الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

مُضْغة القلب في خطر

قال سبحانه وتعالى في سورة التين: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ "، وقال المفسرون بأن هذه الآية تعني بأن الإنسان تام الخَلْقْ، ومتناسب الأعضاء، فخلق الله بني آدم في أعدل قامة، وأجمل صورة، وأحسن هيئة، وكل هذا في تقديري يتضمن الشكل الخارجي للإنسان ومظهره العام، كما يتضمن في الوقت نفسه كمال خلق أعضاء الجسم الداخلية التي لا نراها مباشرة أمامنا.

وهذه الأعضاء تعمل معاً بشكلٍ متكامل، بحيث يعتمد كل عضو بدرجةٍ أو بأخرى على الأعضاء الثانية في أداء مهمته ووظيفته، ولكن بالرغم من ذلك فإن هناك اختلافاً وتفاوتاً في مكانة وأهمية كل عضو، والدور الذي يلعبه في استدامة عطاء الجسد وحيويته وإنتاجه، فهناك عضو ميَّزه رب العالمين على سائر الأعضاء، وفضله عليهم لأهميته البالغة بالنسبة للجسد كله، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في الجسد مُضْغة أذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

ولكن مضغة القلب هذه تقع منذ عقود تحت ضغوط شديدة تؤثر على استدامة قوتها وعطائها، وتعاني من مؤثرات خارجية كثيرة تُضعف قيامها لوظيفتها، وتشل مع الوقت حيويتها، فتُوقف نشاطها ونبضها كلياً، فيهلك الجسد كله.

وقد اكتشف العلماء منذ سنوات بأن مضغة القلب مهددة في أمنها الصحي نتيجة للملوثات التي لا تُعد ولا تحصي والتي نسمح لها بأيدينا طواعية من مصادر كثيرة من الانبعاث إلى مكونات البيئة من ماء، وهواء، وتربة. ومن هذه المصادر بشكلٍ خاص مئات الآلاف من المصانع المتحركة التي تجوب شوارعنا من شتى أنواع المركبات ليلاً نهاراً وعلى مدار الساعة فتُطلق خليطاً معقداً وساماً ومسرطناً من الملوثات، إضافة إلى محطات توليد الكهرباء والمصانع بمختلف أحجامها وأنواعها.

وهذا الخليط من شتى أنواع الملوثات الكيميائية الذي ينبعث من هذه المصادر يختلف في حدة وقوة تأثيره على عناصر البيئة من جهة، وعلى صحة الإنسان وسلامة أعضاء الجسد الداخلية من جهة أخرى. ونظراً لأهمية القلب لاستدامة حياة الإنسان، فقد اتجهت أنظار العلماء والأطباء وتركزت بحوثهم على مدى تأثر القلب عند تعرضه لهذه الملوثات من عدة مناحي، منها من ناحية أداء القلب لوظيفته، ومنها تغير دقات القلب زيادة أو نقصاناً، وأخيراً الأمراض المتعلقة بالقلب والناجمة عن هذه الملوثات.

وهناك عدة ملوثات تتحمل مسؤولية إفساد صحة القلب، منها غاز الأوزون الذي يتكون من انبعاث الملوثات من السيارات، وبالتحديد أكاسيد النيتروجين والهيدروكربونات والتي عند وجود أشعة الشمس الحارة تتحول إلى ملوثات مؤكسدة خطرة على رأسها غاز الأوزون. ومن الملوثات أيضاً الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها يساوي أو يقل عن 2.5 ميكروميتر، والتي تنبعث أساساً من عوادم السيارات، وبخاصة التي تعمل بوقود الديزل. وهذه الجسيمات الدقيقة تكمن خطورتها وتهديدها للصحة العامة، وبالتحديد القلب والجهاز التنفسي في أنها متناهية في الصغر ولها القدرة على غزو ممرات الجهاز التنفسي وصولاً إلى العمق وهو الرئتين، ومنها تتمكن هذه الجسيمات من الانتقال إلى الدورة الدموية والوصول إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان، بما في ذلك القلب.

وهناك دراسات كثيرة وثَّقت وأثبتت هذه الحقيقة حتى تحولت إلى إجماع في المجتمع الطبي، منها الدراسة الفريدة، وتُعد الأولى من نوعها وهي تحت عنوان: "التأثيرات الحادة للجسيمات الدقيقة على نبضات القلب عند المراهقين"، والمنشورة في "مجلة جمعية القلب الأمريكية"( Journal of the American Heart Association)، في 14 سبتمبر 2022.

فهذه الدراسة التي هدفت إلى بيان العلاقة بين التعرض للدخان وتغير نبضات القلب، شارك فيها 322 من المراهقين الأصحاء الذين لا يعانون من أية مشكلات صحية لها علاقة بالقلب، ومعدل أعمارهم 17 عاماً من ولاية بنسلفانيا الأمريكية، حيث تم تزويدهم بجهازين محمولين لمدة 24 ساعة. أما الجهاز الأول فيقيس تركيز الدخان الذي يتعرض له المراهق بشكلٍ مستمر طوال يوم واحد، والثاني جهاز هولتر إي سي جي(Holter ECG) الذي يراقب ويقيس التغير في نبضات القلب، حيث قام الباحثون بدراسة نوعين من عدم انتظام دقات القلب، وهما التقلصات الأذينية المبكرة(premature atrial contractions)، حيث يكون النبض من الجزء العلوي من القلب، والثاني فهو انقباضات البطين السابق لأوانه أو المبكرة(Premature ventricular contractions)، ويقع هذا النوع عندما يحدث نبض القلب من الجزء السفلي من القلب.

وكانت الاستنتاجات مقلقة بدرجة كبيرة حيث إنه خلال يوم واحد تعرض 245 أو 79% من المراهقين الذين شاركوا في الدراسة لما لا يقل عن مرة واحدة من حالة دقات القلب غير المنتظمة، والتي يُطلق عليها طبياً(arrhythmias)، وكلما زاد تركيز الدخان في الهواء الجوي ارتفعت عدد مرات التعرض لحالة نبض القلب غير المنتظم. كما توصلت الدراسة إلى استنتاج هام هو أنه حتى عندما تكون نسبة الجسيمات الدقيقة في الهواء منخفضة جداً وأقل من المواصفات المتعلقة بجودة الهواء، مثل معدل 17 ميكروجراماً للجسيمات الدقيقة لكل متر مكعب في اليوم، فإن المراهقين مازالوا يعانون من هذه الحالة الصحية الخطيرة التي تهدد وظيفة القلب، وتؤدي إلى مضاعفات ومشكلات حادة في القلب والإصابة بأمراض قلبية مختلفة، مثل مرض الرجفان الأذيني(atrial fibrillation)، وتخثر الدم، ثم السكتة الدماغية والموت المبكر والمفاجئ. كذلك أفادت الدراسة بأن تأثير الدخان على القلب ينكشف سريعاً وبعد مرور نصف ساعة إلى ساعتين فقط من التعرض له، حيث تتغير نبضات القلب وتصبح غير منتظمة.

فهذه الدراسة، وأبحاث كثيرة أخرى توصلت إلى استنتاجٍٍ مخيف يجب أن نقف عنده ملياً، ونفكر في تداعياته على المجتمع، وهو أن المراهقين والشباب اليوم مهددين في أمنهم الصحي فهم يصابون بأمراض القلب التي كانت في العقود الماضية تُعد من أمراض القلب التي يصاب بها كبار السن والشيوخ الذين بلغوا من الكبر عِتيا، واشتعل رأسهم شيبا، وذلك لعدة أسباب منها تلوث الهواء، وبالتحديد وجود الدخان والجسيمات الدقيقة، ومنها تدخين السجائر والشيشة، ومنها أخيراً شرب الخمر ونمط الحياة غير الصحي، وهذه الظاهرة المرضية العصرية تعاني منها مجتمعات كثيرة من ضمنها البحرين، مما يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة لمنع تفاقمها بدرجة أشد وأعمق.

 

الأحد، 25 سبتمبر 2022

شوارعنا تشبعت بالسيارات فما تأثيراتها على صحتنا؟

منذ عقود وأنا أُتابع التطورات المتعلقة بمشكلة السيارات في شوارعنا، وأراقب عن قرب الزيادة المطردة الطفرية للسيارات في بلادنا، حيث ألفت كتاباً مفصلاً حول هذه القضية البيئية الصحية، والاجتماعية الاقتصادية في عام 1999 تحت عنوان:" السيارات: المشكلة والحل"، وقدَّمت في ذلك الوقت مجموعة من الحلول المتكاملة والشاملة لمواجهة هذه المشكلة التي تعاني منها معظم المدن الحضرية حول العالم، وبيَّنتُ دور ومسؤولية  كل وزارة، وكل جهة حكومية وغير حكومية لعلاجها والتصدي لها.

ومنذ ذلك الوقت والأوضاع تزداد سوءاً، والمشكلة تزداد تفاقماً، وساعات الازدحام والاكتظاظ المروري تتعاظم كل سنة وفي كل وقت من اليوم، فأعداد السيارات في هذه المساحة الضيقة من بلادنا ترتفع بنسبة كبيرة لا تتناسب مع عدد ومساحة الشوارع، وهذه الزيادة غير الطبيعية في السيارات لا تواكبها في الوقت نفسه زيادة مماثلة في أعداد ونوعية وحجم وطول الشوارع، بحيث إنها تتناسب وتتماشى مع هذه الأعداد المتنامية الرهيبة.

والإحصاءات والمعلومات المتوافرة لدي منذ الخمسينيات من القرن المنصرم تؤكد هذه الحقيقة الواقعة أمامنا، والمشهودة لكل مواطن ومقيم بشكلٍ يومي. فعلى سبيل المثال، عدد السيارات في عام 1954 كان 3396 سيارة، وفي عام 1957 بلغ 5595، وعام  1960 كان العدد 6417، ثم في عام 1977 زاد بنسبة كبيرة بحيث إن العدد وصل إلى 45850 سيارة. ومنذ عام 1977 وأعداد السيارات تقفز مساحات واسعة وتغطي شوارعنا برمتها، حتى تشبعت بها الآن، وربما في السنوات القليلة القادمة لن تتحمل شوارعنا المزيد من هذه السيارات فنحتل بذلك المرتبة الأولى بالنسبة للكثافة المرورية على المستوى الدولي، حيث وصل العدد في عام 2015 إلى 545 ألف، وفي عام 2018 بلغ 640 ألف، ثم قفز إلى 711 ألف في عام 2019. وأخوف ما أخافه الآن وأُحذر منه هو أننا في المستقبل حتى لو أردنا تشييد شوارع جديدة، أو توسعة مساحة وحجم الشوارع القديمة الموجودة حالياً، فإننا مع هذه الزيادة غير المتوقفة والمتنامية لأعداد السيارات، فإننا لن نتمكن من القيام بذلك، لأن مساحة البحرية محدودة وصغيرة جداً مقارنة بأعداد السيارات، ولا توجد حالياً أو في المستقبل المنظور أية مساحة أو قطعة أرض غير مأهولة بالسكان، أو غير مملوكة لأحد لبناء الشوارع عليها.

وبالرغم من هذا الجانب المقلق لارتفاع أعداد السيارات والازدحام الشديد الناجم عنها والذي يؤثر على نفسيتنا، وإنتاجنا، وتنميتنا، فإن هناك بعداً آخر لا يقل تهديداً لنا من الاكتظاظ المروري، بل هو أشد خطورة وتنكيلاً بنا، وهو المتعلق بالأمن الصحي لكل إنسان، الأطفال، والشباب، والشيوخ، وهذا الجانب عادة ما يتم تجاهله من قبل الحكومات وغض الطرف عنه، ولا يُعطي الأولوية من ضمن البرامج السنوية للدول.

فعوادم السيارات، سواء السيارات التي تشتغل بالديزل أو الجازولين، تنبعث عنها ملوثات سامة، وخطرة، ومسرطنة، ومن هذه الملوثات المؤدية إلى الإصابة بالسرطان هي البنزين، وبنزوبيرين، إضافة إلى الدخان، أو الذي نُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة، وبخاصة الجسيمات الصغيرة الحجم التي يقل قطرها عن 2.5 ميكروميتر.

وعوادم السيارات معروفة منذ الأربعينيات من القرن المنصرم بأنها تسبب ظاهرة تنكشف في السماء وتُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي، حيث تتحول السماء الزرقاء الصافية الجميلة إلى اللون الأصفر البني المتشبع بالسموم. وهذه السحب عندما تظهر تدق أجراس الإنذار في المدن، وتصيح وسائل الإعلام محذرة الناس من الخروج، أو ممارسة الأنشطة الرياضية في البيئات الخارجية، بل وفي بعض الحالات الحادة تتوقف عجلة التنمية كلياً، وتنشل الحركة المرورية وحركة التنقل والسفر، فالمطارات تُوقف رحلاتها الجوية نتيجة لانعدام الرؤية، والحافلات والقطارات تتجمد في محطاتها، والسيارات الأخرى تبقى في منازلها، وتُغلق المدارس والجامعات، وتتوقف المصانع عن العمل، وتمتلأ المستشفيات وأقسام الطوارئ بالمتضررين صحياً من هذه الغيوم المرضية الكئيبة.

وفي الحقيقة فإن الدراسات حول تأثير الملوثات التي تنطلق من السيارات لم تتوقف منذ أن ولجت السيارات الشوارع، وفي كل يوم تكتشف الأبحاث بُعداً جديداً للسيارات، وبخاصة الجانب المتعلق بالأمن الصحي للناس.

فعلى سبيل المثال، هناك الدراسة التي عُرضت في العاشر من سبتمبر في مؤتمر الجمعية الأوروبية لطب الأورام(European Society for Medical Oncology)، والذي عُقد في باريس في الفترة من 9 إلى 13 سبتمبر 2022، وغطت هذه الدراسة عينة من الناس بلغت  463679 يعيشون في بريطانيا وكوريا الجنوبية وتايوان. فهذه الدراسة هدفت إلى بيان علاقة التلوث من عوادم السيارات بالإصابة بالسرطان، وبالتحديد سرطان الرئة عند غير المدخنين، مع التركيز على دور دخان السيارات، أو الجسيمات الدقيقة المشبعة بالسموم والمواد المسرطنة في الإصابة بسرطان الرئة من بين غير المدخنين.

فمن الحقائق العلمية التي يُجمع عليها العلماء منذ الخمسينيات من القرن المنصرم هي أن التدخين بكل أنواعه يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة، أي أن هناك علاقة مباشرة وسببية بين المدخنين وتعرضهم لسرطان الرئة، ولكن هذه الدراسة اليوم تُضيف سبباً جديداً ومصدراً حديثاً للإصابة بسرطان الرئة غير المعروف تقليدياً لدى الأطباء، وهو تلوث الهواء الناجم عن السيارات، ودور دخان السيارات بالتحديد في تحفيز خلايا الرئة وتحويلها إلى خلايا سرطانية وأورام قاتلة.

فقد اكتَشفتْ هذه الدراسة بأن الجسيمات الدقيقة تسبب التهابات في خلايا الجهاز التنفسي فتعمل كعامل مساعد ومثير يزيد من احتمال حدوث طفراتٍ في بعض الجينات، وبالتحديد(EGFR and KRAS)، وتحولها إلى أورام خبيثة، ثم الإصابة بنوع خاص من السرطان يُطلق عليه سرطان الرئة ذو الخلايا غير الصغيرة(non-small cell lung cancer (NSCLC)). فوجود الجسيمات الدقيقة أو دخان السيارات وغيرها من المصادر يعمل كوقود في داخل الجسم يُشعل فتيل حدوث الطفرة في انقسام الخلايا وتحولها إلى أورام وخلايا سرطانية في الرئة.

كما أفادت هذه الدراسة الحالية ودراسات أخرى بأن تلوث الهواء بشكلٍ عام يصيب حالة واحدة من بين عشر حالات لسرطان الرئة من الذين لا يدخنون في المملكة المتحدة، ونحو 6000 من هؤلاء المرضى بسرطان الرئة من غير المدخنين يموتون سنوياً. أما على المستوى الدولي فقد قدَّرت منظمة الصحة العالمية بأن نحو 30 ألف يموتون موتاً مبكراً من سرطان الرئة نتيجة لتعرضهم للجسيمات الدقيقة الموجودة في الهواء الجوي.

وبالرغم من ثبوت العلاقة بين تلوث الهواء من السيارات والإصابة بعدة أمراض سرطانية، منها سرطان الرئة، إلا أنني لا أجد هذا الاهتمام من الحكومات بتلوث الهواء عامة يتناسب مع حجم الضرر الصحي والبيئي الناجمين عن السيارات، ولا أجد قضية تلوث الهواء تنزل بقوة ضمن قائمة الأولويات في البرامج الحكومية، فقد تم اختزال هذه القضية العصيبة والمعقدة برمتها في الازدحام في فترة من فترات اليوم! 

الخميس، 15 سبتمبر 2022

هل نستطيع منع الإصابة بالسرطان؟


مازال الغموض الشديد يحيط بمرض السرطان العصيب الذي ينزل على الإنسان دون سابق إنذار فيأخذه على حين غره، ومازالت هناك الكثير من الأسرار التي لم يكتشفها العلماء بعد حول هذا المرض الخبيث، فخفايا وألغاز المرض أكثر من الحقائق التي يعرفها الأطباء، ولذلك في الكثير من الحالات التي يُصاب بها الإنسان بنوعٍ من أنواع السرطان الكثيرة، تبقى أسبابها محيرة وغير محددة، ومصادرها مجهولة، وأسبابها غير معروفة.

 

فهناك الكثير من الدراسات التي عزت سبب السقوط في شباك السرطان بالعوامل الوراثية غير المحددة، أو الجينات غير معروفة المصدر والتي يحملها الإنسان من آبائه وأجداده، ولا دور له أو مسؤولية في وجودها في جسمه. 

 

فعلى سبيل المثال هناك دراسة منشورة في المجلة المرموقة "الطبيعة" في يناير عام 2015، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة علم الأورام للجمعية الطبية الأمريكية في يناير 2015، حيث توصلتا إلى استنتاج عام هو أن نحو 65% من حالات الإصابة للسرطان هي لا إرادية، أي لا دَخل للإنسان نفسه في الوقوع فيها، وليست لها علاقة بما يتعرض له في حياته من مؤثرات وملوثات مسرطنة، في حين أن قرابة  20 إلى 40% من حالات الإصابة بالسرطان ترجع لأسباب لها علاقة بتصرفات الفرد اليومية ونمط وأسلوب حياته، أي أنه يتحمل مسؤولية الإصابة به، مما يعني أننا نستطيع منع التعرض له كلياً.

 

كذلك نَشَرتْ مجلة "العِلم" في 24 مارس 2017 دراسة متكاملة حول الأسباب المحتملة للتعرض للسرطان، تحت عنوان: "السرطان والعامل الذي لا يمكن تجنبه"، وهذه الدراسة شملت مَرضى مصابين بـ 17 نوعاً من السرطان يعيشون في 69 دولة مختلفة. وفي هذه الدراسة قدَّم العلماء سبباً آخر للإصابة بالمرض وهو متعلق بكيفية استنساخ الخلايا، أو استنساخ الـ "دي إن أيه" في الجسم، حيث أكدت الدراسة بأن الجزء الأكبر من التغيرات التي تطرأ على الخلايا والتي تُكَون الخلايا السرطانية يكون بسبب استنساخ وانقسام الخلايا بطريقة غير مُنتظمة وبصورة عشوائية، أي حدوث طفرات وتغييرات في التركيب الجيني للخلايا لا تفسير علمي لها، أو وقوع أخطاء عند انقسام الخلايا لا يَعرف أحد تفسيرها، فتتحول الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية، وأُطلِقَ العلماء على هذا السبب الجديد بأخطاء الاستنساخ (replication errors)،أو العامل (R)، وأنا شخصياً أُطْلِقْ عليه بعامل "القضاء والقدر".

 

كما قامت هذه الدراسة بتقديم تحليلٍ كمي لنسبة مساهمة العوامل المعروفة في التعرض للسرطان بأنواعه المختلفة، حيث أفادت بأن 95% من حالات الإصابة بسرطان البروستات، والمخ، والعظام ترجع لأخطاء تنتج عند انقسام الخلايا أو العامل (R)، أو عامل الصدفة والقضاء والقدر، و 77% من تعرض الإنسان لسرطان البنكرياس مرتبط بهذا السبب، ولكن 35%  فقط من سرطان الرئة له علاقة بالصدفة والقضاء والقدر والخطأ في انقسام الخلايا، حيث إن الإصابة بسرطان الرئة له علاقة قوية بالتعرض للملوثات البيئية من مصادرها الكثيرة كالتدخين والشيشة وعوادم السيارات وغيرهما. وعلاوة على هذه الاستنتاجات، فقد أكدت الدراسة على أن نحو 66% من إجمالي السقوط في هذا المرض العضال ينجم عن الصدفة والقضاء والقدر الذي لا دور للإنسان في الوقوع فيه، في حين أن 29% ينتج لأسباب بيئية وأسلوب حياة الإنسان وممارساته اليومية وعاداته، و 5% فقط يعزى للجينات غير السليمة التي تنتقل إلينا من الآباء، أو العامل الوراثي.

 

والدراسات حول مصدر وأسباب هذا المرض الغامض مازالت مستمرة لتكشف نسبة مساهمة العوامل المجهولة وغير المحددة للإصابة بالمرض مقارنة بالعوامل التي تحت أيدينا ونستطيع التحكم فيها ومنعها. فهناك بحث منشور في العشرين من أغسطس 2022 في المجلة الطبية المعروفة "لانست"(THE LANCET) تحت عنوان: " العبء العالمي للسرطان الذي يُعزى إلى عوامل الخطر، تحليل منهجي لدراسة العبء العالمي للأمراض 2019". فهذه الدراسة أُجريت في 204 دول من كل قارات العالم، وقامت بتقييم وتحليل حالات الإصابة بالسرطان في الفترة من 2010 إلى 2019، ثم تقدير دور ومساهمة 34 نوعاً من المخاطر والسلوكيات والعادات اليومية والبيئة التي نعيش فيها عند الإصابة بـ 23 نوعاً من السرطان، مثل الرئة والحنجرة والقولون والمعدة والثدي والمبيض والرحم والكبد والبنكرياس والدم والمثانة والكلية.

 

وقد قسمت الدراسة المخاطر التي بأيدينا تجنبها والتخلص منها والتي تمنع الإصابة بالسرطان إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي مخاطر بيئية ومهنية متعلقة بتلوث الهواء في بيئة المنزل وبيئة العمل والبيئة بشكلٍ عام، والقسم الثاني هو مخاطر سلوكية لها علاقة بعاداتنا وممارساتنا اليومية مثل التدخين وشرب الخمر ووجباتنا الغذائية من الناحية النوعية والكمية وأنواع الرياضة التي نمارسها وحالتنا النفسية من القلق والإكتئاب ومدى تعرضنا لأشعة الشمس والأشعة فوق البنفسجية من مصابيح تغيير لون الجلد، إضافة إلى المخاطر الحيوية.

 

وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات عامة على المستوى الدولي. فأحد هذه الاستنتاجات هو أن المخاطر التي بأيدينا تجنبها ونتحمل مسؤوليتها قد تسببت في عام 2019 في موت 4.45 مليون إنسان، منهم 2.88 مليون رجل و 1.58 مليون إمرأة، وهي تمثل نسبة 44.4% من الوفيات بسبب السرطان على المستوى الدولي، وهذه النسبة أعلى من تقديرات عام 2001 التي بلغت 35%، فالعوامل المتعلقة بسلوكياتنا والبيئة التي نعيش فيها قد زادت بنسبة 20.4% من إصابتنا بالسرطان خلال الفترة من 2010 إلى 2019. وهذا يعني أن العوامل التي تسبب السرطان وبإمكاننا تجنبها تزيد مع الوقت، وعلينا إذن واجب الامتناع عنها ونبذها من حياتنا اليومية حتى نقلل من احتمال وقوعنا في شباك السرطان.

 

والاستنتاج العام الثاني فهو أن الخطر الأكبر المؤدي إلى الإصابة بالسرطان عند الرجال والنساء هو التدخين أولاً، ثم شرب الخمر ثانياً، وتأتي البدانة والوزن الزائد المفرط والسلوكيات الجنسية المنحرفة والخاطئة في المرتبتين الثالثة والرابعة من خطورة الإصابة بالسرطان. وكل هذه الأسباب المؤدية للسرطان نستطيع بتغيير عاداتنا وممارساتنا اليومية أن نتخلص منها ونبعد عن أنفسنا شبح هذا المرض العقيم.

 

والاستنتاج الثالث فهو أن السرطان يُعد السبب الثاني للوفيات على المستوى الدولي، ولذلك واكبت الأمم المتحدة نتائج هذه الدراسات وأصدرت في عام 2015 وثيقة "أهداف التنمية المستدامة" وهي مكونة من 17 هدفاً، حيث جاء في الهدف الثالث، البند رقم (4): تخفـيض الوفيــات المبكــرة الناجمــة عــن الأمــراض غـير المعديــة(مثل السرطان) بمقــدار الثلــث مــن خــلال الوقاية والعلاج وتعزيز الصحة والسلامة.

 

وانطلاقاً من هذه الاستنتاجات التي تمخضت عن دراسات كثيرة حول السرطان، أقترح وضع سياسات وإجراءات محددة على المستويين الحكومي والفردي لخفض أعداد المصابين من هذا المرض ومنع الإصابة به. أما على المستوى الحكومي فأقترح اتجاهين لهذه السياسات، الأول هو الكشف المبكر عن المرض، والتشخيص الصحيح، وتوفير أحدث أنواع الأجهزة والإجراءات الخاصة بعلاج المرض. والاتجاه الثاني فهو منع أسباب ومصادر المرض من المجتمع، مثل منع التدخين وشرب الخمر، فما تحصدها الدولة من ضرائب على السجائر والخمر تذهب كلها، بل وأكثر منها في الانفاق على الأعداد المتزايدة من مرضى السرطان وغيرها من الأمراض المزمنة التي لها علاقة بالتدخين والخمر. وأما على المستوى الفردي فيجب على الجميع دراسة أسباب المرض التي ذكرناها سابقاً والتي بأيدينا تجنبها، والأخذ بالأسباب والعمل بتغيير نمط الحياة والسلوكيات لتكون أكثر استدامة من الناحية الصحية، وبخاصة الوقاية من السرطان، واتباع منهج الإسلام الذي يقول "إعقلها وتوكل".

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2022

السرقة جهاراً نهاراً

اجتمع الممثلون من دول العالم في المقر الرئيس للأمم المتحدة في نيويورك في الفترة من 15 إلى 26 أغسطس 2022، ولكن خرج هؤلاء المندوبون من الاجتماع كما دخلوا فيه دون أية نتائج ملموسة، أو حدوث أي تطور وتقدم ملموس في التصدي لإحدى القضايا البيئية والاقتصادية الحيوية جداً، علماً بأن هذا الاجتماع ليس هو الأول من نوعه لكي نُقدم المبررات، ونُعذر الدول والوفود المشاركة لعدم الوصول إلى نتيجة حاسمة وقرار جماعي مشترك، وإنما هو الجولة الخامسة من المفاوضات والمناقشات حول هذه القضية التي استمرت عشرات السنين حتى يومنا هذا.

 

وفي تقديري فإن حساسية هذه القضية بالنسبة للدول، وبخاصة الدول الصناعية الإنتهازية المتقدمة التي تلهث وراء موارد وثروات الأرض أينما كانت فوق الأرض، أو تحت الأرض، أو في أعماق المحيطات، أو في الفضاء العليا، وتجري نحو استغلالها والسيطرة عليها قَبْلَ الآخرين، إضافة إلى البعد الاقتصادي الكبير واللامحدود لهذه القضية، وعلاوة على الجانب البيئي والتنوع الحيوي، فإن كل هذه الجوانب تجعل الوصول إلى اتفاق مشترك ممثلاً في معاهدة دولية لمواجهة هذه القضية، وملزمة للجميع، أمراً صعباً ومعقداً، وربما مستحيلاً على المدى القريب.

 

فدول العالم تسعى إلى بلوغ مرئيات توافقية لإدارة منطقة بحرية تشترك فيها كافة دول العالم، فهي منطقة عامة لا تخص أية دولة بعينها، وهي تراث طبيعي للإنسانية جمعاء وليست لأيةِ دولة السيادة والهيمنة الشرعية والقانونية عليها، وهي بالتحديد مناطق أعالي المحيطات والبحار، ولذلك أَطلقتْ الأمم المتحدة على هذه المفاوضات التي تجرى بين الدول بمعاهدة البحار العليا (Treaty of the High Seas)، والتي تُعرف اختصاراً بمعاهدة "بي بي إن جي(BBNJ Treaty). وهذه المعاهدة الدولية تهدف إلى الاستخدام المستدام وحماية التنوع الحيوي في المناطق البحرية التي لا تخضع لسيادة أحد، أو حُكم وسلطة أية دولة، أي المياه الدولية خارج الحدود الجغرافية للدول، وخارج المنطقة البحرية الاقتصادية(exclusive economic zones).

 

ومناطق أعالي البحار المشتركة والعامة التي من المفروض أن ينتفع منها الجميع، تمثل نحو 64% من إجمالي مساحة المحيطات، وهذه المناطق العميقة الشاسعة العظيمة ليست خالية وميتة، أو صحراء بحرية قاحلة، كما يظنها الكثير من الناس، وإنما هي مناطق مزدهرة بالحياة، ومناطق الشعاب المرجانية الثرية بالكائنات البحرية السمكية التجارية، وغنية بالتنوع الحيوي والموارد الجينية الفريدة من نوعها، كذلك فإن أعماق هذه المناطق بشكلٍ خاص ليست كما يحسبها البعض فقط بأنها منبسطة ومظلمة وشديدة البرودة ومرتفعة الضغط، وإنما هناك كنز من الثروات المعدنية المختلفة تحت سطح البحر على أعماق كيلومترات طويلة تحت سطح البحر. فهناك مخزون عظيم من المعادن النفيسة والغنية التي يحتاج إليها البشر حالياً للدخول في سباق عصر الطاقة الخضراء النظيفة واستعمال السيارات الكهربائية التي لا تنبعث عنها الملوثات، وتحقيق السبق والريادة في كل هذه القطاعات. ولذلك فهذه المناطق الاقتصادية الواعدة هي التي تدور حولها المفاوضات، وهي التي لن تتخلى عنها الدول الصناعية المتقدمة وشركاتها المتنفذة القوية، وستنزل بكل ما أوتيت من قوة وضغوط سياسية، ونفوذ دبلوماسي على الحصول على حصة الأسد من هذه الموارد والخيرات الموجودة في أعماق المحيطات، وستترك الفتات للآخرين وللدول النامية النائمة والمستضعفة، كما فعلت من قبل ومازالت تفعل بالضبط بالنسبة للموارد فوق سطح الأرض، وفي أعماق تحت الأرض، وفي الفضاء العالي.

 

 فالدول المتقدمة تتبنى منذ فترة طويلة من الزمن سياسة المماطلة والتأجيل في اتخاذ القرار النهائي في اجتماعات الأمم المتحدة حول أعالي البحار، وهي بذلك أثناء غياب القانون الدولي والتقييد التشريعي الأممي ستعمل على سرقة ثروات المحيطات، ونهب خيرات الأمم والشعوب نهاراً جهاراً تحت أعين الأمم المتحدة، وستستمر عقوداً طويلة في عملية السطو البحري واستغلال خيرات المحيطات العامة والمشتركة من أجل تنمية دولهم ورفاهية شعوبهم. فهناك الآن ومنذ عقود سباق محتدم بين عددٍ صغير ومعروف من الشركات العملاقة التي تهيمن على ساحة التنقيب واستغلال الثروات المعدنية في أعماق المحيطات، وتحتكر كلياً هذه العملية برمتها وتعمل على الاستفراد باستنزاف هذه الخيرات المدفونة في أعماق المحيطات. فهي التي تمتلك المعلومات العلمية المتقدمة والسرية منذ أكثر من قرن عن دقائق مناطق أعالي البحار من العمق، والحرارة، والتيارات المائية، والحياة الفطرية النباتية والحيوانية والكائنات البحرية المجهرية الدقيقة، كما تعرف بالتفصيل مواقع وجود هذه الثروات ونوعية وكمية المعادن القابعة في كل مكان، وهي في الوقت نفسه الشركات الوحيدة التي تمتلك القدرات الفنية والتقنية والأجهزة والمعدات الباهظة الثمن المستخدمة في الاستكشاف والتنقيب واستخراج هذه المعادن من المواقع البحرية النائية والبعيدة على عمق عشرات الكيلومترات تحت سطح المحيط.   

 

وهناك عدة بنود في معاهدة أعالي البحار تعمل الدول المتقدمة على تأجيل وتأخير البت فيها، وعدم اتخاذ القرار بشأنها إلى أن تستتب وتخضع لهم كافة الأمور المتعلقة بالتنقيب عن الموارد القاعية. ومن هذه البنود تقييم الأثر البيئي لعمليات التنقيب عن المعادن، ووضع إطار قانوني دولي لإنشاء محميات طبيعية بحرية لحماية التنوع الحيوي البحري ومنع فقدان المزيد من ثروة الحياة الفطرية البحرية، حيث تهدف المعاهدة إلى حماية نحو 30% من مساحة المحيطات وتصنيفها كمحميات بحرية بحلول عام 2030، ومنها أيضاً تقنين والإشراف على الصيد البحري التجاري، ومنع دولة أو دول متنفذة بعينها من استغلال هذه الثروة الغذائية الاقتصادية الوفيرة والمتجددة والانتفاع بها فقط لصالح هذه الدول دون أن تستفيد الدول الفقيرة من هذا التراث الوفير المشترك. كذلك من البنود التي لها بعد اقتصادي واستثماري كبيرين هو حماية الموارد الجينية والاستفادة منها جميعاً كثروة عامة مشتركة، حيث إن هناك الكثير من الأدوية والعقاقير، ومواد الزينة والتجميل والتبرج، ومنتجات تجارية أخرى كثيرة يمكن أن تُستخلص من هذه الموارد الجديدة والفريدة من نوعها. 

 

فهذه المفاوضات الدولية حول "كعكة" أعالي المحيطات وكيفية تقسيمها وتوزيعها، أفرزتها محاولات وجهود دولية مضنية، من أهمها قانون البحار لعام 1982، والذي من بين أهدافه تأسيس إطار دولي شرعي للأنشطة البحرية هو السلطة الدولية لقاع البحار(International Seabed Authority) ، كما قسم القانون المناطق البحرية إلى خمس مناطق هي المياه الداخلية، والإقليمية، والمنطقة الاقتصادية، وأعالي البحار.

 

كذلك في 24 ديسمبر 2017 قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة الدعوة إلى عقد مؤتمر شبه حكومي تحت رعاية الأمم المتحدة للإعداد لأداة دولية ملزمة تحت مظلمة معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار من أجل إدارة مستدامة ومنصفة وعادلة لمنطقة أعالي المحيطات، حيث كان الاجتماع الأول، أو الجولة الأولى من المفاوضات في الفترة من 4 إلى 17 سبتمبر 2018، والخامسة والأخيرة الفاشلة كانت في أغسطس من العام الجاري.

 

فأعالي المحيطات تحتضن ثروة هائلة، وفي بطنها موارد طبيعية حيوية وغير حيوية عظيمة، فهي مخزن لا ينضب للمعادن التي تقوم عليها الصناعات القادمة، ولذلك فإن الدول الصناعية المتقدمة التي تلهث وتتعطش لأي مورد طبيعي جديد لاستدامة أعمالها التنموية لن تُفرط في هذه الخيرات الوفيرة، ولن تسمح للدول النامية الضعيفة التي لا قوة لها ولا نفوذ على المستوى الدولي من التمتع والمشاركة معها بأية قطعة من هذه الكعكة الكبيرة، فقَطْع وتوزيع هذه الكعكة سيكون فقط بين الدول المتقدمة المتنافسة التي تمتلك سلاح العلم والمعرفة الدقيقة والسرية بخفايا هذه المنطقة، وتمتلك في الوقت نفسه الأدوات والأجهزة المكلفة والمعقدة اللازمة لاستخراج هذه الثروة ومعالجتها والاستفادة منها. وأما الدول المستضعفة فعليها كالعادة الانتظار طويلاً حتى تفرغ الدول المتنفذة الكبرى من قَطْع الكعكة وتوزيعها وأكلها، فقد يتبقى لها شيء بسيط بعد ذلك من بقايا ومخلفات هذه الكعكة.

 

الأحد، 4 سبتمبر 2022

قصة فشل

في العادة يكتبُ الناس عن قصص النجاح والإنجازات، وأنا أكتبُ هنا عن قصص فشل وإخفاق للبشرية جمعاء، وأَهدفُ من ذلك إلى الوقوف أمامها ملياً للتدبر والتفكر في كافة أبعادها المتعلقة بأسباب وعوامل ومصادر فشلها، حتى لا نُكرر السقوط فيها مرة ثانية، فنتعظ بها، ونستفيد منها، ونتعلم من زلاتها وهفواتها، فالمؤمن لا يلدغ من جحرٍ مرتين.

 

وفي الواقع فإن قصص فشل الإنسان في مجال البيئة كثيرة ومتعددة منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى قبل نحو 200 عام، حيث أن رؤيته في التعامل مع البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية كانت ضبابية، أو لكي أكون واضحاً أكثر، وصريحاً جداً لم تكن له أية رؤية، وفي الوقت نفسه كان يفتقر أيضاً إلى سياسات مستدامة في إدارة الثروات البيئية الفطرية، فكانت الأعمال التنموية التي يقوم بها عشوائية وغير رشيدة ولا يهمها إلا جمع المكاسب المادية بأية وسيلة وتقديم المنتجات الاستهلاكية مهما كان نوعها للناس، وعدم التفكير كلياً في مرحلة انتهاء عُمر هذه المنتجات ومصيرها عند إلقائها في مكونات البيئة، إضافة إلى تجاهل كل ما ينطلق من هذه العملية الإنتاجية من مخلفات صلبة، أو سائلة، أو غازية وتداعياتها على صحة الإنسان وسلامة وأمن البيئة والحياة الفطرية.

 

فهذا التجاهل جعل الإنسان يتفاجأ بتشبع بيئتنا وعناصرها في كل شبرٍ صغير أو كبير من كوكبنا، سواء أكان قريباً أو بعيداً بالملوثات التي تمخضت عن أنشطته التنموية، كما أن الأدهى والأمر والأشد تأثيراً من تلوث مكونات البيئة هو تسمم كل عضو من جسم الإنسان بهذه الملوثات التي وصلت مع الوقت إلى كل خلية من خلايا جسمه، ولا يعلم أحد الأمراض والأسقام المزمنة التي نزلت علينا بسبب تعرضنا لعقود طويلة لهذه السموم الخطرة والمسببة للسرطان.

 

والحدث الذي وقع في البحرين في 25 أغسطس 2022 ذكَّرني بقصة فشل واحدة من بين القصص الكثيرة التي ارتكبتها أيدي الإنسان طواعية وبمحض إرادته. وقصة الفشل هذه نجمت عن صناعة منتجات استهلاكية خطرة وملوثات سمحنا بإرادتنا أن تنبعث إلى البيئة، وكلها شكَّلت مجموعة من الملوثات التي لا تتحلل بعد أن تنطلق فتمكث وتبقى طويلاً في بيئتنا، أي أنها تقاوم التحلل بفعل العوامل الطبيعية من ضوء، وحرارة، ورياح، وكائنات حية دقيقة. فهذه الملوثات كلها تتميز بصفات منها الثبات والاستقرار في مكونات البيئة، والانتقال لمسافات طويلة عبر التيارات البحرية والرياح الجوية، ومنها أيضاً قدرتها على التراكم والتضخم في مكونات البيئة القريبة والبعيدة من ماء وهواء وتربة والسلسلة الغذائية، وأخيراً قدرتها على الانتقال مع الوقت إلى جسم الإنسان وزيادة تركيزها مع الزمن في أعضائنا، بل وإن هذه المجموعة من الملوثات أخذتْ في الانتقال من الأم الحامل إلى جنينها، أي أننا نتيجة لجهلنا وسوء إدارتنا لبيئتنا ورَّثنا أبناءنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة من بعدنا ملوثات تبقى معهم أبد الدهر، وترافقهم طوال سنوات حياتهم من المهد إلى اللحد، فيُعانون من تداعياتها ومن الإعاقات والتشوهات والعلل التي تنتج عنها. 

 

فقد دشنت البحرين الخطة الوطنية للتعامل مع هذه المجموعة السامة للبيئة والإنسان من الملوثات المهددة لصحة الأجيال، والتي يُطلق عليها الملوثات العضوية الثابتة(persistent organic pollutants, POPs). وهذه الخطة مستخلصة من الجهود الدولية لمكافحة ومواجهة أخطاء الإنسان وفشله. فبعد أن سمح الإنسان منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم لملايين الأطنان من هذه الملوثات في الانطلاق إلى البيئة بحجة مقاومة الأمراض الناجمة من الآفات والحشرات، أو زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية، أو غيرها من الأسباب، تبين له وبعد عقود من تدمير هذه الملوثات لصحة الإنسان وبيئته بأن مضارها أكثر من منافعها، ومفاسدها أشد من محاسنها، وتدميرها أكبر من بنائها. فعندئذٍ اجتمع البشر لإنقاذ أنفسهم من شرور هذه الملوثات معتمدين بذلك على آلية دولية هي المعاهدات والاتفاقيات، والتي تمثلت في هذه الحالة في معاهدة أستوكهولم حول "حماية صحة الإنسان والبيئة من الملوثات العضوية الثابتة" في 22 مايو 2001.

 

وفي هذه المعاهدة تمت الموافقة على التصدي لـ 12 فقط من هذه الملوثات الكثيرة السامة والمسرطنة التي اُطلقَ عليها المجموعة القذرة، أو "الدرزينة القذرة"(Dirty Dozen). ومن هذه السموم التي تم تقيد حركتها وانتشارها الآن هي "بايفينل متعدد الكلور"(بي سي بي) (PCBs) المستخدم في المحولات الكهربائية والأجهزة الكهربائية الأخرى، ومبيدات حشرية عضوية مكلورة في مقدمتها المبيد الحشري المشهور "دِي دي تي"(DDT)، الذي أحدث ضجة دولية وأزمة عالمية عصيبة، تتمثل في تهديد بعض أنواع الطيور بالانقراض، مثل رمز الولايات المتحدة الأمريكية، النسر الأصلع، علاوة على تراكمه وارتفاع تركيزه في جسم الإنسان وحليب الأم وجميع مكونات بيئتنا. كذلك من السموم التي عانينا منها عقود طويلة من الزمن بعض المركبات العضوية متعددة الفلور(بي إف أي إس)(PFAS) والمركبات العضوية الأروماتيكية(بي أي إش)(PAHs)، إضافة إلى أخطر ملوث عرفه الإنسان وهو مجموعة مركبات يُطلق عليها "الديكسين"، والتي تنبعث من عمليات الحرق، سواء حرق القمامة المنزلية أو حرق المخلفات الطبية وغيرهما.

 

 

والغريب في الأمر والمحير هو أن الإنسان سمح لملوثات عضوية كثيرة أخرى ثابتة ولا تتحلل في أن تسرح وتمرح في بيئتنا، وتتراكم في أجسامنا، فيزيد تركيزها في خلايا أعضائنا دون أن يتصدى لها ويمنع استخدامها ودخولها في عناصر البيئة، حتى في مايو 2009، أي بعد 8 سنوات عجاف، عندما أضاف 16 ملوثاً آخر إلى القائمة السوداء السابقة. ومازالت هناك أيضاً ملوثات أخرى تنتظر دورها لكي تُوضع ضمن المجموعة القذرة المحظورة، مما يعني، كما كان عليه الوضع سابقاً لعقود طويلة، فإن هذه الملوثات ستستمر في تدمير صحة الإنسان وتضر بصحته، دون أن يقاوم الإنسان هذا الضرر، أو أن يتصدى له حتى يحين وقتها، وفي هذه الأثناء، ولسنوات طويلة قادمة، فإن هذه الملوثات مسموح استخدامها وإطلاقها إلى بيئتنا دون حسيبٍ أو رقيب، وستبقى حرة وطليقة تفعل بنا ما تشاء!

 

وهذا الفشل نفسه يتكرر سنة بعد سنة منذ أكثر من مائة عام، فيسقط الإنسان في شر أعماله، وفساد أفعاله بحجة التنمية والتطوير والتقدم، فيحل مشكلة من جانب ويخلق في الوقت نفسه مشكلات أخرى أشد وطأة وتنكيلاً بصحتنا وأمن أنظمة بيئتنا من المشكلة السابقة، ولكن في كل مرة مع وجوه جديدة وملوثات ومنتجات أخرى حديثة يصنعها هو بنفسه، أو يسمح لها بدخول بيئتنا والتراكم في أجسامنا، وكأنه لا يريد أن يتعلم من تجاربه السابقة، أو خبراته الكثيرة المتراكمة والممتدة أكثر من قرن من الزمان!