الخميس، 30 يونيو 2022

بحيرات ستختفي من كوكبنا


كما أن هناك عشرات الآلاف من الكائنات الحية النباتية والحيوانية والكائنات المجهرية الدقيقة التي انقرضت إلى الأبد من على سطح كوكبنا، فإن هناك البحيرات العذبة وشبه المالحة التي انقرضت، والتي تأخذ دورها في طريق الانقراض، وتوشك أن تقع فيه بسبب انكماش مساحتها سنة بعد سنة، وفقدان أعضاء من أجسامها صغيرة كانت أم كبيرة كل يوم.

 

فهذه الحقيقة تحولت منذ سنوات، وفي الأيام الماضية خاصة في الكثير من دول العالم إلى همٍ وقلق شديدين، فانخفاض مساحة البحيرات لها تداعيات كارثية شديدة الوطء، ليس من الناحية البيئية فحسب، وإنما من الناحية الاقتصادية، والصحية، والاجتماعية على حدٍ سواء، فهو يعتبر بالنسبة لي قنبلة دمار شامل، تهلك الحرث والنسل، ولا تبقي ولا تذر في تلك المنطقة المنكوبة.

 

ووسائل الإعلام الأمريكية، على سبيل المثال حقَّقتْ في هذه الظاهرة الدولية المشهودة في الولايات المتحدة، ونشرت الكثير من التقارير والتحقيقات لبيان واقعيتها من جهة، وإلقاء الضوء المباشر على شدة انعكاساتها على المجتمعات البشرية المحيطة بهذه البحيرات السقيمة، وحجم تضرر السكان في تلك المناطق. فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس تحقيقاً مطولاً في السابع من يونيو 2022 حول بحيرة سالت العظيمة(Great Salt Lake) الواقعة في ولاية يوتاه الأمريكية، تحت عنوان: "مع جفاف بحيرة سالت العظيمة، ولاية يوتاه تواجه قنبلة نووية بيئية"، كما نشرت مجلة " ذا ويك"(The Week)مقالاً في الثامن من يونيو حول البحيرة نفسها، عنوانه: "مدينة سالت ليك ستواجه كارثة السحب الغبارية الزرنيخية السامة إذا استمرت بحيرة السالت العظيمة في الانكماش".

 

ومن المهم ذكره بأن هذه التحذيرات المثيرة التي وردت في هذه التحقيقات الإعلامية والمقالات الصحفية، هي ليست فقاعات إعلامية فارغة، ولا مبالغات صحفية فيها، بل وإن لها سنداً علمياً مشهوداً، فهي تعتمد في محتواها على الدراسات العلمية، والتقارير الميدانية التي تحكي الواقع في تلك المناطق المتضررة، وتستقي معلوماتها من الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية الموثوقة.

 

فهذه البحيرة التي تقع هذه الأيام تحت عدسة الصحافة ورجال السياسة قد دخلت الآن مرحلة الخطر وتواجه شبح الانقراض، ولذلك نُقلت سريعاً إلى غرفة الإنعاش، وركبت عليها الأجهزة لإنقاذ ما تبقى منها قبل فوات الأوان. فاختفاء أية بحيرة، أو انكماش مساحتها، لا يعني فقط خسارة الثروة المائية، وإنما هي فقدان لنظام بيئي متكامل وثري يعيش في ظله الملايين من البشر، ويحتمي تحته الآلاف من الكائنات الحية النباتية والحيوانية المستوطنة، إضافة إلى الطيور المهاجرة، كما أن تداعياتها تتجاوز الجانب البيئي لتبلغ تدهور صحة البشر، وهجرة الناس، وتحول المنطقة إلى سكن للأشباح، وخسائر اقتصادية تزلزل ميزانيات الدول.

 

فبحيرة سالت العظيمة، على سبيل المثال، كانت مساحتها في الثمانينيات من القرن المنصرم نحو 8546 كيلومتراً مربعاً، أي نحو عشرة أضعاف مساحة البحرين، والآن خسرت الجزء الأكبر من مساحتها فأصبحت قرابة 2590 كيلومتراً مربعاً فقط. وهذه الخسارة في المساحة تعني ارتفاع ملوحة المياه والتأثير المباشر على نوعية وكمية الأحياء التي تستطيع أن تتأقلم وتتكيف مع الظروف الجديدة، والأخطر من ذلك هو أن هذا الجزء العظيم الذي تم قطعه من جسم البحيرة تحول الآن إلى صحراء ترابية جرداء تأتيها الرياح من كل حدبٍ وصوب، فتُحرك تربتها، وتحملها إلى المدن القريبة كعواصف وسحب غبارية لم يشهدوها من قبل، فتفسد صحة الناس وتؤثر على الجهاز التنفسي والقلب بشكلٍ مباشر، وتجبرهم على هجرة مساكنهم وأحيائهم. والأدهى من ذلك والأمر، أن هذه العواصف الترابية تحمل في بطنها سموماً تقتل الحرث والنسل، فقد أكد العلماء أن تربة قاع البحيرة تتكون من سموم قاتلة منها الزرنيخ، والنحاس، والزركونيوم، أي أن الرياح التي يستنشقها الناس تكون مشبعة بهذه السموم.  

 

فما يحدث لهذه البحيرة الآن قد حدث لبحيرات أخرى ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما حول العالم من غربه إلى شرقه، فالأخطاء هي نفسها يكررها الإنسان في كل مكان، فلا يريد أن يتعظ بالتاريخ القريب أو البعيد، ولا يريد أن يتعلم من غيره، ولا يريد أن يستفيد من هفوات وزلات الآخرين.

 

فبدءاً ببحيرة أونز(Owens Lake)في مقاطعة إنيو(Inyo County) بولاية كاليفورنيا التي كانت مساحتها قرابة 280 كيلومتراً مربعاً، فجفت كلياً في عام 1926 وتحولت إلى صحراء مالحة لا حياة فيها ولا روح، وانتهت من خارطة البحيرات، مما اضطر الولاية إلى إنفاق أكثر من 2.5 بليون دولار على جهود ومشاريع منع الأتربة والغبار من منطقة البحيرة الجافة من الوصول إلى المدن، ثم هناك بحيرة آرال العظيمة(Aral Sea) في آسيا في كازاخستان وأوزبكستان التي كانت تُعد رابع أكبر بحيرة عذبة في العالم ومساحتها زهاء 67 ألف كيلومتر مربع، ففقدت الآن وخسرت أجزاء واسعة من أعضائها الحية والمنتجة. وبالقرب منا هناك بحيرة أرميا(Lake Urmia) في إيران التي كانت مساحتها في عام 2013 قرابة 6100 كيلومتر مربع، فانكمشت بنسبة 90%، وتحولت إلى جزر متناثرة من البحيرات الصغيرة، وفقاً للمقال في مجلة "العلوم" في الثلاثين من أبريل 2021 تحت عنوان:" بعد إحيائها، بحيرة سالت العظيمة في إيران تواجه الخطر".

 

وعندما أجريتُ تحليلاً لأسباب هذه الكوارث التي نزلت على هذه البحيرات كلها، وجدتُ أنها تصب في أسباب مشتركة واحدة، وهي تدخل الإنسان والعبث في النظام البيئي الطبيعي الرباني الدقيق والمتوازن دون علم، وبطريقة فيها إسراف وإفراط. فالجميع يعلم بأن الثلوج التي تنزل على الجبال تذوب مع الوقت فتتحول إلى ماء يجري ويغذي الأنهار والمجاري الأخرى، وهذه الأنهار في نهاية المطاف تصب في البحيرات، فإذا أراد الإنسان الاستفادة من هذه الثروة المائية في الأنهار والبحيرات فعليه أن يأخذ في الاعتبار التوازن المائي من حيث حجم المياه الذي يغذي الأنهار والبحيرات سنوياً. فما فعله الإنسان هو تحريف مجرى الأنهار للأغراض الزراعية، أو العمرانية، أو الصناعية، إضافة إلى الإفراط الشديد في سحب المياه منها، حتى مع الوقت انخفضت أحجام المياه التي تصل إلى البحيرات مما أدى إلى جفافها. ومن جانب آخر هناك التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض بسبب أنشطة الإنسان الملوثة للهواء الجوي، وهذا الارتفاع في حرارة الأرض أدى إلى ارتفاع نسبة التبخر في الثلوج ومياه البحيرات.

 

ولنا أيضاً في البحرين تجربة خاصة تشبه هذه الظاهرة الدولية المتمثلة في انكماش وانقراض البحيرات، وتتمثل في خسارة بحيرة مالحة هي خليج توبلي لجزءٍ واسعٍ من شرايين حياته التي تمده بالقوة والروح والعطاء، وتضمن له الاستدامة. ولكن هنا السبب يختلف عن حالة البحيرات حول العالم، حيث يكمن السبب أساساً في الدفن المستمر لهذا الخليج، والذي جعل مساحته تنخفض من قرابة 25 إلى أقل من عشرة كيلومترات مربعة.

 

ففي جميع الحالات نحن بحاجة إلى تغيير نظرتنا وسلوكياتنا عند التعامل مع ثرواتنا الطبيعية الحية وغير الحية، فلا تكون نظرتنا آنية وقصيرة المدى، وإنما يجب أن تكون مبنية على سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد تأخذ في الاعتبار حاجتنا اليومية الآن لهذه الثروة، وحاجة الأجيال القادمة من بعدنا لهذه الثروة أيضاً، فلا نتلفها، ولا نفسدها، ولا ندمر هويتها نوعيتها، ونتعامل معها برفق واعتدال وبسلطان، كما نتعامل معها على أنها ثروات ناضبة نوعياً وكمياً.

الأحد، 26 يونيو 2022

تصادم بين موقف الأمم المتحدة وبعض دول العالم


أكد الأمين العام للأمم المتحدة في عدة لقاءات دولية، ومنها الاجتماع الأول للدول الأطراف في معاهدة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة النووية، والذي عقد في فينا العاصمة النمساوية في الفترة من 21-23 يونيو 2020، على "الحاجة الملحة" للمنع الكامل للسلاح النووي، كما أكد على "التركيز على الجوانب الإنسانية الناجمة عن السلاح النووية".

فهل هذه النداءات المتكررة، والدعوات المستمرة من الأمين العام للأمم لحظر السلاح النووي كلياً تلقى صدى، وآذاناً صاغية لدى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة؟ أم أن صرخات الأمين العام في وادٍ وممارسات وأفعال الدول في واد آخر؟

فعندما بحثتُ في قضية امتلاك الدول للسلاح النووي من ناحية العدد والنوعية، وجدتُ بأنه بالنسبة لهذه القضية المهددة لأمن البشر وسلامة الكرة الأرضية واستدامتها، فإن دول العالم غير معنية بتوجهات ومبادئ وسياسات الأمم المتحدة، حتى ولو انضمت بعضها إلى معاهدات ثنائية أو دولية متعلقة بحظر ومنع أسلحة الدمار الشامل النووية فإنها لا تلتزم بها، ولا توجد آلية دولية لمحاسبتها وعقابها، فكل دولة وبخاصة الدول النووية التسع تلهث ليلاً نهاراً وراء زيادة أسلحتها النووية، أو تحديث ترسانتها النووية، أو تطوير وإنتاج أسلحة نووية من الجيل الجديد، فكل دولة مشغولة في نهاية المطاف بتطوير مخزونها من الأسلحة النووية، وعلاوة على هذه الدول التسع، هناك الدول غير النووية التي تحاول منذ سنوات الدخول في هذا النادي المغلق الذي لا يسمح بدخول أعضاء جدد إليه.

فهناك عدة حوادث ومستجدات على الساحة الدولية جعلتني أؤكد بأن السباق على الأسلحة النووية سيستمر ولن يتوقف أبداً، منها إعلانات الدول النووية على تحديث وتطوير أسلحتها النووية النوعية، إضافة إلى التجارب النووية التي نسمع عنها بين الحين والأخر، ومنها أيضاً الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، والذي أكدت فيه روسيا بأنها ستستخدم السلاح النووي إذا تعرض وتهدد أمنها القومي للخطر. كذلك هناك الصراع بين الصين وكوريا الجنوبية وروسيا من جهة وأمريكا والغرب من جهة أخرى، والذي سيزيد من حالة التوتر، ويؤدي إلى التصعيد النووي من حيث التسليح، والتحديث، والتطوير، فكل دولة تستخدم تفوقها وتطورها في السلاح النووي، عددياً نوعياً كورقة ضغط ترهيب واستغلال وإذلال للدول الأخرى.

أما المؤشرات العملية والواقعية التي تفيد بأن سباق الدول في مجال السلاح النووي لن يتوقف فهي زيادة الإنفاق العسكري بشكلٍ عام، والإنفاق على السلاح النووي بشكلٍ خاص، إضافة إلى الإحصاءات التي تفيد بأن السلاح النووي مازال موجوداً عند الدول النووية ولم يتم التخلص منها، إلا من الأسلحة البالية التي انتهت مدتها، وتمت إحالتها على التقاعد بسبب إنتاج أسلحة أكثر تطوراً وجدوى من الناحية العسكرية.

أما المؤشر الأول فهو الإنفاق على تحديث وتطوير أسلحة نووية، حيث نشرت "الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية"( International Campaign to Abolish Nuclear Weapons (ICAN)) تقريراً في يونيو 2022 تحت عنوان: "الإنفاق الدولي على السلاح النووي في عام 2021"(2021 Global Nuclear Weapons Spending). فقد قدَّر التقرير الإنفاق الدولي الإجمالي على السلاح النووي من الدول النووية التسع وهي روسيا، أمريكا، فرنسا، بريطانيا، باكستان، الهند، كوريا الشمالية، الكيان الصهيوني، في عام 2021 بنحو 82.4 بليون دولار، أي أن العالم ينفق قرابة 156841 دولاراً كل دقيقة على السلاح النووي، مقارنة بعام 2020، والذي بلغ 76 بليون دولار. كما قدم التقرير قائمة بحجم إنفاق كل دولة، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الأولى بمبلغ 44.2 بليون دولار في 2021، علماً بأن الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما دعا إلى "عالم بدون أسلحة نووية" في 27 مايو 2016 عندما زار الصرح التذكاري لضحايا إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي عام 1945! أما الدولة الثانية في الإنفاق النووي فهي الصين 11.7، والثالثة روسيا 8.6، والرابعة بريطانيا 6.8، ثم فرنسا بمبلغ قرابة 5.9، والهند 3.2، والكيان الصهيوني 1.2، وباكستان 1.1، وأخيراً أنفقت كوريا الشمالية 642 مليون.

وأما المؤشر الثاني فهو الكمية الهائلة التي تمتلكها هذه الدول من الأسلحة النووية، حسب تقديرات "معهد أستوكهولم لأبحاث السلام الدولية"(Stockholm International Peace Research Institute's (SIPRI))، والمنشورة في كتابه السنوي رقم (53) لعام 2022 في 13 يونيو 2022. فهذا الكتاب يفيد بأن العدد الإجمالي للسلاح النووي على مستوى الدول التسع يقدر بنحو 12705 رأساً نووياً حتى يناير 2022، وروسيا تتصدر قائمة هذه الدول، حيث إن لديها 5977، ثم الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 5428 رأساً نووياً. وأما في المرتبة الثالثة فهي بريطانيا العظمى 225، وفرنسا 290، والصين 350، وباكستان 165، والهند 160، والكيان الصهيوني 90، وفي المرتبة التاسعة والأخيرة فهي كوريا الشمالية، حيث يبلغ العدد قرابة 20 رأساً نووياً.

وبعد كل هذه المؤشرات حول سباق التسلح النووي الدولي، يأتي نِفاق دول العالم، وبخاصة من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وبالتحديد أمريكا، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا. وهذا النفاق له عدة أوجه، منها إعلانات وتعهدات هذه الدول أمام العالم بعدم زيادة ترسانتها النووية ومنع انتشارها، وأن الحرب النووية خاسرة للجميع، مثل البيان المشترك الذي صدر من هذه الدول في الثالث من يناير 2022 تحت عنوان: "منع الحرب النووية وتجنب سباقات التسلح".

وأما الوجه الثاني لنفاق الدول النووية الكبرى فيتمثل في عدم انضمامها للجهود الدولية المتمثلة في المعاهدات الخاصة بحظر ومنع التسلح النووي. فعلى سبيل المثال دخلت معاهدة "حظر الأسلحة النووية" حيز التنفيذ في 22 يناير 2021، ولما بحثتُ في قائمة الدول الموقعة على المعاهدة، وهي 86 دولة، أو المصادقة عليها وهي 62، لم أجد بينها أي من الدول النووية التسع، وهي المعنية أساساً بهذه المعاهدة، وهي التي تشكل خطراً على الأمن والسلم الدوليين، وهي التي بيدها نجاح هذه المعاهدة أو فشلها، وأما الدول التي صادقت وتشارك في الاجتماع الأول فلا ناقة لها ولا جمل في قضية السلاح النووي، ولا تأثير دولي لها من ناحية تهديد البشر والأرض.

 

ولذلك مهما صرخ ودعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى منع التسلح النووي، ومهما تم تدشين معاهدات أممية جديدة حول التسلح النووي، فإن السباق لن يتوقف أبداً، بل وأنا على يقين بأن هناك دولاً جديدة قد تدخل ضمن النادي النووي، فالسلاح النووي عند الدول مصدر عزة وكرامة، ومصدر قوة وردع، وترهيب وتخويف للآخرين، وأداة فاعلة للسيطرة والهيمنة على الدول الأخرى.

 

الأربعاء، 22 يونيو 2022

الظواهر الفضائية المجهولة، هل هي حقيقة أم خيال؟

  

ترددتُ كثيراً في كتابة مقال اليوم، فكنتُ دائماً أعتبر بأن موضوع الأجسام الفضائية غير المعروفة والمجهولة، والأجسام السماوية غير المحددة الهوية من المواضيع التي تدخل فيها أفلام هوليود وتخيلاتها المستقبلية، وكنتُ أضعها ضمن باب الخرافات العلمية، أو الخيال العلمي الواسع الذي قد يفكر فيه البعض، ويكتب عنه الروايات العلمية والنظرية. وفي الوقت نفسه يأتي أيضاً موضوع وظاهرة الأطباق الطائرة، أو السفن الفضائية الغامضة وغير المعروفة، فهذا الموضوع أيضاً بالنسبة لي لا يُعد مجالاً علمياً له مصداقية، ويمكن الوثوق بما يُكتب عنه في وسائل الإعلام، أو يعرض في الأفلام السينمائية، أو القصص العلمية.

 

ولكن نظْرتي هذه تغيرت قليلاً عندما قرأتُ بأن "ناسا"، أو وكالة الفضاء الأمريكية، وهي "الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء"(National Aeronautics and Space Administration)، قد قررت الولوج في بحر هذه القضية، والتعرف عليها، وفك ألغازها وأسرارها ومدى واقعيتها. فهذه الوكالة ذو مصداقية عالية، وتتمتع بثقة مرتفعة، ليس في المجتمع الأمريكي فحسب، وإنما على مستوى دول العالم أجمع، ولذلك فهذه الوكالة الفضائية العريقة ذات الإنجازات غير المسبوقة تاريخياً على المستوى الدولي لن تخاطر بسمعتها، ولن تجازف في الدخول في أية قضية قد تؤثر وتلطخ هذا التراث العلمي الفضائي التاريخي المتراكم منذ 65 عاماً.

 

فقد أعلنت "ناسا" في التاسع من يونيو 2022 بأنها قد شكلت فريق عمل مستقل لدراسة "ظواهر الأجسام الفضائية غير المعروفة" (unidentified aerial phenomena (UAP))، والمعروفة إعلامياً بالأجسام الطائرة المجهولة(UFOs)، حيث سيهتم الفريق العلمي المتخصص في البحث في جميع الظواهر السماوية غير المعروفة وغير المحددة، أي الظواهر غير الطبيعية، وغير المألوفة، والتي لا توجد لها تفسيرات علمية موثقة، ولا يوجد دليل حسي دامغ عليها. ولذلك تَتَحدد مهمة الفريق في عدة أعمال، منها حصر المعلومات المتوافرة حتى الآن من كافة الجهات المدنية والعسكرية والأمنية من القطاعات الحكومية الرسمية، ومن منظمات وجمعيات المجتمع المدني ومن الشركات الخاصة، ثم جمع وتحليل كافة النظريات المطروحة حول هذه الظواهر الفضائية، وأخيراً اتباع المنهج العلمي في تحليل وتقييم كل هذه المعلومات، وتحديد مدى مصداقيتها وثقتها، وطرح الاستنتاجات التي تتمخض عنها.

 

ويرجع تاريخ الجهود المبذولة لتفسير هذه الظواهر منذ أن أعلن وزير القوات الجوية في 11 ديسمبر 1969 تزامناً مع أول جلسة استماع للكونجرس عن انتهاء المشروع السري تحت عنوان "مشروع الكتاب الأزرق"(Project Blue Book) الذي استمر من 1947 إلى 1969، والآن رفعت السرية عن هذا المشروع ويمكن الاطلاع على كافة الوثائق التي تحتوي على 2000 صفحة، إضافة إلى صور وأفلام وفيديوهات حول هذه الأجسام الطائرة والظواهر الجوية الغامضة. ويمكن تلخيص الاستنتاجات التي تمخضت عن مشروع الكتاب الأزرق في عدة نقاط هي أنه لم تُسجل أجسام وظواهر مجهولة خلال التحقيق والدراسة بحيث إنها تشكل تهديداً للأمن القومي، كما أنه لا توجد ظواهر وأجسام تمثل تطوراً تقنياً عالياً مختلفاً عن التطورات العلمية التي توصلت إليها أمريكا ودول العالم، وأخيراً لم تشر الدراسة إلى مشاهدة أجسام طائرة مجهولة من خارج كوكب الأرض.

 

وبعد هذه الجلسة الأولى، وبعد إسدال الستار الرسمي على مشروع الكتاب الأزرق، خيَّم صمت طويل على هذا الموضوع من الجهات التشريعية والرقابية الممثلة بالكونجرس والجهات الحكومية المعنية، حتى صدور النشرة الإعلامية لوزارة الدفاع في 14 أغسطس 2020، والتي أعلنت عن تشكيل فريق العمل تحت مسمى "فريق عمل للظواهر الجوية المجهولة"(Unidentified Aerial Phenomena Task Force (UAPTF))، ويهدف إلى دراسة الظاهرة والتعرف عليها عن قرب من ناحية طبيعتها ومصدرها، وتحليل المعلومات المتوافرة حولها، ومدى تهديدها للأمن القومي. وفي 25 يونيو 2021 نشر مكتب مدير الاستخبارات القومية(National Intelligence) التقرير الرسمي الثاني تحت عنوان: "تقييم أولي من حكومة الولايات المتحدة حول الظواهر الفضائية غير المعروفة"( A preliminary assessment by the U.S. government on unidentified aerial phenomena)، والذي هدف إلى تقييم الحالات والظواهر التي تم تسجيلها ورصدها من الأجهزة الحكومية المعنية من نوفمبر 2004 إلى مارس 2021. وقد خلص التقرير إلى عدة نقاط عامة منها عدم وجود منهجية علمية موثقة لتسجيل هذه الظواهر السماوية، مما يُصعِّب عملية التقييم والتوصل إلى استنتاجات علمية محددة ذات مصداقية عالية، كما أن الحالات التي تم رصدها لم تقدم أدلة محسوسة، أو وصف علمي منهجي دقيق. وعلاوة على ذلك، فقد أكد التقرير بأن هناك شحاً في المعلومات الموثوقة، ولا توجد طريقة علمية معتمدة ومتعارف عليها لتسجيل وتدوين هذه الظواهر.

 

وفي 17 مايو 2022، عقد الكونجرس جلسة استماع ثانية ونادرة من نوعها لإعادة طرح موضوع الظواهر المجهولة، وإحيائها بعد نومها أكثر من 53 عاماً. ومن وقائع هذه الجلسة، شريط الفيديو السري الذي قدَّمه نائب مدير الاستخبارات البحرية(Scott Bray) لأول مرة علانية، ووصف فيه "جسم دائري" له سطح عاكس مرَّ على طائرة أمريكية حربية، وقال: "ليس لدي تفسير عن هوية هذا الجسم". كما قال وكيل وزارة الدفاع المساعد للاستخبارات والأمن(Ronald Moultrie) بأن البنتاجون يجمع معلومات عن أجسام طائرة غريبة تتحدي قانون الفيزياء، كما قال: "بأننا نعلم بأن جنودنا تعرضوا لظواهر فضائية غير معروفة، ونحن ملتزمون لمعرفة مصادرها". وهذه الجلسة لم تخرج باستنتاجات واضحة ودامغة، حيث أشارت إلى عدم وجود أدلة على أن هذه الظواهر تمثل أجساماً متطورة ومتقدمة معادية للأمن القومي، كما لا توجد أدلة على أنها من مصادر خارج الفضاء، أو خارج كوكبنا(extraterrestrial).

 

أما عن "ناسا" التي تم تكليفها بالتحقيق في الموضوع وحُددت مهمتها في تسعة أشهر، فقد أشارت مبدئياً إلى عدة نظريات وفرضيات مطروحة حالياً، منها فرضية بأن هذه الأجسام السماوية قد تكون مخلفات أو أجسام من صنع البشر كالمناطيد والبالونات، والبلاستيك المنفوخ بالهواء، أو طيور مهاجرة، أو بلورات الثلج، أو ظاهرة الانقلابات الحرارية الطبيعية، أو قد تكون أجساماً معادية من دول أخرى تستخدم تقنيات أسرع من الصوت، أي أنها جزء من برنامج تجسسي لدول أخرى.

 

وجدير بالذكر فإن كل، أو معظم الجهود، والتقارير، والمعلومات حول هذه الأجسام والظواهر الجوية والفضائية المجهولة مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن أية تقارير تصدر من أمريكا قد تكون متحيزة ولها أهدافاً سياسية، فلا يمكن التأكد من مصداقيتها من أية مصادر مستقلة أخرى، علماً بأن الصين ممثلة في وزارة العلوم والتكنلوجيا نشرت اكتشافا غريباً لأول مرة حول هذا الموضوع في 15 يونيو 2022 في صحيفتها "يوميات العلوم والتكنلوجيا"( Science and Technology Daily). وهذا الاكتشاف الجديد رصده التلسكوب الصيني المعروف "عين السماء"(Sky Eye)، أو ( Aperture Spherical Radio Telescope (FAST))، حيث سجل ورصد "إشارات كهرومغناطيسية مختلفة عن الإشارات السابقة، وقد يكون مصدرها من خارج كوكب الأرض" وهذه الموجات الكهرومغناطيسية كانت في مجال ترددات الراديو. ولكن الغريب أن نص هذا الاكتشاف المنشور في الصحيفة اختفى كلياً وفقاً للتحقيق المنشور في صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 18 يونيو 2022 تحت عنوان: "التلسكوب الصيني لم يجد إشارات من كائنات فضائية. البحث يستمر"، حيث أشار التحقيق إلى أن هذا الاكتشاف كان بمثابة الإنذار الخاطئ.

 

وختاماً فإن موضوع الظواهر الجوية المجهولة معقد جداً وله تداخلات كثيرة مع ما هو موجود على الأرض، فمازال بعيداً عن الحقيقة والاكتشاف العلمي الدامغ، ومن الصعب، مهما فعل العلماء الوصول إلى استنتاجات علمية عالية الدقة من حيث ثباتها ومصداقيتها، وسنضطر في نهاية المطاف إلى الاعتماد على "مصداقية ونزاهة" الولايات المتحدة في التقارير التي ستصدرها في المستقبل.

 

الأربعاء، 15 يونيو 2022

دمج البيئة في القطاع الصحي

سياسة واستراتيجية وزارات الصحة في كل دول العالم تعتمد بشكلٍ رئيس على منع المرض كأولوية تقع في المرتبة الأولى من سلم وهرم الأولويات، وهذه السياسة تنبع من الحكمة القديمة القائلة "الوقاية خير من العلاج"، ثم في الدرجة الثانية من الأولويات تأتي سياسة التشخيص السليم للمرض وعلاجه بالوسائل والأدوات المناسبة.

 

وهذا يعني أن على وزارات الصحة البحث عن كل مسببات الأمراض داخل المجتمع، وتقصي ودراسة كل العوامل التي تؤدي إلى نزول الأمراض السائدة بين أفراد الشعب، ثم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع الأمراض والوقاية منها أولاً، وحماية الشعب من شرورها قبل أن تقع عليه، ثم إذا لم تتمكن من تحقيق هذه السياسة بشكلٍ كلي وجذري، فعليها ثانياً توفير التشخيص والعلاج الملائمين لهذه الأمراض، والتخفيف من حدتها وآلامها على الشعب، كذلك العمل على خفض أعداد المصابين بها مع الوقت، لكي تتخلص منها تدريجياً حتى تنتهي من المجتمع.

 

ومن العوامل المسببة للكثير من الأمراض، سواء المرض الجسدي، أو النفسي، أو العقلي، والتي بدأت تفرض نفسها كعامل واقعي ومؤثر في تعريض المجتمعات للأمراض الحادة والمزمنة على حدٍ سواء، هو العامل البيئي المتمثل في التلوث، وبخاصة تلوث الهواء، ثم الملوثات الكيميائية القديمة منها والجديدة، والملوثات الطبيعية والحيوية التي دخلت في كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وغزت بعمق كافة أعضاء أجسادنا، بحيث إن كل إنسان يعيش الآن على سطح كوكبنا، سواء أكان بعيداً في مناطق نائية، أو قريباً في المدن، أو يسكن في بروج مشيدة، فإنه حتماً ومهما فعل سيصيبه داء التلوث. كما إنه أينما يهرب وينعزل عن المجتمع فسيتعرض لمظاهر هذا التلوث، مثل ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي التي نراها في أفق المدن بين الحين والآخر، فتُعْلَّن حالة الطوارئ الصحية عند ظهورها، أو ظاهرة المد الأحمر والأخضر في المسطحات المائية التي لا تخفى على أحد، بسبب تحول البحيرات أو البحار إلى اللون الأحمر القاتم والسام، أو اللون الأخضر والبني مُنذرة بوجود سموم في الماء تؤثر على كل كائن حي يقترب منها، أو أخيراً وليس آخراً ظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري وسخونة الأرض الناجمة عن تلوث الهواء من عدة ملوثات، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، والتي حيَّرت المجتمع البشري برمته، حيث لم يصل حتى الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً من الاجتماعات والمفاوضات الماراثونية إلى اتفاقية جماعية مشتركة وملزمة لجميع الدول.

 

وقد تنبهت منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة الأممية المعنية بصحة سكان الأرض إلى هذا الجانب البيئي الخطير، ودوره العصيب في تهديد وتدهور صحة البشر، وإصابتهم بالأمراض الفسيولوجية والنفسية والعقلية، والقضاء عليهم في سنٍ مبكرة، حيث أكدت المنظمة في وثائق كثيرة سابقة بأن التلوث ليس له جوانب بيئية بحتة فحسب، وإنما تنعكس تداعياته بشكلٍ مباشر، أو غير مباشر، وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن على الجانب الصحي، إضافة إلى الجانب الاجتماعي، والاقتصادي، والأمني. فالتلوث حسب ما كتبتُ في عدة مقالات ودراسات يعتبر كقنبلة دمار شامل للجسد البشري كله، فإذا أصاب عضو واحد تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وينقل الإنسان من المرض الفسيولوجي الجسدي إلى المرض النفسي والعقلي.

 

ومن آخر الإصدارات التي نشرتها منظمة الصحة العالمية كانت حول أحد مظاهر تلوث الهواء، وهو التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض وعلاقته بصحة البشر، وبالتحديد الصحة العقلية. فقد جاء هذا الإصدار في الثالث من يونيو 2022 تحت عنوان: "الصحة العقلية والتغير المناخي: مختصر للسياسات"، حيث تم تدشينه في مؤتمر الذكرى الخمسين( Stockholm+50)لاجتماع الأمم المتحدة التاريخي الأول حول البيئة البشرية الذ عقد في ستوكهولم في يونيو عام 1972.

 

فهذه التحديات الصحية المتنوعة والكثيرة الناجمة عن التعرض للملوثات، وبالتحديد في قضية التغير المناخي الدولية المشتركة، جعلت منظمة الصحة العالمية تنشر هذه الوثيقة الجديدة، وتعمل من خلالها على تطوير سياسات واضحة تؤكد على وجود العلاقة بين التغير المناخي والصحة العقلية خاصة، كما طرحت الوثيقة عدة نقاط جوهرية من أهمها بأن التغير المناخي يترك بصمات عميقة وتأثيرات جذرية على صحة البشر العقلية والنفسية والعضوية.

 

كما تُقدم الوثيقة خمس توصيات لمداخل يمكن للدول تبنيها وتنفيذها لمواجهة هذا المعضلة الجديدة المتعلقة بتأثيرات التغير المناخي على الصحة العقلية. ومن أهم التوصيات دمج كل الجوانب المتعلقة بالتغير المناخي في البرامج والسياسات المتعلقة بالصحة، وبخاصة الصحة العقلية.

 

فهذا التوجه لمنظمة الصحة العالمية، وهذه السياسة الحديثة نسبياً تؤكد بأننا يجب أن لا نتعامل مع القضايا البيئية عامة، وقضايا التلوث خاصة، بأنها مشكلات جامدة تخص الجهة المعنية بالبيئة فحسب، وإنما تؤكد المنظمة بأن البعد الأهم لأية قضية بيئية هو الجانب المتعلق بكل أركان صحة الإنسان، الجسدي والعقلي والنفسي، ولولا هذا الجانب الصحي الواقعي لما اهتم المجتمع الدولي عامة بالبيئة وقضاياها المتشعبة والمعقدة.

 

فكل قضية بيئية لها ارتباطات وثيقة وعلاقة مباشرة بالأمن الصحي للبشر، وفي الوقت نفسه كل قضية صحية والأسقام والعلل التي يعاني منها الإنسان حالياً، نجد أن للبيئة والتلوث بصمةً كبيرة فيها، ولها دوراً في نزولها على الإنسان والإصابة بها. فإذا درسنا أسباب إصابة الإنسان بالسرطان، فسنكتشف بأن لملوثات البيئة اليد الطولى في ذلك، وإذا أردنا أن نتعرف على أسباب ارتفاع أعداد المصابين بأمراض القلب في سن مبكرة وبأمراض كانت تصيب قلوب الشيوخ وكبار السن الذين اشتعل رأسهم شيباً، فستظهر علينا الملوثات كعامل مهم في الوقوع في شباك أمراض القلب، وكذلك بالنسبة لأمراض الجهاز التنفسي، والسكري، والبدانة وزيادة الوزن، وأمراض العين، وأمراض الحساسية، وكلها عندما نتعمق فيها نجد أن التلوث هو أحد المتهمين للإصابة بالمرض، حتى أن تلوث الهواء يقف وراء تفاقم وشدة الأعراض المرضية التي يتعرض لها المصاب بكورونا، مما قد يعجل في وفاته، وفقاً للدراسة المنشورة في 31 مايو 2022 في مجلة أمريكية "طب الجهاز التنفسي والعناية المركزة: " Respiratory and Critical Care Medicine"، تحت عنوان: "التعرض لملوثات الهواء الجوي وشدة الإصابة والموت من كوفيد_19 في منطقة جنوب ولاية كاليفورنيا".

 

وختاماً في تقديري فإن وزارات الصحة لن تنجح في أداء رسالتها في وقاية صحة المواطنين من الأمراض، إلا إذا أدخلت الجانب البيئي كعامل رئيس للإصابة بالأمراض في كافة البرامج والسياسات الصحية الوقائية والعلاجية.

 

 

الاثنين، 13 يونيو 2022

كوكبنا يعاني من الحُمى

عندما تتغير درجة حرارة أجسامنا ارتفاعاً أو انخفاضاً، ولو نصف الدرجة، أو درجة مئوية واحدة فقط عن المعدل لدرجة حرارة الجسم الطبيعية، فإننا نكون في وضع صحي غير طبيعي، ونعاني من مرض ما، وفي هذه الحالة علينا فوراً استشارة الطبيب المختص لمعرفة السبب في هذا الانخفاض أو الارتفاع، فدرجة حرارة الجسم تُعد أحد المقاييس والمؤشرات التي تدل على أن الإنسان يعيش حياة صحية طبيعية، أو أنه يقاسي من مشكلة صحية محددة.

 

فالمعيار الحالي المستخدم لدرجة حرارة الجسم الطبيعية هو 36.8 درجة مئوية، كما أن الدراسة تحت عنوان: "درجة حرارة الجسم الطبيعية: مراجعة منهجية"، والمنشورة في مجلة "الأمراض المعدية"( Open Forum Infectious Diseases)في الرابع من أبريل 2019، أفادت بأنه درجة حرارة الجسم الطبيعية تتراوح بين 35.01 و 37.76، حسب عمر الإنسان، والجنس، وعوامل أخرى.

 

فارتفاع حرارة الجسم بدرجة بسيطة جداً يمثل تحذيراً أولياً على وجود خطرٍ ما يحيط بالإنسان، ويشكل الفارق بين الصحة والمرض، مما يستدعي مباشرة زيارة الطبيب والتعرف على أسباب سخونة الجسم والشعور بالحرارة.

 

هذا بالنسبة لجسم الإنسان، وهذا بالنسبة لردة فعل الإنسان عندما ترتفع حرارته ولو بدرجة بسيطة جداً، ولكن ماذا عن كوكبنا الذي يعاني من السخونة منذ سنوات طويلة، ويقاسي من ارتفاع حرارة جسده سنة بعد سنة؟ فإلى من يشكو حالته الصحية المتدهورة؟ وإلى من يذهب ليشخص أسباب ارتفاع حرارته وإصابته بالسخونة والحمى المزمنة؟ ومن سيَحْمل هذا الجسم العليل إلى غرفة الإنعاش والإنقاذ لأعادته إلى الحياة والعطاء؟

 

فالعوامل المؤدية إلى سخونة جسده تزيد يوماً بعد يوم منذ أكثر من قرنين من الزمن، والأسباب التي تعرضه للإصابة بالحمى والمرض مازالت موجودة، ولم تتوقف يوماً ما منذ الثورة الصناعية الأولى، ومنذ احتراق الوقود الأحفوري من فحم، ونفط، وغاز طبيعي في كافة وسائل المواصلات وفي محطات توليد الكهرباء. فغاز ثاني أكسيد الكربون هو المتهم الرئيس برفع حرارة الكرة الأرضية، وهو الغاز الذي لم ينقطع من الانبعاث إلى الهواء الجوي منذ مائتي عام.

 

فهذا الغاز الذي خلقه الله سبحانه وتعالي في الهواء الجوي الطبيعي والنظيف بقدرٍ محدد واتزان ليؤدي مهمات كثيرة جداً، بدأ تركيزه في الارتفاع على مدى القرنين الماضيين حتى تحول الآن من عامل بناء وإعمار إلى عامل هدم وفساد. فتركيز غاز ثاني أكسيد الكربون حسب التقديرات كان 278 جزءاً من هذا الغاز في المليون جزء من الهواء الجوي، ولكن مع ازدياد انبعاثه من مصادر لا تُعد ولا تحصى وبخاصة من وسائل المواصلات من سيارات وطائرات، ومن محطات توليد الكهرباء، بلغ تركيزه اليوم الذروة وإلى مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية. فقد سجل مرصد مانو لو في هاواي(Mauna Loa Atmospheric Baseline Observatory) الذي يقوم بقياس تركيز ثاني أكسيد الكربون منذ عام 1958 والتابع لـ "الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي" "نووا"( National Oceanic and Atmospheric Administration) تركيزاً لمعدل غاز ثاني أكسيد الكربون يُعد هو الأعلى حتى الآن لشهر مايو وهو 420.99 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء، ويمثل هذا التركيز 50% أعلى من معدل مستوياته منذ ما قبل الثورة الصناعية.

 

وبناءً على تقارير وتحليلات "ناسا" أو "الإدارة القومية للملاحة الجوية والفضاء"( National Aeronautics and Space Administration)، إضافة إلى تقرير "الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي"، وبالتحديد "التقييم السادس" المنشور في فبراير 2022، فإن هذا الارتفاع المطرد في تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون على مدى القرنين أدى في الوقت نفسه إلى سخونة الأرض وإصابتها بالحمى المزمنة، حيث ارتفعت درجة حرارة الأرض بمعدل لا يقل عن 1.1 درجة مئوية منذ عام 1880، ومعظم هذه الزيادة بدأ منذ عام 1975، بمعدل 0.15 إلى 0.20 درجة مئوية لكل عشر سنوات.

 

وبالرغم من هذا الارتفاع الواقعي المشهود في حرارة كوكبنا، إلا أن الإنسان لم يتخذ إجراءات جماعية فاعلة ومؤثرة لانتشال هذا الجسد السقيم وخفض حرارته، بل وسمح بالاستمرار في انبعاث الملوثات المتهمة في رفع درجة حرارة الأرض، وأعلن في اجتماع باريس لعام 2015 إعلاناً مخجلاً ومعيباً، حيث قال بأنه لا مانع لديه من استمرار تعرض كوكبنا للحُمى، ولكنه لن يسمح بأن ترتفع حرارته أكثر من درجة ونصف الدرجة المئوية. وهذا الإلتزام الدولي غير واقعي ولا يمكن تنفيذه على أرض الواقع مع عدم خفض انبعاث الملوثات المناخية على مستوى كافة دول العالم بنسبٍ ملموسة وكبيرة، حيث قُدرت كمية ثاني أكسيد الكربون التي تم إطلاقها إلى الهواء في عام 2021 فقط نحو 36.3 بليون طن. ولذلك فقد أكدت دراسة منشورة في السادس من يونيو 2022 في مجلة "التغير المناخي الطبيعي"(Nature climate change

) تحت عنوان: "تقدير توقيت الإلتزام بسخونة الأرض عند 1.5 و 2 درجة مئوية"، بأن الإنسان لن ينجح في منع ووقف سخونة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية.

 

وعلاوة على ذلك فإن ارتفاع غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي يؤدي إلى انكشاف أعراض مرضية أخرى على كوكبنا إضافة إلى الشعور بالسخونة وارتفاع الحرارة، ومنها ارتفاع حرارة مياه المحيطات وارتفاع مستوى سطح البحر، والذي قدر بنحو 3.2 مليمتر سنوياً، إضافة إلى زيادة حموضة المياه لامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون الحمضي، حسب البحث المنشور في الثاني من مارس 2021 في مجلة "نظام الأرض معلومات علمية"(Earth System Science Data).

 

كذلك فإن ارتفاع هذا الغاز بهذه المعدلات المرتفعة له عواقب وخيمة جداً على كوكبنا حيث يؤثر على النظام المناخي العام، ويحدث خللاً كبيراً فيه، من حيث زيادة معدلات الجفاف، وارتفاع نسبة الموجات الحرارية في البحر والجو، وما يترتب عن ذلك من كوارث وتداعيات وخيمة. فعلى سبيل المثال، نَشرتْ مجلة "رسائل أبحاث جيوفيزيائية"(Geophysical Research Letters) في الثاني من يونيو 2022 دراسة ميدانية حول ظاهرة مناخية جديدة تعرف بنهر الغلاف الجوي( atmospheric river). ففي 14 أغسطس 2021 نزلت لأول مرة أمطار على قمم الجبال الثلجية في جزيرة جرينلند نتيجة لموجات الهواء الرطب والجاف التي غزت هذه الجزيرة، مما تسبب في انصهار الثلوج وجريان الأنهار بكميات وسرعة غير مسبوقة.

 

فسخونة الأرض مستمرة، وحرارتها لم تنزل ولم تنخفض منذ سنوات طويلة جداً، والإنسان مازال غير مبالٍ بهذا الجسد العليل الذي يعاني ليلاً نهاراً، وتداعيات ارتفاع حرارته تزيد يوماً بعد يوم، وتتنوع وتتوسع كل سنة.

فهل سيتحرك الإنسان لإنقاذ كوكبنا من الحمى قبل فوات الأوان؟