الجمعة، 29 ديسمبر 2023

الرئيس الأمريكي يُعلن حالة الطوارئ

 


هل سمعتُم أو قرأتم عن حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي جو بايدن في 19 نوفمبر 2023؟

 

في الواقع فإنني متأكد بأن الكثير من الناس حول العالم لم يعرف، ولم ينتبه إلى حالة الطوارئ هذه التي أعلنها الرئيس الأمريكي بايدن، وقد يكون هذا في تقديري لسببين رئيسين. الأول أن الناس حول العالم قد توجهت عنايتهم واهتمامهم وبوصلتهم بشكلٍ كلي نحو الحرب العدوانية الغاشمة والظالمة التي شنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة، فدمر الحجر والشجر والبشر على حدٍ سواء تدميراً شاملاً، ربما لم ير له التاريخ مثيلاً، لا قديماً ولا حديثاً. وأما السبب الثاني فهو القطاع والمجال الذي أَعلن فيه الرئيس الأمريكي حالة الطوارئ، فلم يكن ضمن القطاعات التقليدية القديمة المعروفة منذ سنوات طويلة.

 

 فهذه المرة حالة الطوارئ لم تكن لكارثة طبيعية كوقوع زلزال، أو فيضان، أو أعاصير مدمرة قد وقعت في إحدى ولايات أمريكا، ولم يكن الإعلان الرئاسي الطارئ لوباء صحي ومرض عضال معدي نزل على البلاد، ولم يكن كذلك لحالة أمنية وعدم استقرار في البلاد نتيجة لأعمال شغب وعنف عمَّت الولايات المتحدة.

 

فحالة الطوارئ أُعلنت لسبب مزدوج مترابط، وهو سبب بيئي وصحي في آنٍ واحد، حيث تلوثت مياه الشرب في جزر فيرجين(Virgin Islands) التابعة للولايات  المتحدة الأمريكية، وبالتحديد في مدينة سينت كرويكس(St Croix)، فتسممت المياه التي يشربها الناس ويستخدمونها كل ساعة لاحتياجاتهم اليومية بأحد العناصر الثقيلة السامة والقاتلة المسببة للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة، وهو عنصر الرصاص الذي يُعد من أقدم العناصر التي عرفها الإنسان. وهذه الحالة تَعْني بأن أكثر من خمسين ألف إنسان في تلك المدينة أصبحوا مقطوعين عن أهم عنصر يعتمد عليه الإنسان والحيوان والنبات على حدٍ سواء في الحياة والنمو، إذ لا حياة بدونه، وهو الماء.

 

وهذا الإعلان من بايدن جاء متأخراً كثيراً ومتجاهلاً لهذه المشكلة البيئية الصحية الحيوية، حيث سبقه الإعلان الأول من حاكم هذه الجزر الأمريكية في 13 أكتوبر 2023، وحذَّر فيه السكان من استخدام المياه للشرب، أو الأغراض المنزلية الأخرى، فقد قاموا بتحليل عينات من مياه الحنفية، أو مياه الصنبور المنزلي، ومن بين 108 عينات تم جمعها من المنزل ومن مصادر مياه الشرب، كانت نسبة الرصاص والنحاس مرتفعة جداً في 38 عينة، حيث وصلت إلى 15 جزءاً من الرصاص في البليون جزء من الماء، أي أعلى من مواصفات الرصاص في مياه الشرب بأكثر من 100 مرة. وهذه النسبة العالية للرصاص في مياه الشرب تنعكس مباشرة على تركيز الرصاص في الدم، ولها تداعيات صحية خطيرة من الناحية الفسيولوجية العضوية، والنفسية المتعلقة بتصرفات وسلوكيات الأطفال بشكلٍ خاص، أي أن وجود الرصاص في مياه الشرب يعني كارثة بيئية وصحية عامة.

 

وجدير بالذكر فإن مثل هذه الكارثة الصحية العامة لم تحدث كواقعة فردية في هذه الجزر النائية البعيدة عن الولايات الأمريكية الأخرى، والبعيدة عن التقدم والتطور، وإنما هي من الكوارث القديمة المتجددة التي نراها ونسمع عنها في مدن الولايات الأمريكية بين الحين والآخر، فتتكرر المشاهد نفسها التي نعاصرها الآن في جزر فيرجين الأمريكية.

 

وكل هذه الأزمات الصحية البيئية المتعلقة بتلوث مياه الشرب تنجم عن سببٍ واحد رئيس يعاني منه الكثير من مدن أمريكا العريقة والقديمة والتي معظم سكانها من الفقراء والمستضعفين والذين لا يتمتعون بتعليمٍ رفيع، ولا ثقافة عالية، وهو أنابيب الرصاص الموجودة حتى يومنا هذا تحت الأرض منذ مئات السنين، والتي تنقل المياه إلى المنازل، والمدارس، والشركات، والمباني السكنية، حيث تشير التقارير إلى أن عدد هذه الأنابيب في مدن أمريكا يصل إلى قرابة 9 ملايين. وهذه الأعداد الكبيرة من أنابيب الرصاص الجاثمة تحت سطح الأرض أصبحت الآن بالية ومتهالكة وتتسرب منها الملوثات المعدنية، وعلى رأسها الرصاص والنحاس، ولذلك فهي تشكل قنبلة كيميائية تنفجر بين الحين والآخر في المدن الأمريكية، وتظهر على هيئة سموم معدنية مَرَضية في مياه الشرب، وفي بعض الأحيان يشرب سكان المدن مياهاً ملوثة بهذه السموم لعدة سنوات دون أن يعلموا عن وجودها.

 

وبالرغم من تقدم أمريكا في جميع المجالات والقطاعات، وبالرغم من تطورها على كل دول العالم، وبالرغم من ثرائها وغناها، إلا أنها أَهْملت هذه القضية البيئية الصحية العامة، وتجاهلتها سنوات طويلة، فلم تنجح في تحقيق العدالة البيئية الصحية بين سكان مدن الولايات المتحدة من حيث الاستجابة لحقٍ مهم جداً من حقوق المواطن والإنسان بشكلٍ عام، وهو حق التمتع بمياه شرب نظيفة وصافية وسليمة خالية من السموم والملوثات. وفي تقديري فإن السبب في اهمال وتجاهل الحكومات الأمريكية المتعاقبة لهذه الأزمة الصحية هو أن معظم أنابيب الرصاص مدفونة في المدن الفقيرة التي يسكنها الفقراء والأقليات، ولذلك لا تجد هذه المدن آذاناً صاغية، أو اهتماماً مشهوداً، أو أن توضع قضيتهم الصحية في أولويات الانفاق من خلال إزالة هذه الأنابيب الرصاصية واستبدالها بأنابيب لنقل وتوزيع المياه أقل ضرراً لصحة الناس. 

 

فعلى سبيل المثال، تكررت حوادث تلوث مياه الشرب في مدينة فلينت(Flint)الواقعة بالقرب من عاصمة صناعة السيارات في مدينة ديترويت بولاية ميشيجن، بدءاً من عام 2004، والتي معظم سكانها من الفقراء السود، حيث تحولت مياه الشرب في المنازل إلى اللون البني الأصفر، واشتكى الناس من لون ورائحة المياه، وارتفع مستوى الرصاص في دماء أطفال المدينة، واستمرت هذه الأزمة العامة حتى أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما حالة الطوارئ في المدينة في 24 يناير 2016. 

 

كذلك تلوثت مياه الشرب بالرصاص في مدينة نووارك(Newark) الفقيرة بولاية نيو جيرسي، ونظراً لاستمرار المشكلة دون حل جذري، فقد أرسل عمدة المدينة خطاباً في ديسمبر 2018 إلى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب يطلب فيه دعماً من الحكومة الاتحادية لعلاج المشكلة. كما تم إعلان حالة الطوارئ في مدينة بنتون هاربر(Benton Harbor)بولاية ميشيجن في 18 أكتوبر 2022 بسبب تلوث مياه الشرب بالرصاص.

 

وبعد عقود من استمرار هذه المشكلة الصحية العامة، استيقظت الحكومة الأمريكية ممثلة في الرئيس بايدن، حيث قدَّمت وكالة حماية البيئة مقترحاً في 30 نوفمبر 2023 حول استبدال أنابيب الرصاص في المدن الأمريكية خلال عشر سنوات وبكلفة تُقدر بنحو 45 بليون دولار.

 

وبالرغم من ذلك فهناك الملايين من الشعب الأمريكي الذين ستستمر معاناتهم من التسمم بالرصاص في مياه الشرب في منازلهم ومدارسهم، وستتدهور صحتهم وصحة فلذات أكبادهم لسنوات طويلة لا تقل عن عشر سنوات، حتى تنتهي عملية استبدال أنابيب الرصاص، وفي تقديري ستستمر العملية لفترة أطول وستزيد المعاناة عند الناس، وبخاصة إذا تغيرت الحكومة في البيت الأبيض، كما حدث في الكثير من الحالات السابقة.

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

مساحة الولايات المتحدة زادت مليون كيلومتر مربع!

 

الصراع على الموارد الأرضية والثروات والخيرات الموجودة فوق سطح الأرض وفي باطنها قد حُسم منذ عقود طويلة من الزمن وانتهى الآن إلى حدٍ بعيد، فكل دولة أخذت حصتها من هذه الثروات والموارد الحية وغير الحية، واستقرت الأمور وتمت الموافقات السياسية والعسكرية على نصيب كل دولة.

 

واليوم بدأ صراع آخر يحتدم على مصدرٍ جديد للثروات الطبيعية الفطرية التي خزَّنها الله سبحانه وتعالي للبشرية جمعاء، وبدأت التكتلات الاقتصادية والسياسية تتشكل وتتحد لاحتلال هذه المصادر والسيطرة عليها، ثم توزيعها وإعطاء كل دولة حصتها حسب نفوذها، وقوتها، وهيمنتها على الساحة الدولية. 

 

وهذا المصدر الجديد الذي بدأت المعارك تحوم حوله وتشتد هو الثروات المعدنية القابعة في أعماق المحيطات الشديدة البرودة، والمظلمة على أعماق كيلومترات طويلة تحت سطح البحر، إضافة إلى ثروة التنوع الحيوي النباتي والحيواني النادرة، والفريدة من نوعها وغير الموجودة في أي مكان آخر في كوكبنا.

 

 وهنا بالتحديد أقصد مناطق البحار العليا العميقة الخارجة عن حدود الدول والخيرات المعدنية والحيوية الجاثمة في قاعها، والتي لا تندرج تحت سيطرة أية دولة، وليست لأية السيادة عليها والهيمنة على مواردها الطبيعية، فهي مناطق عامة تشترك فيها كل دول العالم على حدٍ سواء، ولذلك فالثروات التي قد تُكتشف فيها يجب أن توزع بالعدل والمساواة على الجميع.

 

فهذا من المفروض أن يكون الوضع من الناحية النظرية، ولكن من الناحية الواقعية والعملية فنحن لا نعيش في عالم تسود فيه العدالة والمساواة، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنما نعيش في عالم متجبر دكتاتوري، يأكل فيه القوي الضعيف، ويعتدي فيه القوي على حرمات الضعيف، ويسرق فيه الغني والمتسلط مال الفقير الذي لا حول له ولا قوة.

 

ولذلك فالدول الصناعية الغنية المتقدمة توجهت أنظارها إلى هذا المصدر الجديد للثروة المعدنية والحيوية في أعماق المحيطات، وبدأ سباق التنافس والسيطرة عليها وجعلها تحت نفوذها، وبخاصة أن العالم يتجه الآن وفي المستقبل نحو ثورة جديدة لتطوير وإنتاج مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة بعيداً رويداً رويداً عن مصادر الوقود الأحفوري، والمتمثلة في السيارات الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها. وهذه الثورة لكي تنجح وتستديم وتؤتي أكلها بحاجة إلى مواد معدنية خام تقوم عليها وتُشغل مصانعها، كالليثيوم، والنيكل، والنحاس، والعناصر الأرضية النادرة، والمنغنيز، والخارصين، وهذه المعادن مخزنة بدرجة كبيرة في أعماق قاع المحيطات التي لا تقع تحت سيادة أحد.

 

ومن الحِيل التي تستخدمها الدول الصناعية القوية والمؤثرة على الساحة السياسية الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية هي توسعة ومد مساحة الجرف القاري تحت البحر لمساحات واسعة جداً، فتُدْخِلها وتَضُمها كجزء لا يتجزأ إلى مساحة الدولة تحت البحر، وهذه المساحات التي تصبح تحت سيادتها وهيمنتها، تكون في أغلب الأحيان غنية وثريَّة بالمعادن التي تقوم وتعتمد عليها ثورة مصادر الطاقة المتجددة العالمية القادمة، وتكون هي الخطوة الاستباقية لتأمين المواد الخام لتشغيل مصانعها، واحتكار سوق مصادر الطاقة البديلة.

 

فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: "إعلان عن الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة"، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها "الجرف القاري الممتد"(Extended Continental Shelf). وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة ولاياتها الكبيرة كولاية كاليفورنيا وتكساس. وتحتوي هذه المساحة العظيمة التي تطالب بها أمريكا والواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea)على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية التي هي أساس النجاح والتفوق في الثورة الصناعية في مجال مصادر الطاقة النظيفة المتجددة. وقد أَكدتْ على هذه الحقيقة وكالة "بلومبيرج" في 23 ديسمبر 2023 عن حصة الأسد التي تطالب بها أمريكا من خيرات قاع المحيطات والموارد المخزنة للبشرية جمعاء، حيث ورد هذا في المقال تحت عنوان: "الولايات المتحدة تطالب بجزء كبير من قاع البحر وسط دفعة استراتيجية للموارد". وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.

 

ومثل هذه الخطوة لا يمكن أن تقوم بها الدول الفقيرة والمستضعفة والتي لا تأثير لها ولا نفوذ على المستويين السياسي والعسكري، فتحديد مساحة الجرف القاري عادة ما تحتاج إلى موافقة الأمم المتحدة، وبالتحديد معاهدة البحار لعام 1982 التي تنظم مثل هذه العمليات والإجراءات الدولية، علماً بأن أمريكا لم تصادق على هذه المعاهدة، فقامت بهذا الإجراء دون موافقة هذه الجهة الدولية ذات الاختصاص، ودون مراجعتها واستشارتها، وكأنها لا تعترف بوجودها أصلاً كأداة دولية، فرَسَمتْ حدودها تحت البحر من جانب واحد فقط، وعلى حسب أهوائها ومصالحها القومية.

 

وبعد أن قامت بهذه الخطوة الأحادية وفرضت رأيها على العالم، ستتخذ خطوات أخرى بهدف السيطرة على المنابع المعدنية القابعة في أعماق المحيطات والتي تشترك فيها كل دول العالم، علماً بأن هناك ثلاثة أنواع من مناطق التنقيب عن المعادن، فالأول هو الترسبات متعددة المعادن بحجم البطاطس في قاع المحيط (deposit-rich polymetallic nodules)، ومن أشهرها منطقة(Clarion-Clipperton Fracture Zone)في المحيط الهادئ بالقرب من الساحل الأمريكي الغربي بين هاواي والمكسيك، ومساحتها نحو 4.5 مليون كيلومتر مربع. وأما النوع الثاني فهو ترسبات مركبات الكبريتيد(polymetallic sulphides)، والثالث فهو الصخور القاعية(crusts)، وهي عبارة عن جبال تحت سطح المحيط(seamounts).

 

وهذه الثروات المعدنية والحيوية المشتركة تقع تحت مسؤولية وكالةْ، أو سلطة أممية معنية بتنظيم أعماق المحيطات، أو مناطق البحار العليا(The International Seabed Authority)، سواء من ناحية التنقيب والاستخراج، أو الاستفادة من ثرواتها للبشرية جمعاء. ولذلك ستكون هي كغيرها من وكالات ومنظمات الأمم المتحدة لعبة تحت يد وسلطة الدول العظمى، وستقع تحت سيطرة مباشرة من كل من له النفوذ والسلطة الأكبر. وستُمثل هذه الوكالة الأممية مجرد الغطاء الشرعي والقانوني للدول المتنفذة العظمى لتعبث في أعماق البحار فساداً، ونهباً لخيراتها ومواردها العامة والمشتركة، وتشغيلاً لمصانعها وبرامجها التنموية، وفي المقابل ستنتظر الدول الفقيرة والنامية ليُلقى عليها الفتات والقليل مما يتبقى من ثروات أعماق المحيطات.

 

المخلفات البلاستيكية في مياه السُحب السماوية

 

هناك حقيقة بيئية يجب أن يعرفها الجميع، وهي بسيطة جداً ولا تحتاج إلى شرح وفير أو علم دقيق، وأستطيع أن أُلخصها في جملة واحدة فقط، وهي أن كل نوعٍ من المخلفات تتخلص منها، فتُلقيها في مكونات البيئة، فإنها سترجع إليك مرة ثانية، وتضر بصحتك وسلامتك، ولو بعد حينٍ من الزمن، أي بعبارة أخرى فإن المخلفات لها دورة حياة دائرية، فهي تبدأ بك عندما تتخلص منها، وتنتهي بك بعد أن ترجع إليك مرة ثانية.

 

وهذه الحقيقة توصلتُ إليها بعد دراسةٍ طويلة، وعلى مدى سنوات حول مصير المخلفات بعد انتقالها إلى مكونات البيئة، وكيفية تصرفها وتحركها عندما تدخل إلى عناصر البيئة، سواء أكانت الهواء الجوي، أو المسطحات المائية، أو التربة.

 

وأحد هذه المخلفات التي أصبحت الآن موضوع الساعة، وهماً من هموم جميع الناس، سواء أكانوا العلماء، أم رجال القانون والتشريع، أم رجال النفوذ والسياسية، أم أناس بسطاء من عامة الشعب، هي المخلفات البلاستيكية.

 

وهذه المخلفات البلاستيكية التي أُريد هنا التركيز عليها هي المخلفات الدقيقة والصغيرة الحجم التي تنتج عن تكسر وتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة مع الوقت، ويُطلق عليها المخلفات الميكروبلاستيكية، أو النانو البلاستيكية.

 

فالإنسان زاد من إنتاجه للمواد البلاستيكية بمختلف أنواعها بشكل مطرد، والتقديرات تفيد بأن الإنسان صنع في عام 1950 قرابة 2 مليون طن من المنتجات البلاستيكية، والآن ينتج أكثر من 500 مليون طن، ونحو 10% فقط من مخلفات البلاستيك يتم تدويرها، وقرابة 10 ملايين طن من هذه المخلفات تنتقل إلى بيئتنا سنوياً، وبالتحديد البيئة البحرية. وهي تدخل البيئة البحرية إما مباشرة من خلال صرف وإلقاء المخلفات البلاستيكية في السواحل وفي عمق البحار من الصيادين وغيرهم، وإما عن طريق مياه المجاري والمصانع المعالجة، وإما عن طريق مدافن المخلفات، وإما عن طريق مياه الأمطار التي تجرف تربة الشوارع وغيرها فتنقلها إلى سواحل البحر.

 

فهذه الأحجام الكبيرة من المخلفات أصبحت الآن تُقلق بشدة البشر أجمعين لسبب رئيس هو أن المخلفات البلاستيكية لا تتحلل، فهي ثابتة ومستقرة في مكونات البيئة، وإنما في معظم الأحيان تتكسر مع مرور الوقت، وتتجزأ وتتفتت إلى قطعٍ أصغر فأصغر حتى تصل إلى حجم جسيمات بلاستيكية صغيرة جداً، وبعضها لا يمكن رؤيتها بسهولة بالعين المجردة. وهذه الجسيمات الميكروبلاستيكية هي التي تُسبب صداعاً شديداً للعلماء، فهي التي ترجع إلى الإنسان مرة ثانية بعد انتهاء دورة حياة المخلفات البلاستيكية، فتدخل في أعضاء جسمه وهو لا يعلم عنها.

 

والدراسة التي أجراها فريق من علماء اليابان تثبت تغلغل هذه المخلفات الميكروبلاستيكية بعمق في الأوساط البيئية التي لا تخطر على بال أحد، وفي أعالي السماء في مياه السحب والغيوم، ورجوعها إلينا مرة ثانية بعد أن تخلصنا منها.   هذه الدراسة نُشرت في مجلة "رسائل كيمياء البيئة"(Environmental Chemistry Letters) في 23 أغسطس 2023 تحت عنوان: "المخلفات البلاستيكية المحمولة في الهواء في مياه السحب على الارتفاعات العالية ودورها في تكوين السحب". وقد قامت الدراسة بتحليل مياه السحب على ارتفاعات عالية في قمم جبال اليابان التي تتراوح بين 1300 إلى 3776 متراً فوق سطح البحر، وبالتحديد قمة فوجي"(Fuji) وقمة أوياما(Oyama)، حيث تم اكتشاف تسعة أنواع من المخلفات الميكروبلاستيكية منها البولي إيثلين، والبولي بروبلين، والبولي يوريثين، وتراوح التركيز بين 6.7 إلى 13.9 قطعة بلاستيكية في اللتر من مياه السحب، وكان حجم هذه القطع يتراوح بين 7.1 إلى 94.6 ميكرومتر.

 

فهذه المخلفات البلاستيكية التي تخلصنا منها يوماً ما عادت إلينا الآن من جديد، ولكن على هيئة جسيمات دقيقة جداً، فهي بلغت بعد سنوات من انتقالها من وسط بيئي إلى آخر حتى وصلت عنان السماء في مياه السحب، فتتحول إلى أمطار بلاستيكية تنزل على البشر، فيتعرض لها مباشرة من خلال شرب مياه الأمطار الملوثة بالمخلفات الميكروبلاستيكية، أو عن طريق النباتات التي تلوثت بها أيضاً، مما يعني أننا نتغذى على نباتات تحمل في جسمها مخلفات ميكروبلاستيكية.

 

والدراسات التي تُنشر يومياً على المستوى الدولي كلها تقدم الدليل القاطع أن المخلفات البلاستيكية أصبحت الآن بعد أن تخلصنا منها جزءاً من جميع الأنظمة البيئية في البر والبحر والجو، سواء أكانت في أعماق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البرودة والضغط المرتفع، أو في سفوح الجبال العالية، أو في المناطق النائية والبعيدة كالقطبين الشمالي والجنوبي، بل ورجعت إلينا وأصبحت جزءاً من بعض أعضاء الإنسان الداخلية.

 

وسأضرب لكم أمثلة على آخر الدراسات التي تؤكد بأن المخلفات الميكروبلاستيكية قد رجعت إلينا مرة ثانية بعد أن تخلصنا منها. فهناك دراسة منشورة في مجلة "علوم وتقنية البيئة"(Environmental Science & Technology) في العدد الصادر في 14 أغسطس 2023 تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في سائل القصبات الهوائية في أطفال الصين"، حيث أثبتت الدراسة من خلال تحليل عينات السوائل في القصبة الهوائية بأنها تحتوي على مخلفات ميكروبلاستيكية بمعدل 4.31 جسيم ميكروبلاستيكي في العشر ملي لتر من السائل، وهذه المخلفات البلاستيكية كانت من 10 أنواع، منها بولي بروبيلن، بولي إيثلين، وبولي إيستر وحجمها أصغر من 20 ميكرومتراً، مما يعني بأن الأطفال وباقي البشر يستنشقون هواء ملوثاً بالمخلفات الميكروبلاستيكية، كما يعني بأن هذه المخلفات البلاستيكية قد وصلت إلى أعماق الجهاز التنفسي ودخلت مع الدورة الدموية حتى بلغت كل خلية من خلايا أجسادنا.

 

كما نُشرت دراسة في مجلة "فيزياء الموائع"( physics of fluids) في  13 يونيو 2023 تحت عنوان: "كيف ينتقل الميكروبلاستيك ويتراكم في الجزء العلوي من الجهاز التنفسي". وهذه الدراسة أفادت بأن الانسان يستنشق كميات كبيرة يومياً من الميكروبلاستيك تُقدر بنحو 16.2 قطعة من الميكروبلاستيك كل ساعة، وهي تتجمع وتتراكم في الفم والحلقوم، والحنجرة، والقصبة الهوائية، وفي التجاويف الأنفية بشكلٍ خاص، وتنتقل مع الوقت إلى أعماق الجهاز التنفسي.

 

وعلاوة على هذه الدراسات، فقد نُشرت دراسة في 13 يوليو 2023 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "اكتشاف أنواع مختلفة من الميكروبلاستيك في مرضى جراحة القلب"، حيث أكدت خطورة هذه المخلفات وتغلغلها في أعماق أعضاء الجسم البشري، وبالتحديد القلب، الذي يعد أهم عضو في الجسد، وقد اكتشفت خمسة أنواع من المخلفات الميكروبلاستيكية في أنسجة القلب، أكبرها بلغ قطرها 469 ميكرومتراً، كذلك وُجدتْ 9 أنواع من المخلفات البلاستيكية في عينات من الدم.

 

فالمخلفات عندما نتخلص منها لا تنتهي فتموت، ولا يزول تأثيرها، وإنما في الكثير من الأحيان ترجع إلينا مرة ثانية فتدمر صحتنا وتهدد أمننا وسلامتنا، وما المخلفات البلاستيكية إلا مجرد مثالٍ واحد فقط من بين أمثلة لا تعد ولا تحصى.