الأحد، 29 أغسطس 2021

البعد البيئي الدولي لقانون البنية التحتية الأمريكي

  

قانونان جديدان أقرهما الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ أولاً ثم النواب ثانياً، وهذان القانونان لا يخصان الولايات المتحدة الأمريكية والشعب الأمريكي فحسب، وإنما يؤثران على كل إنسان يعيش على سطح الأرض، بل وكل حيوان ونبات في البر والبحر وفي أعالي السماء، ولذلك فإن مردودات وآثار هذين القانونين يهماني في البحرين، كما هما يهمان ويخصان أي إنسان آخر يعيش في أية بقعة كانت من كوكبنا.

 

فهذان القانونان يتطرقان بشكلٍ مباشر إلى قضية بيئية وصحية وأمنية واقتصادية مشتركة تعاني منها الكرة الأرضية والبشرية منذ أكثر من ستين عاماً، وهي قضية التغير المناخي، والتي يحاول المجتمع البشري برمته مواجهتها والتصدي لها بشكلٍ جماعي مشترك منذ أن دخلت رسمياً في جدول أعمال حكومات دول العالم في المؤتمر التاريخي الذي عرف بقمة الأرض في عام 1992 في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، حيث وافقت دول العالم بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية التي شاركت بوفد رفيع المستوى برئاسة جورج بوش الأب على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي.

 

ووجود الولايات المتحدة الأمريكية بشكلٍ فاعل وقوي في هذه الاتفاقية الدولية، أو أية معاهدة دولية بشكلٍ عام مهم جداً لإنجاح المعاهدة ولضمان استدامة تنفيذ الحلول التي تُطرح لمعالجتها والتصدي لها بفاعلية ونجاح، فأمريكا هي العامل الدولي الرئيس الذي يتمتع بنفوذٍ قوي ومؤثر، وسلطة رفيعة وضاربة، ولها القدرة على إنجاح، أو فشل أي جهد دولي حول أية قضية كانت، فصوتها حاضر بقوة ودائم في مجلس الأمن للموافقة أو الاعتراض على أية مشكلة تطرح في مجلس الأمن، وصوتها النافذ يؤثر على مسيرة كافة المنظمات والاجتماعات الدولية وعلى القرارات التي تتخذها.

 

كما أنه بالنسبة لقضية التغير المناخي الدولية وارتفاع حرارة الأرض وسخونتها، فإن لعب أمريكا الدور الرئيس في أي جهد يبذل لمواجهة القضية، سواء هذا الجهد كان على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، أي على المستوى القومي كسن القوانين الخاصة للتصدي ولعلاج تداعيات التغير المناخي، أو أن هذا الجهد كان على المستوى الدولي والمتمثل في تنفيذ الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعنية بالتغير المناخي.

 

ويعزى السبب في أهمية وجود أمريكا على المستويين القومي والدولي للتصدي للتغير المناخي في أن الولايات المتحدة الأمريكية هي المسؤول الأول أو الثاني لانكشاف هذه القضية الدولية العامة والمشتركة، والولايات المتحدة الأمريكية يقع عليها العبء الأكبر في وقوع هذه الظاهرة المناخية الكارثية، فهي أكبر أو ثاني أكبر دولة تُطلق الملوثات المسببة لهذه الظاهرة منذ قرابة قرنين من الزمان، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، أو الذي نُطلق عليها بغازات الدفيئة والاحتباس الحراري. فقد جاء في التقرير المنشور من مجموعة "الاستثمار المسؤول اجتماعياً"(Socially Responsible Investing)في 26 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "الخمس دول الأكثر إنتاجاً لثاني أكسيد الكربون" والمستخلص من تقديرات "المشروع الدولي للكربون"(Global Carbon Project)، بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي ثاني دولة بالنسبة لانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينجم من حرق الوقود الأحفوري في السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، والطائرات. وحسب هذا التقرير فإن الصين تقع في المرتبة الأولى، ثم الهند في المرتبة الثالثة، وروسيا، وأخيراً اليابان. فهذا التقرير، وتقارير أخرى كثيرة تؤكد دور أمريكا في مكافحة هذا الوباء المناخي الدولي، بل وتركز على أن أمريكا تلعب دوراً محورياً رئيساً في حماية كوكبنا من شر التغير المناخي، وبالتالي استدامة حياتنا جميعاً على سطح الأرض، ولذلك أي جهد أمريكي، على هيئة قانون يُسن على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، أو نظام يضع معايير ومواصفات لانبعاث الملوثات من السيارات أو المصانع، أو أية مشاركة فاعلة في معاهدة دولية، فإن كل هذه الجهود تخص وتهم كل إنسان يعيش على سطح الأرض. فالولايات المتحدة الأمريكية بيدها دائماً مفتاح حل أو إعاقة أي جهد في مجال مكافحة التغير المناخي، كما بيدها مفتاح نجاح أو فشل هذه الجهود الدولية، كما أفشلت من قبل بروتوكول كيوتو لعام 1997 الذي ألزم الدول الصناعية المتقدمة في خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة، وأفشلت كذلك مفاهمات باريس لعام 2015 عندما انسحبت منها في عهد ترمب في الأول من يونيو 2017.

 

فالقانون اللذان وافق عليهما الكونجرس يصبان في جهود مكافحة التغير المناخي، وبالتالي يعد خبراً جيداً لكوكبنا وسلامة حياتنا على الأرض. أما القانون الأول فهو متعلق بخطة إطارية للميزانية العامة بمبلغ 3.5 تريليون دولار، حيث وافق عليه مجلس الشيوخ في 11 أغسطس ومجلس النواب في 24 أغسطس، والثاني فهو تحت عنوان  قانون "استثمار البنية التحتية والوظائف"(Infrastructure Investment and Jobs Act) بميزانية قدرها 1.2 تريليون دولار، والذي وافق عليه مجلس الشيوخ، ثم أجل مجلس النواب التصويت عليه إلى 27 سبتمبر من العام الجاري.

 

فهذه القوانين تدخل ضمن جدول أعمال الجانب الاقتصادي لحكومة بايدن، وتشتمل على عدة قطاعات هي البنية التحتية في قطاع المواصلات والاتصالات مثل بناء الشوارع والجسور والأنفاق وسكك القطارات والمطارات، وشبكة الإنترنت، وقطاع التعليم، والرعاية الصحية وغيرها.

 

وما يهمني هنا في هذه القوانين الأمريكية وما يخض جميع البشر، وما هو له علاقة بي كأحد سكان كوكب الأرض، هو البرامج والأنشطة الخاصة بمواجهة التغير المناخي وخفض الانبعاثات من المصادر الكثيرة المختلفة المؤدية إلى سخونة الأرض ورفع درجة حرارتها على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي نشترك جميعاً في التأثر بها والتضرر من انعكاساتها السلبية.  

 

فمن هذه البنود المتعلقة بالتغير المناخ هو البند أو البرنامج الخاص بتقنيات ومصادر الطاقة النظيفة والمتجددة غير الملوثة لبيئتنا، والتي تشتمل على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما من مصادر الطاقة التي تحمي كوكبنا من شر انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرهما المؤثرة على سكان الأرض جميعهم. كذلك هناك البند المتعلق بالمواصلات، حيث تبنى بايدن الإنفاق على دعم السيارات الكهربائية والتخلص التدريجي من السيارات التي تعمل بالجازولين والديزل بحلول عام 2035، أي منع انبعاث الغازات المسؤولة عن حدوث التغير المناخي لكوكب الأرض. وعلاوة على ذلك فهناك البنود المختصة بقطاع الزراعة وخفض إطلاق الملوثات المناخية من تريبة الحيوانات والمواشي، وزراعة المحاصيل.

 

فهذه الحالة الأمريكية تذكرني بالكثير من القضايا والمشكلات الدولية التي نزلت على كوكب الأرض الذي نشترك جميعاً في الحياة عليه، فمعظم هذه المشكلات كانت بسبب عبث هذه الدول المتقدمة الصناعية ببيئتنا منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى قبل نحو قرنين، ومعظمها كانت تقف وراءها هذه الدول العظمى، ولذلك تقع عليها المسؤولية الأخلاقية في تحمل المسؤولية الكبرى في علاجها ومواجهتها من ناحية سن القوانين على المستويين القومي والدولي والإنفاق على كافة جهود الحماية والتصدي لها، فبدون تعاون وجهود وإنفاق هذه الدول الكبرى فالمشكلات الدولية ستظل تراوح في مكانها، كما هو الحال الآن بالنسبة للتغير المناخي.

الأربعاء، 25 أغسطس 2021

قِصَر نظر الإنسان

قرأتُ بتمعنٍ شديد وبعمق المقال المنشور في صحيفة الجاردين البريطانية في 21 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان: "التوجه نحو المخلفات الإلكترونية: فشل عمليات التدوير في أستراليا وتحديات الطاقة الشمسية"، وهذا المقال أرجعني إلى الوراء إلى ما قبل أكثر من قرنين من الزمان بعد أن بدأ الإنسان الثورة الصناعية الأولى، فحلَّت الآلات والأجهزة مكان الجهد الذي كان يقوم به الإنسان، أي استبدال عضلات الإنسان وقوته البدنية بالمكينة والآلة، وقريباً وفي الزمن المنظور سيُستبدل الإنسان بالروبوتات، أو الإنسان الآلي.

 

فمع كل هذه التطورات العلمية والتقنية المبهرة والمتسارعة منذ أكثر من مائتي عام، ومع كل هذه العمليات التنموية والمكاسب العظيمة التي حققها الإنسان في جميع المجالات وكافة القطاعات، ومع النضوج الفكري للبشر عامة طوال هذه السنوات الطويلة، إلا أن نظرته مازالت قاصره، وفكره مازال محدوداً، فأنشطته الإنتاجية غير المسبوقة في التاريخ كانت، ومازالت تهدف إلى تحقيق هدفٍ رئيس واحد فقط هو الربح الوفير والسريع، فكانت التنمية تسير بعجلةٍ كبيرة وبعينٍ واحدة ثاقبة ترى خطاً واحداً فقط، وتركز على مسارٍ واحد لا ثاني له، وتسمع بأذن واحدة كذلك ومن جانب واحد فقط، ولذلك تجاهلت هذه التنمية البشرية كل الإفرازات التي تتمخض عنها، ومازالت على هذه الحالة بالرغم من هذه الخبرات الطويلة التي اكتسبها عبر القرون، والكوارث التي عانى منها وسقط فيها، ونست، أو تناست ما تنتج عن هذه الأنشطة التنموية من مخلفات غازية، وسائلة، وصلبة. ففي كل مرة يُقدم منتجاً جديداً للبشرية، يتفاجأ بعد سنوات بملايين الأطنان من المخلفات التي نجمت عن العملية الصناعية لهذه المنتجات والمواد الاستهلاكية، أو المخلفات التي تنتج بعد انتهاء العمر الافتراضي لهذا المنتج وعند التخلص الإنسان منه.

 

فهذا المقال الذي قرأتُه في الجاردين أكد لي هذه الحقيقة التي أراها أمامي منذ عقود، وفي كل مرة تزداد قناعتي بمصداقيتها. فعلى سبيل المثال، يسعى الإنسان جاهداً منذ زمن إلى التخلص من مصادر الطاقة الملوثة للبيئة والمفسدة لصحة الإنسان والتي عادة ما تكون ناضبة وغير متجددة، مثل الوقود الأحفوري، كالفحم، والنفط، والغاز الطبيعي، ويعمل بكل ما أوتي من قوة عقلية على استبدال هذه المصادر بأخرى صديقة للبيئة ونظيفة لا تنبعث عنها السموم ولا تنجم عنها المخلفات الصلبة وغير الصلبة، إضافة إلى أنها تكون متجددة وقادرة دائماً على العطاء. ولكن الإنسان كعادته في بحثه عن البديل المستدام والسليم والآمن لصحة الإنسان، مثل الطاقة الشمسية، لم يفكر بالمخلفات التي تنجم عن استخدام هذه الطاقة من ألواح شمسية بعد الاستعمال، وبعد أن تفقد صلاحيتها وقدرتها على العطاء بعد مرور نحو عشرين عاماً، فتتحول بعد ذلك إلى مخلفات يجب التعامل معها، وإدارتها بطريقة سليمة بيئياً وصحياً. فها هو الآن، كما ورد في المقال، يقف عقل الإنسان حائراً ومرتبكاً أمام هذه الملايين من الأطنان من المخلفات التي تتراكم أمام عينيه كالجبال الشامخة، فلا يعرف كيف يتعامل معها، وكأنها انكشفت أمامه وظهرت فجأة وبدون سابق إنذار.

 

ففي أستراليا، على سبيل المثال، هناك قرابة مائة ألف طن من الألواح الشمسية المستهلكة التي ستفرض نفسها على الإنسان بحلول عام 2035، حسب التقرير المنشور من حكومة ولاية فكتوريا الأسترالية في السابع من أبريل تحت عنوان: "المدخل القومي لإدارة الألواح الشمسية". وما يحدث في أستراليا ينطبق بشكلٍ كلي على باقي دول العالم التي تتجه نحو استخدام الطاقة الشمسية، والتي ستجد نفسها أمام هذه المعضلة، وبخاصة أن مخلفات الطاقة الشمسية تدخل ضمن المخلفات الإلكترونية، وتُصنَّف كمخلفات خطرة تحتوي على عناصر ثقيلة سامة كالرصاص، مما يعني إدارتها بأسلوب خاص وحذر يختلف عن إدارة المخلفات غير الخطرة.

 

ومثال آخر أستطيع أن أضربه لكم ويتمثل في سيارات المستقبل القادمة لا محالة، وبالتحديد السيارات الكهربائية. فالإنسان من أجل علاج مشكلة تلوث الهواء الجوي الناجم عن سيارات الجازولين والديزل والتي لها تداعيات بيئية وصحية عصيبة على المجتمعات البشرية، وبخاصة دورها المباشر والشديد في وقوع مشكلة وقضية القرن، وهي التغير المناخي، يحاول منذ زمن إيجاد البدائل المجدية بيئياً وصحياً واقتصادياً لمواجهة ظاهرة التغير المناخي ومكافحة سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، ومن بين هذه المحاولات التي خطت خطوات عملية جادة في كل دول العالم، وتبنت الحكومات ومنتجو السيارات هذا البديل، هو السيارات الكهربائية.

 

فحكومات الدول الصناعية المتقدمة المنتجة للسيارات اتخذت قراراً سياسياً استراتيجياً يتمثل في التخلص من السيارات التي تشتغل بالوقود الأحفوري، مثل الجازولين، والديزل، والغاز الطبيعي،  وحثت الشركات المنتجة للسيارات على الاستثمار في هذا القطاع الجديد المتمثل في السيارات الكهربائية بعد أن وفرت لها الغطاء السياسي والتشريعي، واليوم كل شركات العالم المصنعة للسيارات خصصت المليارات من الدولارات لإنتاج عدة أنواع من السيارات الكهربائية والتخلص تدريجياً من السيارات الأخرى.

 

وهنا أيضاً سيُوقع الإنسان نفسه في ورطة كبيرة إذا لم يأخذ في الاعتبار من الآن وفي مرحلة التصميم والإنتاج ويخطط  لكيفية التعامل مع مخلفات السيارات الكهربائية، وفي مقدمتها البطاريات التي ستكون بمثابة القنبلة الموقوتة التي ستنفجر في وجه الإنسان إذا تجاهلها وغض الطرف عنها وجعلها تزيد وتتراكم يوماً بعد يوم.

 

فالتقديرات المنشورة في مجلة "الطبيعة" المعروفة في 17 أغسطس 2021 في المقال تحت عنوان: "السيارات الكهربائية والبطاريات: كيف سينتج العالم بما فيه الكفاية؟"، تفيد بأنه بحلول عام 2030 ستصل أعداد السيارات الكهربائية إلى قرابة 145 مليون، أي ستكون هناك مئات الملايين من البطاريات القديمة والمستهلكة التي يجب التعامل معها بطريقة علمية مستدامة، فبعض مكونات هذه البطاريات هي الليثيوم والكوبالت والنيكل والنحاس، وهذه ملوثات سامة وخطرة تحتاج إلى رعاية وعناية خاصة حتى لا تدمر صحتنا وتفسد سلامة مكونات بيئتنا، فيكون عندئذٍ الضرر من السيارات الكهربائية أكبر من الفائدة التي نجنيها منها.

 

فهذه الأمثلة التي نواجهها اليوم، ونعاني منها منذ قرون، يجب أن تكون فرصة للإنسان ليصحح مفاهيمه الخاطئة، ويعدل من اعوجاج فكره تجاه بيئته فيضع البيئة في مقدمة اهتماماته وعنايته، وبالتحديد في مجالين، الأول منع أو خفض الانبعاثات من أية عملية تنموية يقوم بها، والثاني التفكير في كيفية إدارة المخلفات التي قد تنجم عن هذه العمليات حتى لا يصطدم بوجودها في وجهه.

 

الاثنين، 23 أغسطس 2021

أزمة المياه الدولية

كارثة رهيبة تقع لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وانكشفت خيوطها في منتصف هذه الشهر الجاري، وبالتحديد في 16 أغسطس عندما نشرت بعض وسائل الإعلام تقارير وتحقيقات معمقة عنها وعن تداعياتها، ولكن هذا الحدث العصيب لم يأخذ حقه من التغطية الإعلامية والاهتمام من رجال السياسة والحكم على المستوى الاتحادي أو على مستوى الولايات، فقد نزلت على العالم في الوقت نفسه، وفي 15 أغسطس بالتحديد أحداث أفغانستان العجيبة والفريدة من نوعها وفي صورها في التاريخ البشري والمتمثلة في مشهد الدخول السلس والممهد لحركة طالبان في العاصمة كابل دون أية مقاومة بعد أن طُردوا منها قبل قرابة عشرين عاماً.

 

فهذه الحادثة الدولية وجهت البوصلة الإعلامية كلياً نحو أفغانستان، وتجاهلت وسائل الإعلام كلها جميع الأحداث الأخرى، أو جعلتها هامشية لا قيمة لها من الناحية الإخبارية، فاستصغرت كل الأخبار أمام ما وقع في أفغانستان من مظاهر فريدة لم يشهدها الإنسان من قبل، ومن تداعيات عظيمة كشفت حقيقة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

والآن بعد أن هدأت العاصفة وانتهينا من سخونة المشهد الأفغاني، الذي أشبعته وسائل الإعلام خبراً وتحليلاً وتحقيقاً، يحق لي أن أنتقل إلى المشهد داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في الولايات الجنوبية الغربية من أمريكا، حيث تضرر أكثر من مليون أمريكي من هذه الكارثة العقيمة وفي أغلى وأهم شيء يحتاج إليه الإنسان وهو مياه الشرب، كما تأثرت ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية التي تُعتبر الرئة الغذائية لأمريكا، فأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة في تاريخها ممثلة في المكتب الأمريكي للاستصلاح(U.S. Bureau of Reclamation) في 16 أغسطس عن نقصٍ حاد مروع في تدفق مياه نهر كولورادو العظيم الذي ينبع من جبال روكي ويبلغ طوله 2333 كيلومتراً، ويغذي سبع ولايات، منها كولورادو، ونيفادا، وكاليفورنيا، ونيو مكسيكو، ويوتاه، ووُيومينج، وأريزونا، والذي هو بمثابة وأهمية نهر النيل بالنسبة لمصر والسودان وأثيوبيا، فلا حياة بدونه.

 

وهذا النقص والانخفاض في مستوى النهر أثر على أكبر مستودع وخزان يُجمع فيه الماء في أمريكا، وهو بحيرة ميد(Lake Mead) الواقعة بالقرب من مدينة لاس فيجس المشهورة في نيفادا، والذي نزل فيه مستوى الماء بدرجاتٍ خطيرة تهدد حياة الأربعين مليون من الشعب الأمريكي وتنذر بوقوع مجاعة عامة، حيث بلغ مستوى قياسي هو 1075 قدماً فوق مستوى سطح البحر، مما اضطرت الجهات المعنية بإدارة النهر وهذا المستودع المائي العظيم، ولأول مرة في أمريكا، إلى فرض آلية قطع وتقنين إمدادات المياه إلى المنازل والحقول الزراعية وغيرهما.

 

كما أن هذه الكارثة، وحوادث أخرى لها علاقة بها ووقعت في هذه الولايات، اضطر حكام هذه الولايات إلى إرسال خطاب التماس إلى الرئيس بايدن في 15 أغسطس يدعون فيه الرئيس بايدن إلى إعلان "كارثة الجفاف على المستوى الاتحادي"، حيث أكدوا فيه بأن الكارثة المائية التي تواجههم تتعدى وتفوق حدود قدراتهم وامكاناتهم في كل ولاية على حدة، وبحاجة إلى دعم ومساعدة اتحادية.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء نزول هذا الكرب العقيم على أكبر وأعظم وأغنى دولة في العالم وأكثرها تقدماً وتطوراً، ومن أهم هذه الأسباب هو عامل مشترك تعاني منه كل دولة من دول العالم الآن بدون استثناء، غنية كانت أم فقيرة، متقدمة ومتطورة كانت أم نامية ومتأخرة، فالجميع يقف سواسية أمام هذا السبب الذي يعُمُّ الآن الكرة الأرضية برمتها، فلا أحد بمنأى عن تأثيراتها السلبية الكبيرة، وهذا العامل الدولي المشترك هو التغير المناخي وتداعياته التي لا تعد ولا تحصى، والتي من أبرزها وأشدها وقعاً على المجتمعات البشرية هي سخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، والفيضانات في المناطق الساحلية، وحرائق الغابات، وزيادة نسبة الجفاف.

 

ومن أشد هذه الانعكاسات الناجمة عن التغير المناخي وطأة وتأثيراً هي ارتفاع حرارة الأرض، لما لها من مردودات تهدد حياة البشر بشكلٍ مباشر في كل شبرٍ من كوكبنا، وبخاصة بالنسبة للثروة المائية، وما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية من فقرٍ مائي حاد في الولايات الواقعة في جنوب غرب أمريكا هو مثال واحد فقط قد يحدث في أية بقعة من الأرض، وهو الدليل الواضح والبيِّن أمام أعين الجميع لما ينجم عن أزمة التغيرات المناخية.

 

فارتفاع حرارة الأرض يغير من الدورة المائية الطبيعية للكرة الأرضية برمتها ويخل من توازنها، إضافة إلى تأثيراتها المحددة في كل منطقة جغرافية، فسخونة الأرض تؤثر على ذوبان الثلوج، وسخونة الأرض تزيد من مستوى تبخر الماء في الأنهار والبحيرات والمستودعات المائية التي تغذي المجتمعات بحاجاتها اليومية لشريان الحياة، فيزيد من نقصان الماء فيها. ففي حالة الولايات المتحدة الأمريكية، فإن ارتفاع حرارة الأرض وزيادة درجة تبخر الماء أدى إلى فقدان قرابة ستة أقدام من الماء من خزان بحيرة ميد سنوياً، أي خسارة نحو 300 بليون جالون سنوياً من الماء الذي لا حياة بدونه بالنسبة للمجتمعات التي تعتمد عليه، حسب التقرير المنشور في مجلة "العلمي الأمريكي" في 19 مارس 2020 تحت عنوان: "نهر كولورادو يهدده مستقبل جاف".

 

إذن فأزمة الشح في المياه في بعض دول العالم ليست كما هو الانطباع السائد من قبل بأنها أزمة خاصة في المناطق الصحراوية والجافة والقاحلة، وإنما هي أزمة حقيقية واقعة بدأت تنكشف اليوم في كل دول العالم، الصحراوية وغير الصحراوية، بل وانكشفت في الدول التي تجري من تحتها الأنهار وتعج بالبحيرات العذب الفرات، فأزمة الفقر المائي تحولت مع اشتداد تداعيات التغير المناخي وسخونة الأرض من ظاهرة محلية أو إقليمية إلى ظاهرة دولية عامة.

 

والتقييم، أو التقرير السادس الذي يصدر منذ عام 1988 حول التغير المناخي يُشير إلى أن أزمة المياه أصبحت الآن دولية، وأخذت تتفاقم يوماً بعد يوم مع زيادة تداعيات التغير المناخي، مثل سخونة الأرض والموجات الحرارية، ونزول الفيضانات، وارتفاع درجات الجفاف وحرائق الغابات. فهذا التقييم الأخير المنشور في التاسع من أغسطس والصادر من "الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي"(Intergovernmental Panel on Climate Change (IPCC))، والذي يحتوي على 4000 صفحة، يؤكد على هذه الحقيقة والمظاهر الحية التي نشاهدها أمامنا.

 

كما أن هذا التقرير الجديد، والجزء الثاني من هذا التقرير المختص بتأثير الأزمة المناخية على الموارد المائية، والذي سيصدر في فبراير 2022، يؤكدان مرة ثانية على معادلة بسيطة قديمة مُلخصها أننا إذا استمرينا في اطلاق الملوثات بهذه النسبة والدرجة الحالية العالية فإن تأثيرات التغير المناخي ستتفاقم وستكون كارثية تهدد استدامة كوكبنا، وستكون هذه التأثيرات والأضرار الناجمة غير رجعية، أي لا يمكن إرجاع الحال إلى ما كُنَّا عليه في الماضي.

 

وهذا القرار المصيري في يد الدول الصناعية المتقدمة التي تتحمل مسؤولية تلوث الهواء منذ أكثر من قرنين من الزمان وهذا الوضع المناخي المأساوي الذي توصلنا إليه الآن، فماذا ستفعل هذه الدول تجاه هذه المسؤولية الأخلاقية؟

 

الخميس، 19 أغسطس 2021

الشعوب الغنية أكثر تلويثاً للبيئة من الفقيرة


دراسة علمية فريدة من نوعها من حيث أهدافها ونتائجها، وتهم كل رجال السياسة  والنفوذ وكل متخذ قرار في جميع دول العالم، فهذه الدراسة تربط بين تدهور البيئة، وبالتحديد تلوث الهواء وارتفاع أعداد الوفيات من هذا التلوث، كما أنها تبين العلاقة الإيجابية الحميمية بين تدهور جودة الهواء المتمثل في انبعاث الملوثات من حرق الوقود الأحفوري عامة والذي يؤدي على انكشاف ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وازدياد حالات الموت بين البشر في كل دولة من دول العالم.

 

وإثبات هذا الربط الواقعي بين التلوث عامة وموت الإنسان من المفروض أن يقنع ويحفز المعنيين بسن القوانين ومتخذي القرار ويشجعهم على اتخاذ القرارات المستدامة التي تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي من ناحية تحمي صحة البيئة وتقي مكونات البيئة من شر الملوثات السامة والخطرة، وفي الوقت نفسه عندما تقوم بذلك فأنت تحافظ على الأمن الصحي للإنسان والكائنات الحية الأخرى التي تعيش معنا.

 

فهذه الدراسة التي قامت بها جامعة كولومبيا الأمريكية بالتعاون مع جامعات أخرى ونُشرت في مجلة "اتصالات الطبيعة"( Nature Communications)في 29 يوليو 2021، بحثتْ في قضية تداعيات التغير المناخي التي تشهدها الكرة الأرضية الآن من ناحية "الكلفة الاجتماعية للكربون"، وبالتحديد دخلت بالتفصيل في العلاقة بين أحد هذه التداعيات فقط للتغير المناخي، وهو المتعلق بسخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها، والتي تنتج منها الموجات الحارة القاتلة التي تضرب الكثير من الدول في أشهر الصيف، وبخاصة في الدول الغربية الباردة.

 

وقد تمخضت عن الدراسة عدة استنتاجات لها جوانب متعددة يمكن الاستفادة منها في التعرف على حجم الضرر الكبير الواقع على البشرية جمعاء من ظاهرة التغير المناخي ورفع حرارة الأرض، إضافة إلى دور سلوك البشر في مختلف دول العالم ونمط حياتهم اليومي في تفاقم هذه الظاهرة المهلكة للحرث والنسل والحجر والشجر، كما أوجدت الدراسة بأن التغير المناخي المتمثل في ارتفاع حرارة الأرض يؤدي إلى موت البشر.

 

ومن هذه الاستنتاجات الفريدة تلك التي تُبرز تهديد التغير المناخي وسخونة الأرض لصحة الناس ومن ثم الموت المبكر، كما تشير الدراسة إلى أن سلوك البشر وممارساتهم وتصرفاتهم اليومية من ناحية استهلاك الإفراط في استخدام الكهرباء والسيارات وغيرهما من الأنشطة التي تعتمد على حرق الوقود الأحفوري هي التي ترفع أو تخفض من أعداد الوفيات.

 

فعلى سبيل المثال، الإنسان في الدول الغربية والصناعية المتقدمة والغنية مثل الولايات المتحدة الأمريكية يستهلك موارد الطاقة أكثر من غيره من الدول في توليد الكهرباء وسياقة السيارات والطائرات والقطارات، ويستنزف وقود أكبر، مما يزيد من انبعاث الملوثات إلى الهواء الجوي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول في سخونة الأرض، وبالتالي فإن مسؤولية الإنسان الأمريكي أكبر وأشد من الإنسان في الدول الفقيرة والنامية في حدوث ظاهرة التغير المناخي وموت البشر وتدهور الثروات الطبيعية لكوكبنا من الناحيتين النوعية والكمية. فهذه الدراسة تُقدم أيضاً تحليلاً كمياً رقمياً لهذه الفرضية، فتفيد بأن ثلاثة من المواطنين الأمريكيين يولِّدون ويُطلقون طوال سنوات حياتهم كميات وأحجام من ثاني أكسيد الكربون الناجمة من حرق الوقود والمسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض تكفي لقتل إنسان واحد، وفي المقابل فإن عدد البشر الذين يسببون موت إنسان واحد في الدول الفقيرة منخفضة الاستهلاك للوقود يرتفع كثيراً، فعلى سبيل المثال، 25 برازيلياً و 146 نيجيرياً يُطلقون غاز ثاني أكسيد الكربون طوال عمرهم ليتسببوا في موت إنسان واحد!

 

كذلك فإن الدراسة توصلت إلى حجم غاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث إلى الهواء الجوي والمسؤول عن قتل إنسان واحد وموته مبكراً وهو في ريعان شبابه، حيث قدَّرت بأن هذا الحجم هو 4434 طناً من ثاني أكسيد الكربون الذي يسهم في حدوث هذه الموجات الحرارية القاتلة في مواسم الصيف خاصة، كما شهدنا هذا العام وعاصرنا موت الآلاف من البشر وإصابتهم بنوبات الحر الشديدة.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الأرقام والتقديرات التي توصلت إليها الدراسة حول دور التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض في حصد أرواح البشر، تُعد تقديرات منخفضة جداً وأقل من الواقع المشهود، حيث إن البحث أخذ في الاعتبار عند عملية التحليل أحد الانعكاسات والتداعيات الناجمة عن التغير المناخي، وهو ارتفاع حرارة الأرض فقط، ولم يأخذ في الحسبان، ولم يقم بدراسة التداعيات الأخرى الكثيرة التي يسببها التغير المناخي، مثل ارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المياه السطحية، والفيضانات في المناطق الساحلية، والأعاصير والعواصف البحرية الساحلية، وتدهور المحاصيل الزراعية، وحرائق الغابات، فجميع هذه التداعيات لو أُخذت عند إجراء التحليل لرفعت وزادت من أعداد الوفيات الناجمة من تداعيات التغير المناخي.

 

وبعد هذه الدراسة العملية، فإننا بحاجة ماسة إلى دراسات وأبحاث أكثر شمولية وأعمق تركز على جانبين مهمين يؤثرون على رجال النفوذ والسياسة والتشريع عند اتخاذ القرار ووضع التشريعات، وهذان الجانبان هما أولاً أن تدهور البيئة عامة يؤدي إلى تعريض الناس للأمراض المزمنة والحادة والموت المبكر نتيجة لهذا التدهور البيئي، مما يعني بأن فساد مكونات البيئة من ماء وهواء وتربة يكلف الإنسان غالياً فهو يحصد أرواح البشر بعد أن يوقعهم أولاً في شباك الأمراض التي لا علاج لها. وأما الجانب الثاني فهو الكلفة المالية الباهظة لهذا التدهور البيئي، فيجب على الجميع أن يعلم بأن تلوث البيئة لن يكون مجانياً وإنما ينعكس اقتصادياً على ميزانية الدول ويرهق كاهل مصروفاتها، فعندما نلوث الهواء الجوي فلهذه الممارسة كلفة نقدية عالية، وعندما نلوث البيئة البحرية فهناك مردودات اقتصادية كبيرة تنعكس على ميزانية الدولة، وعندما ندمر أشجار القرم الساحلية، أو الشعاب المرجانية في البيئة البحرية بسبب أعمال الحفر والدفان وتلوث مياه البحر، فإن لهذه العمليات خسائر اقتصادية عظيمة يجب حسابها وضمها في بند الخسائر الناجمة عن المشروع التنموي البحري، مما يؤكد بأن دراسات الجدوى الاقتصادية التي تُجرى لكل مشروع تنموي يجب أن تضم العنصر البيئي كجزء رئيس من هذه الدراسات.

 

فمكونات البيئة إذن ليست سلعاً مجانية لا قيمة لها ولا وزن اقتصادي، فيقوم الإنسان بتدميرها نوعياً وكمياً متى يشاء وكيفما يشاء دون حساب أو كلفة باهظة يتحملها، وإنما هي سلع غالية لها ثمنها، ولها قيمتها النقدية، وهي على المدى البعيد تعيق تحقيق التنمية المستدامة في كل دول العالم.

الأربعاء، 18 أغسطس 2021

بايدن يشتكي من ارتفاع أسعار الأدوية!


لفتت انتباهي كثيراً واستغربت من الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض في 12 أغسطس من العام الجاري وهو يحث الكونجرس على مواجهة ومناقشة قضية الارتفاع المفرط في أسعار الأدوية والعقاقير في بلاده، كما دعاهم إلى اتخاذ الإجراءات والتدابير المناسبة للقضاء على هذه الظاهرة التي تنفرد بها الولايات المتحدة مقارنة بالدول المتقدمة والصناعية الأخرى. كذلك وفي الوقت نفسه وجه اللوم والعتاب إلى عمالقة شركات الأدوية في هذه الزيادة غير المنطقية وغير المعقولة لأسعار الأدوية والتي لا تتناسب مع معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وقال بايدن: "لسنوات وأسعار الكثير من الأدوية تجاوزت معدلات التضخم، وهذه الأسعار أثرت على الكثير من العوائل"، وأضاف قائلاً: "كُلنا، مهما كانت خلفياتنا، أو أعمارنا وأينما نعيش، نتوافق على أن أسعار الأدوية مرتفعة جداً بدرجة مفرطة....ونحن في أمريكا ندفع أغلى الأسعار للأدوية من أية أمة متقدمة في العالم، نحو مرتين إلى ثلاث مرات أعلى من الدول الأخرى".

فهذه المعاناة التي أفصح عنها الرئيس بايدن للشعب الأمريكي، هي في الحقيقة معاناة دولية، وظاهرة عالمية تشترك فيها كل دول العالم بدون استثناء، والمتمثلة في الأسعار الخيالية للأدوية والعقاقير واللقاحات الواقية من الأمراض. وهذه المشكلة العصيبة التي تحدث عنها بايدن بكل وضوح هي ليست وليدة اليوم، وليست حديث الساعة، وليست قضية برزت فقط في عهد بايدن، وإنما أستطيع أن أقول بأنها مشكلة أزلية متجذرة في أعماق كل دول العالم، سواء أكانت دول متقدمة وصناعية تنتج الدواء بنفسها، أو دول نامية فقيرة تستهلك وتستورد الدواء، فالجميع سواسية أمام هذه القضية، وربما طبعاً الحال أسوأ بالنسبة للدول الفقيرة التي معظم شعوبها لا تستطيع تحمل هذا العبء الثقيل لأسعار الأدوية، وليس لها القدرة المالية على شرائها، سواء حكومات هذه الدول أو شعوبها.

فالحكومات المتعاقبة للولايات المتحدة الأمريكية، سواء في عهد بايدن، أو الرئيس السابق ترمب أو أوباما، فكلهم كانوا سواسية أمام هذه القضية الشائكة، ولم تتمكن كل هذه الحكومات من استئصال هذه المشكلة والقضاء عليها والوصول إلى حلٍ ودي متوازن ومُرض لجميع الأطراف، سواء أكانت الطرف الحكومي أو الشركات الكبيرة المنتجة للعقاقير واللقاحات ضد الأمراض.

وفي تقديري فإنني أُرجع سبب فشل الحكومات في خفض أسعار الأدوية وجعلها في متناول الجميع إلى عدة أسباب. أما السبب الأول فإن هذه الشركات تتمتع بنفوذٍ قوي جداً، ولها سلطة اقتصادية وسياسية واسعة جداً في مواقع اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعلها تمتلك مفتاح الحل بيدها، ولا تستطيع الحكومات بشكلٍ عام ممارسة ضغوط شديدة عليها.

وأما العامل والسبب الثاني فيكمن في وجود جنودٍ ممثلين لهذه الشركات بصفةٍ غير مباشرة في الكونجرس، سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، فهؤلاء الجنود يدافعون عن المصالح العليا لهذه الشركات، ويمنعون تمرير أي تشريع يضر بمصالحهم، أو أن يخفض من نسبة أرباحهم، فهؤلاء الجنود لم يصلوا إلى الكونجرس إلا من أموال هذه الشركات ولذلك يجب أن يدفعوا ثمن ذلك الدعم بمواقف سياسية وتشريعية تصب في مصلحة هذه الشركات وليست مصلحة الشعب الأمريكي عامة.

والعامل الثالث فهو أن هذه الشركات العظمى دائماً تُقدم حججاً ومبررات واهية تستغلها لمصالحها ومن أجل جني المزيد من الأرباح، فهي تؤكد في جميع المناسبات بأنها تستثمر وتنفق الملايين في البحث العلمي وفي تطوير الأدوية واللقاحات الجديدة، ولذلك طبيعياً فإن أسعار منتجاتهم تكون غالية ومرتفعة الثمن. وهذا المبرر صحيح إلى درجة معينة، ولكن الأسعار التي توضع على الأدوية لا تتناسب مع حجم الإنفاق على البحث والتطوير، إضافة إلى أن الأسعار عادة ما ترتفع بين عشية أو ضحاها وبدون سبب منطقي مقبول. فعلى سبيل المثال، نشرت رويترز تقريراً في الخامس من يناير من العام الجاري تحت عنوان: "صُناع الأدوية يبدؤون عام 2021 برفع أسعار 500 دواء في أمريكا"، واستنتاجات هذا التقرير مستخلصة من دراسة أجرتها شركة(46brooklyn)، حيث أكدت على زيادة شركات الأدوية المعروفة مثل فايزر التي ربحت المليارات من بيع اللقاح ضد فيروس كورونا لأسعار الدواء بدءاً من العام الجاري بحجة التأثيرات الاقتصادية لكورونا على أرباحهم. كما أكد الرئيس بايدن في كلمته على نقطة مهمة جداً ترد على هذه الادعاءات وهي أن الأرباح التي تجنيها هذه الشركات لا تذهب كلها إلى الصرف على البحث والتطوير وإنما تدخل في جيوب المسؤولين فتجعلهم أكثر ثراءً، وتزيد من غناهم الفاحش. وفي هذا الخصوص يكفي أن أنقل لكم آخر خبر منشور في 13 أغسطس من العام الجاري في مجلة "فوربس الشرق الأوسط" تحت عنوان:" عقود فايزر - بيونتيك وموديرنا من اللقاحات تفوق 60 مليار دولار حتى الآن"، حيث أكد الخبر بأن تعاقدات هذه الشركات فاقت مجتمعة 60 مليار دولار لجرعات ستسلمها على مدار عامي 2021 و2022 فقط، كما جاء في الخبر بأن إيرادات فايزر ستزيد عن 6.6 مليار دولار، بينما ستحقق شركة موديرنا نحو 7.6 مليار دولار خلال عام 2023.

ومن أجل مقاومة هذه الشركات الجشعة للأدوية فقد اتخذ بايدن عدة إجراءات تهدف إلى خفض هذه الأسعار وعدم تحميل الشعب الأمريكي عبء أسعار الأدوية النارية. ومن هذه الإجراءات والتي قد تجدونها غريبة على أقوى وأغنى دولة في العالم وهي شراء الأدوية من كندا الأرخص سعراً، حيث وقع بايدن أمراً تنفيذياً في التاسع من يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "تعزيز التنافسية في الاقتصاد الأمريكي"، والهدف هو زيادة روح التنافس بين الشركات من أجل خفض الأسعار، إضافة إلى مواجهة الشركات الكبرى المحتكرة والتي تتمتع بنفوذ قوي، ومنها في مجال الأدوية. وهذا الأمر التنفيذي يتكون من 72 مبادرة لمواجهة مشكلات التنافس في الاقتصاد الأمريكي، ومن هذه المبادرات "خفض أسعار الأدوية من خلال دعم الولايات وبرامج القبائل التي تعمل على استيراد أدوية آمنة وأرخص من كندا". وعلاوة على ذلك فمن ضمن ميزانية بايدن التي تبلغ 3.2 تريليون دولار هو برنامج العناية الصحية، أو التأمين الصحي، وفي هذا البرنامج توجيه الجهات المعنية على التفاوض مع شركات الأدوية للوصول إلى أنسب الأسعار للأدوية والتي تحقق المصلحة العامة.

فمن الواضح إذن أن هذه الشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، مثل شركات الأدوية وغيرها هي التي تسيطر بطريقة مباشرة وغير مباشرة على القرار الحكومي الأمريكي، ولها نفوذ عميق وقوي في السياسية والتشريع الأمريكي ربما يفوق نفوذ الرئيس الأمريكي نفسه.

فإذا كانت هذه هي حالة أمريكا التي تعمل بداخلها هذه الشركات، فكيف سيكون حالنا نحن معهم؟ وهل لنا أي سلطة عليهم؟ سواء أكانت شركات الأدوية، أو النفط، أو الاتصالات أو الإنترنت؟

 

الجمعة، 13 أغسطس 2021

سرقة من نوعٍ جديد


سرقة وقعت في البحرين، ومثلها في دول أخرى، ولها مدلولات بيئية وصحية واقتصادية واجتماعية كثيرة لا بد من التوقف عندها، وتحليلها، والتعرف على انعكاساتها المختلفة. فهذا النوع من السرقة الإبداعية غريب على الكثير من الناس، وربما لم يفكروا فيه قط. ولكن أصحاب الذمم الميتة، والمفسدين في الأرض من السراق الذين يشمون رائحة أي فرصة للتربح وجمع المال من على مسافة بعيدة، كما هو الحال بالنسبة لبعض الحيوانات والحشرات التي تشم رائحة الأكل عن بعد، فلا تفوتهم أية احتمالية موجودة أمامهم مهما كانت بسيطة وغير متوقعة لنا.

 

فهذه السرقة التي نُشرت في صحيفة أخبار الخليج البحرينية في التاسع من أغسطس من العام الجاري جاءت تحت عنوان: "حبس عامل كراج آسيوي وإبعاده بعد سرقة مادة البيئة من عادم سيارة"، وهذه المادة التي تمت سرقتها من جهاز العادم الموجود في أسفل ومؤخرة السيارة يطلق عليها علمياً بجهاز معالجة الملوثات التي تنبعث عند احتراق الوقود في السيارة باستخدام مواد العوامل المساعدة، أو نظام المحولات الحفازة(Three Way Catalyst).

 

وهذا الجهاز الذي يعالج ملوثات السيارات قبل انبعاثها إلى الهواء الجوي دخل إلى الأسواق من باب الولايات المتحدة الأمريكية بدءاً من عام 1975، بعد أن فرضت وكالة حماية البيئة الأمريكية معايير ومواصفات خاصة وحازمة متعلقة بانبعاثات الملوثات من عوادم السيارات، بحيث إنها تكون غير سامة، وغير ضارة بصحة الإنسان. ولذلك اضطر مصنعو السيارات إلى اختراع هذا الجهاز الخاص الذي يحول بعض الملوثات الناجمة عن حرق الوقود في السيارات إلى مواد غير ضارة، وبعضها أقل ضرراً، فيحول أول أكسيد الكربون، والملوثات العضوية الهيدروكربونية المتطايرة، وأكاسيد النيتروجين إلى ثاني أكسيد الكربون، والماء، والنيتروجين.

 

وهذا الجهاز يتكون من ثلاثة عناصر نادرة وغالية الثمن، بعضها أغلى من الذهب، وبالتحديد البلوتينيم، والروديم، والبليديم، وتعمل هذه العناصر كعوامل مساعدة تسمح بالتفاعل الكيميائي للملوثات للحدوث فوق سطحها وتحويلها إلى مواد أخرى غير ضارة نسبياً.

 

فوجود هذه العناصر الثمينة فرصة لا تُعوض لمن يريد أن يكسب من المال الحرام في كل أنحاء العالم، ولكن الرغبة في السرقة وتكرارها تعتمد على الفائدة التي يجنيها السارق من سرقة هذه العناصر، أي أنها تخضع لأسعار السوق لهذه المواد والتغيرات التي تطرأ عليها من عامٍ إلى آخر، إضافة إلى حاجة السوق إلى هذه المواد والطلب عليها من قبل مصانع التدوير وإعادة الاستعمال، فكلما ارتفع سعرها في السوق، ارتفعت الأرباح نتيجة لذلك، مما يؤدي إلى زيادة أعداد السرقات. 

 

فعلى سبيل المثال، وحسب إحصاءات "المكتب القومي لجرائم التأمين"( National Insurance Crime Bureau) في الولايات المتحدة الأمريكية والتي نشرتها المحطة الإخبارية الأمريكية إن بي سي في 22 يوليو من العام الجاري، فإن أعداد السرقات لهذه الأجهزة زادت من 108 في الشهر الواحد في عام 2018 إلى 2347 في ديسمبر 2020، وكان هذه الارتفاع المشهود في أعداد السرقات مرتبطاً مباشرة بارتفاع أسعار العناصر الثلاثة. كذلك فإن سعر كل جهاز يختلف حسب نوع السيارة وحجمها، فسعر هذه الأجهزة في بعض السيارات الغالية الثمن يصل إلى أكثر من 1400 دينار.

 

وجدير بالذكر فإن لفيروس وباء كورونا العصيب دوراً أيضاً في تغيير أسعار هذه العناصر، وزيادة الطلب عليها، وبالتالي ارتفاع أعداد السرقات، وقد أكد على هذه الظاهرة التحقيق المنشور في البلومبيرج في الثامن من مايو من العام الجاري تحت عنوان: "هناك مال وفير في سرقة أجهزة مكافحة التلوث في السيارات"، حيث أفاد بأن الازدياد في السرقات بلغ عشرة أضعاف في فترة كورونا نتيجة لتوقف العمال في بعض المناجم الخاصة بهذه العناصر عن العمل لإصابتهم بكورونا، فسعر الروديم، على سبيل المثال وصل رقماً قياسياً هو قرابة 380 ديناراً للجرام الواحد.

 

فهذه السرقة تؤكد لنا بأن للمخلفات عامة قيمة وسعر، ويجب أن نتعامل معها بأنها مواد خام تقوم عليها صناعات التدوير وإعادة الاستعمال وتشغل الكثير من الأيدي العاملة العاطلة عن العمل، فلا نعتبرها مواد لا فائدة منها نريد فقط التخلص منها بدفنها، كما أن هذه السرقة تُعلمنا بأن أسعار هذه المخلفات التي يتم تدويرها تتقلب يوماً بعد يوم حسب متغيرات السوق، ومتغيرات العرض والطلب على المستوى القومي والدولي، ولذلك يجب أخذ هذه النقطة في الاعتبار عند الشروع في إنشاء أي مصنع يقوم على تدوير أي نوع من أنواع المخلفات.

 

كما أن هذه السرقة تُنبهنا إلى قضية هامة جداً يجب أن لا نتجاهلها حفاظاً على صحتنا وسلامة بيئتنا، وهي أن هذا الجهاز الذي يعالج الملوثات قبل دخولها إلى الهواء الجوي، ويخلصنا من السموم والمواد الخطرة التي تنطلق عند حرق وقود السيارات، فهذا الجهاز مع الوقت، كغيره من الأجهزة والمواد التي تُستهلك في السيارة يفقد نشاطه، ولذلك يجب تغييره واستبداله بعد عدة سنوات من الاستعمال بجهاز آخر جديد وفاعل ونشط، لأن قدرة هذا الجهاز في معالجة الملوثات والتحكم فيها تنخفض مع الزمن، ثم تنتهي كلياً وكأنه غير موجود فعلياً فلا يعمل على إزالة الملوثات من عادم السيارات، وإذا لم نقم باستبداله فوراً فهذا يعني بأن ملوثات عادم السيارة السامة تنطلق كما هي إلى الهواء الجوي، فتعرضنا إلى الأمراض والعلل، كما تفسد في الوقت نفسه جودة الهواء الجوي.

 

ولذلك كما أن هناك أنظمة يجب تفعيلها بالنسبة للسماح بدخول أية سيارة إلى البلاد وهي تحمل معها جهاز معالجة الملوثات، علينا في الوقت نفسه إصدار نظام آخر يلزم صاحب السيارة إلى استبدال هذا الجهاز عند انتهاء فاعليته وعمره الافتراضي، إضافة إلى استحداث آلية عند الجهات المختصة لقياس فاعلية الجهاز أثناء الفحص السنوي للمركبات لضمان استمرارية عمله، وبالتالي الحفاظ على نوعية هوائنا، ووقاية أنفسنا من شر الأسقام والعلل الناجمة عن تلوث الهواء. 

الأربعاء، 11 أغسطس 2021

جماعات الضغط تعمل ضد معاهدة التغير المناخي

هناك عدة أسباب تقف حجر عثرة أمام رؤية معاهدة دولية ملزمة حول التغير المناخي للنور بالرغم من مرور قرابة ثلاثين عاماً على ولوج هذه القضية لجدول الأعمال الدولي في عام 1992 في المؤتمر التاريخي، قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية. ففي هذه القمة وافق رؤساء وقادة دول العالم على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، تمهيداً لإجراء المفاوضات بين دول العالم للوصول في نهاية المطاف إلى معاهدة دولية "ملزمة" تتعهد فيها دول العالم على خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي والمسؤولة عن سخونة الأرض ورفع درجة حرارتها.

 

ومنذ ذلك الوقت، أي منذ عام 1992 ودول العالم تعيش في دوامة مفرغة، وتسير في نفق مظلم لا نهاية له، حتى معاهدة باريس للتغير المناخي لعام 2015، فهي طوعية لدول العالم، وغير مُلزمة لها، أي أن كل دولة من دول العالم تقوم حسب رغبتها، وحسب مصالحها الاقتصادية وأهوائها الحزبية الداخلية، على خفض الانبعاثات بنسبة محددة فقط.

 

ففي تقديري فإن العامل الرئيس الذي يقف حجر عثرة أمام أي تقدم في مجال التشريعات المتعلقة بالتغير المناخي، وبخاصة في الدول الصناعية الديمقراطية الغنية والمتقدمة، فهو جماعات الضغط، أو "اللوبيات" التي تعمل لحساب الشركات المعنية بالتغير المناخي والتي أعمالها، وأرباحها، واستثماراتها تتأثر مباشرة بشكلٍ سلبي بأي إجراء، أو قرار، أو تشريع يوضع على المستوى القومي، أو الإقليمي، أو الدولي. ولذلك فإن المصالح الاقتصادية لهذه الشركات قد تتضرر عند فرض الأنظمة والقوانين البيئية التي تضع القيود على أيديها وأنشطتها وتلزمها إلى خفض انبعاثاتها من الملوثات إلى الهواء الجوي، وبخاصة الملوثات المتهمة بالتغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من حرق أي وقود أحفوري، سواء أكان الفحم، أو النفط ومشتقاته، أو الغاز الطبيعي، في محطات توليد الكهرباء، وفي السيارات، وفي الطائرات، وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.  

 

فالشركات، إذن، التي تجد نفسها معنية مباشرة بأية معاهدة دولية، أو قانون ونظام قومي، وأنها ستتضرر بها هي أولاً وبالدرجة الأولى هي شركات الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي العملاقة متعددة الجنسيات، ثم المصانع ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري، وأخيراً الشركات المصنعة للسيارات والطائرات ووسائل المواصلات الأخرى التي تسير بأحد مشتقات النفط.

 

فهذه الشركات من أجل عدم تضرر مصالحها المالية، وتجنباً لانخفاض أرباحها السنوية، فإنها لن تقف متفرجة مكتوفة الأيدي تتحسر على ضياع إمبراطورياتها التي نمتها ورعتها منذ مئات السنين، واستثمرت المليارات في تطويرها وتشغيلها، وإنما ستناضل وتقاوم، وستعمل كل ما في وسعها لمنع، أو عرقلة سير مفاوضات المعاهدات الخاصة بالتغير المناخي على كافة المستويات، كما إنها ستسخر كل جنودها للقيام بهذه المهمة الصعبة وستستغل كل وسيلة متاحة لتحقيق مآربها الدنيئة، إضافة إلى تحريك أذرعها العلمية والبحثية، والقانونية، والتنفيذية الحكومية.

 

وأخيراً من هذه الوسائل والأدوات الدولية التي ألقت هذه الشركات ثقلها فيها وسخرتها لنشر سمومها الضالة والمعلومات الخاطئة حول التغير المناخي هي وسائل الاتصال الاجتماعي، وعلى رأسها الفيسبوك. ومع الوقت انكشفت هذه الخدعة الماكرة وانفضحت نوايا هذه الشركات، حيث نشرت مجموعة فكرية بريطانية هي إنفلونس ماب(InfluenceMap) في الخامس من أغسطس من العام الجاري دراسة تحت عنوان: "بروز الأساليب الدعائية لقطاع النفط والغاز" تؤكد فيها هذه الحقيقة، وتبين مسؤولية الفيسبوك في نشر المعلومات المضللة والخاطئة حول التغير المناخي. فهذا التقرير يوجه أصابع الاتهام إلى أذرع الشركات النفطية العملاقة متعدد الجنسيات والشركات نفسها في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات. فالتقرير كشف بأن 25 من شركات النفط والغاز والفحم التي تعمل بالوقود الأحفوري قد أنفقت ما لا يقل عن 9.5 مليون دولار لنشر معلومات دعائية إعلامية بلغت أعدادها نحو 25 ألف مقال، أو رسالة، أو خبر على الفيسبوك في عام 2020، كما يلقي التقرير اللوم على الفيسبوك للسماح لنشر هذه المعلومات التي تخالف الإجماع العلمي حول التغير المناخي، فلم تلتزم بأنظمتها حول النشر، وبالتحديد أثناء الحملة الانتخابية للرأسة الأمريكية في عام 2020.

 

كما أن المشرع الأمريكي ممثلاً في بعض أعضاء مجلس الشيوخ قد انتبهوا إلى هذه الخطط الخبيثة التي تقوم بها هذه الشركات، فأرسل خطاباً إلى مارك زوكربيرج(Mark Zuckerberg) الرئيس التنفيذي للشركة في 15 يوليو 2020 يبدي فيه قلقه من استغلال هذه المنصة للدعاية للترويج لشركات النفط وتلميع صورتها، والسماح لنشر هذه المعلومات تحت بند "آراء"، حيث جاء في الخطاب: "انطلاقاً من تاريخ فيسبوك الطويل في نشر المعلومات المضللة، فالأمر مقلق جداً، بأن فيسبوك قررت بأن المعلومات المضللة حول المناخ  لها مناعة أمام تدقيق الحقائق والتحقق منها"، كذلك جاء في الخطاب: "الأزمة المناخية مهمة جداً للسماح للأكاذيب أن تنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي بدون محاسبة".

 

فهذه الشركات اعتمدت الآن سياسات وتكتيكات شركات التبغ والسجائر نفسها شبرٍ بشبر وذراعاً بذراع في أولاً مقاومة الأنظمة والتشريعات التي تُلزمها إلى خفض انبعاثاتها، ثم على المدى البعيد التحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة البديلة المتجددة غير الملوثة للبيئة. فشركات التبغ الآن تعمل في مسارين الأول ادعاؤها بأنها جزء من الحل وليس المشكلة، فهي تؤكد بأنها تستثمر الآن في البدائل للسجائر التي تحترق وتضر بالإنسان إلى المنتجات التي لا تحترق وغير الضارة بصحة الناس، وأنها تعمل على أن يعزف المدخن ويتوقف عن التدخين كلياً. وهذه التكتيكات الشيطانية تتبعها حرفاً بحرف شركات الوقود الأحفوري في مقالاتها الدعائية، فهي تقول للناس بأنها صديقة للمناخ وأنها تخفض باستمرار انبعاثاتها من الملوثات المعنية بالتغير المناخي، أي أنها جزء من الحل وليس المشكلة، كما أنها تُروج لفكرة أن المسؤولية العظمى لوقوع التغير المناخي تقع على عامة الناس من حيث أنماط حياتهم وممارساتهم اليومية في الاسراف في استخدام الكهرباء، والسيارات، والطائرات، وأن شركات النفط تتحمل مسؤولية بسيطة في وقوع هذه القضية الدولية، كذلك فإن هذه الشركات تبعث برسائل بأنها تستخدم مصادر للطاقة رخيصة الثمن هي النفط، ويمكن الاعتماد عليها في استدامة نوعية الحياة الرغيدة التي يعيشها المواطن الغربي عامة.

 

وجدير بالذكر فإن اللوبي الخاص بشركات الوقود الأحفوري تعمل أيضاً في أروقة الحكومات وتعمل على التأثير على قرارتها الخاصة بالتغير المناخي، وقد نجحت على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية في وقف التزام الولايات المتحدة الأمريكية بمعاهدة التغير المناخي الدولية، بل والانسحاب منها كلياً، فقد كان النجاح الأول في عهد جورج بوش الابن الذي رفض المصادقة على بروتوكول كيوتو لعام 1996، والثاني في عهد ترمب الذي انسحب من تفاهمات باريس لعام 2015 حول التغير المناخي.

 

ولذلك فهذه الشركات لن تستسلم أبداً، ولن ترفع الراية البيضاء، وستكافح إلى آخر رمق لمواجهة أية ضغوط تمارس عليها تهدد وتمس أرباحها السنوية، كما تفعل بالضبط شركات التبغ والسجائر، ولذلك فإنني غير متفائل لنجاح المجتمع الدولي في الوصول إلى معاهدة دولية "ملزمة" للجميع في الاجتماع القادم في نوفمبر من العام الجاري في مدينة جلاسجو البريطانية.