الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023

المخلفات البلاستيكية في مياه السُحب السماوية

 

هناك حقيقة بيئية يجب أن يعرفها الجميع، وهي بسيطة جداً ولا تحتاج إلى شرح وفير أو علم دقيق، وأستطيع أن أُلخصها في جملة واحدة فقط، وهي أن كل نوعٍ من المخلفات تتخلص منها، فتُلقيها في مكونات البيئة، فإنها سترجع إليك مرة ثانية، وتضر بصحتك وسلامتك، ولو بعد حينٍ من الزمن، أي بعبارة أخرى فإن المخلفات لها دورة حياة دائرية، فهي تبدأ بك عندما تتخلص منها، وتنتهي بك بعد أن ترجع إليك مرة ثانية.

 

وهذه الحقيقة توصلتُ إليها بعد دراسةٍ طويلة، وعلى مدى سنوات حول مصير المخلفات بعد انتقالها إلى مكونات البيئة، وكيفية تصرفها وتحركها عندما تدخل إلى عناصر البيئة، سواء أكانت الهواء الجوي، أو المسطحات المائية، أو التربة.

 

وأحد هذه المخلفات التي أصبحت الآن موضوع الساعة، وهماً من هموم جميع الناس، سواء أكانوا العلماء، أم رجال القانون والتشريع، أم رجال النفوذ والسياسية، أم أناس بسطاء من عامة الشعب، هي المخلفات البلاستيكية.

 

وهذه المخلفات البلاستيكية التي أُريد هنا التركيز عليها هي المخلفات الدقيقة والصغيرة الحجم التي تنتج عن تكسر وتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة مع الوقت، ويُطلق عليها المخلفات الميكروبلاستيكية، أو النانو البلاستيكية.

 

فالإنسان زاد من إنتاجه للمواد البلاستيكية بمختلف أنواعها بشكل مطرد، والتقديرات تفيد بأن الإنسان صنع في عام 1950 قرابة 2 مليون طن من المنتجات البلاستيكية، والآن ينتج أكثر من 500 مليون طن، ونحو 10% فقط من مخلفات البلاستيك يتم تدويرها، وقرابة 10 ملايين طن من هذه المخلفات تنتقل إلى بيئتنا سنوياً، وبالتحديد البيئة البحرية. وهي تدخل البيئة البحرية إما مباشرة من خلال صرف وإلقاء المخلفات البلاستيكية في السواحل وفي عمق البحار من الصيادين وغيرهم، وإما عن طريق مياه المجاري والمصانع المعالجة، وإما عن طريق مدافن المخلفات، وإما عن طريق مياه الأمطار التي تجرف تربة الشوارع وغيرها فتنقلها إلى سواحل البحر.

 

فهذه الأحجام الكبيرة من المخلفات أصبحت الآن تُقلق بشدة البشر أجمعين لسبب رئيس هو أن المخلفات البلاستيكية لا تتحلل، فهي ثابتة ومستقرة في مكونات البيئة، وإنما في معظم الأحيان تتكسر مع مرور الوقت، وتتجزأ وتتفتت إلى قطعٍ أصغر فأصغر حتى تصل إلى حجم جسيمات بلاستيكية صغيرة جداً، وبعضها لا يمكن رؤيتها بسهولة بالعين المجردة. وهذه الجسيمات الميكروبلاستيكية هي التي تُسبب صداعاً شديداً للعلماء، فهي التي ترجع إلى الإنسان مرة ثانية بعد انتهاء دورة حياة المخلفات البلاستيكية، فتدخل في أعضاء جسمه وهو لا يعلم عنها.

 

والدراسة التي أجراها فريق من علماء اليابان تثبت تغلغل هذه المخلفات الميكروبلاستيكية بعمق في الأوساط البيئية التي لا تخطر على بال أحد، وفي أعالي السماء في مياه السحب والغيوم، ورجوعها إلينا مرة ثانية بعد أن تخلصنا منها.   هذه الدراسة نُشرت في مجلة "رسائل كيمياء البيئة"(Environmental Chemistry Letters) في 23 أغسطس 2023 تحت عنوان: "المخلفات البلاستيكية المحمولة في الهواء في مياه السحب على الارتفاعات العالية ودورها في تكوين السحب". وقد قامت الدراسة بتحليل مياه السحب على ارتفاعات عالية في قمم جبال اليابان التي تتراوح بين 1300 إلى 3776 متراً فوق سطح البحر، وبالتحديد قمة فوجي"(Fuji) وقمة أوياما(Oyama)، حيث تم اكتشاف تسعة أنواع من المخلفات الميكروبلاستيكية منها البولي إيثلين، والبولي بروبلين، والبولي يوريثين، وتراوح التركيز بين 6.7 إلى 13.9 قطعة بلاستيكية في اللتر من مياه السحب، وكان حجم هذه القطع يتراوح بين 7.1 إلى 94.6 ميكرومتر.

 

فهذه المخلفات البلاستيكية التي تخلصنا منها يوماً ما عادت إلينا الآن من جديد، ولكن على هيئة جسيمات دقيقة جداً، فهي بلغت بعد سنوات من انتقالها من وسط بيئي إلى آخر حتى وصلت عنان السماء في مياه السحب، فتتحول إلى أمطار بلاستيكية تنزل على البشر، فيتعرض لها مباشرة من خلال شرب مياه الأمطار الملوثة بالمخلفات الميكروبلاستيكية، أو عن طريق النباتات التي تلوثت بها أيضاً، مما يعني أننا نتغذى على نباتات تحمل في جسمها مخلفات ميكروبلاستيكية.

 

والدراسات التي تُنشر يومياً على المستوى الدولي كلها تقدم الدليل القاطع أن المخلفات البلاستيكية أصبحت الآن بعد أن تخلصنا منها جزءاً من جميع الأنظمة البيئية في البر والبحر والجو، سواء أكانت في أعماق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البرودة والضغط المرتفع، أو في سفوح الجبال العالية، أو في المناطق النائية والبعيدة كالقطبين الشمالي والجنوبي، بل ورجعت إلينا وأصبحت جزءاً من بعض أعضاء الإنسان الداخلية.

 

وسأضرب لكم أمثلة على آخر الدراسات التي تؤكد بأن المخلفات الميكروبلاستيكية قد رجعت إلينا مرة ثانية بعد أن تخلصنا منها. فهناك دراسة منشورة في مجلة "علوم وتقنية البيئة"(Environmental Science & Technology) في العدد الصادر في 14 أغسطس 2023 تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في سائل القصبات الهوائية في أطفال الصين"، حيث أثبتت الدراسة من خلال تحليل عينات السوائل في القصبة الهوائية بأنها تحتوي على مخلفات ميكروبلاستيكية بمعدل 4.31 جسيم ميكروبلاستيكي في العشر ملي لتر من السائل، وهذه المخلفات البلاستيكية كانت من 10 أنواع، منها بولي بروبيلن، بولي إيثلين، وبولي إيستر وحجمها أصغر من 20 ميكرومتراً، مما يعني بأن الأطفال وباقي البشر يستنشقون هواء ملوثاً بالمخلفات الميكروبلاستيكية، كما يعني بأن هذه المخلفات البلاستيكية قد وصلت إلى أعماق الجهاز التنفسي ودخلت مع الدورة الدموية حتى بلغت كل خلية من خلايا أجسادنا.

 

كما نُشرت دراسة في مجلة "فيزياء الموائع"( physics of fluids) في  13 يونيو 2023 تحت عنوان: "كيف ينتقل الميكروبلاستيك ويتراكم في الجزء العلوي من الجهاز التنفسي". وهذه الدراسة أفادت بأن الانسان يستنشق كميات كبيرة يومياً من الميكروبلاستيك تُقدر بنحو 16.2 قطعة من الميكروبلاستيك كل ساعة، وهي تتجمع وتتراكم في الفم والحلقوم، والحنجرة، والقصبة الهوائية، وفي التجاويف الأنفية بشكلٍ خاص، وتنتقل مع الوقت إلى أعماق الجهاز التنفسي.

 

وعلاوة على هذه الدراسات، فقد نُشرت دراسة في 13 يوليو 2023 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان: "اكتشاف أنواع مختلفة من الميكروبلاستيك في مرضى جراحة القلب"، حيث أكدت خطورة هذه المخلفات وتغلغلها في أعماق أعضاء الجسم البشري، وبالتحديد القلب، الذي يعد أهم عضو في الجسد، وقد اكتشفت خمسة أنواع من المخلفات الميكروبلاستيكية في أنسجة القلب، أكبرها بلغ قطرها 469 ميكرومتراً، كذلك وُجدتْ 9 أنواع من المخلفات البلاستيكية في عينات من الدم.

 

فالمخلفات عندما نتخلص منها لا تنتهي فتموت، ولا يزول تأثيرها، وإنما في الكثير من الأحيان ترجع إلينا مرة ثانية فتدمر صحتنا وتهدد أمننا وسلامتنا، وما المخلفات البلاستيكية إلا مجرد مثالٍ واحد فقط من بين أمثلة لا تعد ولا تحصى.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق