الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

أيهما أشد تهديداً للولايات المتحدة الأمريكية، الإرهاب الخارجي أم الداخلي؟(1 من 2)

مازالتُ أتذكر يوم 19 أبريل 1995 عندما سمعتُ خبر انفجارٍ مروعٍ وعظيم وقع في مبنى فيدرالي أمريكي في مدينة أوكلاهوما بولاية أوكلاهوما الأمريكية هو مبنى أَلفْريد مُورَه(Alfred P. Murrah)، وعلى الفور أصابني رعب شديد في قلبي، وانتابني إحساس مخيف بتداعيات هذا الخبر المؤلم على المسلمين والأمة الإسلامية جمعاء، ودعوتُ الله سبحانه وتعالى ألا يكون مرتكب هذه الكارثة البشرية العصيبة شخصاً مسلماً له علاقة بالدين الإسلامي من قريبٍ أو بعيد. ففي الساعات الأولى من وقوع هذه الكارثة، اتجهتْ أصابع الاتهام كالعادة إلى "الإرهاب الإسلامي"، ولكن لم تمض أيام معدودات، وكانت بالنسبة لي سنوات طويلة من الانتظار والترقب، وإذا بي أقرأ خبراً أزال عن كاهلي وصدري عبئاً ثقيلاً وهماً عميقاً، حيث أفاد الخبر عن إلقاء القبض على جندي أبيض سابق قاتل في حرب الخليج مع صفوف الجيش الأمريكي، وهو تِيمِيثي مَاكفاي(Timothy McVeigh).

 

وبعد التحريات الشاملة والتحقيقات الواسعة في هذه الطامة الكبرى التي هزَّت مدينة أوكلاهوما وألقت الفزع في قلب الأمريكيين وزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، تأكد بأن هذا الرجل الأبيض المتطرف ينتمي إلى الجماعات اليمينية المسيحية المتطرفة التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، وتُعرف بكرهها وحقدها على الحكومة الأمريكية الفيدرالية، حيث حمَّل هذا الرجل المتشدد أكثر من 2500 كيلوجرام من المواد المتفجرة في شاحنة وأوقفها في خارج المبنى المكون من تسعة طوابق، وقام بتفجيرها الساعة التاسعة صباحاً، مما أوقع على الفور 168 ضحية بشرية منهم 19 طفلاً، وأصاب بجروح أكثر من 680 شخصاً، وأدى إلى تضرر 324 عمارة حول هذا المبنى الفيدرالي، علماً بأن هذا الهجوم الإرهابي العقيم يُعد الآن الأكثر حصداً للأرواح في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2011.

 

فهذا الهجوم الإرهابي غير المتوقع والذي لم يخطر بتاتاً على بال أي رجلِ أمن في أمريكا، جعل البوصلة الأمنية للوكالات الأمريكية المعنية بمكافحة الإرهاب تتغير جذرياً فتتجه فوراً نحو "الإرهاب الداخلي"، أو الإرهاب المحلي الناجم عن أشخاص أمريكيين وُلدوا وترعرعوا وعاشوا في أمريكا، ومعظمهم من البيض. وبالفعل قامت الحكومة الأمريكية بالتعاون مع الكونجرس بسن بعض التشريعات المتعلقة بالإرهاب الداخلي، وتخصيص الميزانية والموارد البشرية المطلوبة لملاحقة ومراقبة المتطرفين المسيحيين اليمينيين، والمتشددين من القوميين البيض.

 

ولكن ومع الأسف الشديد نزلت نكبة عظيمة على هذا التوجه العام بعد كارثة 11 سبتمبر 2011 التي أتهم فيها تنظيم القاعدة والإسلاميين المتشددين، فدارت البوصلة الأمنية مرة ثانية نحو "الإرهاب الإسلامي الدولي"، وتحولت وتركزت كل الموارد المالية والبشرية لمكافحة هذا الإرهاب الدولي بدلاً من الإرهاب المحلي.

 

وبالرغم من ذلك، فمع مرور الوقت، بدأت تنكشف بوضوح ظاهرة الإرهاب والتطرف المحلي من قبل جماعات اليمين المسيحي، أو النازيين الجدد، أو القوميين البيض، ووقعت الكثير من الهجمات العنيفة التي ذهب ضحيتها المواطن الأمريكي، وأُقدم لكم قطرات معدودات من بحرٍ عميق من هذه الهجمات، ففي 27 أكتوبر 2018، قام يميني متطرف بإعدام 11 شخصاً في معبد لليهود في مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا، وفي 27 أبريل 2019 هاجم متشدد مسيحي آخر معبداً لليهود في مدينة بووي(Poway) بالقرب من سان دييجو بولاية كاليفورنيا وقتل امرأة واحدة وإصابة ثلاثة أشخاص آخرين بجروح بالغة، ثم في مدينة ألباسو بولاية تكساس حيث يسكنها الكثير من الأمريكيين من أصل إسباني(لاتينو)، ارتكب يميني في الثالث من أغسطس 2019 مجزرة جماعية حصدت أرواح 22 أمريكياً كانوا يستعدون للعام الجديد، وشراء مستلزمات الرجوع إلى المدارس. كذلك في الثالث من يونيو 2020 اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالية ثلاثة أشخاص ينتمون إلى جماعة يمينية عنيفة وكانوا يستعدون لإشعال فتيل حرب أهلية من خلال ارتكاب أعمال عنف، حسب إعترافاتهم الشخصية. وهؤلاء الأفراد جميعهم ينتمون إلى مجموعات، أو جماعات مسيحية متطرفة ومتشددة منها، جماعة تسمي نفسها (The Base)، وهي ترجمة لكلمة القاعدة وهي الجماعة الإسلامية المعروفة، أو جماعة بوجالو المتطرفة(boogaloo)، أو حركة(Rise Above Movement) التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض وتمثل عصابة من النازيين الجدد.

 

فهذا الإرهاب الداخلي المتزايد أيقظ رجال الإعلام من غفوتهم فنشروا تحقيقات كثيرة حول بروز هذه الظاهرة وتفشيها في المجتمع الأمريكي من جديد، وضعف الحكومة الأمريكية في مواجهتها والتصدي لها. فمجلة التايم نشرت مقالاً في 8 أغسطس 2019 تحت عنوان: "نحن نُؤكل من داخلنا: لماذا تخسر أمريكا المعركة ضد إرهاب القوميين البيض"، وصحيفة النيويورك تايمس نشرت في 11 نوفمبر 2019 تحقيقاً مفصلاً حول تعاظم الإرهاب المحلي والعمليات العنيفة التي يرتكبها المتطرفون البيض. كما نشرت الواشنطن إكزمينر(Washington Examiner)في 17 أبريل 2020 تقريراً تحت عنوان:" وكالة التحقيقات الفيدرالية(إِف بِي آي) تُحذر من التهديد المستمر من التطرف الداخلي تزامناً مع الذكرى الـ 25 لتفجير مدينة أوكلاهوما"، إضافة إلى المقابلة التي نشرتها مجلة أمريكية شهرية إسمها وايَرد (WIRED) مع مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي في 19 أبريل 2020 تحت عنوان:"25 عاماً بعد مدينة أوكلاهوما، والإرهاب الداخلي في إزدياد".

 

وعلاوة على هذه التحقيقات الإعلامية، جاءت الدراسات العلمية والتقارير الحكومية الرسمية التي تُثبت أن تهديد الإرهاب الداخلي من المسيحيين المتطرفين البيض يزيد عن تهديد الإرهاب الإسلامي الدولي الخارجي. فعلى سبيل المثال، نَشر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في العاصمة الأمريكية واشنطن(Center for Strategic and International Studies) بحثاً تحليلياً شاملاً في 17 يونيو 2020 تحت عنوان: "تفاقم مشكلة الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية"، حيث قامت الدراسة العلمية بحصر وتحليل 893 عملية إرهابية اُرتكبت في أمريكا في الفترة من يناير 1994 إلى الثامن من مايو 2020، وخلصت الدراسة إلى أن أكثر من  57% من العمليات الإرهابية والهجمات العنيفة ارتكبتها أيدي اليمين المتطرف، مقارنة بـ 25% من الجماعات اليسارية الإرهابية، و 15% من الجماعات الدينية، وفي الفترة من الأول من يناير إلى الثامن من مايو 2020 ارتكبوا أكثر من 90% من الهجمات، كما أن اليمين المتشدد يتحمل مسؤولية أكثر من 50% من الهجمات القاتلة سنوياً خلال 14 سنة من مجموع 21 سنة ارتكبت فيها أعمال عنف قاتلة.

 

ومع هذه التحقيقات الإعلامية والدراسات العلمية، هناك التقارير والبيانات والتصريحات الحكومية الأمريكية الرسمية، إضافة إلى شهادات المسؤولين الأمنيين حول تفاقم ظاهرة الإرهاب الداخلي من اليمين المتطرف، أو الجماعات القومية البيضاء المتشددة الأخرى، وستكون لنا وقفة ثانية مع هذه النقاط الجديدة. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق