الاثنين، 22 فبراير 2021

اقتراح مفاهمات دولية لمواجهة كورونا

أعلن الفريق الفني الخاص الذي شكلته منظمة الصحة العالمية لتقصي الحقائق في الصين حول مصدر فيروس كوفيد_19 بأن هناك احتمالاً بسيطاً يفيد بأن الفيروس انتشر من سوق وهان للأغذية البحرية. وهذا الفريق أطلقتُ عليه بفريق "المهمة المستحيلة" بسبب العراقيل والصعوبات التي وقفتْ أمام إتمام هذه المهمة الصعبة، ومن بينها رفض السلطات الصينية لفكرة تشكيل هذا الفريق المختص بالأوبئة وعلم الفيروسات، ثم رفض السماح له في البداية من دخول الأراضي الصينية.

 

فهذا الفريق المتخصص من خبراء العالم لم يصل إلى استنتاجات وأدلة دامغة حول أسرار وخفايا الفيروس، ولكن صرح عن الكثير من "الاحتمالات"، حيث أعلن فريق التحقيق في التاسع من فبراير من العام الجاري أن احتمال تسرب الفيروس من أحد مختبرات ووهان منخفض جداً، كما أن آلية وطريقة انتقال الفيروس من الحيوانات، وبالتحديد من الخفاش أو من غيرها من الحيوانات الوسيط إلى الإنسان غير معلومة، وعلاوة على ذلك فمن غير المعروف ما إذا كانت سوق ووهان للأغذية البحرية هي المصدر الأولي للفيروس، أو أن الفيروس جاء من مصدر آخر إلى السوق وغزا المجتمع البشري من هناك، كما أشار الفريق إلى احتمالية انتقال الفيروس إلى الإنسان من الأغذية المجمدة. 

 

فهذا الفريق في تقديري لن يحصل على أي دليل علمي وملموس ودامغ حول هوية هذا الفيروس العقيم الجديد، وربما لن ينجح في كشف الحقائق حول مصدر هذا الفيروس ووسائل وأدوات انتشاره بهذه السرعة الفائقة غير المتوقعة والتي غطت كل شبر من الكرة الأرضية، حتى الذي يبعد آلاف الكيلومترات عن المستعمرات البشرية في مناطق الثلوج النائية أو الصحاري الحارة القاسية، فقد أجَّلت الحكومة الصينية وصول هذا الفريق أشهر طويلة من أجل كسب الوقت، فتمكنت من خلالها مسح وإزالة أي دليل، أو مؤشر قد يؤدي إلى انتقاد المجتمع الدولي لها بأي شكلٍ من الأشكال أو يوجه أصابع الإتهام لها بالتقصير.

 

ولكن الحقيقة التي لا تخفي على أي بشر، حتى ولو كان عامياً بسيطاً، أو جاهلاً غير متعلم، فالجميع رآها رأي العين، هي أن هذا الفيروس انتقل أولاً من مدينة وهان في الصين وبدأ في الانتشار وغزو الدول وبسرعةٍ كبيرة لم تخطر على بال أحد، وعلى نطاقٍ جغرافي واسع يتغطى الحدود الجغرافية لدول العالم، ولا يمكن التحكم فيه بسهولة أو السيطرة عليه وكبح جماحه، حتى أن الدول الصناعية المتقدمة والأكثر تطوراً وقعت فريسة ولقمة سائغة لهذا الفيروس أكثر من الدول الفقيرة والضعيفة،  كما يشهد الجميع حالياً بأن هذا الفيروس قضى على أكثر من 2.5 مليون إنسان وأصاب قرابة 106 ملايين، وعداد الموتى والمصابين مازال يعمل ولن يتوقف على المدى القريب.

 

فكيف إذن يمكن القضاء على هذا الكرب العظيم، أو في الأقل السيطرة على تمدد وتوغل هذا الفيروس في كل بقعة من كوكبنا في الوقت الحالي وفي المستقبل؟

 

في تقديري لا يوجد حل واحد سحري يمكن الاعتماد عليه كلياً لاجتثاث هذا الفيروس من المجتمع البشري، وإنما هناك مجموعة من الحلول المتكاملة التي يجب أن تنفذ في الوقت نفسه على مستوى الدولة الواحدة، إضافة إلى إتباع الحل الشامل والجماعي المشترك على مستوى دول العالم أجمع، أي أن تقوم كل دولة موجودة على سطح كوكبنا بدون استثناء تطبيق هذه المجموعة من الحلول، فلا يمكن أن ننجح في مقاومة هذا الفيروس القاتل والتخلص من هذا المرض إذا قامت دولة أو مجموعة من الدول باتباع الحلول ولم تقم دول أخرى بذلك في الوقت نفسه، فهذا الفيروس شرس وسريع الانتقال كسرعة البرق من دولة معدية إلى دول أخرى بعيدة جغرافياً عنها، فلا يمكن أن يوقفه أحد، كما حصل بالفعل في بداية هذا الوباء حتى يومنا هذا.

 

والحلول التي أقترحها هي أولاً التسريع في عملية التطعيم الجماعي للبشر في كل أنحاء العالم، وثانياً مواصلة الإجراءات الاحترازية على المستوى الشخصي كلبس الكمامة وغسل اليدين، وعلى المستوى الجماعي كالتباعد الاجتماعي، وتجنب التجمعات في بيئاتٍ مغلقة لا توجد بها تهوية فاعلة، ثم مواصلة الفحص العشوائي للناس، وثالثاً إصدار شهادتين لكل إنسان يرغب في الانتقال والسفر من دولة إلى أخرى، الشهادة الأولى تفيد بأخذ اللقاح، والثانية تؤكد خلوه من المرض. كما إنني أقترح في الوقت نفسه أن تقوم منظمة الصحة العالمية باستخدام أداة وآلية المعاهدات الدولية متعددة الأطراف والتي تستخدم عادة لعلاج ومواجهة القضايا الجماعية المشتركة التي تخص كل دول العالم، ونتحمل جميعاً مسؤولية وقوعها وبالتالي علاجها، فتقوم هذه المنظمة بإعداد معاهدة دولية تتعهد فيها كافة دول العالم إلى الإلتزام بتنفيذها محلياً وإقليمياً ودولياً، بحيث تأخذ في الاعتبار هذه النقاط التي ذكرتها.

 

وهذا الوباء الصحي يذكرني بالوباء البيئي الصحي الذي يعاني منه كل دول العالم بدون استثناء منذ أكثر من قرن من الزمان، وهو قضية تلوث الهواء عبر الحدود الجغرافية والمظاهر المتعددة التي تنجم عنها. فعلى سبيل المثال من المظاهر المتعلقة بتلوث الهواء عبر الحدود الجغرافية هي المطر أو الضباب الحمضي، وظاهرة التغير المناخي أو الاحتباس الحراري، وظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي. وكل هذه الظواهر قد تنشأ في دولة أو مجموعة من الدول وتنتقل عبر الهواء إلى دول أخرى، أو في بعض الأحيان نكون جميعاً المسؤولين عن انكشاف هذه الظاهرة، ولذلك كان الحل الدولي الناجع والفاعل لمواجهة وباء تلوث الهواء هو اللجوء إلى المعاهدات الثنائية بين الدول، أو المعاهدات الإقليمية، أو في بعض الحالات تكون المعاهدة دولية يشترك فيها كل دول العالم.

 

ومن هذه المعاهدات الدولية المعروفة التي وافقت عليها دول العالم للتصدي لوباء بيئي دولي محدد هي بروتوكول مونتريال للحد من المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، واتفاقية التلوث بعيد المدى للهواء عبر الحدود، وبروتوكول كيوتو واتفاقية باريس المتعلقة بمكافحة وباء التغير المناخي وسخونة الأرض وارتفاع حرارتها، إضافة إلى اتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق واتفاقية ستوكهولم حول الملوثات العضوية الثابتة.

 

وبناءً عليه فإنني أرى بأن العالم لن ينجح في مكافحة هذا الوباء الفيروسي الدولي العصيب إلا عن طريق مفاهمات، أو معاهدة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، بحيث تقوم كل دول العالم بشكلٍ جماعي مشترك ومستمر لسنوات قادمة بتنسيق جهودها وبرامجها، إضافة إلى قيام كل دولة بدورها وواجباتها على المستوى القومي تجاه التصدي للفيروس، ثم مراقبة ومحاسبة الدول التي لا تقوم بمسؤولياتها وتخفق في تنفيذ واجباتها، فهذا الوباء سيكون معنا سنوات طويلة قادمة، كما هو الحال بالنسبة لكورونا "الإنفلونزا الموسمية".

الخميس، 18 فبراير 2021

أسئلة استراتيجية لحكومتنا حول السيارات


الأسئلة التي سأرفعها إلى حكومتنا الموقرة مبنية على التغيرات والتطورات الدولية والإقليمية الجذرية في مجال السيارات عامة، وبالتحديد في قطاع السيارات الكهربائية، وهذه الأسئلة تستند إلى السياسات التي تبنتها دول العالم حول نقل سيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري، وبالتحديد الجازولين والديزل إلى مثواها الأخير بشكلٍ دائم خلال العقود القليلة القادمة، إضافة إلى الاستثمارات المالية الضخمة التي خصصتها شركات صناعة السيارات الكبرى لإنتاج أنواع كثيرة من السيارات الكهربائية، وفي الوقت نفسه نبذ سيارات الجازولين والديزل والتخلص منها كلياً وإلى الأبد وبدون رجعة.

فالعالم يشهد اليوم انقلاباً نوعياً في عالم المواصلات والنقل الشخصي والجماعي البري، فالكل أعد العدة سياسياً، وإدارياً، واقتصادياً، للسنوات القادمة للتحول كلياً من سيارات الاحتراق الداخلي التي تعمل بالجازولين، أو الديزل، أو الغاز الطبيعي إلى السيارات التي تشتغل بالبطاريات التي تشحن بالطاقة الكهربائية، بحيث إن العالم بحلول عام 2050 سيكون خالياً من السيارات التي تعمل بمشتقات النفط، وشوارعنا ستمتلأ بسيارات المستقبل النظيفة والتي لا تنبعث منها أية ملوثات سامة أو مسرطنة، وهي السيارات الكهربائية.

فالخطوة الأولى في هذا الانقلاب بدأت برسم ووضع سياسات الدول وتحديد أولوياتها، والتي تصب في تبني السيارات الكهربائية كاختيار استراتيجي طويل الأمد من أجل أولاً الخفض التدريجي في الاعتماد على مصادر الوقود غير المتجددة وهي النفط والغاز الطبيعي وتنويع مصادر الطاقة بشكلٍ عام سواء في مجال توليد الكهرباء، أو في قطاع المواصلات، وثانياً تجنب استخدام الوقود غير النظيف والملوث للبيئة والمسبب لظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، والمدمر في الوقت نفسه للصحة العامة.

فعلى سبيل المثال، اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً جماعياً في عام 2019 بمنع بيع سيارات الجازولين بدءاً من عام 2040، كما أعلن رئيس وزراء بريطانيا بورس جونسون في 20 نوفمبر من العام المنصرم بأن بريطانيا ستتوقف عن بيع جميع أنواع السيارات التي تعمل بوقود الجازولين والديزل بحلول عام 2030، كما أفاد بأنه سيخصص مبلغ 12 بليون جنيه للاستثمار في ما أَطلق عليه بـ "الانقلاب الصناعي الأخضر"، وأن هذا الانقلاب سيحدث "الطفرة البيئية"( eco-boom) المنتظرة، ومن بينها تخصيص 582 جنيهاً للسيارات الكهربائية. كذلك أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن أمراً تنفيذياً في 29 يناير من العام الجاري يوجه فيه كافة الوزارات والأجهزة الحكومية إلى ضم وإدخال السياسات المتعلقة بمكافحة التغير المناخي في برامج وجدول أعمال هذه الأجهزة والتي من بينها خفض نسبة الانبعاث من السيارات، وتشجيع التحول نحو السيارات الكهربائية والتي من بينها تحويل أسطول السيارات الحكومية الفيدرالية الذي يبلغ عدده أكثر من 650 ألف إلى سيارات كهربائية، وبناء نحو نصف مليون محطة للتزود بالكهرباء. كما أكد حاكم ولاية كاليفورنيا بأنه بحلول عام 2035 ستكون جميع السيارات في كاليفورنيا لا تنبعث منها أية ملوثات. كذلك أعلنت الصين بأن معظم السيارات التي ستُباع في الصين بحلول 2035 ستكون كهربائية، وفي الوقت نفسه تعهد رئيس الوزراء الياباني بمنع بيع سيارات الجازولين بحلول منتصف عام 2030. وفي الهند، وحسب المقال المنشور في البلومبيرج في 25 يناير من العام الجاري والمنقول من تقرير أكبر شركة مصنعة للسيارات في الهند(Mahindra & Mahindra Ltd.) فإنه بحلول عام 2030 ستكون السيارات الكهربائية هي المهيمنة على السوق الهندية. وعلاوة على ذلك فإن بعض الدولة مثل النرويج اتخذت خطوات متسارعة نحو إحالة سيارات الجازولين والديزل إلى التقاعد، فهي أول دولة في العالم حولت 54.3% من سياراتها الجديدة في عام 2020 إلى السيارات الكهربائية مقارنة بـ 42.4% في عام 2019، حسب إحصائيات المجلس المعلوماتي حول السيارات في السادس من يناير من العام الجاري.

 

وهذه السياسات الحكومية الرسمية تمت ترجمتها إلى أرقام مالية، فليست هي حبراً على ورق، أي أن هذه السياسات تحولت إلى دعم مالي مباشر أو غير مباشر من خلال القروض والإعفاء من الضرائب لتشجيع الشركات المنتجة للسيارات والمستهلكين إلى التوجه نحو هذا الجيل الجديد من السيارات. فعلى سبيل المثال، ستمنح الحكومة البريطانية قرضاً بمبلغ 500 مليون جنيه إسترليني لشركتي جاجوار ولاند روفر لإنتاج السيارات الكهربائية، كما أن الحكومة الصينية أقرضت في 14 يناير من العام الحالي مُصنعي السيارات الكهربائية، مثل شركة سيارات (Xpeng Motors) مبلغ 1.98 بليون دولار، كذلك استثمرت بعض دول الخليج كقطر والإمارات العربية المتحدة مبلغ أكثر من بليونين دولار في هذه الشركة الصينية وشركة نيو(Nio) للسيارات الكهربائية، حسب ما ورد في تقرير البلومبيرج في 27 أغسطس 2020، وفي 12 يناير من العام الجاري.

كذلك فإن هذه السياسات والاستراتيجيات الحكومية انعكست مباشرة على سياسات وبرامج الشركات المصنعة للسيارات، فاتجهت كلها نحو إنتاج السيارات الكهربائية واستثمرت المليارات للتنافس في سباق الاستحواذ على سوق السيارات الكهربائية. فشركة جنرال موتورز الأمريكية العريقة أعلنت في 29 يناير 2021 بتحولها إلى السيارات الكهربائية وإحالة سيارات الجازولين والديزل بحلول عام 2035 إلى التقاعد، كما أكدت بأنها ستستثمر 27 بليون دولار لإنتاج 30 نوعاً من السيارات الكهربائية، وشركة فورد ستدخل هذا القطاع الجديد للسيارات بمبلغ 38 بليون دولار، حسب التقرير المنشور في صحيفة النيويورك تايمس في 15 يناير 2021. وأما شركة الفولكس واجن الألمانية ستستثمر 88 بليون دولار لإنتاج هذه السيارات خلال الخمس سنوات القادمة، إضافة إلى دايملر أو مرسيدس_بنز التي ستدخل سوق السيارات الكهربائية عام 2022 بأنواع مختلفة، بناءً على تقرير البلومبيرج في 14 يناير 2021. كذلك اتخذت الشركات اليابانية والصينية والكورية خطوات مماثلة ودخلت بقوة في سوق إنتاج السيارات الكهربائية.

وانطلاقاً من كل هذه الحقائق حول المصير المحتوم لسيارات الجازولين والديزل وبزوغ فجر السيارات الكهربائية، يجب أن نطرح الأسئلة التالية على الحكومة لدراستها ووضع خطة استراتيجية شاملة ومتكاملة تضم كل وزارات وهيئات الدولة إضافة إلى القطاع الخاص لكيفية التعامل المستقبلي مع السيارات.

أولاً: ماذا ستفعل الحكومة بعد أن توقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية واليابان والصين وكوريا وغيرها بعد عام 2030 إنتاج السيارات التي تعمل بالجازولين أو الديزل؟

ثانياً: أي نوع من السيارات ستستورد إذا ما توقفت صناعة السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري، سواء الغاز الطبيعي، أو الجازولين، أو الديزل؟

ثالثاً: هل ستتجه الحكومة نحو السيارات الكهربائية كباقي دول العالم؟ ومتى سيكون تاريخ البدء في استيراد هذه السيارات؟ وإذا فعلت ذلك، متى ستوفر البنية التحتية اللازمة لتشغيل هذه السيارات، مثل محطات الشحن والتزود بالكهرباء، ومستلزمات الصيانة، وإدارة المخلفات الناجمة عن السيارات وغيرها من خصوصيات السيارات الكهربائية؟

رابعاً: إذا اتجهت الحكومة نحو السيارات الكهربائية، فماذا سيحصل لإنتاج الجازولين والديزل في مصنع التكرير، فالطلب عليهما سينخفض كثيراً مع الوقت؟

خامساً: إذا اتجهت الحكومة نحو السيارات الكهربائية، فهل ستقوم برفع طاقة إنتاج الكهرباء من محطات توليد الكهرباء، لأن الطلب سيزيد على الطاقة الكهربائية بشكلٍ ملحوظ لشحن بطاريات مئات الآلاف من السيارات يومياً؟

سادساً: كيف ستتعامل الحكومة مع ارتفاع نسبة الملوثات في مواقع ومصانع توليد الكهرباء؟

الخميس، 11 فبراير 2021

رجل يطلب حق اللجوء بسبب التلوث في بلاده!


يضطر الإنسان اضطراراً ومجبراً في بعض الحالات إلى ترك وطنه ومسقط رأسه عندما تكون حياته مهددة بالخطر، وعندما يتعرض لحتمية الموت في بلاده، فيكون ملاحقاً من أجل سجنه، أو تعذيبه، أو إعدامه، وبالتالي يهرب ويلجأ إلى موطنٍ غير موطنه الأصلي، ويطالب بحق اللجوء السياسي، ليجد هناك الأمن والاستقرار وتفادي خطر الموت.

 

وهناك أسباب وحالات معروفة وتقليدية سمعنا وقرأنا عنها منذ سنوات طويلة، مثل الخلاف السياسي والفكري بين الدولة والشخص، أو نشر معلومات سرية ووثائق تسيئ إلى سمعة الدولة وأمنها، أو الانشقاق العسكري عن النظام الحاكم، أو الانتماء إلى دين، أو مذهب مخالف للدولة، وهناك أمثلة لا تُعد ولا تحصى لمثل هذه الحالات في دول الشرق والغرب.

 

ولكن مع المستجدات العصرية، والمتغيرات التي طرأت على أنماط وسياسات التنمية في الدول، وبخاصة في مجالي التصنيع والمواصلات والزراعة، انكشفت أسباب وعوامل أخرى جديدة تهدد الأمن الصحي على المستويين الفردي والجماعي، وقد تُعرض حياة الإنسان للسقوط في شر الأمراض الحادة والمزمنة، وبالتالي الوقوع في مصيبة الموت البطيء أو السريع.

 

ومن هذه العوامل التي تهدد حياة الإنسان وتوقعه في شباك الأمراض والعلل، ثم الموت المبكر هو تلوث الهواء، سواء في البيئات الداخلية أو البيئات الخارجية، وهناك إجماع على مستوى العلماء وعلى مستوى المنظمات الدولية المعنية كبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء قاتل ومدمر شامل لصحة الإنسان العضوية، والنفسية، والعقلية، وجميع الدراسات والتقارير تؤكد هذه الحقيقة.

 

فمنظمة الصحة العالمية هي المظلة الصحية لدول العالم، وهي المعنية بحماية صحة البشر من الأمراض والأوبئة، وهي المختصة بتحديد أسباب ومصادر المرض للبشرية، ولذلك فإن تصريحاتها وتقاريرها كلها تفيد بأن تلوث الهواء خطر حقيقي على الإنسان ويؤدي إلى مرض البشر وموتهم في سن مبكرة. فعلى سبيل المثال، صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية نفسها ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

كما أكد المدير العام في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول حول "تلوث الهواء والصحة" والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2018، قائلاً بأن: "تلوث الهواء يمثل أحد أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العامة"، حيث تقدر منظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولة قتل زهاء سبعة ملايين من البشر سنوياً، كما أن التقارير الرسمية الصادرة من بريطانيا وحدها تفيد بأن قرابة أربعين ألف بريطاني يلقون نحبهم وينقلون في سن مبكرة إلى مثواهم الأخير سنوياً، فتلوث الهواء يسبب لهم أمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة، ولذلك أعلنت لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني في عام 2016 بأن تلوث الهواء يُعد "حالة طوارئ عامة".

 

فكل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر، أقنعتْ القاضي في محكمة الاستئناف في بوردكس(Bordeaux) في فرنسا في العاشر من يناير من العام الجاري بأن يقضي ضد الحكم الصادر في حق رجلٍ في الأربعين من عمره من بنجلادش، ويوقف جميع الإجراءات الخاصة بترحيله من فرنسا، حيث حكمت إحدى المحاكم من قبل إلى إبعاده وطرده من فرنسا لعدم توافر شروط حق اللجوء السياسي بالنسبة له.

 

فقد كانت مبررات محامي هذا الرجل من بنجلادش للسماح له البقاء في فرنسا وإعطائه حق اللجوء "البيئي" هي أن حياة هذا الرجل في خطر إذا ذهب إلى بلاده، وأنه مهدد بالموت بسبب شدة تلوث الهواء في بنجلادش، فهذا الرجل مصاب بالربو، مما يعني بأن تشبع الهواء بالملوثات سيسبب له التهابات في الجهاز التنفسي وستزيد عنده نوبات الربو التي حتماً ستُعرضه للموت السريع والمفاجئ. وجدير بالذكر فإنه حسب دراسات جامعتي يال وكولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية حول مؤشر الأداء البيئي للدول(Environmental Performance Index)، فإن بنجلادش وقعت في أسفل القائمة وفي المرتبة رقم 179 من بين دول العالم من حيث جودة الهواء الجوي في عام 2020.

 

فحكم القاضي المتمثل في اعتماد تلوث الهواء كمعيار وشرط جديد لقبول طلبات اللجوء استند على أمرين، الأول هو الإجماع الدولي على أن تلوث الهواء يهدد حياة الإنسان بالخطر، وينقله مبكراً إلى مثواه الأخير، والثاني هو التدهور الشديد لجودة الهواء في بنجلادش بشكلٍ خاص، مما يجعل حياة هذا الرجل المصاب بالربو حتماً في خطر ومهددة بالموت، فيستحق بذلك أن يبقى في فرنسا.

 

وهذه الأحكام القضائية الفريدة من نوعها والتي تؤكد بأن "تلوث الهواء قاتل للبشر"، بدأت في الظهور في السنوات الأخيرة، حيث اتخذت محكمة في العاصمة البريطانية لندن قراراً تاريخياً في 16 ديسمبر 2020 يتلخص في أن موت طفلة في لندن كان بسبب تعرضها للملوثات السامة في الهواء الجوي، ولذلك صدرت شهادة الوفاة ولأول مرة ومكتوب فيها بأن سبب الوفاة هو تلوث الهواء، كما صدر عن القاضي أيضاً بأن: "المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات".

 

فهذه الحقيقة المتمثلة في تهديدات التلوث للإنسان، جعلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان

تُدخل "صحة البيئة" كجزء أصيل من حقوق الإنسان التي يجب أن توفرها الدول لشعوبها، كالحق في التعبير عن الرأي والتعليم والصحة، وقد قامت العديد من الدول في دمج هذه القضية في دستور الدولة وهي "حق المواطن في العيش في بيئة سليمة ونظيفة ومستدامة".

 

الأربعاء، 10 فبراير 2021

ما هو مصدر الغذاء الذي يحقق لنا الأمن الغذائي في البحرين؟

  تناقش جهات حكومية عدة تنفيذية وتشريعية هذه الأيام قضية الأمن الغذائي والمخزون الغذائي الاستراتيجي للبلاد، وهذه قضية حيوية مهمة جداً لا بد من أن نقف عندها كثيراً، ونحدد كافة الأبعاد المتعلقة بها، والتي تؤثر عليها سلباً أو إيجاباً.

 

وفي تقديري فإن هناك عدة مواصفات ومعايير يجب أن تتوفر في المادة الغذائية التي من المفروض أن توفر الأمن الغذائي لأي بلد، أو تُقدم مخزوناً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه بصفةٍ مستقلة ومستدامة، وله القدرة على مقاومة ومواجهة التغيرات الأمنية والسياسية، والأزمات الحادة التي تطرأ بين الدول، أو مواجهة الحالات الطارئة التي قد تقع على العالم، كالحروب، والكوارث الطبيعية، وانتشار الأوبئة التي قد تُعطل، أو تجمد تنقل المواد والبضائع بين دول العالم، كما هو الحال الآن بالنسبة لوباء فيروس كورونا العقيم.

 

فالمواصفات التي أضعُها شخصياً للمادة الغذائية، أو مصدر هذه المادة الغذائية التي تحمي الأمة من خطر المجاعة، أو النقص في الغذاء في حالات الطوارئ والحالات العادية على المدى القريب والبعيد، فيمكن الاتكال عليها، والاعتماد على وفرتها في جميع الظروف، فهي كما يلي:

أولاً: أن تكون متوافرة محلياً، أي أنها مادة فطرية وطبيعية يمكن زراعتها على المستوى القطري، أو من السهولة الحصول عليها مباشرة وبشكل مستمرٍ ودائم في البلد نفسه دون الحاجة إلى الاستيراد والنقل من بلدٍ إلى آخر، أو الاعتماد على دول أخرى لتزودنا بها بشكل مستمر مهما تغيرت الأهواء، وتقلبت الظروف والعلاقات معها.

ثانياً: أن تكون هذه المادة متجددة وغير ناضبة ومستدامة، أي أن تكون دائماً في متناول اليد في أي وقت، ولا تنتهي ولا تنفد إذا أحسن الإنسان إدارتها والتعامل معها.

ثالثاً: أن تكون هذه المادة خالية من الملوثات والمواد الضارة الأخرى المسببة للأمراض والعلل، والتي تدهور الصحة العامة للناس، ففي بعض الأحيان يمكن أن تكون المادة الغذائية متوافرة، أي أن كمياتها كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه تعاني من تدهور وفساد في نوعيتها وجودتها، بحيث إن الإنسان لا يستطيع أن يستهلكها مباشرة إلا بعد فصل الملوثات والأضرار الصحية منها، وهي تمثل كلفة عالية جداً ترفع من سعر بيع هذه المادة الغذائية وتكون صعبة المنال للإنسان العادي وذوي الدخل المحدود، كما ترهق كاهل ميزانية الدولة.

رابعاً: أن تكون هذه المادة الغذائية ذي قيم غذائية عالية تُقوي الجسم البشري ويقمن صُلبه.

خامساً: أن يكون مصدر هذه المادة الغذائية آمناً ومتنوعاً من حيث أعداد وأنواع المادة الغذائية التي تقدمها للإنسان.

سادساً: أن تكون هناك خبرات بشرية سابقة في الاعتماد على هذا المصدر للمواد الغذائية الاستراتيجية، بحيث أثبتت فاعليتها وجدواها ونجاحها وإمكانية الاتكال عليها لتحقيق الأمن الغذائي.

سابعاً: أن تكون هذه المادة الغذائية غير مكلفة للدولة، فلا ترهق ميزانياتها، ولا تمثل عبئاً مالياً عليها، ويستطيع الشعب في الوقت نفسه تحمل كلفة شرائها بشكلٍ يومي وتأمين احتياجاته من الغذاء.   

 

وإذا بحثنا عن مادة، أو مصدر أولي للغذاء ينطبق عليه كل هذه المواصفات والاشتراطات التي ذكرتها فلن نجد في البحرين سوى مصدر واحد لا ثاني له، ولن نحصل إلا على مصدرٍ واحد يستحق كسب ثقة تحقيق الأمن الغذائي الفطري، وهو "البحر"، وما يحويه من خيرات وثروات وفيرة غذائية وغير غذائية.

 

فموارد البحر الغذائية ذاتية فطرية، ومستدامة، ومتجددة ولا تنفد، ومتنوعة، وآمنة نوعياً، ورخيصة نسبياً، ولا تحتاج إلى أماكن واسعة ومكلفة إدارياً ومالياً لحفظها وتخزينها، واعتمدت عليها الدول في القديم والحديث وأثبتت نجاحها وفاعليتها، ولذلك لا بد علينا من النظر بجدية إلى البيئة البحرية برمتها وما بها من ثروات حية وغير حية، واعتبارها قضية أمن قومي من الدرجة الأولى، وبالتالي جعلها في المرتبة الأولى في سلم الأولويات في جدول أعمال وبرامج الحكومة، من حيث الرعاية والاهتمام، ومن حيث تخصيص الموارد المالية والبشرية والإدارية الضرورية لحمايتها وإدارتها بطريقة تُعينها على الاستدامة في العطاء والإنتاج لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، فنجعلها المخزون الاستراتيجي الغذائي المستدام لمملكة البحرين.

 

ولكن هل البيئة البحرية في وضعها الحالي المؤلم، وفي ظروفها الآنية الصعبة التي يعاني منها، لها المقومات التي تجعلها أهلاً لنيل أن تكون ذا مصداقية عالية، وثقة كبيرة لتحقيق الأمن والاستقرار الغذائي المستدام لشعب البحرين؟

 

لا شك بأن البحر الآن لم يعد البحر نفسه الذي كُنا نعرفه قبل نحو مائة عام، فقد طرأت عليه تغيرات جذرية من الناحيتين النوعية والكمية بسبب تعديات الإنسان المتكررة والجسيمة طوال العقود الماضية على حرماته وأعضاء جسمه. فعمليات الدفان أكلت من جسم البحر يوماً بعد يوم، وقطعت الشرايين التي تغذي البيئات البحرية وكائناتها بالروح والحياة والاستمرارية في العطاء والإنتاج، فدفنت وبدون رجعة مساحات كبيرة من البحر، فأهلكت جميع الكائنات المثمرة والتجارية التي عاش عليها الأجداد سنوات طويلة كمصدر غير نابض لأمنهم الغذائي وأمدهم بالمخزون المستدام للغذاء، وفي الوقت نفسه جاءت الآليات العظيمة التي حفرت البحر لاستخراج الرمل فدمرت تلك المناطق القاعية تدميراً شاملاً، وفي المقابل ومما زاد الطين بلة ارتكبت أيدي البشر جرائم على الحياة الفطرية باستخدام أدوات ووسائل الصيد الجائر، وصيد التدمير الشامل من خلال شباك الجر التي بنت شوارع ترابية في عمق البحر، وسحبت معها كل كائن حي صغير كان أم كبير، فغيرت كلياً من هوية ونوعية البيئة القاعية. وقد نُشرت الكثير من الدراسات لسبر غور هذه الكارثة على الصحة العامة للبيئة البحرية، منها الدراسة حول تأثيرات شباك الجر القاعية على البيئة البحرية القاعية والمنشورة في مجلة (Geophsical Research Letters)في 15 ديسمبر 2020، والتي أكدت بأن مثل هذه الممارسات قد سببت تدميراً طويل الأمد للبيئة القاعية، فغيرت من خصائص التربة ونوعيتها، وخفضت من قُدرة البحر على تخزين الكربون ودفنه تحت التربة. وعلاوة على ذلك كله، فالبيئة البحرية، وبخاصة المناطق الساحلية تحولت لفترة طويلة من الزمن إلى مقبرة جماعية تُكب فيها المخلفات السائلة من محطات معالجة مياه المجاري والمصانع.

 

فهذا المخزون الاستراتيجي الآمن والثري والمستدام للغذاء، وهذه النعمة الفطرية الكبيرة التي وهبها الله لنا يجب أن نحييها مرة ثانية، ونُرجع إليها قوتها وإنتاجيتها وعطاءها ودورها في تحقيق الأمن الغذائي، فلا نحتاج فقط إلى عمليات جراحة تجميلية بسيطة، وإنما نحتاج إلى تدخل سريع وإجراء عمليات جراحة كبرى في كافة أعضاء جسمها، فنعيد تأهيل كل ما دمرناه، ونوقف أيدينا من التعدي عليها مرة ثانية.