الجمعة، 26 أبريل 2024

مرضٌ لا تنتهي تداعياته


أمرتْ محكمة يابانية في مقاطعة نياجاتا(Niigata) في 18 أبريل 2024 شركة "روزوناك القابضة"(Resonac Holdings) على دفع مبلغ 104 ملايين ين ياباني، أو قرابة 260 ألف دينار بحريني إلى 26 يابانياً من الذين تضرروا من حالة مرضية غامضة أُطلق عليها "مرض مينماتا (Minamata Disease)، وهم الذين عانوا من شدة آلامها، وقسوة تأثيرها على أجسامهم جسدياً وعقلياً ونفسياً. وهذه ليست أول مرة، وليست الحالة الأولى، ولن تكون حتماً الحالة الأخيرة التي تَحْكُم فيها المحكمة اليابانية للتعويض المالي للذين سقطوا في شباك هذا المرض الغريب والعقيم.

 

وعندما نقرأ عن مثل هذه الأخبار نظن بأن هذه الحالات المرضية التي أصابت شريحة كبيرة من المجتمع الياباني حديثة العهد، وأنها قد وقعت قبل سنة، أو حتى قبل عقد من الزمن، فلا نتصور أنها من الماضي الغابر البعيد، وأن خيوطها بدأت تنسج وتظهر فوق السطح قبل أكثر من مائة عام، أي منذ مطلع العشرينات من القرن المنصرم.

 

فمثل هذه الحالات تؤكد لنا أن بعض الأمراض التي يتعرض لها الإنسان قد لا تموت، وتبقى حية تنبض بالحياة في المجتمعات البشرية، وقد تستمر فيها خالدة مخلدة أبد الدهر.

 

فمرض مينماتا يُقدم مثالاً حياً واقعياً على مثل هذه الحالات المرضية المستدامة التي تبقى جذورها قوية وصلبة ومتغلغلة في شرايين المجتمعات التي تُصاب بها.

 

فبذور هذا المرض الخبيث تم نشرها وزرعها في البيئة البحرية الساحلية في مدينة مينماتا قبل أكثر من قرن عندما قام مصنع "شيسو للمواد الكيميائية" بصرف مخلفات سائلة إلى خليج مينماتا، وكانت تحتوي على واحد من أخطر العناصر السامة التي يعرفها الإنسان الآن، وهو عنصر الزئبق، أو الزئبق غير العضوي الذي لا يتحلل، وثابت ومستقر في مكونات البيئة. ومع الأيام، ومع ازدياد الصرف الصناعي المحتوي على الزئبق، حدثت ظاهرة أخرى جديدة كانت غائبة عن علم الإنسان، وهي أن هذا الزئبق غير العضوي تحول في التربة القاعية للبحر ومع وجود البكتيريا اللاهوائية إلى ما هو أخطر منه، وأشد وطأة وتنكيلاً بصحة الإنسان، وهو الزئبق العضوي، وبالتحديد ميثيل الزئبق. ومن الخصائص غير المرغوبة والسلبية لهذا المركب العضوي الفلزي أنه لا يتحلل ويبقى على ما هو عليه، ويبدأ في التراكم في التربة القاعية البحرية، وينتقل رويداً رويداً وفي سرية تامة إلى الكائنات النباتية(الفيتوبلانكتون)، ثم إلى الكائنات الحيوانية الصغيرة الحجم(الزوبلانكتون)، وبعدها عبر السلسلة الغذائية البحرية إلى الأسماك الكبيرة التي يستهلكها الإنسان والحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب. وهذه العملية التراكمية وزيادة التركيز مع الوقت استغرقت قرابة ثلاثين عاماً حتى وصل تركيز الزئبق على مستويات مرتفعة في الأسماك بحيث تحول إلى سم قاتل عرَّض الإنسان والقطط والحيوانات الأخرى لأعراض مرضية كانت غريبة وفريدة من نوعها في ذلك الزمن، وبالتحديد في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، فأصابت بشكلٍ خاص الجهاز العصبي المركزي، والعظام، وضعف في البصر، وهوان في العضلات، إضافة إلى الإصابة بالشلل، ثم الموت.

 

ومع الوقت أخذت الحالات الغامضة تزداد يوماً بعد يوماً، كما أن الذين قضوا نحبهم بسبب هذا المرض العقيم الغريب ارتفع بشكل مرعب ومخيف يدعو إلى القلق العميق من وجود وباءٍ ما لا يعرف أحد أي تفاصيل عنه، مما اضطر العلماء والأطباء من مختلف التخصصات إلى اعلان حالة الطوارئ البحثية وإجراء الدراسات المعمقة. فشمر الجميع عن ساعديه لحل هذا اللغز المحير والعصيب، وفك أسراره وخيوطه. وهذه العملية المضنية والمعقدة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات حتى اكتشف العلماء بأن المتهم هو تناول المأكولات البحرية التي كانت ملوثة بالزئبق، وأن مصدر الزئبق هو مخلفات المصنع السائلة. 

 

ولم ينته الوباء عند هذا الحد، وإنما اكتُشفت هذه الأعراض المرضية على المولودين حديثاً، حيث تأكد من الفحوصات التي أُجريت للأطفال بأن أجسامهم ملوثة بالزئبق وبنسبة مرتفعة جداً، مما يعني أن هذا الزئبق لا يتراكم في مكونات البيئة فقط، ولا ينتقل عبر السلسلة الغذائية البحرية فحسب، وإنما ينتقل من الأم إلى جنينها أثناء وجوده في رحم أمه. أي أن للزئبق خاصية الانتقال المباشر بين الجيل الواحد، والأجيال المتلاحقة، ولذلك نجد بأن هذا المرض مازال حياً في المجتمع الياباني، وترثه الأجيال أباً عن جد، فمازالت روحه تنبض بالحياة حتى بعد مضي أكثر من 100 عام على أول مشهد للكارثة البيئية الصحية العامة وأول خطوة زرعها الإنسان لنمو هذه الشجرة الخبيثة التي امتدت جذورها قوية ومتشابكة في قلب المجتمع.

 

ونظراً لهول هذه الطامة الكبرى على المجتمع الياباني خاصة، والمجتمع الدولي عامة، فقد حدثت عدة أمور تؤكد شدة وطأتها وعمق تأثيرها وتغلغلها في كافة دول العالم حتى يومنا هذا. ومن هذه الأمور هو موافقة دول العالم على معاهدة دولية مشتركة ومتخصصة للتصدي لهذا العنصر الخبيث تحت مسمى "معاهدة مينماتا". وتهدف هذه المعاهدة الدولية إلى إدارة هذا العنصر الخطير بأسلوب مستدام، والحد من إنتاجه وتسويقه، وتنظيم وتقنين ولوجه إلى مكونات بيئتنا المختلفة. كما أن اليابان وبعض دول العلم تحيي يوماً واحداً من كل عام لتخليد ذكرى هذه الكارثة العقيمة، وبنت اليابان نُصباً تذكارياً لضحايا هذا المرض القاتل. كذلك اعتذر رئيس الوزراء الياباني عدة مرات وفي مناسبات مختلفة عن وقوع هذه الكارثة التي هي من صنع الإنسان ومن صنع أيدينا، وتؤكد تقصيرنا وتجاهلنا لهموم بيئتنا، والتعدي باستمرار على حرماتها. كذلك وفي الوقت نفسه تم تأليف الكثير من الكتب والأفلام الوثائقية، إضافة إلى فيلم من هوليود تم عرضه في عام 2020.

 

فهذه الكارثة التي وقعت قبل قرنٍ في اليابان، ومازالت تداعياتها قائمة ومستمرة حتى الآن، قد تحدث في أية دولة، فليس هناك أي مجتمع بمنأى عن مثل هذه الحوادث المؤلمة، لأنها قد تقع بسبب ممارسة يحسبها البعض بسيطة جداً ويمكن تجاهلها وغض الطرف عنها، وهي السماح للملوثات في الانطلاق بحرية إلى عناصر بيئتنا، وإعطائها الفرصة الكافية لكي تنمو، وتترعرع ويرتفع تركيزها مع الزمن، وتتراكم وتتضخم في البيئة أولاً، ثم في السلسلة الغذائية ثانياً، حيث يكون الإنسان على رأس هذا الهرم الغذائي، فيتسمم ويمرض، وقد يلقى نحبه فيُنقل إلى مثواه الأخير تحت الثرى.  

 

الثلاثاء، 23 أبريل 2024

جيلُ القلق، جيل الهاتف النقال

 

كتابٌ نال شرف "أكثر الكتب مبيعاً" من صحيفة النيويورك تايمس العريقة قبيل نشره في 29 مارس 2024، فهو يُعد إضافة نوعية قيِّمة إلى الملايين من الكتب المنشورة والتي تباع شهرياً في كل أنحاء العالم وتأخذ مكانها في نهاية رحلتها في رفوف المكتبات حول العالم.

 

فهذا الكتاب يتناول قضية حيوية مصيرية تعاني منها المجتمعات في كل أنحاء العالم، وتتفاقم هذه المعاناة وتزيد في وتيرة سرعتها ونطاق ودائرة تأثيرها عاماً بعد عام، كما أن هذا الكتاب في الوقت نفسه يمس أهم فئة عمرية في كل مجتمعات العالم بدون استثناء، وهي فئة فلذات أكبادنا من الأطفال والمراهقين والشباب، فهي الفئة التي تُشكل القاعدة الأساسية الصلبة للبناء والنمو المستدام لأي مجتمع.

 

فهذا الكتاب يواجه بالأدلة العلمية، والتقارير الفنية، والاحصائيات الموثوقة قضية الصحة العقلية والنفسية للأطفال في أمريكا خاصة، وفي معظم دول العالم عامة. كما أن هذا الكتاب يوجه تحذيراً إلى كافة أفراد المجتمع، من أولياء الأمور، ومن قادة المدارس، وعلماء الاجتماع والنفس، والحكومات من أداة أصبحت اليوم رفيقة وصاحب كل إنسان ولا غنى عنها، بل ولا يمكن التخلص منها وتجنب الاعتماد عليها في جميع شؤون حياتنا، سواء من صغار السن أو من الكبار. وهذه الأداة هي الهاتف النقال، وبالتحديد الهاتف النقال الذكي، وما يحتويه من خير وشر، ومن غثٍ وسمين، ومن صلاح وافساد، من وسائل الاتصال الاجتماعي بكافة أنواعها، ومن تطبيقات لا تعد ولا تحصى. فهذا الجهاز اليدوي المحمول الصغير بدأ يتحول اليوم إلى تهديد عقيم ينذر بوقوع كارثة عامة، ووباء صحي عقلي ونفسي ينزل على أطفالنا والبالغين والشباب، فيُعرضهم للإصابة بالأمراض النفسية المتمثلة في القلق والاكتئاب والرغبة إلى الانتحار.

 

فقد جاء عنوان هذا الكتاب وهو يعكس هذه التحذيرات الاجتماعية والنفسية، ويعكس الاستنتاجات التي توصل إليها الكاتب من غزو الأمراض النفسية والعقلية وتوغلها في نفوس الأطفال والمراهقين وصغار السن بسبب التطرف الشديد في الاعتماد على هذا الجهاز البسيط في حجمه، والعصيب في تأثيراته، والذي تركنا له العنان في امتلاك أطفالنا له والإدمان في استعماله، والتجول بكل راحة وحرية في فضاء الإنترنت اللجي، حيث صدر الكتاب تحت عنوان:" الجيل القلق: كيف تتسبب عملية التجديد الخيوط الكبرى في مرحلة الطفولة في انتشار وباء المرض العقلي".

 

فهذا الكتاب يتناول قضية جيلٍ فريد من نوعه في تاريخ البشرية جمعاء، وهذا الجيل الغريب بدأ يتكون رويداً رويداً منذ مطلع الألفية الأولى من هذا القرن، حيث يدور محور حياة هذا الجيل الجديد، وجل تركيزه واهتمامه اليومي على الشاشات عموماً، كشاشة التلفاز، والحاسب الآلي، والآي باد، وبشكلٍ خاص الهاتف النقال الذكي، حتى يمكن أن نُطلق عليه "جيل الهاتف النقال"، أو حسب ما أَطلق عليه مُؤلف الكتاب "جيل القلق".

 

فقد جاء الجزء الأول من الكتاب تحت عنوان: "موجة المد"، حيث يستعرض أصل المشكلة وجذورها وكيفية نشوئها في مجتمعاتنا، ثم كيفية تحولها مع الوقت إلى وباء صحي يطغى على عقول ونفوس الأطفال والمراهقين في الكثير من دول العالم. والجزء الثاني يقدم خلفية عامة حول هذه القضية المجتمعية العقيمة، ويستعرض أهم الاحصائيات التي تثبت واقعية هذه الظاهرة. وأما الجزء الثالث من الكتاب فعنوانه: "التجديد العظيم"، ويتناول مرحلة الطفولة وطبيعتها واحتياجاتها، وكيف أن مرحلة الطفولة التي من المفروض أن يقضيها الطفل بين الألعاب الداخلية والخارجية، واستكشاف العالم الخارجي، أخذت تتحول إلى نوع آخر غير مسبوق ومبني على الهاتف النقال، ومحوره محتوى هذا الهاتف، من أدوات الاتصال الاجتماعي، والألعاب المتنوعة، والتطبيقات غير المتناهية. وهذه الظاهرة المستجدة والمتفاقمة أثرت على الأطفال اجتماعياً، وسلوكياً، وعقلياً، ونفسياً، مثل الحرمان من النوم، وعدم التركيز، والوحدة، والإدمان. كما يبين الكتاب كيف أن هذه الأداة أشد وطأة وتأثيراً على البنات مقارنة بالأولاد، حيث تُخرجهن من حياتهن الطبيعية الواقعية إلى الحياة الافتراضية الخيالية. وهذه التأثيرات لا تنعكس على الفرد فقط، وإنما تتعداه إلى أفراد الأسرة الصغيرة ثم المجتمع برمته. وأخيراً يدعو الكاتب في الجزء الرابع إلى تبني مجموعة من الحلول واتخاذ إجراءات جماعية مجتمعية لحماية الطفولة من تغلغل هذه الأداة. كما يقترح أربع قواعد بسيطة يمكن تنفيذها، وهي موجهة إلى كافة شرائح المجتمع، كل حسب مسؤوليته، ودوره، وتخصصه، فمنها ما هو موجه نحو أولياء الأمور، والمدرسين والمدرسة عامة، إضافة الشركات التقنية المنتجة للبرامج والتطبيقات، ومنها ما هو موجه للحكومات والأجهزة التشريعية من أجل وضع القوانين والأنظمة للتصدي لهذا الوباء المستشري والطاغي على أطفالنا، والعمل على القضاء عليه كلياً، وارجاع الطفل مرة ثانية إلى حالته الطبيعية الواقعية، وبيئته الخارجية العملية.

 

وأما الأسئلة الواقعية المحيرة التي يطرحها الجميع هي: متى يمكن لأطفالنا أن يمتلكوا هاتفاً محمولاً خاصاً بهم؟ وفي أي عمر يمكن لهم استكشاف بحر التواصل الاجتماعي المغري والفاسد في بعض جوانبه، والمفيد والنافع في جوانب أخرى؟ وما هي الاحتياطات التي يمكن اتخاذها لمنع غرق أطفالنا في بحر محتوى الهاتف النقال؟

 

في الحقيقة لا يوجد حتى الآن اجماع دولي يقدم الإجابة السهلة والبسيطة لهذه التساؤلات الخطيرة. فعلى سبيل المثال، كتابُنا الحالي انطلاقاً من نتائج الدراسات لسنوات طويلة، يوصي بعدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلا في المرحلة الثانوية، وفي عمر قرابة 16 سنة، حيث أكدت هذه الدراسات عن وجود علاقة قوية بين استخدام الأطفال والمراهقين للهاتف النقال ومخاطر الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية. وأما حكومة فلوريدا الأمريكية فقد سنَّت تشريعاً يمنع تعرض الأطفال لوسائل الاتصال الاجتماعي لمن هم دون الـ 14 من العمر، وبريطانيا تعمل على منع بيع الهاتف النقال على من هم أقل من 16 عاماً، علماً بأن أقل عمر لاستخدام وسائل الاتصال الاجتماعي(الواتس أب) في بريطانيا هو 13 سنة، وهناك خطة الآن لرفعه إلى 16 سنة.

 

فهذه المعضلة المعقدة والمتشابكة تنطبق على جميع وسائل التقنية الحديثة، منذ ظهور التلفزيون في منازلنا، ثم الحاسب الآلي الشخصي، ثم الهاتف العادي، وأخيراً الهاتف الذكي، فجميعها وسائل تعد سلاحاً ذو حدين. ولذلك على الفرد أولاً، ثم أولياء الأمور وباقي فئات المجتمع العام والخاص تحمل كل منهم لمسؤوليته في توجيه هذه الأجهزة الحديثة، وبخاصة الهاتف المحمول نحو الخير والصلاح، وبناء الفكر والعقل السليم، وتنمية المجتمع، والعمل على التوازن في استعماله، وعدم الإفراط في استخدامه، والسيطرة عليه كلياً قبل أن يخرج من السيطرة فيتَحَكمْ في نفوسنا وعقولنا، ويتحول إلى عامل هدم وفساد للفرد والأسرة والمجتمع.

 

الثلاثاء، 16 أبريل 2024

هل هناك حد آمن للملوثات في الهواء الجوي؟

 

في قاموس العلماء لا يوجد مصطلح "الحد الآمن للتلوث"، ولا يعرف العلماء مصطلحْ "الحدود الآمنة والسليمة للملوثات في بيئتنا"، فالتلوث حسب اجماع أهل العلم والخبرة والاختصاص مدمر لصحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى، مهما كان تركيز هذه الملوثات. فإذا اقْتنعتَ بكلامي هذا، فلا داعي لمواصلة قراءة المقال، وإذا كُنتَ تحتاج إلى المزيد من الأدلة الدامغة، والبراهين الشافية لكي تقتنع فواصل القراءة.

 

فقد خلق الله سبحانه وتعالى البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية بقدرٍ محدد وفي توازن دقيق جداً وهش، فهناك علاقة حميمية ومصيرية تربط بين كل كائن حي من نبات أو حيوان والبيئة التي يعيش فيها، كما أن هناك علاقة قوية ووجودية بين مكونات البيئة غير الحية. فالأنهار مرتبطة بالبحيرات والبحار، والجبال الراسية مرتبطة بتربة وسطح الأرض، والهواء الجوي مرتبط بالمسطحات المائية جميعاً، وأي خلل في أية علاقة من هذه العلاقات، وأي تغيير عشوائي دون علم ومعرفة وتجربة سابقة يسبب شكوى وتداعي مَرَضي لسائر الروابط والعلاقات.

 

فمكونات الهواء الجوي النظيف الطبيعي الذي خلقه الله تجلت قدرته من الغازات والمواد الكيميائية، كالأكسجين، والنيتروجين، وثاني أكسيد الكربون، وغيرها موجودة بقدر واتزان دقيق جداً، وعند هذا القدر، أو التركيز والنسبة الموجودة في الهواء الجوي، يلعب هذا الغاز دوره المَرسُوم له ضمن هذا الكون الفسيح والعظيم. فإذا انخفض تركيزه أحدث خللاً في التوازن وأدى إلى ظهور مشكلة بيئية تهدد حياة الإنسان، وفي المقابل إذا ارتفع تركيز هذه المادة الكيميائية فعندئذٍ أيضاً سنخلق لأنفسنا وكوكبنا طامة كبرى لا يعرف أحداً عواقبها علينا وعلى الأحياء التي تعيش معنا. كذلك إذا أدخلنا مادة كيميائية جديدة لم تكن موجودة أصلاً إلى الهواء الجوي، أو مكونات وعناصر البيئة الأخرى، فإننا حتماً سنزيد من معاناتنا البيئية والصحية وننزل على أنفسنا كرباً عقيماً نحن في غنى عنه.

 

ولذلك في الحالات الثلاثة التي ذكرتُها، من حدوث انخفاضٍ في تركيز احدى المواد الكيميائية الطبيعية في الهواء، أو زيادة في نسبتها، أو السماح لدخول مادة كيميائية جديدة غير فطرية إلى الهواء الجوي، فعند وقوع أي من هذه الحالات، فإننا سنعيش في بيئة غير آمنة، وغير سليمة، وتؤدي مع الزمن إلى نزول مشكلات بيئية ثم صحية وتُعرضنا للإصابة بالأمراض الجديدة والغريبة المستعصية على العلاج.

 

وانطلاقاً من هذه الثوابت والحقائق، فعند ارتفاع تركيز أي مادة كيميائية عن الحد الموجود طبيعياً، حتى ولو كانت فطرياً وطبيعياً موجودة في الهواء الجوي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فإن هذه المادة تتحول تلقائياً وفورياً إلى "ملوث للبيئة"، أي ستقع ضمن قائمة الملوثات التي تهدد صحة الإنسان وسلامة البيئة، مثل غاز ثاني أكسيد الكربون الموجود أصلاً في الهواء النظيف والمسبب الآن لمشكلة العصر وهي التغير المناخي، وينطبق عليه المثل الشعبي "الشيء إذا زاد عن حَدِّه ينقلب ضده". كذلك إذا دخلت مادة كيميائية جديدة في الهواء، فهي أيضاً تُصنف ضمن الملوثات البيئية، وأمثلة مثل هذه المواد كثيرة ولا تعد ولا تحصى.

 

فالهواء الجوي العادي الذي نستنشقه الآن بصفعة عامة "غير آمن" وغير سليم لصحة الإنسان، ولا يستطيع أي إنسان أي يُصرح غير ذلك فيقول بأن الهواء في مدينتي "آمن وسليم وصحي". ففي كل مكان حول العالم بدون استثناء، إما أن هناك ملوثات جديدة دخلت الهواء الجوي فدهورت نوعية الهواء، وإما أن هناك ارتفاعاً كبيراً قد شهدناه في تركيز المواد الكيميائية التي هي موجودة أصلاً في الهواء الجوي. ولذلك أصدرت "الوكالة الدولية لأبحاث السرطان"، وهي الذراع العلمي البحثي لمنظمة الصحة العالمية حول السرطان، في 17 أكتوبر 2013 المنشور رقم (109)، وجاء فيه بأن الوكالة قد قامت بتصنيف "تلوث الهواء في البيئة الخارجية" بأنه مسرطن للإنسان ضمن المجموعة الأولى، حيث إن التعرض للهواء الملوث الخارجي يؤدي إلى الإصابة بسرطان الرئة. كذلك صنَّفت الوكالة الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي بأنها أيضاً مسرطنة للإنسان ضمن المجموعة الأولى نفسها.

 

ولذلك الحل الواقعي والعملي الذي ابتدعه العلماء لعلاج هذه الظاهرة الخطيرة المهددة لأمن وسلامة الهواء الجوي هو نظام المواصفات والمعايير للهواء الجوي. وهذا المعيار الذي يقترحه العلماء هو ليس الحل الأمثل لحماية صحة الإنسان وبيئته، ولكن هو أضعف الإيمان، والأقل ضرراً على صحتنا. وهذا المعيار الذي يحدده العلماء "ديناميكي" في طبيعته، أي متغير وغير ثابت، فيتغير مع الزمن كلما نضجت جهود ودراسات العلماء، ويختلف من مدينة إلى أخرى حول العالم حسب ظروفها المناخية والبيئية، فلا توجد إذن معايير ومواصفات دولية أجمعت عليها وتبنتها كل دول العالم.

 

وهناك الكثير من المعايير الخاصة بجودة الهواء التي وُضعتْ في السبعينيات من القرن المنصرم، قد تغيرت عدة مرات منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا لعدة أسباب، منها أن الدراسات التي أُجريت بعد وضع هذه المعايير أثبتت بأنها غير مجدية لحماية صحة الإنسان والكائنات الحية الأخرى، ولذلك عملوا على تغييرها وخفض تركيزها.

 

وسأُقدم مثالاً واحداً فقط من بين أمثلة كثيرة حول ديناميكية المواصفات الخاصة بجودة الهواء وتغيرها مع الزمن حسب نتائج الدراسات العلمية. فالولايات المتحدة الأمريكية تُعتبر من أولى الدول في تشريع قانون خاص حول "الهواء النظيف" والمتعلق بجودة الهواء في 15 ديسمبر 1963. وهذا القانون انبثقت منه في عام 1971 معايير جودة الهواء، حيث حدد بأنه لا يتعدى المعدل السنوي للجسيمات الدقيقة(الدخان) التي قطرها لا يتجاوز 2.5 مايكرومتر عن 15 مايكروجراماً من هذه الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي. ثم طرأت عدة تعديلات على معايير جودة الهواء، منها في عام 1977 وعام 1990، حيث حددت التركيز الذي يحمي صحة الإنسان من الدخان أو الجسيمات الدقيقة بتركيز هو 12. وفي 7 فبراير 2024 حدث تغيير آخر حدد فيه المواصفة الخاصة بالجسيمات الدقيقة بـ 9 مايكروجرامات في المتر المكعب، أي تغييرات مستمرة، وفي كل مرة يتم خفض التركيز. ونظراً لعدم اتفاق دول العالم على معايير محددة لجودة الهواء، فنجد أن منظمة الصحة العالمية أصدرت في 22 سبتمبر 2021 مبادئ توجيهية بشأن جودة الهواء، وحددت فيها بأن المعيار الاسترشادي للمعدل السنوي للجسيمات الدقيقة هو 5 مايكروجرامات من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، أي أقل من المواصفة الأمريكية، علماً بأن المعيار السابق لمنظمة الصحة العالمية كان أعلى وهو 10 مايكروجرامات في المتر المكعب.

 

وهذا المثال الخاص بالتغير المستمر لمواصفة الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، ينطبق أيضاً على الملوثات الأخرى، مثل غاز الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، وأكاسيد الكبريت، وغيرها.

 

وهكذا نؤكد بأن الملوثات في الحالات الثلاثة التي ذكرتُها سابقاً كلها تفيد بأنها "غير آمنة" على صحة الإنسان، ووجودها بأي تركيز مهما كان منخفضاً يجعل الهواء أيضاً غير آمن وغير سليم لاستدامة حياة الإنسان والتمتع بصحة جيدة خالية من الأسقام والعلل.