الخميس، 28 أكتوبر 2021

المُتَهَمون في قضية التغير المناخي


كل المشكلات البيئية العالمية الكبرى التي نُعاني منها الآن هي بسبب أيدي الدول الصناعية المتقدمة والمتطورة التي عبثت بالبيئة وعاثت فيها فساداً وإخلالاً في توازنها عقوداً طويلة من الزمن دون إعطاء أي اهتمام بتداعيات عبثها ومغامراتها اللامسؤولة تجاه بيئتنا. فقامت بالأعمال التنموية من جهة ودمرت مكونات البيئة من جهة أخرى، كما قامت بالبناء والتطوير في جانب وسببت الخراب والتأخر في جانبٍ آخر، فكانت النتيجة يد تبني وأخرى تدمر، فتنمية وتدمير في الوقت نفسه، وهدر وإفراط شديدين في موارد وثروات البيئة من الناحيتين الكمية والنوعية، كذلك كانت النتيجة النهائية تنمية معوقة مشلولة تَرى بعينٍ واحدة، فلا يُكتب لها الاستدامة في الإنتاج والعطاء والتطور.

 

فمن ناحية ولَّدت الدول الصناعية الكهرباء لشعوبها لكي تُنير بها ظلام الليل وسواده الكالح، وفي الوقت نفسه أطلقت الملوثات السامة التي دمرت جودة الهواء وحولته من مُعينٍ على صحة الإنسان إلى عامل هدم يعمل على تدميره وإفساده، كما أنها في الوقت نفسه كوَّنت هذه الملوثات أمطاراً حمضية سببت الدمار الشامل للبشر والشجر والحجر والحياة الفطرية في البر والبحر والجو، وأتفلت وقضت على مساحات واسعة من الغابات المنتجة والأراضي الزراعية المثمرة.

 

كذلك من ناحية اخترعت الدول المتقدمة السيارات ووسائل المواصلات والنقل الأخرى فسهلت على الناس الحياة ووفرت عليهم ساعات طويلة للانتقال من مدينة على أخرى، ولكنها في الوقت نفسه سمحت للملوثات الخطرة للولوج في الهواء الجوي وتكوين ظاهرة صحية مرضية هددت حياة الناس، وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي.

 

وكل هذه الملوثات، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان ومركبات الفريون وغيرها، التي انطلقتْ من محطات توليد الكهرباء ومن وسائل المواصلات ومن المصانع، أدت إلى انكشاف أكبر وأشد قضية عرفها الإنسان تعقيداً وتأثيراً على البشرية والكرة الأرضية برمتها، فتراكمت هذه الملوثات التي انبعثت من الدول الصناعية منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى، أي منذ أكثر من قرنين، وكونت مع الوقت ظاهرة وقضية جامعة ذات أبعاد متشابكة تعدَّت البعد البيئي لتشمل البعد الاقتصادي، والاجتماعي، والصحي، والأمني، وهي ظاهرة التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض.

 

وهذه الظاهرة العصيبة المعقدة منذ أن دخلت رسمياً في جدول أعمال المجتمع الدولي في قمة الأرض في البرازيل في عام 1992 مازالت بدون حلٍ جذري مُلزم لكافة دول العالم، حيث إن المجتمع الدولي يدور في دائرة مفرغة، كلما تقدم خطوة إلى الأمام، تأخر خطوتين إلى الخلف.

 

وفي تقديري هناك عدة أسباب تقف وراء فشل إيجاد الحل الدائم لمواجهة هذه القضية الدولية، وأُريد اليوم أن أرُكز على سببٍ واحد فقط من بين أسباب كثيرة، وهو البعد التاريخي لهذه القضية، فكيف بدأت هذه القضية الدولية؟ ومن هو المتهم الرئيس في نزول هذه الظاهرة والمسؤول الأول عن وقوع هذه المشكلة العامة والمشتركة منذ اليوم الأول حتى الآن؟

 

فقد نَشرتْ منظمة(Carbon Brief) دراسة شاملة تاريخية في الخامس من أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان: "المسؤولية التاريخية للتغير المناخي يقع في قلب الحوار حول العدالة المناخية"، وهذه الدراسة تُوجه أصابع الاتهام نحو الدول المسؤولة في إحداث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، أي منذ عام 1850 حتى يومنا هذا، وبالتحديد عام 2021، والتي من المفروض أن تتحمل مسؤولية تبعات هذا التغير المناخي ذات الأبعاد المختلفة، ومنها سخونة كوكبنا وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع كوارث مناخية متكررة وشديدة ومفرطة في حدتها وقوة تدميرها.

 

فهذه الدراسة قدَّمت تحليلاً تاريخياً لمصادر وحجم انبعاثات كل دولة من دول العالم منذ أكثر من قرنين من الزمن، مثل حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، والسيارات، والمصانع، وعلى رأسها مصانع إنتاج الأسمنت، ثم التغير في استخدامات الأرض من حيث قطع الأخشاب، وإزالة الغابات لزراعة المحاصيل وإنتاج الوقود الحيوي. وكانت نتيجة هذا التقييم أن دول العالم أجمع أطلقت زهاء 2504 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي منذ 1850، وهذا الغاز الذي يتراكم في الغلاف الجوي فيحبس الحرارة في طبقات الجو السفلى أدى إلى رفع حرارة كوكبنا نحو 1.2 درجة مئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية.

 

أما على مستوى دول العالم، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهمة الأولى في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حيث بلغ حجم الغاز المنطلق على مدى أكثر من مائتي عام قرابة 509 جيجا طن، أي أن أمريكا تتحمل نسبة 20.3% من مجموع الانبعاثات الكلية على مستوى الكرة الأرضية، وهي بهذه النسبة رفعت درجة حرارة الأرض 0.2 درجة مئوية.  

ثم أشار التقييم إلى أن الصين تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 11.4% من الانبعاثات الكلية للدول نتيجة لحرق الفحم وأنواع الوقود الأحفوري لتشغيل برامج التنمية المتسارعة غير المسبوقة، مما نجم عن ذلك رَفْع الصين لدرجة حرارة كوكبنا قرابة 0.1 درجة مئوية، وبعد أمريكا والصين جاءت روسيا بنسبة انبعاثات بلغت 6.9%، ثم البرازيل بنسبة 4.5% وإندونيسيا 4.1% نتيجة لحرق الغابات لأسباب طبيعية ومتعمدة، وأخيراً تأتي ألمانيا 3.5%، والهند 3.4، وبريطانيا 3، واليابان 2.7، وكندا 2.6%.

 

وهذه الانبعاثات التي صدرت عن هذه الدول مازالت مستمرة حتى يومنا هذا فتأثيراتها تراكمية بطيئة وتدريجية مع الزمن، أي أنها ومنذ انبعاثها في اليوم الأول لم تنته وبقت في بيئتنا، فتراكمت وتضخمت وأنتجت ظاهرة التغيرات المناخية وتداعياتها الخطيرة المهددة لصحتنا وسلامة كوكبنا.

 

فمن العدل والمساواة أن تتحمل الدول المسؤولة تاريخياً عن حدوث التغير المناخي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، الجزء الأكبر من الحل، وتساهم أكثر من الدول الأخرى في مواجهة هذا الظاهرة التي تسببت هي في نشوئها ووقوع تداعياتها العصيبة على كوكبنا برمته وتأثر كل دول العالم بها، وبخاصة الدول الفقيرة والنامية التي ليس لها فيها ناقة ولا جمل في تكوينها. ولكن في الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تتهرب من واجباتها الدولية ومسؤولياتها الأخلاقية التاريخية في مكافحة التغير المناخي، بل وتعرقل الوصول إلى حلٍ جماعي مشترك وملزم، فمن جانب لا تلتزم بالمعاهدات الدولية المعنية بالتغير المناخي، ومن جانب آخر لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها لتمويل ودعم الدول النامية للتكيف مع تداعيات هذه الظاهرة والحصول على تقنيات نظيفة لا تنبعث عنها ملوثات التغير المناخي. فأمريكا في عام 1992 في عهد بوش الأب وقعت على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، كما وقع كلينتون على بروتوكول كيوتو لعام 1997، ثم جاء بوش الابن فألغى التزام أمريكا تجاه هذا البروتوكول، وبعد ذلك جاء أوباما فوقع على مفاهمات باريس 2015 للتغير المناخي، والتي انسحب منها ترمب وتخلى عنها كلياً.  

 

فأمريكا المسؤول الأول عن حدوث سخونة الأرض من الواجب أن تكون الأكثر مساهمة من الناحية المالية في صندوق مكافحة هذه الأزمة الدولية. ففي الاجتماع الدوري رقم 15 الذي عُقد في كوبنهاجن في 2009 تعهدت الدول المتقدمة الغنية على تخصيص مبلغ مائة بليون دولار سنوياً للدول الفقيرة والنامية بحلول عام 2020، كما أكدت على هذا التعهد في اجتماع باريس 2015، ولكن معظم الدول لم تف بالتزاماتها، حسب ما ورد في المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" في 21 أكتوبر من العام الجاري. كما أفاد المقال المنشور في البلومبرج في 15 أكتوبر بأن مساهمة أمريكا كانت تتراوح بين 40 إلى 47% من المائة بليون، ولكنها تبرعت فقط بمبلغ نحو 7.6 بليون دولار في الفترة من 2016 إلى 2018، علماً بأن الرئيس بايدن أعلن في سبتمبر من العام الجاري بأنه سيُسهم بمبلغ 5.7 بليون دولار سنوياً، ولكنني غير متفائل بذلك لأنه بحاجة إلى موافقة الكونجرس.

 

ولذلك نجد بأن التصريحات والتعهدات من الدول المتقدمة والغنية كثيرة ولا تنتهي، وترتفع وتيرتها قبيل وأثناء انعقاد اجتماعات التغير المناخي السنوية، ولكن الأفعال قليلة ولا تتناسب مع حجم الأزمة الخانقة التي تحيط بالبشرية والكرة الأرضية برمتها، فعلى كل دولة من الدول الصناعية الثرية التي تطورت ونمت على حساب الدول الفقيرة وتسببت في إحداث التغير المناخي لكوكبنا أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه الإنسانية وتجاه إنقاذ كوكبنا.

الاثنين، 25 أكتوبر 2021

مبادرة السعودية للشرق الأوسط الأخضر

أُطْلقُ على مدينة لوس أنجلوس الأمريكية مدينة الضباب أسوة بلندن المعروفة عالمياً بأنها مدينة الضباب أيضاً، ولكن هناك فرقاً شاسعاً بين مسمى المدينتين للضباب. فأما لندن، فالضباب في أغلب الأحيان هو الضباب الطبيعي العادي البارد الذي ينزل عليها دائماً في موسم الشتاء، وفي بعض الأحيان، كما حدث في ديسمبر 1952 كان هذا الضباب ملوثاً بالمواد الكيميائية الضارة والخطرة والتي تسببت في موت أكثر من أربعة آلاف لندني خلال ذلك الأسبوع العصيب من أيام الأعياد المسيحية.

 

وفي المقابل فإن ضباب مدينة لوس أنجلوس يختلف كلياً عن ضباب لندن التقليدي من ناحية التوقيت، ومن ناحية النوعية والتأثير. فضباب لوس أنجلوس تم اكتشافه في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم، وينزل عادة في أشهر الصيف الحارة والمشمسة، وعندما تكون الرياح ساكنة وصامتة لا حراك لها، فتتكون في الطبقات السفلى في الجو سحب بنية صفراء اللون مشبعة بالملوثات السامة، وتُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي. فهذه السحب تتكون من انبعاثات السيارات خاصة، والمصانع ومحطات توليد الكهرباء عامة، ويحدث تفاعل في الجو بين هذه الملوثات وأشعة الشمس فتُكون هذه السحب المرضية التي عندما تظهر في السماء تدق أجراس الإنذار، وتصيح وسائل الإعلام محذرة الناس، وبخاصة الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، أو ممارسة أي نشاط رياضي في البيئات الخارجية.

 

ومع الزمن أصبحت هذه الظاهرة البيئية الصحية، وأصبح هذا الضباب القاتل من معالم مدينة لوس أنجلوس، بل وتحولت إلى همٍ صحي كبير يقلق بال العلماء، والأطباء، ورجال السياسية، وهذا القلق ارتفع بشكلٍ مشهود عندما وافقت اللجنة الأولمبية الدولية على استضافة لوس أنجلوس للألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1984. فهذه السحب عندما تنكشف تؤثر على أداء الرياضيين، وتضر بصحتهم وعطائهم، وتفسد قدرتهم على تحقيق الأرقام القياسية في المنافسات الرياضية، مما سيجعل المدينة في حرج من فشل الألعاب الأولمبية.

 

وهذه السحب السامة كانت تبلغ ذروتها في أشهر دورة الألعاب الأولمبية وبالتحديد يوليو وأغسطس، ولذلك كان من الحتمي إيجاد الحلول للتخفيف من وطأة هذه السحب على اللاعبين، فكان الحل هو زراعة مليون شجرة بدءاً من عام 1981 لتقوم بعملية ترشيح الملوثات من هذه السحب وامتصاصها من الهواء الجوي قبل أن تصل إلى الناس، وزراعة مليون شجرة في هذه الفترة البسيطة كانت تحدياً كبيراً يقف أمام منظمي هذه الدورة، مما أستلزم تشمير الجميع من منظمات وجمعيات أهلية وجهات حكومية للمساعدة والتعاون مع بعض للقيام بهذه المهمة الوطنية العظيمة، وفعلاً أُنجزت المهمة المستحيلة بنجاح حيث تمت زراعة الشجرة المليون قبل أربعة أيام من بدء الألعاب، فقد تمكنت الشجرة من إنقاذ الموقف الصعب وإنجاح الدورة.

 

واليوم نقرأ عن مبادرات جديدة لعلاج مشكلات بيئية أخرى نعاني منها على كافة المستويات الدولية، والإقليمية، والمحلية، مثل أزمة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة كوكبنا بسبب الملوثات التي نطلقها إلى بيئتنا منذ أكثر من قرنين، وعلى رأس هذه الملوثات غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز. ولعلاج هذه القضية الدولية العصيبة والمعقدة فقد لجأ الإنسان مرة أخرى إلى الشجرة للتخلص من بعض هذه الملوثات وامتصاصها من الهواء الجوي قبل أن تدخل في أجسامنا وتتراكم في هوائنا.

 

ومن هذه المبادرات الإقليمية الموجهة نحو مكافحة سخونة الأرض والتغير المناخي لكوكبنا باستخدام عملية التشجير تلك التي طرحتها المملكة العربية السعودية تحت مسمى "مبادرة السعودية الخضراء". ومن أجل تفعيل هذه المبادرة على كافة المستويات فقد دعت المملكة العربية السعودية إلى استضافة اجتماعين رئيسين هما "منتدى مبادرة السعودية الخضراء"، و"قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" في العاصمة الرياض في الفترة ما بين 23 إلى 25 أكتوبر من العام الجاري.

 

أما "قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر" فتسعى إلى تحقيق عدة أهداف من بينها تشكيل أول تحالف لمكافحة التغير المناخي في الشرق الأوسط، ثم تعزيز الاستثمار ونقل المعرفة لمواجهة التحديات المشتركة، وأخيراً تعزيز الإرادة السياسية اللازمة لإحداث تغيير جذري في مجال المواجهة الجماعية المشتركة لقضية العصر. كذلك يأتي الاجتماع الثاني تحت عنوان: "مبادرة الشرق الأوسط" والذي يكون مُكملاً للقمة الأولى ويطرح الحول العملية التنفيذية، حيث سيعمل على توسعة الغطاء النباتي الأخضر من خلال زراعة 50 مليار شجرة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط، من بينها 10 مليارات شجرة داخل المملكة العربية السعودية، إضافة إلى استصلاح 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة عن طريق التشجير.

وهذه المبادرة السعودية تتماشى وتواكب الجهود الدولية المتمثلة في الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تحاول أن تخفف من بصمتها في تلويث البيئة، وبالتحديد بالنسبة لشركات النفط التي تنبعث عن عملياتها غازات الدفيئة والاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان التي تفاقم من حدة مشكلة التغير المناخي وسخونة الأرض، حيث نشرت صحيفة الفايننشيل تايمس في الأول من سبتمبر 2021 تحقيقاً حول برامج شركات النفط في عملية التشجير في بعض دول العالم كأداة فاعلة لمكافحة الملوثات الناجمة عن حرق النفط والغاز الطبيعي المؤدية إلى التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، ستُنفق شركة شل(Royal Dutch Shell) قرابة 300 مليون دولار على جهود التشجير لزراعة أكثر من خمسة ملايين شجرة في عدة دول منها هولندا وإسبانيا وأستراليا وماليزيا.

وبالرغم من هذه الجهود المباركة لتوسعة مساحة الأراضي الخضراء، فإنني أُقدم بعض الملحوظات حول هذه البرامج:

أولاً: عملية التشجير، وبخاصة في دولنا الصحراوية التي تعاني من شح الماء وتدهور نوعية التربة، يجب أن توازن بين الفقر المائي وبين توسعة رقعة التشجير، فتوفير الماء لاحتياجات البشر للغذاء والشراب أهم من كل شيء، فلا حياة بدونه.

ثانياً: عملية التشجير لمكافحة التغير المناخي يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع البرامج والجهود الأخرى التي تصب في الهدف نفسه، وبالتحديد التوجه تدريجياً نحو مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، سواء في محطات توليد الكهرباء، أو وسائل المواصلات.

الأربعاء، 20 أكتوبر 2021

قرار مجلس حقوق الإنسان

القرار الذي صدر في الثامن من أكتوبر من العام الجاري من مجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة، كان قراراً مُوفقاً في مضمونه ومحتواه، ولكن لم يكن موفقاً في توقيته وزمن صدوره. أما بالنسبة للمحتوى فقد جاء القرار مواكباً للتطورات العلمية والبيئية الحديثة، ومتماشياً مع المستجدات البحثية حول أضرار التلوث المهلكة والمدمرة لصحة الإنسان ومكونات بيئته الحية وغير الحية، ودور هذه الملوثات في البر والبحر والجو على إعاقة استدامة حياة الإنسان على وجه الأرض من الناحيتين النوعية والكمية، فلا حياة سليمة مع وجود التلوث، ولا حياة صحية مع الملوثات، ولا حياة كريمة وسعيدة في أجواء تحيط بها سموم الملوثات من كل جانب وعن أيماننا وعن شمائلنا، وفي كل شبرٍ من كوكبنا.

 

فالقرار رقم (48/L.23) حول "حق الإنسان في بيئة آمنة، نظيفة، صحية ومستدامة" صدر بالأغلبية الكبرى، حيث وافقت عليه 43 دولة من بين 47، ولم يُصوت أحد ضد القرار، في حين أن أربع دول امتنعت عن التصويت، وهي الصين والهند واليابان وروسيا. وبهذا القرار اعترف المجلس رسمياً بحق الإنسان من ضمن الحقوق التقليدية الأخرى في العيش في بيئةٍ آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، كما شجع المجلس في قراره التاريخي هذا الدول إلى تبني سياسات مناسبة قومية للتمتع بالحق في بيئة آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، ويتضمن ذلك احترام التنوع الحيوي والأنظمة البيئية. كذلك دعا القرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لأخذ هذا الأمر في الاعتبار والعمل مع بعض لتفعيل هذا الحق الإنساني المشترك والجديد.

 

وجدير بالذكر فإن مملكة البحرين هي الدولة الوحيدة من بين دول مجلس التعاون التي كانت حاضرة في هذا الاجتماع، متمنياً أن تقود مملكة البحرين حملة قوية لتنفيذ هذا القرار على عدة مستويات. أما المستوى الأول فهو ضم هذا القرار في التشريعات الوطنية، وإذا أمكن إدخاله في أحد بنود دستور مملكة البحرين، ثم المستوى الثاني على دول مجلس التعاون من خلال وضع محتوى ومبادئ القرار ضمن جدول أعمال اجتماعات القمة القادمة، وأخيراً على مستوى الجامعة العربية والمنظمات الإسلامية.

 

فهذا القرار إذن له أهميته الكبرى من حيث المضمون، ولكن في الوقت نفسه فإن هذا القرار لم يكن موفقاً من ناحية التوقيت، فلم يأت في الوقت المناسب وجاء متأخراً كثيراً بعد أن وقع الضرر العصيب على الإنسان وبيئته، وبعد أن توغلت الملوثات في كافة مكونات بيئتنا وتعمقت وتغلغلت في كل عناصر بيئتنا القريبة والبعيدة وفي الماء والهواء والتربة وفي أعالي السماء وفي أعماق المحيطات السحيقة والمظلمة، وبعد أن أصبحت هذه الملوثات جزءاً لا يتجزأ من أعضاء أجسادنا، ومن كل خليةٍ تنبض بالحياة فيها. كما أن هذا القرار الأممي صدر بعد أن كشَّر التلوث عن أنيابه بوضوح، فظهر على صور مشاكل بيئية دولية مختلفة تهدد كوكبنا بالخطر والفساد المستدام مثل المطر الحمضي الذي لوث البشر والشجر والحجر، وانخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون العليا التي أثرت على حياة الإنسان على سطح الأرض، وظاهرة التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض وتداعياتها المناخية والأمنية والاقتصادية العظيمة، إضافة إلى ظاهرة المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم التي بلغت كل بقعة من الأرض ودخلت في خلايا أجسامنا، كذلك التدمير الممنهج على مستوى الكرة الأرضية برمتها للتنوع الإحيائي بشقيه النباتي والحيواني وانقراض آلاف الأنواع منها من على سطح الأرض إلى الأبد وبدون رجعة. 

 

فمحاولات جعل الهم البيئي من ضمن حقوق الإنسان الأساسية قديمة نسبياً، والمبادرات التي كانت تسعى لإدخال الشأن البيئي في صلب حقوق الإنسان بدأت رسمياً وعلى مستوى الأمم المتحدة في أول مؤتمر تاريخي عُقد في يونيو من عام 1972 في مدينة ستوكهولم بالسويد حول البيئة البشرية.

 

فقد تمخض عن هذا المؤتمر إعلان مكون من 26 مبدأ، حيث أكد الإعلان في البند الأول بأن "البيئة الطبيعة والصناعية مهمة لحياة الإنسان وللتمتع بالحقوق الأساسية للإنسان"، كما أكد البند الثاني بأن "حماية وتحسين البيئة الإنسانية قضية رئيسة تؤثر على حياة الناس والتنمية الاقتصادية في كل العالم.....وهي من واجبات جميع الحكومات"، كما جاءت مؤتمرات أخرى كثيرة لتؤكد على هذه المبادئ المتعلقة بحق الإنسان بين الجيل الواحد وبين الأجيال المتلاحقة في الحرية والمساواة في ظروف عيش مناسبة، وفي بيئة تسمح نوعيتها بالحياة في ظل الكرامة وتحقيق الرفاه، كما أكدت هذه الاجتماعات الأممية على أن الحكومات هي التي  تتحمل المسؤولية الرسمية في حماية البيئة والنهوض بمواردها الحية وغير الحياة والحفاظ على استدامة عطائها وإنتاجها، ومن بين هذه المؤتمرات التاريخية قمة الأرض التي عقدت في مدينة ريو البرازيلية حول البيئة والتنمية في يونيو 1992، والتي تمخض عنها إعلان ريو الذي يتألف من 27 مبدأ.

 

ولذلك في تقديري فإن قرار مجلس حقوق الإنسان الذي يعترف رسمياً وعلى مستوى الأمم المتحدة بحق الإنسان في أن يعيش في بيئة سليمة وصحية وخالية من الملوثات جاء متأخراً أكثر من خمسين عاماً عجافاً من الناحية البيئية، وبالرغم من هذا القرار التاريخي إلا أنه سيظل مع ذلك قراراً جميلاً على الورق لأنه في نهاية المطاف غير ملزمٍ للدول، ولا توجد أية آلية دولية فاعلة لمراقبة تنفيذ هذا القرار، ومتابعة تطبيقه بأي شكلٍ من الأشكال على المستويين القومي والدولي، أي أن كل دولة حسب ظروفها، وقناعاتها، وحساباتها السياسية الحزبية، ومصالحها القومية ستُقرر كيف تتعامل مع هذا القرار الأممي، إما سلباً أم ايجاباً.

 

ولذلك فإنني أؤكد لكل من يهتم بحقوق الإنسان عامة، سواء على مستوى الأفراد، أو الجمعيات والمنظمات، أو الحكومات، فإن عليهم جميعاً أن يهتموا بحقوق الإنسان في شموليته وكماله، فيغطوا ويرعوا كافة الجوانب والأبعاد المتعلقة بهذه الحقوق الأساسية، فلا يكف أن ينال الإنسان حقه في التعبير وفي الوقت نفسه يستنشق هواءً ملوثاً يفسد صحته ويتلف أعضاء جسده، ولا جدوى من حصول الإنسان على حقه في حرية الرأي فقط بينما يشرب ماءً مشبعاً بالسموم المدمرة لأمنه الصحي، ولا فائدة من إعطاء الإنسان حقه في التنوع الفكري وفي الوقت نفسه لا يجد تربة صالحة غير ملوثة ومهيأة للزراعة لتأمين غذائه السليم في كل يوم.

 

فأريد للإنسان أن يتمتع ببيئة سليمة ومتنوعة من الناحية الفكرية والعقلية، وفي الوقت نفسه يعيش في بيئة سليمة وصحية تقوي حياته من الناحية الجسدية والعضوية والنفسية، حتى نوفر له البيئة الصالحة والآمنة للإنتاج والعطاء والإبداع.

السبت، 16 أكتوبر 2021

أين نحن من المواصفات البيئية لمنظمة الصحة العالمية؟

  

المواصفات والمعايير البيئية المختلفة التي نضعها لنوعية المكونات البيئية، سواء أكانت هذه المكونات هي الهواء، أو المياه السطحية والجوفية، أو التربة، أو مياه الشرب، فإنها تهدف أولاً إلى حماية صحة الإنسان، ثم في المرتبة الثانية حماية الأحياء الأخرى التي تعيش معنا، إضافة إلى الحفاظ على جودة وعطاء هذه البيئات المختلفة لنضمن استدامتها لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا. 

 

وهذا يعني بأننا لو اكتشفنا بعد أن وضعنا هذه المعايير لعدة سنوات بأنها لا تحمي صحة الإنسان، وبل وتعرضه للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة، فإنها عندئذٍ ستصبح بالية ولاغية، ولا قيمة لها من الناحية الفعلية، ولا منفعة ولا جدوى صحية وبيئية من وجودها وتطبيقها، مما يستدعي فوراً تحديثها وتغييرها، واستبدالها بمواصفات أخرى تحقق الغرض الأساس من وضعها.

 

ولذلك رؤيتنا وسياستنا إلى هذه المواصفات أنها يجب أن تكون ديناميكية، ومتجددة، ومتغيرة، ومتطورة مع الوقت، فنبعث فيها في كل فترة زمنية قصيرة روح الحياة والاستدامة بين الحين والآخر، ونقوم بمراجعتها، ودراستها من جديد، والتحقق من مدى صلاحيتها في ذلك الوقت. فأي مواصفة بيئية نضعها لن تكون ثابتة مدى الحياة، ولن تكون جامدة لن تصل إليها أيدي التدقيق والتحقيق من سلامتها لحماية صحتنا، وصحة الحياة الفطرية، وسلامة عناصر بيئتنا.

 

ويرجع السبب في هذه السياسة إلى أن هناك معلومات وحقائق بيئية يكتشفها الإنسان مع الزمن، وهناك مستجدات وتطورات متسارعة مرتبطة بالتلوث والملوثات الكيميائية والحيوية والطبيعية تظهر كل يوم، وكلها تؤكد تدمير هذه الملوثات لصحة الإنسان، ولو كانت بمستويات منخفضة جداً أقل من المعايير والمواصفات الخاصة بها، ولذلك فإن تشريعاتنا ومواصفاتنا والمقاييس التي نضعها يجب أن تواكب هذه الحقائق وتلاحق هذه المستجدات والاكتشافات الحديثة بشكلٍ دائم ومستمر.

 

وسأضرب هنا مثالاً واحداً فقط لأبين أهمية مراجعة وتحديث وتطوير المعايير البيئية بين الحين والآخر، وهذا المثال يدور حول غاز الأوزون الذي يُعد من الإضافات الجديدة والحديثة نسبياً إلى قائمة الملوثات التقليدية التي عرفها الإنسان منذ عقود طويلة، حيث إنه لم يدخل في قائمة الملوثات الرئيسة الخاصة بجودة الهواء إلا في السبعينيات من القرن المنصرم عندما تم اكتشافه في الهواء الجوي في الأربعينيات في عدة مدن حضرية كبيرة وفي مقدمتها مدينة لوس أنجلوس الأمريكية.  

 

فغاز الأوزون يُعد من الملوثات الثانوية، أي لا توجد مصادر تنبعث منها غاز الأوزون مباشرة، وإنما يتكون نتيجة تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء مثل ثاني أكسيد النيتروجين والغازات العضوية المتطايرة، حيث تتفاعل هذه الغازات مع بعض عند وجود الشمس، فتُكون خليطاً معقداً ومدمراً من الملوثات التي تهدد صحة الإنسان والنبات والحيوان والمواد. ولذلك عندما أَصدرتْ الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1970 قانون الهواء النظيف، وضعتْ مواصفة جودة الهواء للملوثات "المؤكسدة الكيميائية الضوئية الكلية"، وبمتوسط تركيز لا يتعدى 80 جزءاً في البليون في الساعة الواحدة، ثم في عام 1979 تم تغيير المواصفة لتكون خاصة بغاز الأوزون فقط، وبتركيز 120 جزءاً في البليون، كما تم تغيير وخفض هذه المواصفة للمرة الثالثة في عام 1997 ليكون التركيز في مدة 8 ساعات لا يتجاوز 80 جزءاً في البليون. فهذه المواصفة لم تبق جامدة في مكانها وثابتة لا تتحرك، فقد جاءتها رياح التغيير السريعة الناجمة عن الأبحاث البيئية الطبية، والتي أكدت بأن هذه المواصفة الخاصة بالأوزون لا تحمي الأمن الصحي للإنسان، فقد أجمعت الدراسات أن غاز الأوزون يؤثر على صحة الإنسان بمستويات أقل من هذه المواصفة، مما اضطر الجهات المعنية في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2008 إلى إجراء تغييرٍ رابع على هذه المواصفة، فأصبحت 75 جزءاً في البليون خلال 8 ساعات.

 

وتواصلت الأبحاث العلمية في مجال الانعكاسات الصحية والبيئية الضارة لغاز الأوزون على البشر والشجر والحجر، وأكدت أيضاً من جديد على أن المواصفة التي وُضعتْ في عام 2008 تُعد غير صالحة وغير مجدية ولا تفي بهدف حماية صحة الناس، فقامت وكالة حماية البيئة الأمريكية في عام 2015 للمرة الخامسة بالتغيير، فانخفض معدل التركيز إلى 70 جزءاً في البليون في فترة 8 ساعات. ومازالت المحاولات مستمرة من قبل الأطباء وعلماء البيئة ورجال القانون لإجراء تغييرٍ سادس على هذه المواصفة، حيث إن آخر الدراسات والأبحاث أشارت من جديد بأن المواصفة السابقة أصبحت بالية وقديمة وغير صالحة للاستعمال، فالمقترح الجديد هو أن تُخفض إلى 60 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي، والآن المعركة انتقلت من العلماء والمختصين إلى رجال السياسة، والذين عادة ما يأخذون في الاعتبار البعد الاقتصادي الناجم عن تنفيذ هذه المواصفة، إضافة على الرضوخ لجماعات الضغط التي تتأثر سلباً عند تنفيذها.

 

ولذلك فإن منظمة الصحة العالمية اتبعت هذا النهج في متابعة آخر التطورات والمستجدات العلمية والصحية المتعلقة بتأثير الملوثات على الصحة العامة، وبخاصة بالنسبة للملوثات في الهواء الجوي، ولكن هذه المتابعات كانت متأخرة كثيراً بسبب دور التلوث الرئيس والعميق في ازدياد الأمراض ونسبة الوفيات على المستوى العالمي، حيث حدَّدتْ في عام 1987 ولأول مرة الدليل الاسترشادي لجودة الهواء الجوي بالنسبة لتركيز بعض الملوثات مثل الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، والجسيمات الدقيقة، وثاني أكسيد الكبريت. وفي عام 1997 قامت المنظمة بإجراء تحديثات طفيفة على هذه المعايير غير الملزمة، ثم في عام 2005 قدَّمت خطوطاً استرشادية جديدة حول جودة الهواء، وأخيراً وبعد مرور 16 عاماً، وبالتحديد في 22 سبتمبر من العام الجاري أصدرت المنظمة دليلاً جديداً تحت عنوان: "الخطوط الاسترشادية لمنظمة الصحة العالمية حول جودة الهواء العالمي" ويقع في 257 صفحة، وتمخضت معايير جودة الهواء الجديدة بعد القيام بمراجعة وحصر أكثر من 500 دراسة منشورة في الخمس سنوات الماضية، وتشمل هذه المواصفات الاسترشادية على الجسيمات الدقيقة التي قطرها 10 ميكرومترات والتي قطرها 2.5، إضافة إلى الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، وأول أكسيد الكربون. ونتيجة للتغير الجذري في استنتاجات الدراسات حول تأثير الملوثات على الصحة العامة، وعدم وجود حدٍ آمن للملوثات في الهواء الجوي، فقد قامت المنظمة بمراجعة مواصفاتها القديمة لتواكب هذه التطورات العلمية وتحقق الهدف من وضعها، وهو حماية الصحة العامة. فعلى سبيل المثال، خفضت المواصفة الخاصة بالجسيمات الدقيقة(قطر 2.5 ميكرون) وبنسبة 50% من 10 إلى 5 ميكروجرامات لكل مكتر مكعب كمعدل سنوي، كما خفَّضت المواصفة المتعلقة بغاز ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الجوي وبنسبة أكثر من 75% من 40 إلى 10 ميكروجرامات لكل متر مكعب كمعدل سنوي.

وأما في البحرين فعلينا ملاحقة هذه التطورات الحديثة، ومواكبة جميع هذه المستجدات في مجال القوانين والأنظمة والمعايير البيئية، فلا نتوقف عند أول قانون بيئي وضعناه في عام 1996، وهو المرسوم بقانون(21) لسنة 1996 بشأن البيئة، أي قبل أكثر من 25 عاماً، حيث اختفت مشكلات بيئية، أو تم القضاء عليها كلياً، كما انكشفت قضايا ومشكلات بيئية جديدة أخرى معقدة ومتشابكة واتضحت معالمها وصورها.

وفي الوقت نفسه علينا مواكبة ومتابعة كافة التطورات المتعلقة بمواصفات جودة الهواء وجودة مكونات البيئة الأخرى على حدٍ سواء، وآخرها كما ذكرنا إصدار منظمة الصحة العالمية حول الخطوط الاسترشادية لجودة الهواء الجوي، إذ لا فائدة من وجود أية مواصفة لا تحقق الهدف من وضعها، وهو صيانة صحة المواطنين. فأول مواصفة بيئية أُقرتْ في البحرين كانت قبل عقدين من الزمن، وتمثلت في القرار الوزاري رقم (10) لسنة 1999 بشأن المقاييس البيئية(الهواء والماء)، والقرار رقم (3) لسنة 2001 بتعديل الجداول للقرار رقم (10) لسنة 1999، والمعدل بقرار رقم (2) لسنة 2001. وهذه المواصفات أصبحت الآن لاغية لوجود مواصفات أخرى حديثة نسختها وأفقدتها فاعليتها وجدواها، وبالرغم من صدور القرار الوزاري رقم(2) لسنة 2021 بشأن المقاييس البيئية للهواء، إلا أن هذا القرار أيضاً لم يحدِّثْ، ولم يغير مواصفات ملوثات رئيسة كانت موجودة في قرار عام 1999، كما إن بعض مواصفات الملوثات التي تم بالفعل تعديلها مازالت مرتفعة، ولا تحمي صحة المواطن، ولا تواكب مواصفات بعض الدول المتقدمة ومنظمة الصحة العالمية والدراسات العلمية حول تأثير الملوثات على الصحة العامة.

وانطلاقاً مما سبق وبهدف حماية صحة الإنسان من الملوثات في الماء والهواء والتربة، وضمان استدامة عطاء الموارد والثروات البيئية الحية وغير الحية لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا، علينا ملاحقة ومواكبة آخر التطورات العلمية في مجال المواصفات والقوانين البيئية، ووضع الإجراءات اللازمة لتنفيذها والعمل بها في أرض الواقع.

الخميس، 14 أكتوبر 2021

مؤتمر جاء في الوقت المناسب


مع نزول فيروس كورونا على البشرية جمعاء في كل بقعة صغيرة أو كبيرة من العالم، استجدت أمور كثيرة لم نكن نعرفها من قبل، وانكشفت بعض الأسرار والخفايا التي كنا نجهلها. ومن هذه الأمور علاقة هذا الفيروس العقيم بتفاقم بعض الأمراض المزمنة، ودور هذا الفيروس في زيادة أعداد المصابين بالمرض عند إصابتهم مِن قَبَل بأمراض أخرى، وعلى رأسها مرض البدانة والسمنة المفرطة.

 

وقد نُشرت الكثير من الدراسات والأبحاث الميدانية التي كشفت هذه الحقيقة الجديدة، وأكدت العلاقة بين السقوط في شباك مرض كوفيد_19 والأشخاص الذين يعانون من الوزن الزائد. فعلى سبيل المثال نشرت مجلة "العلوم" مقالاً في 11 سبتمبر 2020 حول تفاقم وشدة أعراض كورونا في حالة المصابين بالبدانة، حيث استنتجت الدراسة بأن من يعاني من الوزن الزائد أكثر عرضة للإصابة الحادة بكورونا، كما نشرت مجلة "مراجعات البدانة"(Obesity Reviews)في 26 أغسطس 2020 بحثاً حول هذه العلاقة من خلال تقييم حالة 399 ألف مريض، وقد توصل الباحثون إلى استنتاج عام بأن البدناء تزيد عندهم احتمال الإصابة بكورونا بنسبة 113% مقارنة بالأصحاء والذين أوزانهم طبيعية وبنسبة 74% أكثر من غيرهم في الدخول في أقسام العناية المركزة، و48% بالإصابة بالموت. فالبدناء تنخفض عندهم فاعلية جهاز المناعة وتزيد عندهم حالات الالتهابات المزمنة وتصلب الدم وتخثره، وكلها عوامل تفاقم وترفع من درجة الإصابة بكورونا.

 

وعلاوة على هذه الاكتشافات الجديدة بين مرض كورونا والبدانة، فإن تفشي هذا الكرب العظيم في شرايين المجتمع البشري لقرابة سنتين حتى الآن، ولهذه الفترة الطويلة من الزمن أدى إلى تفاقم ظهور وباء البدانة الصحية لدى عامة الشعب، وبخاصة لدى الأطفال والمراهقين، حيث زادت بشكلٍ مضاعف خلال هذه الفترة الزمنية العصيبة أعداد البدناء من الأطفال والشباب حول العالم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خاصة حسب الدراسة التي نشرتها مراكز التحكم ومنع المرض في 17 سبتمبر من العام الجاري. فالدراسة المنشورة في مجلة تقارير أسبوعية حول الأمراض والوفيات(Morbidity and mortality weekly report) تحت عنوان:" أنماط دليل كتلة الجسم قبل وبعد وباء كوفيد_19 بين الأشخاص من عمر 2 إلى 19 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 2018 إلى 2020"، والتي غطت 432302 من الأطفال والشباب، قد أفادت بزيادة نسبة قياس وزن الفرد إلى طوله، أو ما يُعرف  بـ "مؤشر كتلة الجسم"(body mass index) من 19% قبل الوباء إلى 22% خلال الوباء، حيث تضاعف من 0.052 إلى 0.1 كيلوجرام لكل متر مربع في الشهر الواحد.

 

ونظراً لأهمية هذه القضية الصحية وانتشارها في كل أنحاء العالم، وبخاصة خلال نزول هذا الكرب الصحي العقيم، فقد نظمت جمعية السكري البحرينية بالتعاون مع وزارة الصحة ومستشفى الملك حمد الجامعي والكلية الملكية للجراحين في إيرلندا، مؤتمر "أكاديمية البحرين للسمنة" في الفترة من 17 وحتى 18 سبتمبر من العام الجاري في البحرين. وقد جاء في المؤتمر بأنه وحسب المسح الصحي الوطني الذي تم في مملكة البحرين عام 2018 فإن نسبة السمنة بلغت 25.7% بين المقيمين و 42.8% بين المواطنين، كما أن نسبة زيادة الوزن بلغت 39.8% بين المقيمين و 33.2 بين المواطنين، كما أكد المؤتمرون على أن البحرين شهدت تزايداً كبيراً في معدلات انتشار السمنة، حيث بلغت أكثر من ثلاثة أضعاف المعدلات الاعتيادية على مستوى العالم.

 

وهذا النمط المتزايد في ارتفاع نسبة البدناء والذين يعانون من الوزن الزائد ينطبق أيضاً على باقي دول الخليج، فالأرقام المتعلقة بالسمنة تشير إلى ازدياد النسبة بشكلٍ عام، وأنها أصبحت تمثل الوباء الجديد، فالإحصائيات تبين أن دول الخليج في تسابق لاحتلال المراكز الأولى في نسب الإصابة بالسمنة المفرطة حول العالم، فقد بلغت في الكويت 36% للذكور و 48% للإناث، والإمارات 25% و 42%، وفي البحرين 20% و 38%، وفي وقطر 32 و 19، وسلطنة عمان 8% و 17%.

 

ولذلك فنحن نواجه اليوم تحديين عظيمين غير مسبوقين في تاريخ البشرية، فيروس كورونا الخبيث من جهة الذي فتك بالبشرية جمعاء، والسمنة المفرطة والبدانة التي تفشت بين الأطفال والشباب خاصة من جهة أخرى، فلا بدن إذن من مواجهتهما معاً وفي آن واحد، وبسلاح فاعل واحد يقضي على الإثنين مرة واحدة. وقد تنبه رئيس الوزراء البريطاني، بُوريس جونسون، إلى هذه التحديات، حيث أعلن في 14 مايو من عام 2020 بأن الحرب ضد البدانة والوزن المفرط والسمنة الزائدة هي الخطوة الاستباقية الأولى والسياسية الوقائية التي يجب تبنيها من أجل النجاح في الحرب المعلنة منذ أكثر من ستة أشهر طويلة ضد فيروس كورونا الجديد.

 

وهذا الإعلان الواضح والصريح لم يأت من فراغ، ولم يُبن فقط على الأدلة العلمية والبراهين الدامغة حول العلاقة بين مرض فيروس كورونا والبدانة التي تعاني منها الكثير من المجتمعات المرفهة والمتحضرة، وإنما انطلق من أعماق قلب رئيس الوزراء البريطاني بسبب المعاناة الشخصية العصيبة التي وقع فيها، وقاسى من ويلاتها وآلامها. فقد أُصيب بمرض فيروس كورونا في أبريل عام 2020، وأدخل المستشفى نتيجة للأعراض الحادة التي ظهرت عليه، ثم مع اشتداد هذه الأعراض والآلام التي بدأ يعاني منها، تم نقله إلى قسم العناية المركزة، ونظراً لعدم وصول أجله المحتوم، فقد تعافى من المرض، وبعد خروجه من المستشفى تشكلت عنده عدة قناعات صحية شخصية، من أهمها بأن وزنه الزائد وسمنته المرتفعة أدت إلى وقوعه في فك الفيروس الخبيث، وتدهور حالته الصحية فجأة واحدة، فقد أكد رئيس الوزراء بأن البدانة هي التي تسببت في وقوعه في هذه التجربة القاسية، فعاهد نفسه على أن يبدأ بمحاربة البدانة في المجتمع البريطاني كأحد الإجراءات الصحية لمكافحة ومواجهة مخاطر كورونا.

 

ولذلك في مثل هذه القضايا الصحية الدولية المعقدة والمتشابكة لا بد من تكاتف وتعاون جميع الجهود على كافة المستويات، ولا مفرَّ من تبني السياسات الشاملة والمتكاملة على المستويين الدولي والقومي، واتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لمنعها أولاً، ثم معالجتها والتخفيف من حدتها ثانياً. فالنسبة لمواجهة فيروس كورونا بالتحديد لا بد من أخذ اللقاح بشكلٍ متسارع، وفي الوقت نفسه الالتزام بالإجراءات الوقائية من التباعد الاجتماعي، ولبس الكمامات، وتجنب الاختلاط في المناطق المكتظة والمغلقة التي لا تتمتع بتهوية مناسبة. وأما بالنسبة لوباء الوزن الزائد والسمنة المتزايدة بين شعوب العالم، وبخاصة شعوب الدول المتقدمة والغنية، فلا بد من معالجة جميع العوامل المسببة لهذا المرض، سواء أكانت عوامل تقليدية معروفة لدى الجميع، مثل نوعية وكمية الغذاء، وممارسة الرياضة، والتدخين، ونمط حياة الفرد، أو العوامل التي انكشفتْ علينا حديثاً كالتعرض للملوثات الموجودة في الماء أو الهواء أو التربة، ومع مواجهة السمنة فإننا في الوقت نفسه نتصدى لأمراض أخرى مرتبطة بها كأمراض السكري، والضغط، وتصلب الشرايين، والقلب، والتهابات المفاصل، وبعض أنواع السرطان.