الثلاثاء، 25 أبريل 2023

اكتشاف ظاهرة جديدة في مقبرة المخلفات البحرية

مقابر بحرية عظيمة مساحتها الإجمالية أكبر من مساحة البحرين بنحو ألف مرة، تَكَونَت في أعماق المحيطات البعيدة والنائية نتيجة لممارسات الإنسان وتصرفاته الآثمة غير المسؤولة تجاه بيئته منذ عقود طويلة من الزمن، وهذه المقابر كانت مفاجأة غير سارة للبشرية جمعاء، فلم يتوقع أحد من العلماء والمهتمين تَكَوُّنْ واستمرار وجود مثل هذه المساحات الضخمة المتشبعة منذ أكثر من عقدين من الزمان بجميع أنواع المخلفات الصغيرة والكبيرة والمجهرية التي ربما لا تخطر على بال أحد.

فهذا الخليط الواسع والمعقد من المخلفات البشرية التي نجمت عن أيدي الإنسان وتصريفه للمخلفات في البر والبحر، وصلت في نهاية المطاف واستقرَ بها المقام وحطت رحالها في المحيطات، حتى بلغ مساحتها الإجمالية أكبر من مليوني كيلومتر مكعب. ومن أشهر هذه المقابر الجماعية للمخلفات هي المنطقة الواقعة بين سواحل ولاية كاليفورنيا في جنوب غرب الولايات المتحدة الأمريكية وجزر هاواي، وتُقدر مساحتها بنحو 1.3 مليون كيلومتر مربع، ويُطلق عليها "منطقة القمامة العظيمة في المحيط الهادئ" (Great Pacific Garbage Patch)، استناداً إلى البحث المنشور في 9 نوفمبر 2022 في مجلة (Nature Reviews Earth & Environment) تحت عنوان: "حالة ومصير مخلفات المحيطات". ويُعزي العلماء بأن سبب تجمع وتراكم هذه الكميات المهولة من المخلفات في هذه المقابر البحرية العظيمة في المحيطات هو دوران الأرض، والذي يسبب دوران الماء في المحيط حول خط الاستواء، فيُكون تياراً مائياً يسير مع اتجاه عقرب الساعة وينجم عن هذا كله تحرك ودوران المخلفات مع هذه التيارات المائية في دائرة محكمة وشبه مغلقة، أي في نهاية المطاف تكون هذه المخلفات في سجن مغلق لا تستطيع الفرار أو الخروج منه.

أما عن تقدير العلماء لكمية هذه المخلفات في هذه المقابر فيختلف حسب الأدوات والوسائل المستخدمة في تقديرها، فمنهم من قام بالزيارة الميدانية لهذه المناطق، ومنهم من استخدم الصور الجوية، أو صور الأقمار الصناعية. فكمية المواد البلاستيكية الجديدة التي تُنتجها المصانع سنوياً تقدر بنحو 460 مليون طن، منها 8 أطنان تقريباً تدخل وتنتقل إلى البيئات البحرية، وانطلاقاً من هذه المعلومات فقد قدَّرت دراسة منشورة في  8 مارس 2023 في مجلة "بلوس ون"( PLoS ONE)، تحت عنوان: "نمو الضباب البلاستيكي يقدر الآن بأكثر من 170 تريليون قطعة بلاستيكية تطفو فوق سطح المحيطات_ مطلوب الحل العاجل"، بأن حجم المخلفات البلاستيكية في المحيطات حول العالم يتراوح بين 82 إلى 358 تريليون قطعة بلاستيك، وبمعدل 171 تريليون قطعة بلاستيك، ونحو 75% منها أكبر من 5 سنتيمترات، كما قدَّرت الدراسة وزن المخلفات بنحو 1.1 إلى 4.9 مليون طن، وبمعدل 2.3 مليون طن، وهذه المخلفات معظمها ناجمة عن صيد الأسماك، كالشباك ومعدات وأدوات الصيد المختلفة، كما أن كمية كبيرة منها انتقلت من سواحل اليابان بعد أن نزل عليها السونامي في مارس 2011 وهدم الكثير من المرافق التي كانت موجودة في السواحل. 
 

أما مصير هذه المخلفات التي تنحبس في هذه الدوامة الهائلة فيأخذ ثلاثة مسارات. فالمسار الأول هو انتقال هذه المخلفات الثقيلة نسبياً إلى عمود الماء، ثم رويداً رويداً ومع الوقت تصل إلى القاع، وتجثم هناك إلى أن يشاء الله وتصبح جزءاً خفياً من مكونات التربة القاعية ولا يراها أحد، ولا يتحسس وجودها أحد، ومع مرور الأيام والسنين تتجذر في البيئة القاعية فتصبح ضمن النظام البيئي والسلسلة الغذائية في تلك المنطقة، وقد تنتقل وتصل إلى الإنسان عبر الزمن. وأما المسار الثاني فيكون مصير المخلفات شبه الثقيلة التي تسبح في عمود الماء، متذبذبة، ومتنقلة بين السطح والأعماق، ثم المسار الثالث والأخير وهي المخلفات الخفيفة ذو الكثافة المنخفضة التي تعوم وتطفو فوق سطح الماء، وهذا النوع من المخلفات يمثل الجزء الأكبر والأكثر مشاهدة لأعين الناس ولكل من يذهب لزيارة هذه المقبرة الجماعية للمخلفات البشرية البلاستيكية وغير البلاستيكية.

 

واليوم نُشرت دراسة ميدانية تكشف ولأول لنا سراً خفياً من أسرار هذه المقابر الجماعية للمخلفات، وتُقدم لنا ظاهرة وحقيقة علمية جديدة لم تكن معروفة من قبل عند الباحثين، كما أنها فتحت الباب على مصراعيه لمجال بحثي جديد لم يلج فيه أي أحد من العلماء من قبل. فهذه الدراسة صدرت في 17 أبريل 2023 في مجلة "بيئة الطبيعية وتطورها" (Nature Ecology & Evolution  تحت عنوان: "مدى تكاثر أنواع الكائنات الساحلية على المخلفات البلاستيكية في منطقة شمال المحيط الهادئ شبه الاستوائية". والقضية الجديدة التي درستها هذه الدراسة هي نوعية وحجم الكائنات البحرية التي تعيش في هذه "المنظومة البيئية الجديدة"، وهي منظومة "مقابر المخلفات البلاستيكية"، حيث تم جمع وفحص وتحليل عينات من الكائنات البحرية الموجودة على المخلفات البلاستيكية الطافية على الماء من 105 مواقع مختلفة من هذه المقبرة. وتوصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات جديدة تُشكل بداية التوغل في هذا الباب البحثي الذي لم يكتشفه أحد، كما يلي:

أولاً: التحاليل المخبرية للكائنات أفادت عن وجود عدد 484 من أنواع اللافقاريات المختلفة التي تمثل 46 نوعاً من هذه اللافقاريات، ونحو 80% منها تُعرف علمياً وميدانياً بأنها من الأنواع التي تعيش وتستوطن طبيعياً في المناطق الساحلية، أي أنها معروفة علمياً بالكائنات الساحلية التي موطنها السواحل، ولم يدرك العلماء من قبل بأن هذه الأنواع الساحلية تستطيع أن تعيش في بيئات بحرية مختلفة، مثل بيئة أعماق المحيطات.

ثانياً: هذه الكائنات الساحلية استعمرت المخلفات البلاستيكية الموجودة في عمق المحيطات البعيدة آلاف الكيلومترات عن بيئة السواحل، ونجحت ولأول مرة في التكيف مع هذه البيئة الجديدة، وقامت بإنشاء مجتمعات مستقرة، تتكاثر فيها وتنمو عليها، بالرغم من اختلافها الشديد عن موطنها الأصلي من ناحية الملوحة، ودرجة الحرارة، وعمق المياه، وتوافر المواد الغذائية نوعياً وكمياً.

ثالثاً: سطح المخلفات البلاستيكية يعتبر بيئة خصبة يمكن أن تنمو وتتكاثر عليه شتى أنواع الكائنات، سواء أكانت مجهرية كالبكتيريا والفيروسات والفطرية، أو كانت كبيرة يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

رابعاً: هذه الدراسة غيَّرت النظرية العامة، أو الانطباع السائد بأن الكائنات البحرية الساحلية لا تقدر على بناء مجتمعات صحية ومستدامة في وسط المحيطات، فهي لا تستطيع التكيف مع هذه الظروف الجديدة. 

ولذلك في تقديري فإن هذه الدراسة الفريدة والأولى من نوعها اكتشفت نظاماً بيئياً جديداً لم يكتشفه العلماء من قبل، من ناحية نوعية وأعداد الكائنات الحية بمختلف أحجامها التي من الممكن أن تعيش فيه، وتُكون مستعمرات، كما أن هذه الدراسة تفتح شهية العلماء للإجابة عن أسئلة كثيرة جديدة حول "نظام بيئة المخلفات البحرية" الغامضة، مثل العلاقات والتفاعلات التي قد تحدث بين جميع هذه الكائنات في هذه البيئة.

الخميس، 20 أبريل 2023

التغيرات المناخية ومصير المدن الخمس؟

تصور أن درجة الحرارة في البحرين التي تعاني أصلاً من شدة حرارة الشمس، قد ارتفعت درجة مئوية واحدة، أو درجة ونصف الدرجة، فماذا سيكون شعورك مع هذا الارتفاع في درجة الحرارة؟ وكيف ستكون أحاسيسك وقُدرتك على تحمل المزيد من حرارة الجو وقيض الشمس الحارقة؟ وهل تستطيع أن تعيش براحة واطمئنان وسكينة، وبخاصة أننا نعاني من أشهر الصيف الطويلة التي لا تكاد تنتهي كل عام؟

وتصور أن مستوى سطح البحر قد ارتفع في جزر البحرين الكثيرة التي لا يرتفع مستواها إلا مليمترات معدودة عن سطح البحر، والكثير منها تقع مباشرة على سطح البحر، فكيف سيكون وضع هذه الجزر، وهل ستغمرها المياه البحرية؟

وماذا سيكون مصير مكتسباتنا التنموية التي شيدناها طوال العقدين الماضيين من منتجعات، وفنادق، ومناطق صناعية وسكنية كجزر أمواج، وديار المحرق، ودرة البحرين، ودرة مارينا وغيرها من المشاريع العملاقة التي بُنيت على مناطق مدفونة من البحر وأُنفقت عليها المليارات من الدنانير، إضافة إلى المشاريع المستقبلية كالمدن الخمس التي ستقام على مناطق مدفونة في وسط البحر؟

فهل هذه الاحتمالات التي قد تنجم كتداعيات لقضية العصر، قضية التغير المناخي، هي مخاطر واقعية وحقيقية قد نتعرض لها في البحرين، أو في الدول الجزرية الأخرى الواقعة على مستوى سطح البحر، أم أنها نظريات وفرضيات واحتمالات لا شواهد واقعية لها، ولا أدلة ميدانية على حدوثها على أرض الواقع؟

في الواقع هناك الآلاف من الدراسات والبحوث التي أُجريت لسبر غور ظاهرة التغير المناخي وأسبابها ومصادرها، ودور الإنسان ومساهمته في وقوعه مقارنة بالدورات المناخية الطبيعية، علاوة على التقارير المتعلقة بالتداعيات الناجمة عن التغير المناخي، مثل ارتفاع حرارة الأرض، والتي بدورها ترفع من حرارة مياه البحار ومن مستوى سطح البحر، وهذه الدراسات والتقارير منها الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة، مثل التقييم السادس والأخير المنشور في 28 فبراير 2022 من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي، تحت عنوان: "التأثيرات والتكيف والقابلية للتأثر"، ومنها الكثير من الأبحاث المنشورة من مراكز البحوث والجامعات.

وأقفُ هنا أمام آخر الأبحاث التي نُشرت حول ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر، والتغيرات التي حصلت لمستويات سطح البحر خلال القرون السابقة، وهناك دراسات كثيرة وثَّقتْ، ومازالت توثق وتراقب التغيرات التي تقع على مستوى سطح البحر منذ الستينيات من القرن المنصرم. فعلى سبيل المثال، هناك الدراسة المنشورة في العاشر من أبريل 2023 في مجلة "اتصالات الطبيعية"(Nature Communications)، تحت عنوان "تسارع وتيرة ارتفاع مستوى سطح البحر في جنوب شرق الولايات المتحدة وساحل الخليج يتضخم بسبب تقلب المناخ الداخلي"، إضافة إلى البحث المنشور في الثاني من مارس 2023 في "مجلة المناخ"( Journal of Climate) تحت عنوان:" تسارع لارتفاع مستوى سطح البحر في عقد واحد من الزمن على طول سواحل شرق الولايات المتحدة والخليج خلال الفترة 2010-2022 وتأثيره على زيادة العواصف الناجمة عن الأعاصير ".

فمثل هذه الدراسات توصلتْ وأجمعت على عدة استنتاجات مهمه، كما يلي:

الأول: هناك ارتفاع متسارع لمستوى سطح البحر في كل دول العالم، فمعدل الارتفاع السنوي على المستوى الدولي بلغ قرابة 1.5 مليمتر سنوياً منذ عام 1900، وهذا الارتفاع تضاعف وتسارع منذ الستينيات من القرن المنصرم بمستوى أعلى من 3 مليمترات في السنة.

ثانياً: في سواحل جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية، كان نمط معدل الزيادة يتراوح بين 1.7 إلى 8.4 مليمتر في السنة في الفترة من 1900 إلى 2021، ولكن حدث ارتفاع مفاجئ في مستوى سطح، حسب إحدى الدراسات، مقارنة بالمستوى الدولي، فهو يرتفع أسرع ثلاث مرات من المعدل العالمي في بحار العالم، فمنذ عام 2010 بلغ معدل الارتفاع أعلى من 10 مليمترات في السنة منذ عام 2010، وهذه الظاهرة الجديدة في زيادة مستويات الارتفاع غير مسبوقة من 120 عاماً في السواحل الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة الأمريكية. ويعزي الباحثون أسباب هذه الزيادة المطردة إلى عوامل مركبة ومتشابكة منها التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض وذوبان الثلوج، ومنها تغير أنماط حركة وسرعة الرياح.

ثالثاً: المدن والمرافق العامة التي تقع على سواحل أمريكا الجنوبية الشرقية تعاني من تهديدات كارثية ناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر وتداعياتها المتمثلة في تكرار وقوع الفيضانات، وشدة الأعاصير، وتآكل السواحل وانكماش المساحات البرية.

ونظراً لأهمية هذه الظاهرة وتداعياتها التي لا تعد ولا تحصى على الأمن الدولي، فقد خصصت الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن جلسة خاصة في 14 فبراير 2023 لمناقشة التغير المناخي، مع التركيز على ارتفاع مستوى سطح البحر، تحت عنوان: "ارتفاع مستوى سطح البحر: الآثار المترتبة على السلم والأمن الدوليين"، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة بأن: "ارتفاع مستوى سطح البحر لا يشكل تهديداً فقط في حد ذاته، وإنما هو تهديد متعدد الجوانب. فبالنسبة لمئات الملايين من الناس الذين يعيشون في الدول الجزرية الصغيرة النامية وغيرها من المناطق الساحلية المنخفضة في مختلف أنحاء العالم، فإن ارتفاع مستوى سطح البحر يشكل وابلاً من المشاكل"، كما أضاف قائلاً: "ويهدد ارتفاع مستوى مياه البحار، وُجُودَ بعض المجتمعات المنخفضة وحتى البلدان".

فالتغير المناخي حقيقة واقعة ومستمرة، وتداعياتها تُثبتها الوقائع والحوادث المناخية والدراسات العلمية التي تراقب منذ قرون التغيرات على مستوى كوكبنا، وهذه التداعيات تتفاقم وتأثيراتها ستكون أشد وطأة بالنسبة للدول الجزرية مثل مملكة البحرين. وقد حذَّر التقرير المنشور من المجلس الأعلى للبيئة من واقعية وخطورة هذه الظاهرة على جزر البحرين، والذي صدر حول تطورات جهود مكافحة التغير المناخي في يوليو 2020 تحت عنوان: "البلاغ الوطني الثالث لمملكة البحرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغير المناخي"، حيث ورد في الملخص التنفيذي للتقرير حول تهديدات ارتفاع مستوى سطح البحر على البحرين: "يُعد ارتفاع مستوى سطح البحر أحد الآثار الرئيسة والأكيدة لتغير المناخ. وكما هو الحال في جميع الدول الجزرية الصغيرة النامية، يُشكل ارتفاع مستوى سطح البحر في البحرين خطراً على سواحل الجزر الست الرئيسة، والتي يتمركز عليها معظم سكان المملكة، وتتواجد بها البنى التحتية. وحالياً تتركز في المناطق الساحلية التي يقل ارتفاعها عن خمسة أمتار عن مستويات سطح البحر كثافة سكانية عالية."

فما هي الخطط العملية التي أعددناها لمواجهة التهديدات القادمة علينا وعلى مكتسباتنا التنموية في المناطق المدفونة والتي ستدفن كالمدن الخمس والناجمة عن التغير المناخي، وبالتحديد ارتفاع درجة حرارة مياه البحر وارتفاع مستوى سطح البحر؟

 

الأحد، 16 أبريل 2023

شهود على الكارثة الإنسانية

رأيتُ صوراً لبشر منشورة في "مجلة سَيندي تايمس البريطانية (The Sunday Times Magazine) في التاسع من أبريل 2023، ولكن ما هم ببشر، وشاهدتُ صوراً لجسد الإنسان على غلاف هذه المجلة، ولكنها في الوقت نفسه ليست صوراً لجسد إنسان، فهل هذه الصور تمثل أشباه البشر؟ ولمن هذه الصور؟ وهل هي صور لغزاة نزلوا علينا من كواكب الفضاء؟

 

فعلى غلاف المجلة التي هي أمامي الآن، أُشاهد صورة لعائلة بريطانية مكونة من رجلٍ وزوجته وطفلتين، ولكن عندما دققت أكثر في صورة الرجل وتفحصتها جيداً، رأيتُ العجب العجاب، فالرجل سليم الوجه، مكتمل العينين والأذنين والأنف والفم، فلا تبدو عليه أية علامات غير عادية وغير طبيعية، كما هو بالنسبة لباقي الرجال، ولكن عندما نزلت أسفل الصورة وإذا بي لا أرى وجود أية أطراف كاملة للرجل في يديه، فعدد الأصابع أقل من خمسة، وأشكالها غريبة وشاذه ومخيفة في الوقت نفسه لم أرها من قبل في حياتي، حتى في أفلام الهوليود السينمائية، كذلك لم أجد في الصورة أية آثار أو إشارات لوجود أرجل صحيحة وسليمة وطبيعية، أو أذرع كاملة بشرية، وكأنه نصف رجل، وليس رجلاً كاملاً صحيح القوام.

 

فهذه الصورة المرعبة تصف قصة أحد الناجين من الكرب الإنساني العظيم، وهو مازال حتى الآن حي يرزق يقص حالته البائسة، ويروي حكايته مع المعاناة الجسدية والنفسية التي نزلت عليه طوال سنوات حياته المريرة، فهو يبلغ من العمر 61 عاماً، واسمه "كيفن دونيلون" (Kevin Donnellon) من مدينة ليفربول الإنجليزية العريقة.

 

وهذه الصورة ليست المثال الوحيد الموجود حالياً في أرض الواقع، كما أن هذه الصورة لا تمثل حالة فردية استثنائية قد وقعت في إنجلترا، وإنما هي مثال لعشرات الآلاف من "المخلوقات الغريبة"، ومن الحالات المشوهة والمعوقة للجسد البشري التي شاهدناها في أكثر 46 دولة حول العالم، مثل دول القارة الأوروبية، وأستراليا، وبعض دول أمريكا الجنوبية. فعلى سبيل المثال، هناك ألبوم خاص من الصور الفوتوغرافية لأفراد عائلة بريطانية أخرى، وتشاهد في هذا الألبوم الخاص صور أفراد هذه العائلة المنكوبة منذ ولادتهم وحتى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر مصيره وقَدَره، وهذه العائلة التي تعيش حالياً في بريطانيا في مدينة (Cheltenham) أُطلق عليها اسم غريب، ولقب غير مألوف، وهو عائلة "الثاليدوميد"، وهو يرمز إلى العائلة المـُشوهة والمعوقة خَلْقياً وجسدياً منذ ولادتها، والتي تعاني عشرات السنين من هذه التشوهات الخَلْقية الغريبة والنادرة في عالم البشر.

 

فقصة هذا الرجل وعشرات الآلاف من "المخلوقات الغريبة" التي وُلدت في الستينيات من القرن المنصرم بسيطة جداً، ولكنها كبيرة وعظيمة في مضمونها وتداعياتها العقلية والجسدية والنفسية ليست فقط على الذين وُلدوا مشوهين بهذه الحالات الغامضة والنادرة، وإنما على باقي أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة والمجتمع برمته الذي وقف حائراً وخائفاً من ولادة هذا العدد المهول في الكثير من دول العالم من الأجنة المشوهة كلياً، كما أنها قصة عقيمة نستخلص منها الكثير من العبر والعظات والفوائد الجمة.

 

فالفصل الأول من هذه القصة المأساوية تبدأ عندما كانت والدة "كيفن دونيلون" قبل أكثر من ستة عقود تعاني من آلام ومعاناة تصيب معظم النساء الحوامل بعد الاستيقاظ صباحاً من النوم، وهي الأرق والصداع المزمن والقيء الشديد عند الصباح، وفي نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم كان الدواء السحري الأعجوبة الذي يصفه الأطباء دائماً في معظم دول العالم للعلاج الشافي من هذه الأعراض المرضية لجميع النساء الحوامل هو كبسولة الثاليدوميد البيضاء(Thalidomide)( (Diethylstilboestrol) التي كانت تُباع تحت مسمى تجاري هو ديستافال(Distaval)، وتُنتجها شركة ألمانية متخصصة في صناعة العقاقير هي مجموعة جرونينثال(Grünenthal Group)، حيث تمت صناعتها عام 1953، وتسويقها حول العالم في عام 1958، واستُخدمت مدة قرابة ثلاثين عاماً.

 

والفصل الثاني ينطلق من انكشاف ظاهرة غامضة ونادرة لم يعرفها الأطباء من قبل وهي زيادة مطردة في الإجهاض من جهة، وولادة أجنة غريبة ومعوقة ومشوهة من جهة أخرى، وبعد سنوات من متابعة هذه الحالات ومراقبتها في بعض دول العالم، أكد الأطباء بأن السبب هو تناول المرأة الحامل لدواء الثاليدوميد، أي كان هذا الدواء غير "مستدام"، فهو يبني من جهة، ولكن يهدم من جهة أخرى، ويعالج المرأة من جهة، ولكن يسبب لها مشكلة مرضية مزمنة فتضع جنيناً من المخلوقات الغريبة من جهة أخرى. ثم بعد سنوات أخرى من الدراسات الميدانية تأكد المجتمع الطبي بأن المتهم في ولادة هذه المخلوقات الغريبة هو هذا الدواء السحري الأعجوبة!

 

ولكن بالرغم من الأدلة الدامغة التي قدَّمها الأطباء عن الآثار الجانبية المهلكة لهذا الدواء، إلا أن الشركة المصنعة للدواء في ألمانيا لم تعترف بداية بهذه العلاقة السببية واستمرت على غيها وتدافع عن دوائها عدة سنوات، حتى رُفعت ضدها الآلاف من القضايا في المحاكم في عدة دول. وبعد مرور أكثر من ستين عاماً على النكبة البشرية اعترف الرئيس التنفيذي للشركة في سبتمبر 2012، وأعرب عن أسفه لوقوع هذه المأساة البشرية العضوية والنفسية، وتخليداً لذكرى هذا المرض أَسدل الستار عن تمثال فريد من نوعه مصنوعاً من البرونز موجود في مدينة ستولبرج(Stolberg) غرب ألمانيا، ومثل هذا التمثال لا تُشاهده في أية دولةٍ أخرى في العالم، فهو يُجسم منظر طفلٍ صغيرٍ لا أطراف له، أي ليست له أيدٍ أو أرجل وأُطلق عليه بالطفل المريض(the sick child).

 

ولكن السؤال الأخير الذي عجز العلماء عن الإجابة عليه لأكثر من ستين عاماً هو آلية تأثير الدواء على الجنين في بطن أمه، وكيفية ولادة أجنة غريبة ومشوهة، وقد جاءت الإجابة في البحث المنشور في مارس 2021 في مجلة(eLife)، حيث اكتشف الباحثون من معهد دانا_فاربر للسرطان(Dana-Farber Cancer Institute) آلية هذا الدواء في إحداث التشوهات للجنين. فهذا الدواء يتعارض مع عمل البروتين الرئيس الموجود في الخلية والمعني بنمو الجنين، فيعمل على تحفيز تحلل البروتين في الخلايا ويؤثر على الجينات داخل الخلية، وبالتحديد(SALL4)، وتحلل هذا الجين وحدوث طفرات له يلغي نمو الأطراف والأعضاء الأخرى من جسم الجنين كالأذن والعين وغيرهما، فينجم عن هذه العملية الطفرية في البروتين أو الجينات في ولادة الأجنة المشوهة، أو الإصابة بأمراض القلب، أو الإجهاض.

 

ونهاية القول المفيد في هذه الطامة الكبرى هو أن على الإنسان أنْ لا يستعجل في إدخال أية مادة كيميائية، أو حيوية، أو فيزيائية إلى الأسواق وإلى بيئتنا، سواء أكانت أدوية وعقاقير، أو منتجات استهلاكية، أو غيرهما قبل إجراء الدراسات الكاملة والشاملة على هذه المواد من حيث تأثيرها على الإنسان، ومصيرها عند دخولها في مكونات بيئتنا، حتى نتأكد من سلامتها علينا وعلى عناصر بيئتنا الحية وغير الحية ونتجنب وقوع مثل هذه النكبات البشرية.