الخميس، 21 ديسمبر 2023

رئيس الوزراء الأسترالي يعتذر


رئيس الوزراء الأسترالي "أنتوني ألبانيز" يقف في قبة البرلمان الاتحادي أمام الشعب الأسترالي، وأمام أعين ومسمع الناس ووسائل الإعلام الأسترالية والأجنبية في كل أنحاء العالم في 30 نوفمبر 2023، فيقول ونبرات الأسف والحزن تتقطر من لسانه وقلبه بأنه اليوم نيابةً عن الشعب الأسترالي، تُقدِّم هذه الحكومة والبرلمان اعتذاراً رسمياً كاملاً متأخراً وبدون أية تحفظات لجميع الناجين وأسرهم وأحبائهم ومقدمي الرعاية الطبية بسبب واحدٍ يعد من أحلك الفصول في تاريخ أستراليا الطبي.

فما الذي حدث في أستراليا من كربٍ عظيم وواسع النطاق حتى يستحق مثل هذا الحجم القومي الكبير من الاعتذار والأسف، والاعتراف بالخطيئة والإثم العظيمين، ومن أعلى سلطة في البلد، ومن ممثلي الشعب برمتهم؟   

 وما حجم الضرر الذي وقع على الضحايا والشعب الأسترالي برمته من هذه الكارثة بحيث إن رئيس الوزراء يريد أن ينقشها بعمق في تاريخ أمته، ويخلِّد ذكرى هذه الطامة الصحية الكبرى التي وقعت على الشعب الأسترالي من خلال تخصيص نصب تذكاري للناجين من هذا الوباء الصحي في متنزه عام أمام بحيرة في مدينة كانبيرا؟

فما وقع في أستراليا لم يكن في السنوات القليلة الماضية، ولم تقع أحداثه ومشاهده المأساوية في أستراليا فقط، وإنما بدأت خيوط الكارثة العقيمة تتضح يوماً بعد يوم منذ نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، أي منذ أكثر من 60 عاماً، كما أن البذرة الخبيثة التي نمت شجرة خبيثة آتت أكلها حنظلاً ساماً مُرَّاً لم تغرس في أستراليا فحسب، وإنما كانت الغرسة الأولى القاتلة قد زُرعت في ألمانيا، ثم انتقلت إلى أكثر من 14 دولة حول العالم، منها بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية.

فالفصل والمشهد الأول من قصة هذه النكبة الصحية المؤلمة الحزينة يفتح في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد من شركة "كيمي جرونينثال"(Chemie Grünenthal) في ألمانيا الغربية التي كانت متخصصة في إنتاج الأدوية والعقاقير. وفي هذا المشهد تقوم الشركة بتقديم دوائها السحري الجديد الذي لا مثيل له للناس في كل أنحاء العالم تحت مسمى هو "الثاليدوميد(Thalidomide)، وبالتحديد كان هذا الدواء موجهاً للنساء الحوامل اللاتي يعانين من مشكلات صحية مزمنة عند الاستيقاظ في الصباح، والتي تتمثل في الصداع الحاد، والقيء، والشعور بالغثيان، إضافة إلى الأرق والقلق. فجاء هذا الدواء الأعجوبة ليعالج مثل هذه الحالة المرضية التي يعاني منها الملايين من النساء في جميع بلاد العالم. وبالفعل قدَّم هذا الدواء ولأول مرة العلاج الشافي والكافي لمثل هذه الحالة المرضية الخاصة بالنساء، ولذلك اكتسب شعبية واسعة في كل دول العالم، وزادت أعداد النساء اللاتي تناولن هذا الدواء.

 

وهنا يسدل الستار على هذا المشهد الأول من قصتنا.

 

ويأتي المشهد الثاني، فيُفتح الستار على طفلة في السادسة من عمرها، ولكنها منذ ولادتها كانت غير مكتملة الأطراف، فهي بدون ذراعٍ كلياً، وبعض أصابع الرجل مفقود.  كما تشاهد أيضاً صوراً لم يرها الإنسان من قبل أبداً للضحايا "شبه البشرية" الغريبة المظهر الذين عانوا من تشوهات خَلْقية جسدية منذ خروجهم إلى الحياة الدنيا إلى يومنا هذا، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر ويحكي قصته الأليمة في هذه الحياة التي عاشها وهو معوق جسدياً، ومشوه خَلْقياً في بعض أعضاء رجله ويده وأصابعه. فكانت المعاناة لهم في هذه الحياة العصيبة طويلة جداً وصلت بالنسبة للبعض إلى قرابة الستين عاماً، حيث كانت المعاناة مُركبة، جسدية من جهة ونفسية من جهة أخرى، بل وإن هذا الألم العميق والمعاناة المستمرة عقوداً طويلة من الزمن امتدت إلى الأب والأم وباقي أفراد الأسرة جميعهم التي كانت تهتم وترعى طوال سنوات الطفولة والمراهقة هذا الجنين الغريب والمشوه، فالألم بالنسبة لهم لم يكن جسدياً فقط وإنما نفسياً واجتماعياً على حدٍ سواء.

 

فالذين تعرضوا لهذه التشوهات في الكثير من دول العالم لم يعلموا لسنوات طويلة أسباب ولادة هذه الأجنة الغريبة، وكأنها مخلوقات فضائية من كوكب آخر نزلت من السماء، فقد وقع الأطباء في حيرة شديدة من هذه الحالات المتزايدة والمتفاقمة والتي أخذت في الانتشار في الدول التي تم توزيع الدواء عليها. ومضت سنوات والظاهرة تزداد، والحالات الغريبة من الأجنة تتنوع في تشوهاتها الجسدية العضوية، حتى بعد سنوات من البحث والتدقيق تأكد الأطباء المعالجين لهذه الحالات بأن هناك علاقة بين تناول النساء الحوامل لهذه الأدوية وولادة الأجنة المعوقة. وبالرغم من اثبات هذه العلاقة السببية بين الدواء والمرض إلا أن شركات الأدوية استمرت في تسويقه وبيعه، حتى زادت الضغوط عليها واشتدت، وارتفعت أصوات المنادين للتوقف عن تناول هذا الدواء بالنسبة للمرأة الحامل.

 

وأخيراً نأتي إلى الفصل الثالث والأخير من هذه القصة المرعبة والمحزنة لكي نتعلم منها الدروس والعبر، ونستفيد من هفواتها وفجواتها حتى لا نزِّل ونسقط فيها مرة ثانية. ومن هذه الدروس أولاً أن الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وبالتحديد هنا شركات الأدوية والعقاقير واللقاحات لا تُعير أي اهتمامٍ بصحة الإنسان وسلامة بيئته، فهي تحاول بكل الطرق الرسمية وغير الرسمية والملتوية جمع المال وبأسرع وقتٍ ممكن. والثانية فإن هذه القصة تُحذرنا من تناول الأدوية والعقاقير مهما ادعتْ شركات الأدوية سلامتها بالنسبة للإنسان، وذلك قبل التأكد من أمانها وثبوت سلامتها، والتعرف على أعراضها الجانبية المحتملة، فمعظم الأدوية لها تأثيرات جانبية تختلف في حدتها وقوتها من إنسان إلى آخر، وبعض هذه الآثار الجانبية تكون مهلكة.

 

وختاماً من يرغب في تفاصيل أكثر وأدق حول هذه القضية الصحية، فيمكنه الرجوع إلى كتابٍ جديد صدر مؤخراً يقع في 432 صفحة من إعداد "جينيفر فاندربس" (Jennifer Vanderbes) في الولايات المتحدة الأمريكية في 27 يونيو 2023 تحت عنوان: "الدواء الأعجوبة: الأسرار التاريخية لدواء الثاليدوميد في أمريكا وضحاياه المخفيين".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق