية".

 

وختاماً فإن ما نعاني منه في معظم مناطق البحرين، وفي الكثير من دول العالم من ازدياد غير طبيعي وغير مألوف في أعداد البعوض قد يكون بسبب ارتفاع نسبة الملوثات في الهواء الجوي على مستوى الكرة الأرضية، وبخاصة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث عند حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري، فيُكون ظاهرة التغير المناخي وظاهرة التغير في أنماط سقوط الأمطار من الناحيتين، حجم سقوطها وتكرارها، ثم تكون مستنقعات وبرك مائية كثيرة تتلاءم مع دورة حياة البعوض.