الجمعة، 28 يوليو 2023

كابوس التفجيرات النووية يلاحق الشعب الأمريكي


إذا كانت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية لا ترقُب إلاَّ ولا ذمة في الشعب الأمريكي نفسه، وفي صحة وأمن وسلامة المواطن الأمريكي، فماذا نتوقع أن يكون تعامل هذه الدولة الصناعية المتقدمة مع الشعوب الأخرى، وبخاصة الشعوب والدول الضعيفة والفقيرة، والأمم المتفرقة التي لا تجمعها كتلة واحدة تحت سقف ومظلة واحدة قوية ومتنفذة وذات سلطة عميقة؟

فمن أجل تحقيق السبق العسكري والسيطرة على موارد وثروات شعوب العالم، وبخاصة في مجال تصنيع قنابل الدمار الشامل النووية والبيولوجية، ومن أجل بلوغ التقدم العلمي في كافة المجالات والقطاعات، فإن الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لا تتأخر في استخدام الشعب الأمريكي نفسه، أو الشعوب الأخرى كفئران تجارب تُجري عليها اختباراتها الأولية، وفي الوقت نفسه ومن أجل الفوز في سباق التقدم والتنمية عامة فإنها لا تترد في تطويع البيئة الأمريكية برمتها، أو أية بيئة أجنبية، من هواء، وماء، وتربة، كحقل تجارب كبيرة لا نهاية لها، فتستبيح حرماتها، وتعكر نقاوتها وصفائها، وتدمرها وتعتدي عليها نوعياً وكمياً. فمن أجل تحقيق هذه الأهداف فلا توجد خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ولا مبادئ، ولا أخلاقيات، ولا قيم تقف أمامها وتتصدى لها، فكل ممارسة جائزة ومبررة، سواء من قبل الحكومة الأمريكية نفسها، أو من قبل الشركات العملاقة المسيطرة على قرارات وتوجهات الحكومات الأمريكية، والمهيمنة على سياساتها.

ولكن من محاسن الولايات المتحدة الأمريكية أن الشعب نفسه، وعلماء أمريكا أنفسهم هم الذين يفضحون ممارسات الحكومة والشركات فيُطلقونها إلى العلن عن طريق النشر في وسائل الإعلام مباشرة، أو من خلال الأبحاث العلمية، والنشر في المجلات البحثية المتخصصة، سواء عند وقوعها، أو بعد سنوات وعقود طويلة من القيام بها. فالأرشيف الأمريكي، مهما كان سرياً لمدة سنوات طويلة، إلا أن هذه السرية تُرفع عنها ولو بعد حين، ولو طال عليها الزمن، فتتحول إلى وثائق عامة يطَّلعُ عليها العلماء والمختصون، كل في مجال علمه وتخصصه.

فعلى سبيل المثال، هناك التفجيرات النووية التي أجرتها الولايات المتحدة الأمريكية سراً وجهراً منذ التفجير التاريخي الأول المعروف بـ"ترنيتي"(Trinity) في 16 يوليو 1945 في ولاية نيو مكسيكو في مختبر لوْس ألامُوسْ(Los Alamos National Laboratory) حتى تفجيرات الانشطارات النووية الأخرى، ثم تفجيرات الاندماج النووي الهيدروجيني في جزر المارشال في المحيط الهادئ. فكل هذه التجارب الإرهابية الإشعاعية الكارثية على الشعوب في أمريكا وخارج أمريكا، وعلى مكونات البيئة والحياة الفطرية أخذت تنكشف أسرارها وخفاياها وتفاصيلها يوماً بعد يوم، وستنكشف معلومات جديدة أخرى حول تداعياتها على البشر والحجر في المستقبل القريب.

فهناك بحث سيُنشر قريباً يُقدم معلومات جديدة حول الانعكاسات المأساوية لتفجير ترنيتي الذي أُجري فوق برج حديدي على ارتفاع نحو 30 متراً فوق سطح الأرض. وهذا التفجير الأول من بين 100 تجربة نووية أخرى أُجريت على أرض الولايات المتحدة الأمريكية ضمن "مشروع منهاتن" الشديد السرية قبيل وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في من الفترة من 1945 إلى 1962 في ولايتي نيو مكسيكو ونيفادا، والذي تمخض عنه إلقاء قنبلتين نوويتين، الأولى في هيروشيما في اليابان، والثانية بعدها بثلاثة أيام في ناجازاكي في 9 أغسطس 1945، حيث كانت الضربة القاضية التي أنهت الحرب. وإذا أردتَ أن تعيش أجواء هذا المشروع السري المشحونة والمعقدة الذي لم يعلم عنه أحد حتى معظم العاملين فيه، فيمكنك مشاهدة الفيلم الذي يُعرض حالياً تحت مسمى "أوبنهايمر"(Oppenheimer)، وهو الأمريكي الألماني الأصل الأب الروحي لقنبلة ترنيتي النووية الأولى.  

 فهذا البحث الجديد الأخير الذي سيَصدر تحت عنوان:"ترسبات تجارب الولايات المتحدة النووية في ولايتي نيو مكسيكو ونيفادا في الفترة من 1945 إلى 1962"، سيكشف النقاب عن معلومات وحقائق جديدة متعلقة بقضيتين رئيستين حول انفجار ترنيتي الأول. الأولى قوة الانفجار النووي، والثانية دائرة وحجم الترسبات الاشعاعات النووية الجافة والرطبة الناجمة عن الانفجار ونطاقها الجغرافي. وقد استندت الدراسة في الوصول إلى هذه الاستنتاجات ورسم خارطة لمناطق الترسبات الاشعاعية على آخر برامج الحاسب الآلي التي تم تطويرها في "الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي"(نووا)، إضافة إلى النماذج الرياضية الحديثة التي استخدمتْ المعلومات التاريخية المتوافرة حول الطقس والعوامل المناخية في منطقة الانفجار.

أما الأولى فقد قدَّرت الدراسة بأن القوة الحقيقية للانفجار كانت أكبر وأشد من المعروفة سابقاً وهي 21 كيلو طن من المادة المتفجرة تي إن تي(TNT) مقارنة بقوة 24.8 كيلو طن حسب البحث الحالي، مما يعني بأن حجم الملوثات الاشعاعية المنبعثة بكل أنواعها، ودرجة سميتها أعلى بنسبٍ مرتفعة جداً مقارنة بالتقديرات السابقة، ولذلك فإن مردوداتها على صحة الشعب الأمريكي أجمع كانت أشد وطأة وتنكيلاً بالإصابة بالأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج.

والقضية الثانية التي كشفت الدراسة النقاب عنها لأول مرة هي دائرة انتشار الملوثات المشعة، والمساحة الجغرافية التي غطتها. فانفجار "ترنيتي" ولَّد سُحباً اشعاعية ارتفعت إلى السماء، فبلغت علو قرابة 22 كيلومتراً في عمود السماء، ثم تحركت هذه السحب القاتلة حسب اتجاه وقوة الرياح في ذلك الوقت وانتقلت عبر مسافات جغرافية واسعة لم تكن معروفة من قبل. فهذه الدراسة أفادت بأن التلوث الاشعاعي لم ينزل على المدن الواقعة في ولاية نيو مكسيكو فحسب، وإنما سقطت ترسباتها المسببة للأسقام المزمنة على 46 ولاية أمريكية، بل وإن هذه الملوثات المشعة عبرت الحدود الجغرافية الشمالية والجنوبية لأمريكا، فوصلت إلى دولة المكسيك جنوباً، وشمالاً إلى بحيرة كرافورد(Crawford) في أونتاريو في كندا في 20 يوليو 1945، أي بعد أربعة أيام من وقوع الانفجار.

فهذه العملية الإرهابية الداخلية التي أجرتها أيادي الحكومة الأمريكية طواعية وبشكلٍ متعمد على الشعب الأمريكي، إضافة إلى مئات العمليات الأخرى، كانت أسوأ بكثير من عملية 11 سبتمبر الكارثية التي مات فيها المئات من الشعب الأمريكي في تلك اللحظة، بل وفي تقديري لا يمكن مقارنتها بتلك العملية. فالإرهاب الإشعاعي المتعمد كان إرهاب دولة وألحق الضرر وبشكلٍ مستمر، ولسنوات طويلة حتى يومنا هذا بمئات الملايين من البشر والحياة الفطرية وعناصر البيئة داخل وخارج الولايات الأمريكية، فترسبت المواد المشعة مباشرة على صدور الناس دون علمهم أو الإحساس بتعرضهم لها. فكما أنها أفسدت صحة الناس بطريقة فورية ومباشرة، فهذه المواد المشعة دهورت صحتهم بطرق غير مباشرة وعبر عقود من الزمن، فنزلت الملوثات المشعة مع المطر، والثلج فلوثت التربة، والمياه السطحية والجوفية، والنباتات والحيوانات وتراكمت فيها، ومنها انتقلت إلى الإنسان مع الوقت، وزاد تركيزها يوماً بعد يوم في جميع أعضاء جسده، فمنهم من قضى نحبه سريعاً، ومنهم من عانى سنوات عجاف طويلة من العلل والأمراض المزمنة، ومات موتة عصيبة بطيئة. والجريمة الكبرى التي قامت بها الحكومة الأمريكية هي اعتبار أن منطقة التفجير، وبخاصة في ولاية نيو مكسيكو، خالية من السكان، فلا حياة بشرية فيها من المواطنين الأمريكيين، علماً بأنه كانت هناك عوائل فقيرة، وغير متعلمة وبسيطة تعيش في منطقة لا تبعد أكثر من 20 كيلومتراً من أرض التفجير، وهؤلاء الناس كأنهم لا قيمة ولا وجود لهم في قاموس الإنسانية الأمريكية، فقد تُركوا على ضلالهم المعلوماتي، فلم يعلمُوا كلياً ما يدور حولهم، ولم يُخبرهم أحد بإخلاء منازلهم، سواء أثناء العملية الإرهابية، أو حتى بعد العملية. 

وجدير بالذكر فإن هذه العمليات الإشعاعية الإرهابية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من ستين عاماً ليست الآن جزءاً من التاريخ القديم، فذهبت آثارها، وانتهت تداعياتها، فهناك الآلاف من الشعب الأمريكي حتى الآن الذين يُقدمون طلبات التعويض لتدهور صحتهم بسبب التعرض لهذه الملوثات المشعة التي انبعثت من التفجيرات النووية قبل أكثر من ستة عقود، استناداً إلى قانون تعويضات التعرض للإشعاع لعام 1990 (Radiation Exposure Compensation Act). وقد أكد على هذه الحقيقة التحقيق المنشور في مجلة "تايم" الأمريكية في 21 يوليو 2023، تحت عنوان: "عانى سكان منطقة نافاجو من التجارب النووية. لا يروي أوبنهايمر قصتنا".

فهذه الحكومات الأمريكية المتعاقبة لم ولن تغير سياساتها واستراتيجياتها العامة، فكل شيء عندهم حلال ومشروع من أجل الفوز على باقي دول العالم في سباق تحقيق التقدم والتطور والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وها هي الآن تبدأ تطوير أسلحة نووية من الجيل القادم مرة ثانية، وفي المكان نفسه في مختبر لوْس ألامُوسْ الذي يُطلق عليه(PF-4)، حيث خصص بايدن 4.6 مليار دولار ووظف حتى الآن 17273 أمريكياً، حسب التحقيق المنشور في مجلة "تايم" في 24 يوليو 2023 تحت عنوان: "في المختبر الذي بناه أوبنهايمر، الولايات المتحدة تبني نواة مرة ثانية للقنبلة الذرية".

 

الثلاثاء، 25 يوليو 2023

تجنبوا نمط الحياة الغربي فإنه وباء

صرخة مدوية أَطْلقها الجراح الأمريكي العام(US Surgeon General)، والمسؤول الأول عن صحة المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية، وحذَّر فيها من واقعية أزمة صحية عميقة ومتجذرة في المجتمع الأمريكي برمته، فتُصيب بصفة خاصة الركن الرئيس من أركان بناء وتكوين واستدامة عطاء وتنمية المجتمعات، وهو فئة الأطفال والمراهقين والشباب.

 

وقد صدر هذا التوجيه الشديد العام من مسؤول الصحة العامة "فيفك ميرثي"(Vivek Murthy) في مقال كتبه في صحيفة "يو إس أيه توداي"(USA Today) الواسعة الانتشار في العاشر من يوليو 2023 تحت عنوان: "المخدرات وقضايا الصحة العقلية غير المعالجة تقتل أطفال أمريكا. يمكنكُ المساعدة في إيقافه". ومن الفقرات المهمة التي وردت في المقال، والتي تبين حجم هذه الأزمة الصحية العقيمة التي ضربت أطنابها في أعماق المجتمع الأمريكي، هي أن: "الأدلة والبراهين التي تؤكد تدهور الصحة العقلية لشباب أمريكا تزيد يوماً بعد يوم، وتؤكد على وجود أزمة حقيقية يعاني منها الأطفال والشباب والمراهقين، وتتمثل في ارتفاع مُطرد غير مسبوق في أعداد الذين يعانون من الاكتئاب، والقلق، والميل نحو الانتحار، إضافة إلى المراهقين الذين يقضون نحبهم من تعاطي المخدرات".   

وهذا النداء الاستغاثي الذي يتوجه به إلى المجتمع الأمريكي برمته لمواجهة هذا الوباء الصحي العقلي والنفسي المتزايد والحد من تداعياته على الشعب الأمريكي، ليس هو الأول من نوعه، ولن يكون حتماً الأخير، فقد نَشر هذا المسؤول الحكومي الأمريكي بياناً إلى وسائل الإعلام في الثالث من مايو 2023، تحت عنوان: "الجراح العام يدق ناقوس الخطر حول التأثير المدمر لوباء الوحدة والعزلة في الولايات المتحدة".

وفي هذه النشرة الإعلامية وجه عناية الشعب الأمريكي نحو ظاهرة عقيمة يعاني منها المجتمع الأمريكي خاصة، والمجتمعات الغربية العامة، ولها آثار خطيرة طويلة المدى على صحة الفرد عامة، سواء الصحة العقلية، أو النفسية، أو الجسدية، وتتفاقم هذه الظاهرة بدرجة أشد عند الشباب، علاوة على أن هذه الظاهرة تؤدي إلى الموت المبكر للأفراد الذين يعانون منها. وهذه الظاهرة هي الوحدة والعزلة التي يعاني منها الشاب وكبار السن على حدٍ سواء، والتي تعتبر من أنماط الحياة الغربية ومن العوامل الرئيسة لتدهور الصحة العقلية لدى الشعب الأمريكي عامة، وفئة الشباب خاصة.

فالعزلة والوحدة، كما جاء في البيان الرسمي، تزيد من نسبة أمراض القلب 29%، وترفع من مخاطر السكتة القلبية 32%، ومخاطر الخرف المبكر 60%، كما تزيد من نسبة الموت المبكر 60%، إضافة إلى الإصابة المزمنة بحالات تدهور الصحة العقلية، كالاكتئاب والقلق.

ومن أجل مواجهة هذا النمط من الحياة ومكافحة هذه الحالة الاجتماعية الشاذة ذات الانعكاسات الصحية الشاملة والبليغة على الفرد والمجتمع، دعا المسؤول الأول عن الصحة العامة إلى سرعة اتخاذ كافة الإجراءات لمواجهة هذه الأزمة الصحية العامة، كما قدَّم مقترحاً خاصاً تحت عنوان: "استراتيجية إطارية لتنمية العلاقات الاجتماعية على المستوى الاتحادي". وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز التواصل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، إضافة إلى التركيز على تقوية العلاقات الاجتماعية على كافة المستويات. كما تُقدم الاستراتيجية توصيات عامة حول دور الأفراد، والحكومات، ومكان العمل، والمنظمات والجمعيات الأهلية، في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة التي تحولت إلى وباء اجتماعي. وهذه الاستراتيجية الإطارية لها ستة أركان، الأول هو تقوية البنية الاجتماعية، مثل التواصل الفردي، إضافة إلى بناء المتنزهات والحدائق والمكتبات وملاعب الأطفال، والثاني هو وضع سياسات عامة تعزز من التواصل، والركن الثالث فهو تحريك ودعم القطاع الصحي وتوفير الرعاية والعناية اللازمين، والرابع إصلاح البيئة الرقمية، والخامس تعميق وتعزيز معلوماتنا حول هذه الظاهرة من حيث الأسباب والعلاج، وأخيراً الركن السادس وهو تنمية ثقافة الاتصال والتواصل وتغيير هذا النمط من الحياة.

وكل هذه التحذيرات من تدهور الصحة العقلية والنفسية مبنية على إحصاءات واقعية تُدعم حجم المعاناة المجتمعية، وحجم الأزمة الصحية الناجمة في تقديري من نمط الحياة غير المستدام. فقد نَشرتْ "إدارة خدمات تعاطي المخدرات والصحة العقلية" التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية تقريراً في ديسمبر 2022 تحت عنوان: "استخدام المواد الرئيسة ومؤشرات الصحة العقلية في الولايات الأمريكية: نتائج من الدراسة القومية لاستخدام المخدرات والصحة لعام 2021"، والمواد التي تقع تحت الدراسة هي التدخين وبخاصة السجائر الإلكترونية، والإفراط في شرب الخمر، والحشيش، والكوكايين، والهيروين، والحبوب المخدرة والمهلوسة، والأفيون. أما أمراض الصحة العقلية فيفيد التقرير بأن في عام 2021، 5.5%(14.1 مليون) من الشباب الذين أعمارهم 18 أو أكثر كانوا يعانون من مشكلات شديدة في صحتهم العقلية(Serious Mental Illness, SMI)، كما أنه في عام 2021 نحو 20.1%(5 ملايين) من الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 17 كانوا يعيشون تحت وطأة الاكتئاب الشديد، كذلك فإن 12.7%(3.3 مليون) من هذه الفئة العمرية كانت تفكر وتنوي الانتحار.

وتقرير آخر منشور في 16 ديسمبر 2022 من "مراكز منع والتحكم في المرض" ضمن سلسلة تقارير أسبوعية حول "الأمراض والوفيات"، تحت عنوان: " الوفيات من الجرعة الزائدة من المخدرات للفئة العمرية من 10 إلى 19 في الولايات الأمريكية، يوليو 2019 إلى ديسمبر 2021". فقد أفاد التقرير بأن هناك زيادة كبيرة في عدد الوفيات لمن أعمارهم تقع بين 14 و 18 في الفترة من عام 2019 إلى 2021. أما الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و 19 عاماً فقد زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 109% من يوليو 2019 إلى يوليو 2021، والوفيات من الحبوب المخدرة مثل الفنتانيل(Fentanyl) زادت بنسبة 182%. وبشكلٍ عام زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 30% في الفترة من 2019 إلى 2020، وبنسبة 15% في 2021، أي قرابة 108 آلاف وفاة في عام 2021.والذين تتراوح أعمارهم بين 14 و 18 زادت نسبة الوفيات من الجرعة الزائدة 94% في الفترة من 2019 إلى 2020، و 20% من 2020 إلى 2021.فالاستنتاجات العامة من التقرير أن هناك زيادة كبيرة في عدد الذين قضوا نحبهم بسبب الجرعة الزائدة من الذين تتراوح أعمارهم بين 10 إلى 19 سنة، وقرابة 41% منهم كانوا يعانون من مشكلات في الصحة العقلية.

وعلاوة على صرخات ونداءات المسؤول الأول عن الصحة العامة، فقد أعلن بايدن في خطابه الأول حول حالة الاتحاد بأن الصحة العقلية للأطفال والشباب خاصة هي من الأركان الرئيسة لجدول أعمال "الوحدة" بين الحزبين الرئيسين، أي القضايا غير الخلافية كأبحاث السرطان، والعناية بالجنود الأمريكيين السابقين، ومواجهة وباء الأفيون. كما دشنت وزارة الصحة والخدمات للإنسانية خطاً جديداً(Suicide and Crisis Lifeline) لكافة حالات أمراض الصحة العقلية في يوليو 2022، وهذا الخط حتى كتابة هذه السطور استلم أكثر من خمسة ملايين مكالمة، مما يؤكد تفشي ظاهرة تدهور الصحة العقلية في المجتمع الأمريكي.

 

فهذه الأزمة الاجتماعية الصحية التي تزلزل المجتمع الأمريكي برمته، وبخاصة الأطفال والشباب، هي نتيجة مباشرة وحتمية لنمط حياتهم، وانعكاس فوري لعاداتهم المجتمعية، والتي تتمثل في التفكك الأسري، وابتعاد وانفصال الشباب عن توجيه ومراقبة الوالدين منذ الصغر، وضعف الوازع الديني وفقر الروحانيات على كافة المستويات، إضافة إلى عدم وجود التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة والمجتمع، وضعف التكافل الاجتماعي بكل صوره وأشكاله. كذلك من الأسباب عدم قيام المدارس والجمعيات الأهلية بدورها في التربية السليمة ورفع مستوى الوعي بالسلوكيات الخاطئة والمدمرة.

 

ولذلك إذا أردنا أن نحمي مجتمعنا من الأمراض والأوبئة الصحية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات الغربية خاصة، فعلينا تجنب هذا النمط الغربي غير المستدام في حياتنا وفي مجتمعاتنا.

 

الخميس، 20 يوليو 2023

ما موقف العلم من السكر الصناعي "الأسْبَرتَيْم"

 

لجنتان فنيتان تابعتان لمنظمات الأمم المتحدة تقومان بدراسة قضية صحية واحدة، ولكن تخرجان بنتيجتين مختلفتين، وتتخذان تبعاً لذلك قرارين غير متطابقين.

 

أما القضية التي كانت موضع الدراسة والنقاش بين الخبراء المختصين في مجال المواد السرطانية والأبعاد الصحية للمضافات الغذائية، فهي القضية التي تمت إثارتها في 13 يوليو 2023، وأحدثت ضجة دولية على كافة المستويات من مختصين وعلماء ووسائل الإعلام، ومن بين عامة الشعوب والبسطاء من الناس.

وهذه القضية الدولية الصحية تتمثل في المخاطر الصحية، وبالتحديد مخاطر الإصابة بالسرطان من مادة "الأسبرتيم"(Aspartame) التي تضاف إلى المئات من المواد الغذائية منذ الثمانينيات من القرن المنصرم بدلاً من السكر الطبيعي، لإعطائها الطعم الحلو، والمذاق المستساغ من جميع الناس، ولكن دون أن تكون لها أية سعرات حرارية. فهذا النوع من السكر الصناعي يعد الأكثر شيوعاً، وأكثر حلاوة من السكر الطبيعي بنحو 200 مرة، ويوجد في الآلاف من المنتجات الغذائية، منها على سبيل المثال لا الحصر، المشروبات الغازية، الروب، الآيسكريم، وبعض الأدوية كأدوية الكحة والتهاب البلاعيم، ومعجون الأسنان، والقهوة، والعلكة، ويباع تحت مسميات متعددة منها:(Sugar Twin)، أو (Equal) أو (NutraSweet).

أما الفريق الدولي الأول فهو الذراع العلمي البحثي لمنظمة الصحة العالمية والمختص بأبحاث السرطان، وهي الوكالة الدولية لأبحاث السرطان. فهذه الوكالة أعادت تصنيف مادة الأسبرتيم ضمن المجموعة 2ب(2B)، أي "من المحتمل أن تكون مسرطنة للبشر"(possibly carcinogenic to humans)، حيث تحتوي هذه المجموعة على 323 مادة، علماً بأن المجموعة الأولى في هذا التصنيف الدولي هي المواد التي تُصنف بأنها "مسرطنة للبشر"، وتحتوي على 126 مادة مسرطنة، منها الخمر، والتدخين، وعوادم السيارات، وتلوث الهواء، وأشعة إكس، والمجموعة 2أ(2A) هي المواد التي "من الممكن أن تكون مسرطنة للبشر" وتتكون من 95 مادة، والمجموعة رقم 3، وهي الرابعة والأخيرة، فهي المواد "غير المصنفة بأنها مسرطنة للبشر". فهذا التصنيف الجديد للسكر الصناعي يقع في أدنى مجموعة للمواد التي يُشتبه أن تكون مسرطنة للبشر، وهي الأقل احتمالاً وإمكانية للإصابة بالسرطان، ويرجع السبب في هذا التصنيف، حسب رأي اللجنة هو محدودية الأدلة حول مخاطر الأسبرتيم.

 

والفريق الثاني الذي أعلن رأياً مخالفاً للفريق الأول من الخبراء، فيتكون من مجموعة مشتركة من الخبراء يمثلون منظمة الصحة العالمية ومنظمة الغذاء والزراعة(الفاو)( Joint Expert Committee on Food Additives)، وتهدف إلى تقييم المخاطر التي تسببها المضافات الغذائية للبشر على مدى فترة طويلة من الزمن، فتقيِّم علاقة استهلاكها والكمية التي يتناولها الإنسان على مدى الحياة بمخاطر الإصابة بالسرطان. وقد أعلنت هذه اللجنة بأنه: "لا توجد أدلة مقنعة من التجارب المخبرية، أو على البشر تُشير إلى أن الأسبرتيم لها تأثيرات ضارة عند تناولها في حدود المواصفات التي وضعتها اللجنة السابقة عام 1981، وهي أقل من 40 مليجراماً لكل كيلوجرام من جسم الإنسان في اليوم الواحد". وهذه المواصفة تعني أن الإنسان الذي وزنه 60 كيلوجراماً فإنه يستطيع أن يتناول كمية من الأسبرتيم تصل إلى 2400 مليجرام في اليوم، أي معدل 12 علبة من المشروبات الغازية التي تحتوي على الأسبرتيم.

 

فقرار هذه اللجنة الثنائية يشير إلى أن الاستهلاك المنخفض والقليل من الأسبرتيم يعد آمناً ولا يسبب أية مشكلة صحية، فلا مخاطر للإصابة بالسرطان عند استهلاكها باعتدال. ولكن في الوقت نفسه، دعت اللجنة إلى إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث والتقييم العلمي لهذه المادة.

 

وفي الحقيقة فإن هناك مجموعة من الأبحاث حول مخاطر الأسبرتيم واحتمالية تعرض الإنسان لمرض السرطان أو المخاطر الصحية الأخرى. فهناك دراسة نُشرت في مجلة(PLOS Medicine) في 24 مارس عام 2022 تحت عنوان: "السكر الصناعي ومخاطر السرطان: نتائج دراسة سكانية فرنسية"، وأُجريت في فرنسا لمدة 8 سنوات، واستنتجت بأن الذين يستخدمون الأسبرتيم أو النوع الثاني من السكر الصناعي (acesulfame-K)تزيد عندهم نسبة مخاطر الإصابة بالسرطان 15% مقارنة بغيرهم، وبالتحديد سرطان الثدي وأنواع السرطان التي لها علاقة بالبدانة.

 

ودراسة ثانية في مجلة(Nature Medicine)منشورة في 27 فبراير 2023 تحت عنوان: "السكر الصناعي ومخاطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية القلبية"، حيث قامت بدراسة العلاقة بين تناول أحد أنواع السكر الصناعي(erythritol) والإصابة بأمراض القلب، حيث أشارت إلى أن هذه السكريات ترفع من مخاطر التعرض لأمراض القلب.

كما نشرتْ منظمة الصحة العالمية تقريراً في 12 أبريل 2022 تحت عنوان: "التأثيرات الصحية لاستخدام السكر الصناعي: مراجعة منهجية للدراسات السابقة"، وأفاد التقرير بأن تناول السكر الصناعي لا دور له في خفض الوزن على المدى البعيد، بل وإن الإفراط في استهلاكه يزيد من مخاطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، ويؤدي إلى الموت المبكر. واستناداً إلى هذا التقرير فإن منظمة الصحة العالمية لا تدعو المصانع إلى إزالة السكر الصناعي من المنتجات الغذائية، وإنما تدعو إلى الاعتدال في استهلاكه، واستخدام البدائل المتاحة التي لا يوجد بها أي نوع من أنواع السكر الصناعي.

 

وختاماً فإن هناك نقاطاً أود التطرق إليها. النقطة الأولى هي حدوث تغيير في رأي الفريق المختص بمنظمة الصحة العالمية، حيث صنَّفت الآن الأسبرتيم كمادة من المحتمل أن تكون مسرطنة للبشر، أي أن هناك شبهة صحية تحوم حولها، وقد تُقدِّم الدراسات المستقبلية أدلة قوية أكثر على مخاطرها الصحية المتعلقة بالسرطان. وأما الثانية فهي أن الإنسان ارتكب أخطاءً كثيرة في الماضي، ومازال يقع في الأخطاء نفسها حول تصنيفه للمواد كنافعة للبشر، أو ضارة صحياً، فالشركات الكبرى المُصنعة للمنتجات عامة لا يهمها صحة البشر، وإنما الربح السريع والكبير، وتقوم بكل الوسائل والطرق المغرية بتلميع منتجاتها وجذبها للناس. فعلى سبيل المثال، أَدْخل الإنسان إلى بيئته المبيد الحشري المعروف "دي دي تي"، واعتبره أفضل وأحسن مبيد للقضاء على البعوض وتجنيب البشر الإصابة بالملاريا، ثم بعد عقود من رش هذا المبيد في كل شبر من الكرة الأرضية، اكتشف أنه سام جداً للحياة الفطرية ويؤدي إلى انقراضها، كما تحقق من خلال التحاليل المخبرية أن المبيد نفسه انتقل إلى كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، حتى أن حليب الأم تلوث بالمبيد، فقام نتيجة لذلك بحظر استخدامه بعد أن انتشر السم في البشر والحجر والشجر. كذلك أدخل الإنسان إلى الأسواق الآلاف من المنتجات التي تحتوي على مركبات عضوية متعددة الفلورين، واعتبرها المواد الأعجوبة السحرية لخواصها الفريدة، فاكتشف بعد سنوات بأنها تفسد طبقة الأوزون وتؤثر على استدامة حياة الإنسان على وجه الأرض، كما اكتشف أن هذه المواد المستقرة والثابتة والتي لا تتحلل أصبحت جزءاً من كل عناصر البيئة، بل وجزءاً من أعضاء جسم الإنسان وتسبب له مشكلات صحية. وهذا الأسبرتيم الآن قد يكون المادة الضارة القادمة التي يكتشف العلماء بأنها دمَّرت صحة البشر، ولكن قد يكون بعد فوات الأوان وبعد أن وقع الضرر وانتشر.

 

والنقطة الثالثة فاحذر من عبارة "خالية من السكر"، فالمقصود منها خالية من السكر الطبيعي، ولكنها تحتوي على كميات، قد تكون كبيرة من أحد أنواع السكر الصناعي، كالأسبرتيم وغيره، ولذلك إذا كان لا بد من تناولها فعليك الاعتدال في الاستهلاك وتجنبها كلما أمكن ذلك.