الاثنين، 19 يوليو 2021

تصرف بريء يسبب أزمة عصيبة


صادفتني هذه التغريدة الغريبة المنشورة في التويتر في التاسع من يوليو من العام الجاري من إدارة الموارد الطبيعية في مدينة(Burnsville) في ولاية مينيسوتا الأمريكية، فلفتت انتباهي وفضولي في سبر غورها والتعرف عن كثب على كافة الأمور المتعلقة بها. فالتغريدة كانت ترجو المواطنين في هذه المدينة، وتدعوهم إلى تجنب القيام بممارسة بسيطة جداً قد يقوم بها البعض دون أي تفكير بوجود عواقب وخيمة قد تنجم عنها، وتحذرهم في الوقت نفسه من خطورة مثل هذه التصرفات على البيئة والإنسان على حدٍ سواء.

 

فقد جاء في التغريدة: "رجاءً لا تُطْلق سمكتُك الذهبية في البرك والبحيرات"، كذلك أضافت التغريدة معلومات عن التهديدات التي تمثلها هذه الممارسات البسيطة والبريئة المتمثلة في إطلاق هذه السمكة التي يزين فيها الناس أحواضهم المائية في البيئات والمسطحات المائية الطبيعية العذبة، حيث قالت التغريدة:" هذه الأسماك تنمو أكثر وأكبر مما تتوقع ومما تظن، وتُسهم في زيادة عكارة المياه وضعف مستوى الرؤية فيها، وتفسد جودتها بتلويث وتقليب التربة القاعية وإقلاع النباتات من جذورها بحثاً عن الأكل. فمجموعة من هذه الأسماك الذهبية الكبيرة وُجدت حديثاً في بحيرة كيلر".

 

فهذه المدينة تطلب الفزعة السريعة من الناس، والتعاون مع السلطات المحلية بالاحتفاظ بأسماكهم الذهبية(Goldfish) التي يربونها في أحواضهم المائية فتزين الحوض وتعطي لها ألواناً زاهية وجميلة منها الأحمر والأصفر والبرتقالي، وتحثهم بشدة إلى عدم إلقائها في المسطحات المائية العذبة من برك وبحيرات حول المدينة.

 

فيا تُرى ما هو الخطب الجلل الذي يقف وراء هذا الطلب المـُلِحْ والعاجل؟

وكيف لهذه السمكة البريئة والجميلة والملونة الموجودة في منازل الكثير من الناس أن تُشكل تهديداً حقيقياً للمسطحات المائية والحياة الفطرية فيها؟

 

في الحقيقة فإن هذه السمكة تدخل ضمن قضية شائكة ومعقدة وخطيرة جداً على الكائنات الحية الفطرية من جهة، وعلى الإنسان من جهة أخرى، وهي قضية عامة تعاني منها كل الدول بدون استثناء، ولكن بدرجاتٍ متفاوتة، ويُطلق عليها "الغزو الإحيائي"، أو غزو أحد الكائنات الحية النباتية، أو الحيوانية لبيئة أجنبية غريبة عليها، فلم تستوطنها من قبل، ولم تعش فيها هي أو أحد أفراد عائلتها، ولذلك فهذا الكائن الحي عندما يغزو هذه البيئة الجديدة عليه، فإنه يسبب مشكلات مزمنة تنعكس على الكائنات الحية الأخرى التي سكنت هذه البيئة عبر أجيالٍ متلاحقة وفترة زمنية طويلة، فتكيفت تلك الكائنات الحية مع ظروف تلك البيئة، وتأقلمت مع الكائنات الحية الأخرى التي تسكن معها طوال تلك الفترة الطويلة، وكوَّنَتْ علاقة قوية متبادلة المنافع بينهما، وأنشئت نظاماً بيئياً متماسكاً ومنتجاً يعيش فيه كل كائن حي في أمنٍ وسلام، وتوازن دقيق مع الكائنات الحية الأخرى ضمن سلسلة غذائية متوازنة ومستدامة. وبالتالي فدخول هذا الكائن الأجنبي الغريب والدخيل على هذه البيئة يؤدي إلى إحداث خللٍ في النظام البيئي العام، ويسبب خرقاً وكسراً للسلسلة الغذائية المتوازنة، فيقوم بافتراس الكائنات الحية الأخرى، ثم رويداً رويداً يؤدي إلى القضاء عليها، والهيمنة الكلية والسيطرة التامة على كافة الكائنات الحية التجارية وغير التجارية التي كانت أصلاً موجودة في تلك البيئة، ويعيش عليها الناس كمصدر للغذاء، مما ينعكس سلباً وعلى المدى البعيد على الأمن الغذائي لهذه المدن.

 

فهذه السمكة الذهبية التي جاءت من الصين، أي من بيئةٍ تختلف كلياً عن بيئة البحيرات في أمريكا، بعد إطلاقها من الأحواض المائية المغلقة والصغيرة، أو من مزارع الأسماك، أو غيرهما من المصادر الأخرى، فقامت بغزو هذه البيئات الجديدة، وفاجأت العلماء والناس بصفاتها الخبيثة وغير المرغوبة فيها عندما انتقلت إلى هذه البيئات الطبيعية. فهذه السمكة الأليفة والبريئة في مظهرها الجميل والزاهي، تختلف في أنماط تكاثرها ونموها في البيئة الطبيعية مقارنة في بيئة الأسر الضيقة في الأحواض المائية الصغيرة، فهي تتكاثر بسرعة شديدة في البرك والبحيرات المفتوحة وفي فترة زمنية قصيرة، فيزيد وزنها وطولها إلى درجةٍ كبيرة غير متوقعة، حتى أن طولها يصل إلى قرابة 46 سنتيمتراً، ووزنها إلى نحو 4 كيلوجرامات، كما أن الله أمَّد في عمرها فتعيش قرابة أربعة عقود، إضافة إلى قدرتها الكامنة الفطرية على التكيف والتأقلم دون أي تأثير عليها من الظروف المائية الصعبة كارتفاع حرارة المياه، أو انخفاض نسبة الأكسجين الذائب في الماء، أو ارتفاع حموضة المياه بسبب التغير المناخي. فهذه السمكة بمقدورها العيش في جميع الظروف القاسية ومقاومة كل هذه التغييرات السلبية عليها. ولذلك فهي مع الوقت تتحول بالنسبة لأسماك البحيرات الأصيلة والمستوطنة إلى غولٍ كبير، ووحش مفترس يلتهم باقي الأسماك، ويغير كلياً النظام البيئي والسلسلة الغذائية الموجودة هناك منذ آلاف السنين. 

 

وهذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، فيمكن مشاهدتها في بحيرة واحدة فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما انتقلت عدوى هذا الغزو الأحيائي الأجنبي إلى بحيرات كثيرة أخرى، أي تحولت هذه الظاهرة إلى حالة بيئية عامة تعاني منها معظم بحيرات وبرك أمريكا، بل وإن نطاقها الجغرافي اتسع إلى خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إن الحكومة الكندية أيضاً منذ عام 2015 تُرسل رسائل تحذيرية قوية إلى مواطنيها تنبههم إلى هذا الغزو الأجنبي الجديد.   

 

ونظراً لخطورة وجود مثل هذه الكائنات الغازية والأجنبية على البيئات المحلية، وتأثيراتها السلبية المشهودة على النظام البيئي في المسطحات المائية العذبة في مدن أمريكية كثيرة، فقد شمَّرتْ كل هذه المدن عن ساعديها، وتعاونت مع بعض، ونسَّقت جهودها لمواجهة هذا التهديد الواقعي، ومحاربة هذا الخطر الحقيقي المستمر منذ سنوات.

 

فهذه المصيبة التي وقعت في البيئة المائية في أمريكا وكندا ودول أخرى كثيرة هي بسبب أعمالٍ بريئة وسهلة قُمنا بها، ونقوم بها كل يوم، فهي كلها تبدو في شكلها السطحي الظاهري بريئة كلياً ولا غبار عليها ولا تأثير لها، ولكن تأَكَدَ بعد حينٍ من الدهر بأن هذه التصرفات التي نحسبُها بسيطة، ظاهرها فيها الرحمة والنية الحسنة، وباطنها وداخلها العذاب والمشقة والهلاك للإنسان وبيئته.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق