الجمعة، 7 يونيو 2024

تفاقم ظاهرة تكاثر البعوض مع التغير المناخي


لا أظن بأن هناك إنساناً صغيراً أو كبيراً يعيش على هذه الأرض الطيبة إلا وقد تعرض مباشرة للدغةٍ ولسعةٍ مزعجة ومؤلمة من البعوض خلال الشهرين الماضيين، فلم يسلم أحد، ولم ينج أحد حتى من عضة واحدة، فالجميع اكتووا بنار لسعته أثناء هذه الفترة الزمنية.

 

فقد لاحظ الجميع الهجوم الشرس للبعوض علينا، وملاحقتنا أينما كُنَّا وبأعدادٍ كبيرة لم نشهدها من قبل في البحرين. فكل من يمشي أو يمارس رياضة الجري في الشوارع والحدائق والمتنزهات قد عانى من هذه الظاهرة، وكل من فتح النوافذ في سيارته تعرض لجيش من البعوض يغزو سراعاً إلى داخل السيارة، وأصبح ضحية لعضاته، وكل من ترك نوافذ وأبواب البيت مفتوحة فقد كوَّن ممراً آمناً لتحرك أسراب من البعوض إلى داخل البيت وامتصاص دماء الناس.

 

وهذه الظاهرة المتمثلة في الزيادة الكثيفة لأعداد البعوض، وبخاصة بعد موسم نزول الأمطار ليست وليدة اليوم، وليست ظاهرة شاهدناها في البحرين فقط، وإنما هي واقعة في المدن الحضرية بشكلٍ عام، وآخرها ما تناقلتها ونشرتها وسائل الإعلام الأمريكية، وبالتحديد في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية. فبعد موسمٍ شديد لنزول الأمطار ودفء الجو في شهر مايو 2024، تحولت المدينة إلى مستنقعاتٍ مائية متفرقة ومتناثرة في مناطق كبيرة من المدينة، مما خلق بيئة مناسبة ومثالية لتكاثر البعوض، من حيث زيادة مواقع وضع البيض أولاً، ثم سهولة ونجاح فقسه ونمو اليرقات بشكلٍ كبير، وأخيراً بدء عملية الهجوم والانتشار في كل أرجاء مدينة هيوستن الواسعة، وتعريض الناس للعضات الحادة المؤلمة.

 

ولكن مثل هذه الظاهرة العامة المتمثلة في انتشار البعوض وبأعداد هائلة في المدن زادت في السنوات الأخيرة وأصبحت مشهودة أكثر للناس ويتحسسون عن كثب أضرارها وارتفاع معاناتهم منها، كما توسعت دائرة انتشارها في مدن كثيرة حول العالم لم تكن من قبل تعاني بقوة من هذه الظاهرة، بل وأصبحت هذه الظاهرة يتكرر وقوعها أكثر وتستمر فترة أطول من الزمن مقارنة بالعقود الماضية.

 

وهناك عدة أسباب لنشوء وبروز هذه الظاهرة في المدن حالياً مقارنة بالعقود الماضية، ومن أهمها وقوع قضية العصر، وهي التغير المناخي، وانكشاف عدة تداعيات مشهودة لهذا التغير، كارتفاع حرارة الجو وزيادة سخونته، وانعكاس هذا الارتفاع على درجة حرارة مياه البحر وتوسعها ووقوع الفيضانات والأعاصير الساحلية، إضافة إلى التغيرات في شدة وتكرار نزول الأمطار في المدن المعروفة بجفافها وندرة أمطارها.

 

وقد أكدت دراسة علمية منشورة في مجلة دولية موثوقة على واقعية مشكلة التغير المناخي وتداعياتها على مكونات البيئة والإنسان، وبخاصة من ناحية الارتفاع الملحوظ والمطرد للبعوض، وازدياد أعداده وسرعة انتشاره في المدن وإصابة الناس بمرض الملاريا. فقد صدرتْ الدراسة في 9 مايو 2024 في مجلة "العلوم"(Science) تحت عنوان:" تُعتبر الملاءمة البيئية المستقبلية للملاريا في أفريقيا حساسة للهيدرولوجيا".

 

فقد أفادت الدراسة بأن التغير المناخي يعني تغيراً في حرارة الأرض ودرجة سخونتها، كما تعني في الوقت نفسه تغيراً جذرياً ملموساً في أنماط سقوط الأمطار في مدن العالم

 زيادة أو نقصان، وتغيراً في حجم ومساحة الأعاصير والفيضانات التي تنزل على سواحل المدن.

 

أما بالنسبة لزيادة هطول الأمطار من الناحيتين الكمية وعدد مرات النزول، فإنها تؤدي إلى اتساع رقعة وعدد المستنقعات الرطبة وزيادة مواقع المياه الراكدة التي تتكون من هذه الأمطار. ومع ارتفاع حرارة الجو فإن مثل هذه المواقع التي لا تتحرك فيها المياه وتبقى فترة طويلة من الزمن دون أن تُسحب مياهها، فإنها تُعد البيئات المناسبة والمفضلة لتكاثر وانتشار البعوض المسبب للملاريا وأمراض أخرى كثيرة، ليس للإنسان فحسب وإنما للحيوان على حدٍ سواء.

 

كذلك نُشرت دراسة في 4 مايو 2024، حول التغيرات الدولية ومخاطر الأمراض المعدية، في مجلة "الطبيعة"(Nature). وهذه الدراسة الدولية الشاملة أفادت بأن يد الإنسان التي عبثت في البيئة بغير علم وسلطان ودراية دقيقة بالعلاقات والتفاعلات التي تحدث بين مكونات البيئة والكائنات الحية النباتية والحيوانية، قد أحدثت تغيرات جوهرية وجذرية وتسببت في تفاقم انكشاف الأمراض المعدية في بيئات لم تكن تُعرف من قبل بوجود هذه الأمراض، أو أنها في الأقل زادت من نزولها على الإنسان بنسب مرتفعة جداً. ومن هذه التغيرات التي تسبب فيها الإنسان هي انخفاض شدة التنوع الحيوي وغزو كائنات حية نباتية أو حيوانية دخيلة وغير فطرية في بيئات لم تكن أصلاً موجودة فيها، إضافة إلى التغير المناخي والتلوث البيئي وتدهور البيئات من الناحيتين الكمية والنوعية. كما توصلت دراسة أخرى إلى استنتاجات مطابقة حول دور الإنسان في نقل الأمراض المعدية، والمنشورة في مجلة "شؤون الصحة البيئية"(Environmental Health Perspectives) في 22 أبريل 2024 تحت عنوان: "زيادة سريعة في أمراض الفطريات البشرية".

 

وختاماً فإن ما نعاني منه في معظم مناطق البحرين، وفي الكثير من دول العالم من ازدياد غير طبيعي وغير مألوف في أعداد البعوض قد يكون بسبب ارتفاع نسبة الملوثات في الهواء الجوي على مستوى الكرة الأرضية، وبخاصة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث عند حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري، فيُكون ظاهرة التغير المناخي وظاهرة التغير في أنماط سقوط الأمطار من الناحيتين، حجم سقوطها وتكرارها، ثم تكون مستنقعات وبرك مائية كثيرة تتلاءم مع دورة حياة البعوض.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق