الأربعاء، 28 يوليو 2021

المسؤول عن ملف بن لادن يحقق في المرض الغامض

بالرغم من أن هذا المرض الغامض والغريب انكشف أولاً في عام 2016 على الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في بعض دول العالم مثل كوبا، والصين، وروسيا، أي قبل نحو خمسة أعوام ، إلا أن عُقول علماء وأطباء أمريكا عجزت حتى يومنا هذا عن علاجه، ومعرفة مصدره وأسبابه. وقد أكد على هذا الغموض والمجهول الذي يحيط بهذا المرض الذي أطلق عليه الآن "هافانا سيندروم"( Havana Syndrome)، وزير الخارجية أنتوني بلينكن(Antony Blinken) في جلسة الاستماع التي عُقدت حول هذه القضية الفريدة من نوعها في الكونجرس في يونيو من العام الجاري، حيث قال: "هناك واقع صعب الآن: نحن لا نعلم ما هو سبب هذه الحالات. نحن لا نعلم من المسؤول الحقيقي، إذا وجد".

 

فمنذ ذلك الوقت والولايات المتحدة الأمريكية في حيرة من تفسير هذا اللغز الكبير، وغير قادرة على تقديم العلاجات الناجعة للتخلص من أعراض هذا المرض، فهل هو فعلاً مرض عضوي يصيب أعضاء جسم الإنسان، أو مرض نفسي تعرض له هؤلاء الدبلوماسيين في فترة من الفترات العصيبة بسبب ضغط العمل، وشدة الجهد الذي يمرون به ويعانون منه أثناء أداء مهماتهم الاستخباراتية المختلفة؟ 

 

ومن أجل سبر غور هذا المرض الفريد من نوعه، وإبداء الرعاية والاهتمام الأشد من قبل الحكومة الأمريكية للدبلوماسيين المتضررين صحياً، فقد وافق مجلس الشيوخ بالإجماع في السابع من يونيو من العام الجاري على قانون يُقدم الدعم للمتضررين من هذا المرض، وعُرف بقانون هافانا، والذي صدر تحت عنوان: "مساعدة الضحايا الأمريكيين المتأثرين بهجمات عصبية"(Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks)، حيث يوفر هذا القانون الخاص كافة الموارد المالية والإدارية اللازمة لمعالجة هذه الحالات المرضية، وتم تكليف وزارة الخارجية ووكالة الـمخابرات المركزية الأمريكية(سي آي أيه) لمتابعة تنفيذه.

 

ولذلك قام مدير وكالة الـمخابرات المركزية الأمريكية وليم بيرنز(William Burns) في 22 يوليو 2021 بتعيين ضابطٍ رفيع المستوى للقيام بالتحقيق الشامل والدقيق في هذا المرض العصيب من كافة جوانبه ومعرفة أسراره وخفاياه، علماً بأن هذا الضابط لا تُعرف هويته حتى الآن، حيث قام بمهمات حساسة جداً وصعبة ومعقدة، منها تكليفه بمسؤولية ملاحقة ومتابعة حركات أسامة بن لادن، حسب ما نُشر في صحيفة "وال ستريت جورنل" في 21 يوليو.

 

وقد أكد مدير المخابرات بأن هذا المرض حقيقي وخطير، كما أفاد بأنه يعتقد أن هناك احتمالاً قوياً جداً بأن هذه الأعراض والحالة الغريبة التي نزلت على الدبلوماسيين هي نتيجة لعمل عدائي متعمد، واستند في تصريحه هذا على التقرير المنشور في السادس من ديسمبر 2020 من "الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب"(National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine) بعنوان: "تقييم مرض موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم في السفارات الخارجية". فهذا التقرير قام به فريق مكون من 19 خبيراً من تخصصات متعددة منها علم الأعصاب والإشعاع وغيرهما، وتكون التقرير من 64 صفحة، وجاءت الاستنتاجات الختامية حسب ما ورد في التقرير بأن: "الأعراض التي تم كشفها على أول حالة في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا بكوبا كانت تتمثل في الاستيقاظ من النوم والشعور بآلام شديدة وضغط شديد في الوجه، والاحساس بوجود صوتٍ حاد ومرتفع جداً في أحد الأذنين، ثم فقدان التوازن والإغماء. وبعد أيام انكشفت أعراض أخرى تتمثل في مشكلات واضطرابات في الرؤية، وصعوبات ذهنية وعقلية، وفقدان في السمع، وصداع مزمن، والشعور بالتعب والإرهاق، وفقدان الذاكرة"، كما جاء في التقرير بأن: "لجنة الخبراء تَشعر بأن الأعراض التي أصابت الدبلوماسيين تتوافق مع التأثيرات للتعرض المباشر للأشعة الكهرومغناطيسية في مجال طاقة وترددات الراديو(radio frequency (RF)، وهذا يشتمل على موجات الراديو والميكروويف. كما جاء أيضاً في التقرير: "يبدو أن ذبذبات ترددات الراديو الموجهة هي الآلية الأكثر قبولاً لتفسير هذه الحالات المرضية التي تمت دراستها من قبل اللجنة، إضافة إلى تأثيرات الحالات النفسية لهؤلاء الموظفين".

 

فهذا التقرير خلص إلى استنتاجٍ عام جداً ومبهم زاد المرض غموضاً وتعقيداً، فالتقرير لا توجد به أية تفاصيل، أو تفسيرات واضحة تشفي غليل الضحايا حول أسباب ومصدر الأعراض المرضية التي يعاني منها نحو 200 دبلوماسي أمريكي عملوا في السفارات والقنصليات الأمريكية في الخارج، فالأسئلة التي تركها التقرير أكثر من الإجابات، ومنها: هل تم استخدام جهاز خاص لتصويب وتوجيه هذه الأشعة والموجات الكهرومغناطيسية في مجال الراديو مباشرة على الدبلوماسيين الأمريكيين؟

وهل هناك سلاح جديد تم إنتاجه خصيصاً من أجل الهجوم الإشعاعي على هؤلاء الأمريكيين؟

وما هي الدول التي قامت بهذه العملية الهجومية؟

 

وعلاوة على هذا التقرير، فقد هناك دراسة قامت بفحص الأعصاب، وإجراء تقييم وتحليل شامل لبناء وتركيبة كافة أجزاء المخ من خلال أخذ صور محددة للمخ باستخدام جهاز الرنين المغنطيسي المعروف(إم آر آي)، حيث نُشرت تفاصيل نتائج الدراسة في 23 يوليو 2019 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين تحت عنوان: "اكتشافات بعد التحليل العصبي لموظفي الحكومة في كوبا"، وقد أجرت هذه الدراسة مقارنة لحالة أربعين من الدبلوماسيين الأمريكيين الذين يعانون من هذا المرض مع 48 أمريكياً أصحاء من غير المصابين، وأفاد الباحثون إلى وجود فروقٍ جوهرية بين العينتين في المخ من ناحية حجم الجزء الكلي الأبيض، وحجم المنطقة البيضاء والرمادية، والبناء الميكروسكوبي للمخ، إضافة إلى اختلافات في الجزء المختص بالسمع والبصر. فعلى سبيل المثال، معدل الحجم الكلي للمادة البيضاء كان أصغر في المرضى مقارنة بالأصحاء، فالمرضى كان الحجم 542.22 سنتيمتر مكعب والأصحاء 569.61، أي أصغر بنحو 5%، كذلك كانت هناك اختلافات وفروق بين عينة المرضى والأصحاء بالنسبة حجم المادة البيضاء والرمادية.

 

وهذه الدراسة أيضاً لم تنجح في فك رموز لغز هذا المرض من حيث التعرف على أسبابه، ومصدره، فهل سيبقى هذا المرض غامضاً ومجهولاً، كما حصل بالفعل لمرض وظاهرة حرب الخليج الفريدة من نوعها والغريبة التي أصابت عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب الخليج منذ أكثر من ثلاثة عقود؟

الأحد، 25 يوليو 2021

منشأ المعلومات المضللة حول كورونا

أدلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في 16 يوليو من العام الجاري بتصريحات شديدة اللهجة أمام الصحفيين حول المعلومات المضللة، والإشاعات الكاذبة التي بدأت تنتشر وتستفحل في منصات وسائل الاتصال الاجتماعي والمتعلقة بفيروس كورونا نفسه، وبالمرض الذي يسببه الفيروس، وبخاصة تلك المعلومات المتعلقة بفاعلية اللقاح ضد الفيروس وأهميته في استئصال هذا الوباء العقيم من المجتمع البشري، حيث اتهم وسائل الاتصال الاجتماعي وعلى رأسهم الفيسبوك للسماح بنشر وترويج المعلومات المضللة بقتل الناس، قائلاً: "هم يقتلون الناس....الوباء الوحيد الذي نعاني منه هو بين الذين لم يتلقوا اللقاح، وهؤلاء يقْتُلون الناس". ثم جاءت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي في 19 يوليو لتدافع عن اتهامات رئيسها لوسائل الاتصال الاجتماعي عندما قالت في المؤتمر الصحفي للبيت الأبيض: "اهتمامنا الأكبر، وصراحة من المفروض أن يكون هذا اهتمامكم، هو أعداد الوفيات حول العالم بسبب تلقيهم لمعلومات مضللة تقنعهم بعدم أخذ اللقاح".

 

كذلك ردد هذه التصريحات المسؤول الأول عن الصحة العامة(الجراح العام) فيفك ميرثي قائلاً بأن المعلومات المضللة التي تأتي عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعي تُعد "تهديداً عاجلاً للصحة العامة"، وبخاصة في قضية التردد والشك في أهمية أخذ اللقاح، كما أكدت على هذا التصريح منظمة الصحة العالمية عندما قالت بأن التردد في أخذ اللقاح يُعد من "أخطر التهديدات الصحية الدولية" لأنه من أهم العوائق التي تقف في طريق تحقيق دول العالم لهدف مناعة المجتمع ضد فيروس كورونا، وبالتالي إطالة عمر الفيروس في جسم المجتمع البشري، وتأخر استئصاله والقضاء عليه كلياً.

 

وهذه التصريحات الشديدة من المسؤولين في الإدارة الأمريكية تعكس حالة وظاهرة عامة تعاني منها بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بين السود من جهة وبين اليمين المتشدد من جهةٍ أخرى، وتتمثل في الإقبال الضعيف في هذه المدن لأخذ جرعة من اللقاح ضد فيروس كورونا، وهذا الاقبال الضعيف ضاعف من أعداد المرضى والوفيات من كورونا، مما اضطر البيت الأبيض إلى تبنى مدخل أكثر شدة وصرامة ضد الشائعات، والأخبار غير الصحيحة التي تُنشر في وسائل الاتصال الاجتماعي.

 

وهناك استطلاعات للرأي أُجريت مؤخراً تثبت هذا التردد، والشك، والعزوف من بعض الناس، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، تُشير استطلاعات الرأي التي أجرتها وكالة "ياهو نيوز"(Yahoo News/YouGov) ونُشرت في العشرين من يوليو من العام الجاري عن وجود أزمة حقيقية متمثلة في عزوف بعض الأمريكيين عن أخذ اللقاح، فقرابة 37% من الذين استطلعت آراؤهم ولم يأخذوا اللقاح بعد يعتقدون بأن اللقاح أكثر خطورة على صحتهم من الفيروس نفسه، وأسباب العزوف هي الخوف من الأعراض الجانبية، وفقدان الثقة في اللقاحات، والمعلومات الخاطئة والمضللة التي يطلعون عليها في وسائل الاتصال الاجتماعي. كذلك هناك البحث المنشور في 11 يناير 2021 في مجلة "طب الطبيعة"(Nature Medicine)تحت عنوان: "استطلاع دولي حول تقبل اللقاح الخاص بكوفيد_19"، حيث أَجرتْ الدراسة استطلاعاً للرأي في 19 دولة لقياس مدى قبول الناس للقاح، وقد خلصت الدراسة على أن 71.5% من الذين استُطلعتْ آراؤهم أفادوا بأنهم قد يتلقون اللقاح إذا ثبت بأنه آمن وفاعل ضد الفيروس، و 48.1% منهم قالوا بأنهم سيأخذون اللقاح في حال وجود توصية من جهة أعمالهم.

 

فربما هناك عدة أسباب تقف وراء نشر المعلومات المضللة، والأرقام الخاطئة، والاشاعات المغرضة حول فيروس كورونا، وبكل ما يتعلق به في منصات وسائل الاتصال الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام والنشر. وأود هنا التركيز على عاملين فقط، فالأول هو أن هذا الفيروس أخذ الإنسان على حين غرة، فنزل عليه فجأة واحدة دون سابق إنذار ودون أن يستعد له الإنسان لمواجهته والتصدي له، فانتشر في المجتمعات البشرية في كل شبرٍ صغير وكبير من دول العالم، سواء أكان قريباً من المستوطنات البشرية، أو بعيداً عنها في القطبين الشمالي والجنوبي، وفي أدغال الأمازون، وفي الصحاري القاحلة والنائية، كما أن هذا الفيروس بدأ غريباً وغامضاً منذ أن تم اكتشافه في ديسمبر 2019 وعاد غريباً تحيطها الأسرار كما كان عليه يوم ولادته. فمازال العلماء لا يُجمعون على مكان ولادته ومسقط رأسه ومنشأه، ومازال العلماء لا يجمعون على بروتوكول علاجي وخارطة طريق واحدة تُعْطي للمريض منذ إصابته وحتى الانتهاء من علاجه، ومازالت فاعلية بعض أنواع اللقاحات سرية والمعلومات شحيحة حولها وغير منشورة في المجلات العلمية المتخصصة، ومازال العلماء يتخبطون في تكرار أخذ جرعات اللقاح، فهل هي مرة، أو مرتين، أو مرة كل سنة، وهل تعطى للأطفال، وما هي نوعية اللقاح الذي يقي الإنسان؟ كذلك المسافة الآمنة للتباعد الاجتماعي، هل هي متراً واحداً أم مترين؟ فعدم الإجماع على هذه المعلومات الأساسية تثير الريبة عند الناس، وتؤدي إلى خلق الشكوك حول كل ما يتعلق بالفيروس، ثم التردد، أو العزوف كلياً عن أخذ اللقاح للحماية منه، كما تسمح في الوقت نفسه لكل من هبَّ ودب أن يفتي ويقدم الآراء والمعتقدات حول الفيروس والمرض، وينشر هذه الآراء الخاطئة والمضللة إلى الناس.

 

وأما العامل الثاني فهو عدم وجود جهة علمية دولية موثوقة، ومستقلة، وموضوعية تقوم بشكلٍ دوري بنشر المعلومات العلمية الموثقة المستندة إلى الأبحاث والدراسات، لكي تقطع الطريق أمام المعلومات الأخرى المضللة وغير العلمية. فمنظمة الصحة العالمية من المفروض أن تلعب هذا الدور، ولكنها منظمة دولية تخضع لمصالح وأهواء الدول العظمى المتنفذة ولا تستطيع الابتعاد عن سياساتها، وهذه الدول الكبرى هي التي لها الرأي الأخير عند اتخاذ القرار. وعلاوة على ذلك، فإن المنظمة نفسها أثارت الشكوك عند الناس، وفقدت مصداقيتها، وتزعزعت ثقة الناس بها عندما كانت تغير رأيها ومواقفها بين الحين والآخر حول مصدر الفيروس، وطرق العلاج، والجرعات المطلوبة من اللقاح، ووسائل وأدوات الحماية منه. وهناك مثال بسيط جداً أستطيع أن أُقدمه لكم، وهو متعلق بلبس الكمامة، وارتداء الواقي وغطاء الوجه.

  

فالكمامة التي تُعد الآن خط الدفاع الأول ضد الفيروس، وواحدة من أهم أدوات ووسائل منع الفيروس من الدخول في جسم الآن، واجهت عدة مراحل من القبول والرفض، ومن التشكيك في دوره وقدرته على حماية عامة الناس، وانتشرت الكثير من المعلومات حول الكمامة، بين مهاجمٍ على عدم فاعليته وتأثيره، وبين مدافع عن قوته في ردع الفيروس، وبين من يدَّعي فقط استخدام الطاقة الطبي لهذه الكمامة والأشخاص المصابين بالمرض.

 

فمنظمة الصحة العالمية نفسها لم يكن لها موقف محدد وواضح وثابت حول لبس الكمامة منذ اكتشاف الوباء، ففي المرحلة والأيام الأولى من الوباء لم تحث المنظمة، ولم تشجع عامة الناس على ارتدائها في الأماكن العامة والمغلقة، وأفادت بعدم وجود دليل علمي يؤكد فاعليتها في حماية الإنسان من الفيروس. ولكن بعد قرابة سبعة أشهر من ظهور الفيروس، وبالتحديد في السادس من يونيو 2020 قدَّمت المنظمة رأياً جديداً، وموقفاً مغايراً عما كان عليه في السابق، فحثت الناس على ارتداء الكمامة في الأماكن العامة، وأوصت بلبسها للحد من انتشار الفيروس، كما دعت الحكومات إلى تعميم لبس الكمامة على الناس. وقد برَّرت المنظمة موقفها الجديد من الكمامة إلى نشر دراسات جديدة تفيد بأن الكمامة نجحت في أن تُشكل حاجزاً منيعاً أمام الرذاذ المنطلق من الشخص المصاب الذي يحمل العدوى، أي أن الكمامة تقي الإنسان من الفيروس.

 

فوسط هذا الجو الغامض المحيط بالفيروس، وعدم وجود رأي دولي موحد حول المرض والفيروس المسبب له، تنشأ المعلومات المضللة، وتجد فيه البيئة الخصبة والمناسبة لكي تنمو، وتزدهر، وتنتشر عند عامة الناس.

 

الأربعاء، 21 يوليو 2021

نظرية تسرب الفيروس تظهر من جديد


بالرغم من مرور أكثر من 21 شهراً على انكشاف هذا الوباء الفيروسي العقيم في مدينة ووهان في الصين، إلا أن أسرار وغموض هذا الفيروس ومصدره ومسقط رأسه أكثر من علم الإنسان ومعرفته بالحقائق الموثوقة حوله وبالأدلة القاطعة التي تؤكد كيفية وصوله إلى الإنسان. فالنظريات حول هذا الفيروس الغامض أكثر من الحقائق، والفرضيات التي تَظْهر بين الحين والآخر لتفسير منشأ الفيروس أكثر مما يجمع عليه العلماء كحقائق علمية لا جدال فيها.

 

فمنذ دخول فيروس كورونا إلى عالم البشر، وبالتحديد منذ ديسمبر 2019 حسب معظم الفرضيات، فالنظرية الرسمية السائدة والمعترف بها دولياً هي أن ولادة الفيروس كانت في سوق هونان للأحياء البحرية في مدينة ووهان الصينية، ومن هناك انتقل عبر الخفاش، أو حيوان آخر وسيط إلى الإنسان. ولكن هذه النظرية لم تصمد طويلاً أمام المجتمع العلمي الدولي، فبدأت نظرية المؤامرة، أو فرضيات أخرى تخرج فوق السطح، وبخاصة بعد أن ماطلت الصين في السماح لفريق التحقيق الدولي لمنظمة الصحة العالمية من الدخول إلى الصين، وعملت عمداً على تأخير موعد وصول الفريق والبدء في مهمة التحقيق والبحث عن مسقط رأس ومنشأ الفيروس. فهذه الممارسات من الصين رفعت مستوى الشك في نظرية نشوء الفيروس من سوق الأحياء البحرية، وزادت من تبني العلماء ورجال السياسة للنظريات الأخرى، وبالتحديد نظرية تسرب الفيروس من مختبر "معهد ووهان لعلم الفيروسات".

 

فقد جاءت استنتاجات التقرير الختامي لفريق التحقيق الدولي التابع لمنظمة الصحة العالمية في 30 مارس 2021 متوافقة مع الرأي السائد حول الفيروس، ولكن في الوقت نفسه دون إغلاق الباب كلياً أمام نظرية احتمال تسرب الفيروس من المختبر في الصين، ودون إهمال هذه النظرية وتجاهلها تماماً، حيث قدَّم التقرير إشارة إليها، فجاء فيه بأن نظرية التسرب هي الأقل ترجيحاً، وأنها "جداً غير محتملة". كما جاءت إشارة أقوى، وأكثر وضوحاً حول نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان من المدير العام للمنظمة عندما قال بأنه بالرغم من أن التسرب في المختبر هو السبب الأقل احتمالاً، إلا أن هناك حاجة لمزيد من البحث المكثف، ومن التحقيق الدقيق لاستبعاده، كما أضاف بأنه: "فيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية فإن جميع الفرضيات مطروحة على الطاولة".

 

أما الإشارة الأكثر صراحة والأبعد عن اللغة الدبلوماسية المعهودة، والأشد توجهاً نحو احتمالية وقوع التسرب المخبري للفيروس والدعوة إلى البحث بفاعلية فيها، فقد وردت أيضاً على لسان مدير عام منظمة الصحة العالمية، حيث اعترف في 15 يوليو من العام الجاري في مؤتمر صحفي عُقد في برلين بأنه كان من المبكر والسابق لأوانه استبعاد نظرية تسرب فيروس كورونا من أحد المختبرات الصينية، أي بعبارة أخرى فإن منظمة الصحة العالمية لا تستبعد فرضية العلاقة بين نزول وباء كوفيد_19 وهروب الفيروس من المختبر. فقد قال مدير عام المنظمة:" "كانت هناك ضغوط سابقة لأوانها لاستبعاد فرضية أن الفيروس تسرب من مختبر حكومي صيني في ووهان". كما حث الصين، ولأول مرة يجرؤ مدير عام المنظمة على ذلك، قائلاً: "المنظمة تسأل الصين لتكون أكثر شفافية وأشد انفتاحاً وتعاوناً، خاصة بالنسبة للمعلومات الأولية والبيانات الأساسية التي طلبناها في الأيام الأولى من انكشاف الوباء". كذلك قال أيضاً في هذا اللقاء مُشيراً إلى تجربته الشخصية في العمل في المختبرات الحيوية بأن: "حوادث المختبرات قد تقع، وهي شائعة، ومن المهم النظر في مختبراتنا لمعرفة ما حدث، فنحن نحتاج إلى معلومات، معلومات مباشرة حول وضع المختبر وحالته قبل وعند بدء الوباء".

وعلاوة على هذا التصريح الفريد من رئيس المنظمة والذي أغضب الصين كثيراً، فقد جاءت دعوات أخرى من المنظمة للتحقيق في نظرية التسرب وأصل هذا الفيروس الغامض، حيث دعا مدير عام المنظمة في لقائه مع مندوبي الدول الأعضاء في المنظمة في 16 يوليو إلى تنظيم زيارة أخرى للصين للتدقيق في أنشطة المختبر، ومحاولة معرفة منشأ الفيروس، كما حدد خمس أولويات للتحقيق، من بينها التدقيق على المختبرات ومعاهد الأبحاث الموجودة في منطقة خروج الحالة الأولى للمرض في ديسمبر 2019، إضافة إلى دراسة أسواق الحيوانات في مدينة ووهان التي انكشف فيها المرض، كما أعلن المدير العام عن تشكيل مجموعة استشارية علمية دولية دائمة حول منشأ الأمراض الجديدة"( International Scientific Advisory Group for Origins of Novel Pathogens (Sago))، وذلك حسب ما ورد في صحيفة الجارديان والمحطة الإخبارية الأمريكية سي إن إن في 16 يوليو.

وقبل هذه الدعوات والتصريحات الصريحة والقوية من منظمة الصحة العالمية حول إمكانية هروب فيروس كورونا من مختبر الفيروسات في ووهان، فقد كانت هناك عدة تصريحات واضحة من رجال الحكم والسياسة وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي السابق ترمب، حيث أعلن في الأول من مايو 2020 من البيت الأبيض بأن الفيروس نتج من مختبر صيني، ولكن دون تقديم أي دليل يُثبت ادعاءه، ولكنه قال في إجابته على أحد الصحفيين أثناء اللقاء في البيت البيض: "لا أستطيع إخبارك بذلك، ليست لدي الصلاحية لإخبارك". كما سمعتُ صدى صوت هذه التصريحات من مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق عندما قال في لقائه مع "إي بي سي" بأن هناك "عدداً هائلاً من الأدلة" على أن فيروس كورونا تسرب من مختبر في مدينة ووهان. وجدير بالذكر فإن هذه التصريحات من الحكومة الأمريكية لا تتماشى ولا تتفق مع استنتاجات أجهزة المخابرات الأمريكية. فقبل اللقاء في البيت الأبيض، أصدر مكتب مدير المخابرات القومية بياناً بأن مجتمع المخابرات في الولايات المتحدة الأمريكية وصل إلى استنتاج بأنه: "يتوافق مع الإجماع العلمي بأن الفيروس المسبب لمرض كوفيد_19 لم يكن من صنع البشر أو محور جينياً"، كما جاء في البيان بأن: "مجتمع المخابرات سيستمر في فحص وتدقيق المعلومات لتحديد ما إذا كان الوباء نشأ من التعرض لحيوانات معدية، أو نتيجة لحادث وقع في المختبر في ووهان".

ونتيجة لهذا التضارب في الآراء حول مصدر الفيروس بين الحكومة الأمريكية وأجهزة المخابرات، فقد أمر الرئيس بايدن في 26 مايو 2021 كافة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لمراجعة نظرية التسرب وجمع المعلومات حولها، كما طلب منهم مضاعفة الجهود وتقديم التقرير في غضون 90 يوماً، أي في نهاية أغسطس من العام الجاري. وجدير بالذكر فإن وسائل الإعلام الأمريكية بدأت بتسريب بعض المعلومات المتداولة بين الأجهزة الأمنية المكلفة ببحث نظرية التسرب، حيث أفادت الـ سي إِن إِن في 16 يوليو من العام الجاري بأن بعض المسؤولين في إدارة بايدن المتابعين لأعمال الأجهزة الأمنية، يميلون الآن نحو الاقتناع بمصداقية نظرية تسرب الفيروس من معهد ووهان لعلم الفيروسات.

 

والآن لو ثبتت بالفعل علمياً نظرية تسرب الفيروس من المختبر الصيني، فستظل هناك ألغاز أخرى وأسرار غامضة لا بد من كشف الغطاء عنها، مثل: هل كان هذا الفيروس موجوداً طبيعياً وتسرب عرضياً، أي عن طريق وقوع حادثٍ غير متعمد من المختبر؟ أو هل هذا الفيروس تم التلاعب فيه باستخدام تقنية الهندسة الوراثية، فتم تحويره جينياً، ثم تسرب بالخطأ من المختبر؟ أو هل هذا الفيروس جزء من الأسلحة البيولوجية التي تجربها الصين، أو أية دولة أخرى؟

 

فالقضية إذن معقدة، ومتشابكة، وليست علمية كلياً، وإنما دخلت فيها التجاذبات والأهواء والمصالح السياسية بين منظمة الصحة من جهة، وبين الصين والدول الغربية وعلى رأسها أمريكا من جهة أخرى، وفي تقديري فلن تظهر الحقيقة أبداً حول هذا الفيروس، وستبقى القضية غامضة ويحيطها المجهول.

الاثنين، 19 يوليو 2021

تصرف بريء يسبب أزمة عصيبة


صادفتني هذه التغريدة الغريبة المنشورة في التويتر في التاسع من يوليو من العام الجاري من إدارة الموارد الطبيعية في مدينة(Burnsville) في ولاية مينيسوتا الأمريكية، فلفتت انتباهي وفضولي في سبر غورها والتعرف عن كثب على كافة الأمور المتعلقة بها. فالتغريدة كانت ترجو المواطنين في هذه المدينة، وتدعوهم إلى تجنب القيام بممارسة بسيطة جداً قد يقوم بها البعض دون أي تفكير بوجود عواقب وخيمة قد تنجم عنها، وتحذرهم في الوقت نفسه من خطورة مثل هذه التصرفات على البيئة والإنسان على حدٍ سواء.

 

فقد جاء في التغريدة: "رجاءً لا تُطْلق سمكتُك الذهبية في البرك والبحيرات"، كذلك أضافت التغريدة معلومات عن التهديدات التي تمثلها هذه الممارسات البسيطة والبريئة المتمثلة في إطلاق هذه السمكة التي يزين فيها الناس أحواضهم المائية في البيئات والمسطحات المائية الطبيعية العذبة، حيث قالت التغريدة:" هذه الأسماك تنمو أكثر وأكبر مما تتوقع ومما تظن، وتُسهم في زيادة عكارة المياه وضعف مستوى الرؤية فيها، وتفسد جودتها بتلويث وتقليب التربة القاعية وإقلاع النباتات من جذورها بحثاً عن الأكل. فمجموعة من هذه الأسماك الذهبية الكبيرة وُجدت حديثاً في بحيرة كيلر".

 

فهذه المدينة تطلب الفزعة السريعة من الناس، والتعاون مع السلطات المحلية بالاحتفاظ بأسماكهم الذهبية(Goldfish) التي يربونها في أحواضهم المائية فتزين الحوض وتعطي لها ألواناً زاهية وجميلة منها الأحمر والأصفر والبرتقالي، وتحثهم بشدة إلى عدم إلقائها في المسطحات المائية العذبة من برك وبحيرات حول المدينة.

 

فيا تُرى ما هو الخطب الجلل الذي يقف وراء هذا الطلب المـُلِحْ والعاجل؟

وكيف لهذه السمكة البريئة والجميلة والملونة الموجودة في منازل الكثير من الناس أن تُشكل تهديداً حقيقياً للمسطحات المائية والحياة الفطرية فيها؟

 

في الحقيقة فإن هذه السمكة تدخل ضمن قضية شائكة ومعقدة وخطيرة جداً على الكائنات الحية الفطرية من جهة، وعلى الإنسان من جهة أخرى، وهي قضية عامة تعاني منها كل الدول بدون استثناء، ولكن بدرجاتٍ متفاوتة، ويُطلق عليها "الغزو الإحيائي"، أو غزو أحد الكائنات الحية النباتية، أو الحيوانية لبيئة أجنبية غريبة عليها، فلم تستوطنها من قبل، ولم تعش فيها هي أو أحد أفراد عائلتها، ولذلك فهذا الكائن الحي عندما يغزو هذه البيئة الجديدة عليه، فإنه يسبب مشكلات مزمنة تنعكس على الكائنات الحية الأخرى التي سكنت هذه البيئة عبر أجيالٍ متلاحقة وفترة زمنية طويلة، فتكيفت تلك الكائنات الحية مع ظروف تلك البيئة، وتأقلمت مع الكائنات الحية الأخرى التي تسكن معها طوال تلك الفترة الطويلة، وكوَّنَتْ علاقة قوية متبادلة المنافع بينهما، وأنشئت نظاماً بيئياً متماسكاً ومنتجاً يعيش فيه كل كائن حي في أمنٍ وسلام، وتوازن دقيق مع الكائنات الحية الأخرى ضمن سلسلة غذائية متوازنة ومستدامة. وبالتالي فدخول هذا الكائن الأجنبي الغريب والدخيل على هذه البيئة يؤدي إلى إحداث خللٍ في النظام البيئي العام، ويسبب خرقاً وكسراً للسلسلة الغذائية المتوازنة، فيقوم بافتراس الكائنات الحية الأخرى، ثم رويداً رويداً يؤدي إلى القضاء عليها، والهيمنة الكلية والسيطرة التامة على كافة الكائنات الحية التجارية وغير التجارية التي كانت أصلاً موجودة في تلك البيئة، ويعيش عليها الناس كمصدر للغذاء، مما ينعكس سلباً وعلى المدى البعيد على الأمن الغذائي لهذه المدن.

 

فهذه السمكة الذهبية التي جاءت من الصين، أي من بيئةٍ تختلف كلياً عن بيئة البحيرات في أمريكا، بعد إطلاقها من الأحواض المائية المغلقة والصغيرة، أو من مزارع الأسماك، أو غيرهما من المصادر الأخرى، فقامت بغزو هذه البيئات الجديدة، وفاجأت العلماء والناس بصفاتها الخبيثة وغير المرغوبة فيها عندما انتقلت إلى هذه البيئات الطبيعية. فهذه السمكة الأليفة والبريئة في مظهرها الجميل والزاهي، تختلف في أنماط تكاثرها ونموها في البيئة الطبيعية مقارنة في بيئة الأسر الضيقة في الأحواض المائية الصغيرة، فهي تتكاثر بسرعة شديدة في البرك والبحيرات المفتوحة وفي فترة زمنية قصيرة، فيزيد وزنها وطولها إلى درجةٍ كبيرة غير متوقعة، حتى أن طولها يصل إلى قرابة 46 سنتيمتراً، ووزنها إلى نحو 4 كيلوجرامات، كما أن الله أمَّد في عمرها فتعيش قرابة أربعة عقود، إضافة إلى قدرتها الكامنة الفطرية على التكيف والتأقلم دون أي تأثير عليها من الظروف المائية الصعبة كارتفاع حرارة المياه، أو انخفاض نسبة الأكسجين الذائب في الماء، أو ارتفاع حموضة المياه بسبب التغير المناخي. فهذه السمكة بمقدورها العيش في جميع الظروف القاسية ومقاومة كل هذه التغييرات السلبية عليها. ولذلك فهي مع الوقت تتحول بالنسبة لأسماك البحيرات الأصيلة والمستوطنة إلى غولٍ كبير، ووحش مفترس يلتهم باقي الأسماك، ويغير كلياً النظام البيئي والسلسلة الغذائية الموجودة هناك منذ آلاف السنين. 

 

وهذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، فيمكن مشاهدتها في بحيرة واحدة فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما انتقلت عدوى هذا الغزو الأحيائي الأجنبي إلى بحيرات كثيرة أخرى، أي تحولت هذه الظاهرة إلى حالة بيئية عامة تعاني منها معظم بحيرات وبرك أمريكا، بل وإن نطاقها الجغرافي اتسع إلى خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن الحكومة الكندية أيضاً منذ عام 2015 تُرسل رسائل تحذيرية قوية إلى مواطنيها تنبههم إلى هذا الغزو الأجنبي الجديد.   

 

ونظراً لخطورة وجود مثل هذه الكائنات الغازية والأجنبية على البيئات المحلية، وتأثيراتها السلبية المشهودة على النظام البيئي في المسطحات المائية العذبة في مدن أمريكية كثيرة، فقد شمَّرتْ كل هذه المدن عن ساعديها، وتعاونت مع بعض، ونسَّقت جهودها لمواجهة هذا التهديد الواقعي، ومحاربة هذا الخطر الحقيقي المستمر منذ سنوات.

 

فهذه المصيبة التي وقعت في البيئة المائية في أمريكا وكندا ودول أخرى كثيرة هي بسبب أعمالٍ بريئة وسهلة قُمنا بها، ونقوم بها كل يوم، فهي كلها تبدو في شكلها السطحي الظاهري بريئة كلياً ولا غبار عليها ولا تأثير لها، ولكن تأَكَدَ بعد حينٍ من الدهر بأن هذه التصرفات التي نحسبُها بسيطة، ظاهرها فيها الرحمة والنية الحسنة، وباطنها وداخلها العذاب والمشقة والهلاك للإنسان وبيئته.

 

الأربعاء، 14 يوليو 2021

الأمن المائي يصعد إلى مجلس الأمن الدولي

صدر تقرير سري في الثاني من فبراير 2012 من مكتب مدير المخابرات القومية(Office of the Director of National Intelligence) في الولايات المتحدة الأمريكية، وأعده المجلس الوطني للمخابرات( National Intelligence Council) بالتعاون مع 16 وكالة أمنية استخباراتية أخرى تحت عنوان: "الأمن المائي الدولي: تقييم المجتمع الاستخباراتي" (Global Water Security: The Intelligence Community Assessment ). وقد تم إعداد هذا التقرير بطلب من وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون لمكتب المخابرات القومية من أجل عمل تقييمٍ شامل حول التأثيرات المحتملة لقضايا وتحديات المياه الدولية على الأمن القومي الأمريكي خلال الثلاثين سنة القادمة، إضافة إلى التعرف على دور هذه التحديات المائية على الأمن والاستقرار على المستوي القومي للدول، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، وإمكانية حدوث نزاعات وحروب بين الدول على الثروات والمصادر المائية المشتركة.

 

وفي 22 مارس 2012 تم رُفع غطاء السرية عن التقرير، ونَشَر مكتب مدير المخابرات القومية هذا التقرير المختص بالأمني المائي على الشعب الأمريكي. وقد خَلُص التقرير إلى عدة استنتاجات منها ما تتحقق الآن، ونراها ماثلة أمامنا، كالخلاف العميق القائم بين أثيوبيا من جهة، ومصر والسودان من جهة أخرى على بناء سد النهضة، بل وقد توسع الخلاف ليغطي دول المنْبع كلها من جهة، ودول المصب لنهر النيل من جهة أخرى، ويمكن تقديم هذه الاستنتاجات التي تمخضت عن التقرير باختصار في النقاط التالية:

أولاً: خلال العشر سنوات القادمة فإن المشكلات المائية ستُسهم في حالة عدم الاستقرار في الدول الهامة لمصالح الأمن الأمريكي.

ثانياً: نتيجة للضغوط السكانية والنمو الاقتصادي، فإن دول شمال أفريقيا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا ستواجه تحديات كبيرة لمواجهة المشكلات المائية.

ثالثاً: ندرة المياه، وتدهور نوعيتها، ونزول الفيضانات لا تؤدي لوحدها إلى سقوط الحكومات، ولكن المشكلات المائية هذه إضافة إلى مشكلة الفقر، والضغوط الاجتماعية، وتدهور البيئة، وعدم فاعلية القيادة، وضعف المؤسسات السياسية، كلها مع بعض ستُسهم في وقوع النزاعات والتوترات الاجتماعية التي تؤدي جميعها إلى سقوط الدول. وعلاوة على ذلك فإن هناك دولاً تتفاقم عندها المشكلة المائية بسبب اعتمادها على مياه النهر الذي يتم التحكم فيه من دول المنبع، والتي لم تحل بينها قضية المشاركة وتخصيص حصة المياه لكل منها.

 

فهذا التقرير الاستخباراتي الغني بالمعلومات، والثري بالاستنتاجات الواقعية الحية والصادر عن أجهزة الأمن الاستخباراتية الأمريكية، بحاجة إلى أن نقف أمامها، ونحلل استنتاجاتها على واقعنا الحالي، وبالتحديد بالنسبة لبؤرة التوتر المائي الحالي بين مصر والسودان ضد أثيوبيا.

 

فقد رفَعتْ كل من مصر والسودان قضية الخلاف حول تعبئة سد النهضة في أثيوبيا إلى "مجلس الأمن" مما يعني أن قضية مياه نهر النيل تحولت إلى قضية أمنية بحتة يجب معالجتها قبل أن تتحول إلى نزاع مسلح، وأعمال عسكرية تهدد الأمن في تلك المنطقة.

 

فكما يعلم الجميع بأن مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة يُعد أحد أهم أجهزة الأمم المتحدة الستة التي أُنشئت لحفظ السلام والأمن الدوليين، وبموجب ميثاق الأمم المتحدة، يضطلع مجلس الأمن بتسع مهمات وصلاحيات منها المحافظة على السلام والأمن الدوليين وفقاً لمبادئ الأمم المتحدة، والتحقيق في أي نزاع، أو حالة قد تفضي إلى خلاف دولي، إضافة إلى تقديم توصيات بشأن تسوية تلك المنازعات، أو بشأن شروط التسوية. ولكل دولة الحق في تقديم النظر في أية منازعات أو حالات تهدد السلام والأمن الدوليين.

 

فطلب مصر والسودان لمجلس الأمن لمناقشة القضية المائية المتعلقة بسد النهضة تؤكد إذن تخطي هذه القضية للمرحلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وتحولها إلى المرحلة الأمنية الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم بين الدول المعنية، وربما ستدخل فيها دول أخرى لاحقاً. بل وإن وزير الخارجية المصري بدأ يدق طبول الحرب عندما صرح في السابع من يوليو قائلاً بأن الدولة المصرية، وعلى رأسها القيادة السياسية، تولى اهتماماً وأولوية قصوى بقضية سد النهضة، نظراً لاتصالها المباشر بالأمن القومي المصري، وتعمل جميع أجهزة الدولة لتناول الأبعاد المختلفة لهذه القضية، فهذه قضية وجودية لا يمكن التهاون فيها، فلدينا القدرة والإمكانيات للاستمرار في الدفاع عن الشعب المصري ومقدراته، ثم أكد على هذه التصريحات وزير الدفاع قائلاً في كلمة له خلال لقائه مع الضباط المعينين لتولي الوظائف القيادية بالقوات المسلحة بأن "القوات المسلحة بما تمتلكها من قدرات قتالية، وأسلحة متطورة في كافة التخصصات، قادرة على ردع كل من تسول له نفسه المساس بأمن مصر ومقدرات الشعب المصري"، كما أضاف أن "الدفاع عن الوطن وحماية أمنه القومي مهمة مقدسة تتطلب الاستعداد القتالي الدائم وبناء القوة القادرة على مواجهة التحديات".

 

فهذه الأزمة المائية والتوتر الحاد الذي نشهده اليوم بين مصر والسودان وأثيوبيا والذي نبهتُ إلى وقوعه في المقال الذي نشرته في التاسع من يونيو 2013 تحت عنوان:" صراعات حتمية على المياه من واقع الأزمة المصرية الأثيوبية"، ما هو إلا حالة واحدة، ومثال واقعي حي من بين أمثلة كثيرة تؤكد على أن عدم إدارة الموارد والمصادر المائية بطريقة عادلة ومستدامة قد تكون سبباً في إشعال الأزمات بين الدول، وقد تؤدي إلى نشوب الحروب بينها، إذا لم تصل الأطراف المعنية إلى حلٍ يرضيهم ويبعدهم عن شبح الحرب والاقتتال الذي لن ينتصر فيه أحد.

 

ولذلك أُنبه إلى ضرورة الاهتمام في البحرين بما تبقى لدينا من موارد مائية عذبة ومالحة من الناحيتين الكمية والنوعية من خلال تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للمياه، حتى نُجنب أنفسنا الوقوع في عدم الاستقرار السياسي والأمني بسبب نُدرة الماء أو تدهور جودته.

 

الاثنين، 12 يوليو 2021

التلوث لا يموت!


ربما تتذكرون قضية إضافة مركبات الرصاص العضوية مثل رباعي إيثيل الرصاص ورباعي ميثيل الرصاص إلى وقود السيارات، وبالتحديد إلى الجازولين أو المعروف بالبنزين، وذلك بهدف رفع فاعلية محرك السيارة، وزيادة كفاءة التشغيل، وتحسين أداء الوقود، ولكن بعد أكثر من خمسين عاماً من إضافة مركبات الرصاص، تأكد للعلماء وأجمعوا على أن هناك أضراراً صحية كبيرة تظهر على الإنسان، وبخاصة الأطفال والشباب وتنجم عن الرصاص بعد انبعاثه من عوادم السيارات، مما أدى إلى منع إضافته في البنزين منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم في بعض دول العالم المتقدم والصناعي، ثم تبعته دولنا بعد أكثر من عشرين عاماً، والآن معظم دول العالم تُنتج البنزين الخالي من الرصاص.

 

ولذلك من المفروض، ومن المنطق أن مع إزالة الرصاص من وقود السيارات، وهو المصدر الرئيس للرصاص في الهواء وفي تربة الشوارع المزدحمة، يكون تركيزه آخذ في الانخفاض تدريجياً مع الزمن، حتى ينتهى وجوده في الهواء الجوي وفي تربة الشوارع بشكلٍ كلي. ولكن هذه الفرضية أثبت العلماء عدم مصداقيتها، وعدم واقعيتها، فالرصاص الذي كان يُضاف إلى جازولين السيارات ثم توقفت عملية إضافته قبل عدة عقود، مازال يسرح ويمرح في بيئتنا، وبخاصة في الهواء الجوي وفي غبار وتربة الشوارع.

 

فالدراسات الميدانية التي أُجريت مؤخراً، وبالتحديد الدراسة المنشورة في 29 يونيو 2021 في مجلة أمريكية إسمها وقائع الأكاديمية القومية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences) والتي قامت بها "كلية إمبريال" اللندنية المشهورة، مع جامعات ومراكز أبحاث من عدة دول حول العالم، تحت عنوان: "دليل دامغ حول الإسهام المستمر للرصاص المترسب على التربة في القرن المنصرم إلى الهواء الجوي في لندن اليوم"، أكدت بأن هذا الرصاص القديم الذي كان يوضع في جازولين السيارات موجود بتراكيز مرتفعة نسبياً في هواء وتربة شوارع لندن بعد أكثر من نحو ثلاثين عاماً من التخلص التام منه!  

 

فبالرغم من أن تركيز الرصاص الناتج من عوادم السيارات في الهواء انخفض بدرجة ملحوظة في شوارع لندن، حسب نتائج هذه الدراسة، إلا أن جسيمات الرصاص مازالت موجودة في الهواء بنسب أعلى من المستوى "الطبيعي"، وأعلى من تركيز الرصاص في الهواء في المناطق التي لا تزدحم فيها المركبات. فالدراسة عن طريق البحث في نظائر الرصاص ومقارنة تركيز الرصاص في السنوات الماضية، أفادت بأن 40% من نسبة الرصاص في الهواء الجوي الحالي في لندن مصدره الرصاص الذي كان يوضع في الجازولين قبل زهاء 30 عاماً، أي أن الرصاص مازال حياً ينبض بالحياة، ومازال يؤثر على الصحة العامة، ويضر بسلامة الناس. كما أن الدراسة تؤكد على حقيقة "دورة الرصاص"، فالرصاص الذي كان ينبعث من السيارات، انتقل إلى الهواء الجوي وكوَّن جسيمات الرصاص المتناهية في الصغر، ثم ظل عالقاً في الهواء حتى زاد وزنه مع الوقت فترسب إلى الأرض، إما بالترسب الجاف أو الرطب مع الأمطار والثلوج، وبدأ يتراكم في غبار وتربة الشوارع، ثم عن طريق الرياح والحركة المرورية للسيارات في الشوارع تطاير مرة ثانية إلى الهواء، وهكذا تتكرر وتتواصل دورة الرصاص، ويبقى خالداً مخلداً في بيئتنا.

 

وظاهرة خلود بعض الملوثات في مكونات بيئتنا لا تنطبق على الرصاص فحسب، وإنما على الكثير من أنواع الملوثات الأخرى. فبشكلٍ عام، فإن المواد الكيميائية عندما تدخل في عناصر بيئتنا من ماءٍ وهواء وتربة، فإن بعضها يتحلل عن طريق الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في البيئة، والبعض الآخر يتحلل تحت تأثير الضوء والحرارة والرطوبة والعوامل المناخية الأخرى، ولكن البعض الآخر من الملوثات لا يتحلل كلياً فيبقى مئات، أو آلاف السنين دون أن يطرأ عليه أي تغيير، فيتراكم في البيئة، ويُشكل ظواهر بيئية تهدد حياة الإنسان والكرة الأرضية برمتها. فعلى سبيل المثال، ظاهرة الاحتباس الحراري، أو التغير المناخي تنتج من انطلاق ملوثات كثيرة على رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يبقى فترة طويلة دون أن يتحلل، فينتقل إلى السماء العليا ويُكون طبقة عازلة تمنع انتشار الأشعة تحت الحمراء التي تنعكس من سطح الأرض من العُروج في أعالي السماء، فتقوم بحبس هذه الحرارة في تلك الطبقة، مما يؤدي إلى سخونة الأرض وارتفاع درجة حرارتها وحدوث التغيرات المناخية.  

 

ومن جانب آخر هناك من هذه الملوثات المستقرة وغير المتحللة التي تعرج في السماء العليا فتؤثر على الطبقات المرتفعة فوق سطع الأرض، مثل طبقة الأوزون، أو طبقة الاستراتسفير وتوقع أضرارها هناك، مثل مركبات الفلورين العضوية المعروفة بالفريون أو مركبات الـ سي إف سي التي لا يحدث عليها أي تغيير في طبقات الجو السفلى كطبقة التروبسفير، وإنما تتحلل في طبقة الأوزون المرتفعة، وتحدث خللاً عظيماً في تلك الطبقة، وينجم عنه انخفاضَ تركيز غاز الأوزون الذي يعمل على امتصاص الأشعة البنفسجية القاتلة ويمنعها من الوصول إلى سطح الأرض.

 

كذلك هناك من الملوثات التي بعد انطلاقها إلى الهواء الجوي، أو إلى المسطحات المائية تقوم بالتحول إلى ملوث آخر أشد شراسة وأكبر فتكاً بصحة الإنسان كالزئبق الذي يتحول من الزئبق اللاعضوي إلى الزئبق العضوي في التربة القاعية للبحر، وهناك يبدأ رويداً رويدا في التراكم في السلسلة الغذائية البحرية حتى يصل إلى الإنسان عندما يتغذى على الأسماك الملوثة، فيُوقع له كارثة بيئية عقيمة، ككارثة مرض ميناماتا الذي نزل على الشعب الياباني في الخمسينيات من القرن المنصرم. وفي حالات أخرى يتفاعل الملوث الذي ينتقل إلى الهواء مع ملوثات أخرى موجودة في الهواء فيكون ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، التي هي عبارة عن سحب صفراء بارزة للعيان ولا يمكن أن تخفى على أحد، وتحتوي هذه السحب على خليط سام وقاتل من عشرات الملوثات، فتكشف عن نفسها في طبقات الجو السفلى التي يتعرض لها الإنسان.  

 

فكل هذه الأمثلة الحية الواقعية تحذرنا وتنبهنا إلى ضرورة التعامل السليم مع الملوثات، وإدارتها بطريقة مستدامة، وتجنب صرفها إلى البيئة إلا بعد معالجتها والتخلص منها كلياً قبل ولوجها إلى مكونات بيئتنا، فهي إذا دخلت إلى بيئتنا فلن تموت أبداً، وستصل إلينا عاجلاً أم آجلاً، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة.