الثلاثاء، 29 سبتمبر 2020

من المسؤول عن الفساد البيئي لكوكبنا؟

كل القضايا والمشكلات البيئية التي تعاني منها البشرية اليوم هي من صنع أيادي الدول الصناعية والمتقدمة الكبرى في الشرق والغرب خاصة، فهذه الدول لم ترقب في البيئة وثرواتها الطبيعية الحية وغير الحية إلاَّ ولا ذمة، فكان همها الأول هو النمو السريع والمتعاظم، ورفع رفاهية شعوبها، وتحقيق الازدهار المادي الاقتصادي البحت.

 

وأثناء انغماسها وانشغالها كلياً بعملية النمو العشوائية وغير المنضبطة والأنانية كانت بوصلتها متجهة نحو هذا الهدف فقط، وتجاهلت ولم تعط أي اهتمام بتداعيات هذه العمليات التنموية، ولم تعير لانعكاساتها أية رعاية أو عناية، وربما كان السبب في هذا النمط غير المتبصر من النمو هو جهل الإنسان بقوة الملوثات التي تنبعث من هذه العمليات التنموية وقدرتها على تحطيم صحة الإنسان وتدمير بدنه كلياً، وإفساد مكونات البيئية برمتها، إضافة إلى عدم معرفة الإنسان بتفاعل هذه الملوثات بعضها مع بعض عندما تنطلق إلى البيئة فتكون ملوثات أشد تنكيلاً، وأكثر تدميراً بصحة الإنسان وعناصر بيئته.

وعلاوة على ذلك كله، فعمليات النمو في هذه الدول الصناعية العظمى وإهمالها تماماً للبعد البيئي كَونتْ ظواهر ومشاهد بيئية جديدة، محلية، وإقليمية، ودولية لم يراها أحد من قبل، ولم يسمع عنها أي إنسان، ولم تخطر كلياً على بال بشر، وانكشفت صورها واضحة للعيان في الجو، والبر، والبحر.

 

ففي مطلع القرن التاسع عشر كانت الظواهر محلية، أي أن مشاهدها وتأثيراتها السلبية على البشر والشجر والحجر كانت في نطاق جغرافي ضيق، مثل ظاهرة السحب السوداء الشديدة التلوث التي كانت تظهر في السماء فتقتل البشر وتصيبهم بالأمراض الشديدة الحادة، ثم تحولت إلى السحب البنية الصفراء اللون والتي أُطلق عليها بالضباب الضوئي الكيميائي، والملوثات العقيمة السامة التي كانت موجودة في هذه السحب كانت تنطلق إلى مسافات أبعد فتلوث مناطق جغرافية أوسع، وتضر بأعداد أكبر من البشر والشجر.

 

وبعد هذه المظاهر المحلية، انكشفت مشكلة إقليمية تمثلت في المطر والثلج الحمضي والمطر الأسود، حيث إن الملوثات كانت تتراكم في أعالي السماء في السحب، فتتفاعل مع الماء وتُنتج ملوثات حمضية تنزل على مناطق جغرافية واسعة جداً، فتضر بصحة الإنسان، وتتلف الغابات المنتجة والمثمرة، وتفسد المباني والتماثيل التاريخية الأثرية، وتلوث البحار والأنهار.

 

ومع ارتفاع وتيرة النمو في هذه الدول ومع التمادي والاستمرار في تجاهل البعد البيئي في عمليات النمو، ظهرت مشكلات عالمية، تخطت كل الحدود الجغرافية بين الدول، واتسعت رقعت تأثيراتها، حتى أنها شملت الكرة الأرضية برمتها، مثل انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون في السماء العليا.

 

وأخيراً وليس آخراً، تسببت الدول الثرية والغنية في ظهور مشكلة القرن الأكثر تعقيداً، والأشد تنكيلاً وبطشاً بالمجتمع البشري برمته وبالكرة الأرضية جمعاء، وهي ظاهرة البيت الزجاجي، أو الاحتباس الحراري، أو ما تُعرف الآن بالتغير المناخي. فانبعاث الملوثات لأكثر من 200 عام من مصانع هذه الدول، ومن محطات توليد الكهرباء، ومن وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، ومن الأنشطة الزراعية، وبالتحديد من حرق الوقود الأحفوري وانطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون، أدى إلى حدوث تغيرٍ مناخي في كوكبنا، وتمثل في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المسطحات المائية، وحرق الغابات، إضافة إلى وقوع كوارث مناخية أشد من قبل وأكثر تكراراً. 

 

وقد أكدت جمعية أُكْسفَام(Oxfam)الخيرية على هذه الحقيقة المتمثلة في أن الدول الغنية وأثرياءها هم الذين يتحملون العبء الأكبر في إفساد كوكبنا وتدهور بيئتنا. فقد نشرت هذه الجمعية بالتعاون مع معهد ستوكهولم للبيئة دراسة في 21 سبتمبر 2020 تحت عنوان: "مواجهة اللامساواة في انبعاث الكربون"(Confronting Carbon Inequality)، وتزامن نشرها مع اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي يشارك فيها قادة وزعماء العالم لمناقشة التحديات المشتركة، ومن بينها المشكلة الدولية "التغير المناخي".

 

فهذه الدراسة الدولية شملت 117 دولة، وغطت عامين هما 1990 و 2015، فقامت بتقييم استهلاك الناس من مختلف الطبقات ومن مستويات الدخل المنخفض والمرتفع وانعكاس أنماط استهلاكهم وسلوكهم على انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، المتهم الرئيس في قضية التغير المناخي، فكانت النتائج كما يلي:

أولاً: 10% من السكان الأغنى في العالم، أو 630 مليون غني، كانوا السبب في أكثر من ضعف، أو ما نسبته 52% من مجموع الانبعاثات خلال فترتي الدراسة، ونسبة 1% فقط، أو 63 مليون من الناس الأكثر ثراءً في العالم يتحملون مسؤولية 15% من الانبعاثات الكلية في العالم.

 

ثانياً: الانبعاثات السنوية نمت وزادت بنسبة 60% خلال الفترتين، ونحو 5% من أغنياء العالم يتحملون مسؤولية قرابة 37% من هذه الزيادة. كما أن هذه الزيادة في نسبة الانبعاثات من 1% من الأغنى في العالم هي أكثر ثلاث مرات من زيادة الانبعاث من نصف فقراء العالم، علماً بأن 50% من الأفقر في العالم، أو 3.1 بليون فقير يتحملون مسؤولية 7% فقط من مجموع الانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون.

 

فهذه النتائج تؤكد على دور شعوب الدول الغنية المتقدمة المستمر منذ قرنين على إفساد كرتنا الأرضية، وتُثبت مسؤوليتها المباشرة والرئيسة في انكشاف المظاهر والمشكلات البيئية الإقليمية والدولية، وهذا الدور التاريخي المشهود في تدمير بيئتنا المشتركة من المفروض ومن باب المسؤولية الأخلاقية أن تتحمل هذه الدول الثرية ذات الإمكانات المالية والتقنية العالية المسؤولية الكبرى في علاج هذه المشكلات والعمل على حلها بجدية أكثر، إضافة إلى تعويض شعوب العالم الفقيرة الخسائر البيئية والاقتصادية والصحية والاجتماعية التي تكبدتها، ومازالت بسبب أعمالها التنموية المعوقة، واستهلاكها غير الرشيد.  

الجمعة، 25 سبتمبر 2020

ماذا قال القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي الأمريكي؟

في الجلسة الخاصة التي عُقدت في الكونجرس أمام "لجنة الشؤون الحكومية" في 23 سبتمبر من العام الجاري،   للتثبيت لمنصب وزير الأمن الداخلي، وصف تشاد ولف(Chad Wolf) القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي جماعات اليمين المسيحي المتطرف، أو جماعات "القوميون البيض" التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، قائلاً وبما لا يدع مجالاً للشك، أو التأويل بأن: "جماعات تفوق العرق الأبيض المتشددة، من ناحية درجة العنف(القتل) خلال العامين الماضيين، وبالتحديد عند النظر في عام 2018 و 2019، هي بالتأكيد تمثل التهديد الأكثر استمرارية وقتلاً عندما يكون الحديث عن المتطرفين العنيفين في الداخل الأمريكي".

 

وهذه الشهادة حول التهديدات الكبيرة التي تُشكلها جماعات تفوق العرق الأبيض المتطرفة والعنيفة ليست هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها تصريحات وشهادات كثيرة متواترة من عدة أجهزة أمنية، وكلها تُجمع على هذه الحقيقة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر شهادة كريستوفر راي(Christopher Wray)مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية (إف بي أي) أمام لجنة مجلس النواب حول الأمن الداخلي في 17 سبتمبر من العام الجاري، والذي أفاد بأن أهم وأكبر التهديدات للأمن القومي الداخلي الأمريكي تتمثل في المجموعات التي تؤمن بفكرة تفوق العرق الأبيض العنيفة، إضافة إلى استمرار التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية.

 

ولكن إجماع الأجهزة الأمنية الأمريكية على تفاقم وتعاظم دور الإرهاب الداخلي في زعزعة أمن واستقرار البلاد متمثلاً في القوميين البيض، والنازيون الجدد، وجماعات تفوق العرق الأبيض العنيفة، لا ينعكس على وجهات نظر الرئيس الأمريكي ترمب وتصريحاته حول هذه الجماعات المتطرفة، ومواقفه لا تتفق مع شهادات أجهزته الأمنية، فهو في أغلب الحالات، مهما ارتكبت هذه الجماعات من إرهاب وقتل، فإنه يتردد في إدانتها وانتقادها، بل ويحاول كلما أمكن ذلك غض الطرف عنها والتقليل من شأنها ودورها في التأثير على الأمن الداخلي. وبالتالي فإن هذه المواقف من الرئيس الأمريكي تشجع هذه الجماعات وتحفزها على الاستمرار في إظهار نفسها كقوة مسلحة موجودة في الساحة دون خوف من رجال الأمن، وقد شاهدتُ الكثير من المظاهرات والمسيرات التي يمكن فيها بكل وضوح وبشكلٍ علني رؤية هؤلاء الأفراد من هذه الجماعات وهم مدججين بالسلاح. وعلاوة على هذه المظاهر المسلحة، فإن صمت ترمب عنها يُقدم على طبق من ذهب الغطاء الحكومي الشرعي والرسمي للانتشار، ونقل أفكارها المتشددة والعنيفة والعنصرية للشعب الأمريكي كافة دون خجل، أو حياء، أو تردد.

 

كذلك يقوم ترمب بإصدار توجيهاته إلى المعنيين في الوزارات والأجهزة الأمنية، وبالتحديد وزارة الأمن الداخلي إلى إصدار تقارير تتجاهل الإرهاب الداخلي من الجماعات المسيحية البيضاء المتشددة والعنيفة، أو في الأقل التخفيف من لهجة وصياغة التقارير الدورية لكي تقلل من دور هذه الجماعات الرئيس في تهديد الأمن القومي. وعلاوة على ذلك فقد جاءت أوامره المباشرة للفت الأنظار وتحويلها من الجماعات البيضاء المتطرفة إلى مجموعات اليسار، وبالتحديد التي يُطلق عليها أنتيفا(antifa)، وهي اختصار لكلمة ضد الفاشية(anti-fascist والعمل على تضخيم وتهويل دور هذه المجموعات في التأثير على الأمن القومي، علماً بأنها ليست منظمة واحدة، وإنما هي مجموعات متعددة ومتفرقة تعمل ضد العنصرية، والرأسمالية، وتدافع عن حقوق المرأة.

 

وقد نبه إلى هذه الظاهرة البيان الصحفي المنشور من "لجنة الاستخبارات"(House Intelligence Committee) التابعة لمجلس النواب الأمريكي في التاسع من سبتمبر من العام الجاري حول "الشكوى" المقدمة من براين ميرفي(Brian Murphy) الوكيل المساعد في وزارة الأمن الداخلي، مكتب الاستخبارات والتحليل(Office of Intelligence and Analysis) في الثامن من سبتمبر إلى مجلس النواب. فقد أكد هذا المسؤول الكبير بأنه واجه ضغوطاً شديدة من كبار المسؤولين المعَيَّنين من الرئيس ترمب، سواء من داخل الوزارة أو من خارجها لتغيير تقاريره الاستخباراتية لأسباب سياسية، بحيث يتم تطويع استنتاجات هذه التقارير لتحوم في فلك الرئيس ترمب، وتتماشى مع توجهاته الشخصية، والسياسية التي يتبعها. كما أفاد بأنه قد جاءته تعليمات محددة بأن يُقلل من شأن التهديدات الصادرة عن روسيا ومن جماعات تفوق العرق الأبيض، أو جماعات اليمين المسيحي المتشدد، إضافة إلى تغيير وتحريف التقارير الاستخباراتية لصالح جماعات اليمين المسيحي المتطرف، والجماعات التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، لكي تبدو وكأنها "أقل خطورة وشدة على الأمن القومي". ولمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في 18 سبتمبر تحت عنوان:" البيت الأبيض يغض الطرف عن تهديدات اليمين المتطرف".

 

ولذلك فمن الواضح أن هناك تسييساً للمعلومات الاستخباراتية وبعض التقارير الصادرة من وزارة الأمن الداخلي، فمن جهة هناك مواقف وسياسات ترمب الواضحة والداعمة لليمين المسيحي المتشدد من الجماعات الإنجيلية ومن جماعات تفوق العرق لأبيض، ومحاولته دائماً للوقوف في صفهم مهما ارتكبوا من أعمال إرهابية قاتلة، ومهما أبدوا من أفكار عنصرية ومتطرفة ضد الأقليات والأديان الأخرى، فهذه الجماعة هي القاعدة الانتخابية التي يعتمد عليها للفوز في الانتخابات الرئاسية، وفي المقابل هناك ضغوط الديمقراطيين في الكونجرس لبيان الحقائق للشعب الأمريكي حول التهديدات الواقعية للأمن الداخلي، وتقييم دور الجماعات المتطرفة والمتشددة في استهداف الأمن القومي، وبالتحديد من جانب اليمين المسيحي المتطرف.

 

فالشهادات التي أدلى بها المسؤولون الأمنيون في مختلف الأجهزة، سواء من وزارة الأمن الداخلي، أو مكتب التحقيقات الفيدرالية كلها تصب في أن الإرهاب الداخلي أشد خطورة وتهديداً من الإرهاب النابع من خارج الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن إفاداتهم تشير إلى أن الإرهاب الداخلي من الجماعات المسيحية اليمينية المتطرفة هي تُصنف في المرتبة الأولى من ناحية تهديدها للأمن القومي، وبالرغم من ذلك فإن هذه الاستنتاجات الأمنية لا تنعكس على الإجراءات التي تتخذها الحكومة الأمريكية تجاه هذه الجماعات العنيفة، فبوصلتها ومواردها مازالت متجهة نحو ما يطلقون عليه بالإرهاب الخارجي، وبالتحديد من بعض المنظمات الإسلامية، فمتى ستتغير وجهة البوصلة؟