الأربعاء، 11 أغسطس 2021

جماعات الضغط تعمل ضد معاهدة التغير المناخي

هناك عدة أسباب تقف حجر عثرة أمام رؤية معاهدة دولية ملزمة حول التغير المناخي للنور بالرغم من مرور قرابة ثلاثين عاماً على ولوج هذه القضية لجدول الأعمال الدولي في عام 1992 في المؤتمر التاريخي، قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية. ففي هذه القمة وافق رؤساء وقادة دول العالم على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، تمهيداً لإجراء المفاوضات بين دول العالم للوصول في نهاية المطاف إلى معاهدة دولية "ملزمة" تتعهد فيها دول العالم على خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي والمسؤولة عن سخونة الأرض ورفع درجة حرارتها.

 

ومنذ ذلك الوقت، أي منذ عام 1992 ودول العالم تعيش في دوامة مفرغة، وتسير في نفق مظلم لا نهاية له، حتى معاهدة باريس للتغير المناخي لعام 2015، فهي طوعية لدول العالم، وغير مُلزمة لها، أي أن كل دولة من دول العالم تقوم حسب رغبتها، وحسب مصالحها الاقتصادية وأهوائها الحزبية الداخلية، على خفض الانبعاثات بنسبة محددة فقط.

 

ففي تقديري فإن العامل الرئيس الذي يقف حجر عثرة أمام أي تقدم في مجال التشريعات المتعلقة بالتغير المناخي، وبخاصة في الدول الصناعية الديمقراطية الغنية والمتقدمة، فهو جماعات الضغط، أو "اللوبيات" التي تعمل لحساب الشركات المعنية بالتغير المناخي والتي أعمالها، وأرباحها، واستثماراتها تتأثر مباشرة بشكلٍ سلبي بأي إجراء، أو قرار، أو تشريع يوضع على المستوى القومي، أو الإقليمي، أو الدولي. ولذلك فإن المصالح الاقتصادية لهذه الشركات قد تتضرر عند فرض الأنظمة والقوانين البيئية التي تضع القيود على أيديها وأنشطتها وتلزمها إلى خفض انبعاثاتها من الملوثات إلى الهواء الجوي، وبخاصة الملوثات المتهمة بالتغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من حرق أي وقود أحفوري، سواء أكان الفحم، أو النفط ومشتقاته، أو الغاز الطبيعي، في محطات توليد الكهرباء، وفي السيارات، وفي الطائرات، وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.  

 

فالشركات، إذن، التي تجد نفسها معنية مباشرة بأية معاهدة دولية، أو قانون ونظام قومي، وأنها ستتضرر بها هي أولاً وبالدرجة الأولى هي شركات الفحم، والنفط، والغاز الطبيعي العملاقة متعددة الجنسيات، ثم المصانع ومحطات توليد الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري، وأخيراً الشركات المصنعة للسيارات والطائرات ووسائل المواصلات الأخرى التي تسير بأحد مشتقات النفط.

 

فهذه الشركات من أجل عدم تضرر مصالحها المالية، وتجنباً لانخفاض أرباحها السنوية، فإنها لن تقف متفرجة مكتوفة الأيدي تتحسر على ضياع إمبراطورياتها التي نمتها ورعتها منذ مئات السنين، واستثمرت المليارات في تطويرها وتشغيلها، وإنما ستناضل وتقاوم، وستعمل كل ما في وسعها لمنع، أو عرقلة سير مفاوضات المعاهدات الخاصة بالتغير المناخي على كافة المستويات، كما إنها ستسخر كل جنودها للقيام بهذه المهمة الصعبة وستستغل كل وسيلة متاحة لتحقيق مآربها الدنيئة، إضافة إلى تحريك أذرعها العلمية والبحثية، والقانونية، والتنفيذية الحكومية.

 

وأخيراً من هذه الوسائل والأدوات الدولية التي ألقت هذه الشركات ثقلها فيها وسخرتها لنشر سمومها الضالة والمعلومات الخاطئة حول التغير المناخي هي وسائل الاتصال الاجتماعي، وعلى رأسها الفيسبوك. ومع الوقت انكشفت هذه الخدعة الماكرة وانفضحت نوايا هذه الشركات، حيث نشرت مجموعة فكرية بريطانية هي إنفلونس ماب(InfluenceMap) في الخامس من أغسطس من العام الجاري دراسة تحت عنوان: "بروز الأساليب الدعائية لقطاع النفط والغاز" تؤكد فيها هذه الحقيقة، وتبين مسؤولية الفيسبوك في نشر المعلومات المضللة والخاطئة حول التغير المناخي. فهذا التقرير يوجه أصابع الاتهام إلى أذرع الشركات النفطية العملاقة متعدد الجنسيات والشركات نفسها في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المعلومات. فالتقرير كشف بأن 25 من شركات النفط والغاز والفحم التي تعمل بالوقود الأحفوري قد أنفقت ما لا يقل عن 9.5 مليون دولار لنشر معلومات دعائية إعلامية بلغت أعدادها نحو 25 ألف مقال، أو رسالة، أو خبر على الفيسبوك في عام 2020، كما يلقي التقرير اللوم على الفيسبوك للسماح لنشر هذه المعلومات التي تخالف الإجماع العلمي حول التغير المناخي، فلم تلتزم بأنظمتها حول النشر، وبالتحديد أثناء الحملة الانتخابية للرأسة الأمريكية في عام 2020.

 

كما أن المشرع الأمريكي ممثلاً في بعض أعضاء مجلس الشيوخ قد انتبهوا إلى هذه الخطط الخبيثة التي تقوم بها هذه الشركات، فأرسل خطاباً إلى مارك زوكربيرج(Mark Zuckerberg) الرئيس التنفيذي للشركة في 15 يوليو 2020 يبدي فيه قلقه من استغلال هذه المنصة للدعاية للترويج لشركات النفط وتلميع صورتها، والسماح لنشر هذه المعلومات تحت بند "آراء"، حيث جاء في الخطاب: "انطلاقاً من تاريخ فيسبوك الطويل في نشر المعلومات المضللة، فالأمر مقلق جداً، بأن فيسبوك قررت بأن المعلومات المضللة حول المناخ  لها مناعة أمام تدقيق الحقائق والتحقق منها"، كذلك جاء في الخطاب: "الأزمة المناخية مهمة جداً للسماح للأكاذيب أن تنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي بدون محاسبة".

 

فهذه الشركات اعتمدت الآن سياسات وتكتيكات شركات التبغ والسجائر نفسها شبرٍ بشبر وذراعاً بذراع في أولاً مقاومة الأنظمة والتشريعات التي تُلزمها إلى خفض انبعاثاتها، ثم على المدى البعيد التحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة البديلة المتجددة غير الملوثة للبيئة. فشركات التبغ الآن تعمل في مسارين الأول ادعاؤها بأنها جزء من الحل وليس المشكلة، فهي تؤكد بأنها تستثمر الآن في البدائل للسجائر التي تحترق وتضر بالإنسان إلى المنتجات التي لا تحترق وغير الضارة بصحة الناس، وأنها تعمل على أن يعزف المدخن ويتوقف عن التدخين كلياً. وهذه التكتيكات الشيطانية تتبعها حرفاً بحرف شركات الوقود الأحفوري في مقالاتها الدعائية، فهي تقول للناس بأنها صديقة للمناخ وأنها تخفض باستمرار انبعاثاتها من الملوثات المعنية بالتغير المناخي، أي أنها جزء من الحل وليس المشكلة، كما أنها تُروج لفكرة أن المسؤولية العظمى لوقوع التغير المناخي تقع على عامة الناس من حيث أنماط حياتهم وممارساتهم اليومية في الاسراف في استخدام الكهرباء، والسيارات، والطائرات، وأن شركات النفط تتحمل مسؤولية بسيطة في وقوع هذه القضية الدولية، كذلك فإن هذه الشركات تبعث برسائل بأنها تستخدم مصادر للطاقة رخيصة الثمن هي النفط، ويمكن الاعتماد عليها في استدامة نوعية الحياة الرغيدة التي يعيشها المواطن الغربي عامة.

 

وجدير بالذكر فإن اللوبي الخاص بشركات الوقود الأحفوري تعمل أيضاً في أروقة الحكومات وتعمل على التأثير على قرارتها الخاصة بالتغير المناخي، وقد نجحت على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية في وقف التزام الولايات المتحدة الأمريكية بمعاهدة التغير المناخي الدولية، بل والانسحاب منها كلياً، فقد كان النجاح الأول في عهد جورج بوش الابن الذي رفض المصادقة على بروتوكول كيوتو لعام 1996، والثاني في عهد ترمب الذي انسحب من تفاهمات باريس لعام 2015 حول التغير المناخي.

 

ولذلك فهذه الشركات لن تستسلم أبداً، ولن ترفع الراية البيضاء، وستكافح إلى آخر رمق لمواجهة أية ضغوط تمارس عليها تهدد وتمس أرباحها السنوية، كما تفعل بالضبط شركات التبغ والسجائر، ولذلك فإنني غير متفائل لنجاح المجتمع الدولي في الوصول إلى معاهدة دولية "ملزمة" للجميع في الاجتماع القادم في نوفمبر من العام الجاري في مدينة جلاسجو البريطانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق