الاثنين، 29 نوفمبر 2021

الصراع على موارد الدول النامية لن ينتهي


صراع الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على الموارد والثروات الطبيعية وخيرات الدول النامية والفقيرة لن ينتهي أبداً، فكلما انتهينا من الصراع على أحد الموارد بسبب نضوبه من باطن الأرض، أو انخفاض الطلب عليه، أو النقص في استهلاكه واستخدامه، أو تداعياته الضارة والمهلكة على أمن الإنسان الصحي وسلامة بيئته، نرى أنفسنا أمام الصراع نفسه، ونعيش المشاهد نفسها وهي تتكرر أمامنا، ولكن ربما بين لاعبين ودول جديدة لم تخض المعارك السابقة في السنوات والعقود الماضية، وعلى ثروة جديدة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، وعلى مورد مستقبلي لم يفكر فيه الإنسان من قبل فيزيد الطلب عليه الآن يوماً بعد يوم، ويتسع سوق استخدامه وينتشر في دول العالم أجمع.

 

فقد بدأت ملامح ومعالم السباق الماراثوني القادم على المورد الجديد تتضح يوماً بعد يوم، كما أخذت مراكز القوى والنفوذ تتشكل ساعة بعد ساعة، والصراع يحتدم ويتفاقم مع مرور كل سنة بين دول النفوذ والقوة للسيطرة على منابع هذه الثروات الطبيعية الواعدة. وهذا المورد حالياً هو بعض العناصر الثقيلة، مثل الكوبالت، والفلزات النادرة مثل الليثيوم، والذي يُطلق عليه بالذهب البيض. فكل هذه الثروات والخيرات والنعم كانت موجودة في باطن الأرض منذ آلاف السنين، ولكن لم يلق لها الإنسان بالاً، ولم يهتم بها، ولم يفكر في استخراجها من باطن الأرض بملايين الأطنان، ولم يخطر على بال الدول والمستثمرين قبل نحو خمس سنوات على أنها ستكون بؤرة الصراع القادم بين حكومات العالم وذراعها الاقتصادي الاستثماري، إضافة إلى الشركات العالمية متعددة الجنسيات التي تعمل في مجال الطاقة الخضراء، والوقود النظيف بمختلف أنواعه وأشكاله مثل صناعة ألواح وخلايا الطاقة الشمسية، وبخاصة شركات إنتاج السيارات الكهربائية غير الملوثة للبيئة، فكل هذه المجالات والقطاعات الحديثة من طاقة خضراء، ووقود نظيف، وسيارات كهربائية صديقة للبيئة، وقطارات تعمل بالبطارية حسب المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" في 22 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "قطارات تعمل بالبطارقة الرخيصة الثمن لعالم أنظف" والذي أكد على إنتاج بطارية طويلة العمر فلا توجد حاجة لشحنها بعد مسافة قصيرة، فجميع هذه القطاعات الجديدة المستقبلية تعتمد كلياً في عملياتها الإنتاجية، والتطويرية على مثل هذه العناصر الجديدة، وستحل خلال الخمسين سنة القادمة محل مصادر الطاقة التقليدية المعروفة من الوقود الأحفوري.

 

فهناك الآن نزاعات سياسية واقتصادية بين بعض دول العالم وشركاتها الكبرى من أجل الهيمنة على منابع الكوبالت والليثيوم بشكلٍ خاص، إضافة إلى العناصر التقليدية القديمة كالنحاس والنيكل، ومحاولة احتكار هذه المصادر لنفسها، ثم التحكم في استخراجها، وبيعها، وتوزيعها، وتسويقها على الحكومات والشركات الأخرى بالأسعار التي تفرضها، فتجني المليارات من ورائها، وتكسب في الوقت نفسه الهيمنة الاقتصادية الدولية والتي تصاحبها قيادة القرار السياسي.

 

ومثل هذا الصراع على الكوبالت، على سبيل المثال خرج إلى العلن بين بعض الدول كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، فدخلت الدولتان في سباق السرعة للاستحواذ أولاً وحصرياً على هذه الثروة العظيمة، وبالتحديد في جمهورية كونجو الديمقراطية التي تمتلك أكبر مخزون جوفي من الكوبالت في العالم، حسب عدة تقارير وتحقيقات منشورة، منها التحقيق الشامل المنشور في صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 20 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "سباق إلى المستقبل: ماذا تعرف عن الطلب على الكوبالت"، إضافة إلى المقال المنشور في 21 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "صراع القوة على الكوبلت يثير ثورة الطاقة النظيفة"، والتحقيق المنشور في مجلة "النيويوركر" في 24 مايو من العام الجاري تحت عنوان: "الوجه الأسود للسباق حول الكوبلت في الكونجو"، كذلك التقرير المنشور في صحيفة الجارديان البريطانية في 25 نوفمبر تحت عنوان: "سباق سلاح البطارية، كيف تحتكر الصين صناعة السيارات الكهربائية".

 

فالصين استوعبت الدروس التاريخية الماضية من الحقبة الاستعمارية المتمثلة في احتلال الدول واستعمار ثرواتها وخيراتها من أجل التنمية في بلادها، وتعلمت منها الكثير من العبر والعظات، ولذلك هي سباقة وحريصة جداً اليوم على استعمار كافة مصادر ومخزونات الكوبالت في العالم، مما جعلها تَقْدم خلال الخمس سنوات الماضية على شراء مناجم الكوبلت والعناصر الأخرى التي تدخل في قطاعات الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية. فقد قامت الصين ممثلة في ذراعها التجاري شركة شاينا مُولِيبدنم( China Molybdenum) بالاستحواذ على 15 منجماً من أصل 19 في الكونجو، كما نجحت الصين في أبريل عام 2016 من شراء أحد أكبر المناجم التي تمتلكها شركة أمريكية هي(Tenke Fungurume) بمبلغ 2.65 بليون دولار أمريكي. وكل هذه الصفقات تؤهل الصين إلى الوصول أولاً إلى خط نهاية السباق والتغلب على المستعمر التقليدي لثروات الدول النامية، كما أنها تزيد من حظوظها في احتكار هذا العنصر الذي يعد المكون الرئيس في إنتاج الملايين من بطاريات السيارات الكهربائية، ويطيل في عمر البطارية وعدم الحاجة إلى سرعة شحنها. ولكن بالرغم من هذا التفوق المرحلي في السباق للصين، إلا أن الحكومة الأمريكية ممثلة في حكومة بايدن الحالية انتبهت مؤخراً إلى هذا الواقع وتأخرها في السباق في الكونجو ودول أخرى، حيث صرح بايدن عند زيارته لشركة جنرال موتورز في عاصمة السيارات مدينة ديترويت بولاية ميشيجن قائلاً: "خاطرنا بخسارة تفوقنا كأمة، والصين وباقي دول العالم يصلون إلينا ويلحقون بنا، ولكن سنقوم بتغيير هذا الواقع كلياً"، وهذا التغيير للواقع سيكون بعقد تحالفات جديدة مع دول أخرى صديقة تشاركها الهم نفسه مثل كندا وأستراليا وغيرهما للدخول في السباق مرة ثانية، والتنافس على مركز الصدارة.

 

ومع مشاهد سباق السيطرة على الكوبالت، نرى مشاهد متطابقة لسباق السيطرة على العنصر الثاني المكون للبطاريات، وهو فِلزْ الليثيوم، الذي يعد عمود بناء هذه البطاريات التي تشغل وتحرك السيارات والقطارات الكهربائية وغيرهما، فلا نجاح، ولا تطور، ولا استدامة لهذه السيارات إلا بتوفير عنصر الليثيوم، هذا الذهب الأبيض.

 

ولذلك بدأ منذ سنوات قليلة السباق المحموم على اكتشاف هذا العنصر، والبحث عنه في كل دول العالم، والعمل على التنقيب عنه واستخراجه من المناجم من باطن الأرض، وقد كَتبت صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية تحقيقاً تؤكد فيه هذا الواقع في السابع من مايو 2021 تحت عنوان: "الجري نحو ذهب الليثيوم: السباق إلى توفير الطاقة للسيارات الكهربائية"، كما يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في الثلاثين من مايو 2021 تحت عنوان: "البحث عن الذهب الأبيض".

 

فهذا هو حال الدول الضعيفة النامية التي لا تتسلح بسلاح العلم والتصنيع وتنمية الموارد البشرية تقنياً وفنياً لكي تكون قادرة ومؤهلة وطنياً على استغلال ثروات بلادهم لصالحها وأمنها وتنميتها، فتتكرر المشاهد نفسها، والتي نراها منذ مطلع القرن المنصرم مع ازدهار التنمية في الدول الصناعية المتقدمة، حيث تستعمر هذه الدول مواردنا وثرواتنا الحية وغير الحية، وتمتص دماء هذه النعم الوطنية من أجل ازدهارها ورفع مستوى الحياة عند شعوبها، ثم تُعطينا وتوزع علينا الفتات، وما تبقى من خيراتنا وثرواتنا.

الجمعة، 26 نوفمبر 2021

تلوث الهواء وليس كورونا يمنع الناس من الخروج


تعودنا منذ ديسمبر عام 2019 أن نسمع، ونقرأ، ونشاهد، ونعاني بأنفسنا في بلادنا عن إغلاق المدن، بل وتوقف دول بأكملها عن العمل، ومنع الناس من الخروج من منازلهم، وحجرهم وحبسهم في شققهم أياماً طويلة شاقة ومرهقة للجسد والنفس. وهذا الوضع مازال مستمراً حتى اليوم في بعض مدن العالم، وربما سيستمر لأشهرٍ قادمة بسبب وباء كورونا الذي تفشى في شرايين الكرة الأرضية برمتها، فلم يدع شبراً بعيداً أو قريباً من كوكبنا إلا ونزل عليه هذا الوباء العصيب، حيث سقط صريعاً بسبب التعرض لفيروس كورونا القاتل حتى كتابة هذه السطور أكثر من خمسة ملايين و200 ألف إنسان، ومرض قرابة 251 مليون.

 

واليوم نقرأ عن المشاهد نفسها، ولكن هذه المرة ليست بسبب هذا الكرب الفيروسي العظيم الذي هزَّ أركان البشرية جمعاء، صحياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن بسبب مرضٍ تقليدي قديم تعاني منه المجتمعات البشرية منذ مطلع القرن العشرين، وهو تلوث الهواء وما ينجم عنه من أمراضٍ كثيرة مختلفة تضرب أعضاء الجسد كله، كما تضرب النفس والعقل، حتى إنني أُطلق على تلوث الهواء بقنبلة دمار شامل للجسم البشري.

 

فقد نشرت صحيفة يوميات الصين(China Daily)في العدد الصادر في الخامس من نوفمبر من العام الجاري خبراً تحت عنوان: "تعليق الأنشطة المدرسية الخارجية بسبب تدهور نوعية الهواء"، حيث جاء فيه بأن هيئة التعليم في العاصمة الصينية أصدرت تحذيرات شديدة وتعليمات صارمة طارئة تُوجه فيها كل المدارس والمعاهد التدريبية إلى وقف جميع الأنشطة التي تقام في خارج البيئات المغلقة، أي خارج مباني المدارس والمعاهد.

 

ويعزى السبب في ذلك إلى زيارة ضيفٍ ثقيل جداً يزور المدن الصينية منذ عقود طويلة من الزمن بين الحين والآخر، وبخاصة أيام الشتاء الباردة حيث يزيد استهلاك الكهرباء للتدفئة، مما يرفع من مستويات حرق الوقود في محطات توليد الكهرباء، وبخاصة التي تشتغل بالفحم الذي يعد من أشد أنواع الوقود تلويثاً للهواء الجوي، كما أن في أيام الشتاء تتكرر حدوث ظاهرة الانقلاب الحراري التي تمنع تشتت وتخفيف تركيز الملوثات في الهواء الجوي، فتحبسها في الطبقات السفلى من الغلاف الجوي، وتكون ضباباً أو سحباً مشبعة بالملوثات السامة والمسرطنة القاتلة التي تغطي المدينة برمتها، ويتعرض لها الناس بشكلٍ مباشر، فيصابون بحالات حادة ومزمنة من أمراض الجهاز التنفسي والقلب، ومنهم، وبالتحديد من كبار السن ومن الذين يعانون من بعض الأمراض المزمنة فيسقطون صرعى وينقلون إلى مثواهم الأخير.

 

وهذه الحالة التي شهدناها في الصين هذه الأيام ليست وحيدة بين دول العالم، فقد قرأتُ عن حالة متطابقة للحالة الصينية في مدينة دلهي العاصمة الهندية، حيث نقلت وسائل الإعلام الصادرة في مدينة دلهي مثل صحيفة "الهند اليوم"(India Today) في السادس من نوفمبر من العام الجاري أخباراً تحت عنوان: "هواء دلهي الخانق يبقى في المستوى الخطر"، وعنوان آخر: "نوعية الهواء في دلهي ضمن المستوى الخطر". ومثل هذه الحالات التي ترتفع فيها معدلات تلوث الهواء كثيرة في الهند، فتعرقل حركة الناس، وتمنع الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتصيب عامة الناس بأعراض الربو والحساسية في الجهاز التنفسي، وقد أفادت التقارير بأن مؤشر جودة الهواء في دلهي في هذه الأيام بلغ مستوى "الخطر" حيث وصل إلى مستويات قياسية عالية فاقت الرقم 600، كما نقلت صحيف هندستان تايمس (Hindustan Times) في السابع من نوفمبر عن تقارير طبية بأن عدد المرضى الذين يشتكون من أعراض مرضية في الجهاز التنفسي كضيق التنفس، والكحة، والعطاس وغيرها زادت بنسبة 20% عن الأيام العادية.

 

فكل هذه الكوارث البيئية الصحية التي نشهدها اليوم، ليست جديدة على البشر، وإنما هي قديمة جداً وبدأت في الظهور منذ العشرينيات من القرن المنصرم، وكلها تؤكد العلاقة بين تلوث الهواء وإفساد صحة الناس ونزول الكوارث المميتة عليهم، فربما أول حادثة كبيرة وقعت كانت في وادي ميوس في بلجيكا في ديسمبر 1930، ثم  في مدينة دونورا بالقرب من بتسبيرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية في أكتوبر من عام 1948، ثم كارثة لندن في منتصف شهر ديسمبر من عام 1952 حيث فقدت العاصمة البريطانية أكثر من 4000 إنسان في فترة أسبوع واحد فقط نتيجة لاستنشاقهم الهواء الملوث الذي غطى سماء لندن كلها. ومع هذه الحوادث القاتلة، زاد اهتمام العلماء بتثبيت وتأكيد العلاقة بين تلوث الهواء والأضرار التي تنجم عنه على الجسم البشري برمته، سواء الجهاز التنفسي، أو القلب، أو العينين، أو الأعضاء الأخرى من جسم الإنسان، كما نُشرت دراسات لا تعد ولا تحصى تقوم بسبر غور هذه العلاقة مع الجانب النفسي للإنسان من همٍ وقلق واكتئاب، إضافة إلى الجانب العقلي والذهني، حيث يجمع العلماء الآن بأن تلوث الهواء هو القاتل الصامت الذي يصيب الإنسان بأمراض كثيرة ومختلفة ومستعصية، ويدخله مبكراً وهو في ريعان شبابه إلى القبر.

 

ومؤخراً أوجد العلماء العلاقة بين الملوثات التي تسبب ظاهرة التغير المناخي المعروفة والتداعيات التي تنجم عنها، من ارتفاع في حرارة الأرض، وزيادة سخونة وحموضة المسطحات المائية والتربة، إضافة على الانعكاسات الأخرى، وتأثير كل هذه على الصحة العامة للبشر أجمع.

 

فقد وصفتْ منظمة الصحة العالمية قضية التغير المناخي بأنها "أكبر تهديد صحي يواجه البشرية"، وهذا التصنيف استخلص من الكم الكبير من الدراسات العلمية التي توغلت بعمق في البحث عن العلاقة بين التغير المناخي وصحة البشر. وآخر هذه الدراسات، تلك المنشورة في مجلة اللانست الطبية في 20 أكتوبر 2021، تحت عنوان: العد التنازلي لمجلة اللانست حول الصحة والتغير المناخي"(Lancet Countdown health and climate change)، حيث استنتجت بأن تداعيات التغير المناخي من موجات حارة وباردة وتغيرات في الأنظمة البيئية وحرائق للغابات جميعها تُشكل تهديداً متنامياً للصحة العامة، سواء أكانت الصحة الفسيولوجية العضوية، أو الصحة النفسية والعقلية. وبناءً عليه فقد حذَّر الباحثون من أن عدم اتخاذ إجراء بشأن تغير المناخ سيعرض حياة ملايين الأشخاص للخطر.

 

ولذلك كما أن مرض كورونا وباء نزل على البشرية جمعاء، فإن تلوث الهواء أيضاء وباء مميت، ويحصد حياة الملايين من البشر سنوياً، فلماذا لا نتعامل مع تلوث الهواء كما تعاملنا مع مرض كورونا بحذرٍ شديد واحتياطات وإجراءات لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري؟

فالموت واحد سواء من فيروس كورونا أو من تلوث الهواء!

 

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2021

أمن الثروة السمكية

كتبتُ في 31 أكتوبر من العام الجاري تغريدة جاء فيها: "معركة محتدمة بين دولتين متقدمتين هما فرنسا وبريطانيا على الثروة السمكية البحرية، ونحن لدينا هذه الثروة ولكن لا تحظى منا بالاهتمام والرعاية والحماية التي تليق بأهميتها كمصدر للأمن الغذائي وثروة طبيعية متجددة".

 

وتفاصيل هذا الخبر تهمني في البحرين، كما تهم وتخص كافة الدول التي أنعم الله عليها بنعمة البحر عامة، وبالخيرات الطبيعية المتجددة الوفيرة خاصة المخزونة في بطن هذه البيئة الثرية غذائياً وسياحياً واجتماعياً واقتصادياً، والتي تفتقر إليها الكثير من دول العالم.

 

فالثروة السمكية، كما هي بالنسبة للثروات والموارد الطبيعية المشتركة بين الدول، سواء هي النفط والغاز الطبيعي، أو الماء، فكلها تكون عادة الفتيلة والوقود الذي يشعل الحروب بينها، وقد يجعلها تستمر فترة طويلة من الزمن دون توقف. فهذا المورد البحري الغني المشترك بين فرنسا وبريطانيا، ومصائد الأسماك الثرية بينهما، كانت ومازالت تثير النزاعات بين هاتين الدولتين الجارتين، حيث وقعت عدة مناوشات وصدامات ومعارك بين سفن الصيد منذ زمن طويل وحتى يومنا هذا، منها على سبيل المثال في أكتوبر 2012، وفي عام 2018، واليوم ومنذ نهاية أكتوبر والأزمة على مواقع الصيد لم تحل بعد. وهذه النزاعات في تقديري ستتفاقم مع الزمن وستزيد حدتها وستتواصل الأزمة، وبخاصة بعد "البركسيت"، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث ظهرت وانكشفت العديد من القضايا والمشكلات العصيبة التي لم يفكر في تفاصيلها من دعا إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومنها حصة ونصيب بريطانيا من صيد الأسماك ومصائد هذه الأسماك، فالمشكلة دائماً تقع وترتفع وتيرة وحدة الخلاف عندما يدخل الإنسان ويواجه التفاصيل المعقدة والمتشابكة في أية قضية. 

 

فمثل هذه النزاعات على هذه الثروة البحرية من المفروض أن تدعونا في البحرين إلى العض على هذه الثروة بالنواجذ، والمحافظة عليها، وحمايتها، وتأهيلها وتطويرها، وعدم الإفراط فيها ولو بشبرٍ بسيط، لما لها من أهمية في جوانب كثيرة متعددة، وعلى رأس القائمة أمن الثروة السمكية، المرتبط مباشرة بالأمن الغذائي الفطري في البحرين.

 

فسياستنا في التعامل مع الأمن الغذائي الذاتي الذي يجب أن نوفره للشعب البحريني، يجب أن تكون مشابهة لسياستنا في أمن الطاقة، سواء من أجل توليد الكهرباء، أو تشغيل المصانع، أو تسيير السيارات والطائرات والباخرات. فالأولوية تكون لمصادر الطاقة الموجودة محلياً تحت أيدينا، فنعمل على استخراجها، ورفع فاعلية تشغيلها في محطات الكهرباء والمصانع، وتقنين وترشيد استهلاكها وإطالة عمرها حتى نضمن استدامة عطائها لفترة طويلة من الزمن، وبالتحديد النفط والغاز الطبيعي، إضافة إلى إدارة الملوثات المنبعثة عنها في جميع مراحلها، وبخاصة تلك التي تسبب التغير المناخي وسخونة الأرض، ثم في المرتبة الثانية من الأولويات تكون في تنويع مصادر الطاقة والتي يمكن الاعتماد عليها صيفاً وشتاءً لتوليد الكهرباء وفي الظروف المناخية المختلفة، مثل الطاقة الشمسية التي لا تغيب عن بلادنا في كل الفصول ولساعات طويلة من اليوم، إضافة إلى إنتاج وقود الهيدروجين من الغاز الطبيعي كمصدر نظيف ومتنوع للطاقة.

   

كذلك بالنسبة للأمن الغذائي، فالاعتماد أولاً يكون على مصدر فطري ذاتي للغذاء له خصائص ومميزات يمكن الاعتماد عليه دائماً، مثل خاصية الاستدامة، أي أن هذا المصدر موجود محلياً في كل الأوقات والظروف والمواسم ولا يقع تحت وطأة التغيرات الدولية في عملية الاستيراد والأهواء السياسية المتنافرة بين الدول، كذلك يتميز بخاصية التجديد، أي أنه لا ينضب، ولا ينتهي، ولا ينقطع إذا تمت إدارته بالأسلوب العلمي الصحيح، كما نمنع في الوقت نفسه كافة العوامل المؤثرة على عطائه وإنتاجه، إضافة إلى خاصية القيمة الغذائية العالية التي يجب أن يتمتع به هذا المصدر وتنوعه من حيث الطعم والحجم والشكل واللون.

 

فكل هذه الخصائص تتمتع بها فقط الثروة السمكية البحرية، إضافة إلى الموارد الأخرى الحية وغير الحية التي سخرها الله سبحانه وتعالى لنا في البيئة البحرية، مما يستوجب علينا وضعها في أول قائمة الأولويات في البلاد، وبخاصة تلك المتعلقة بالأمن الغذائي، فنمنع عن هذه الثروة كل ما يُعيق عطائها، أو يؤثر على إنتاجيتها واستدامة توفيرها لغذاء الشعب، لهذا الجيل والأجيال اللاحقة.

 

وفي العقود الماضية تعرضت هذه الثروة العظيمة لانتهاك حرماتها من جوانب كثيرة ومصادر متعددة، أضرت بها بشكلٍ جوهري عميق، وتركت بصماتها في كافة عناصرها الحية وغير الحية، وأثرت عليها بصورة جذرية يشهدها كل مواطن بحريني من ناحية تدهور هذه الثروة البحرية نوعياً وكمياً.

 

فأعمال الحفر، حسب معلوماتي مازالت مستمرة، وهذه الأعمال تدمر البيئة البحرية القاعية وتغير هويتها كلياً، وتقتل كل الكائنات الحية التي تعيش عليها، كما أنها تفسد نوعية مياه البحر من ناحية زيادة عكارتها وانعدام الرؤية فيها ودخول الأتربة الناعمة الصغيرة في أجسام الكائنات البحرية، كذلك عمليات الدفان المصاحبة للحفر فقد قضت كلياً وبدون رجعة ولأكثر من سبعين عاماً على بيئات منتجة كثيرة تحتضن هذه الثروة الغذائية الحية من أسماك وروبيان وقواقع ومحار، كبيئة الشعب المرجانية، وغابات أشجار القرم، وبيئات المد والجزر التي تعيش عليها الكائنات النباتية والحيوانية المغذية للثروة السمكية. وفي المقابل هناك المخلفات الصناعية ومخلفات مياه المجاري التي تحتاج إلى معالجة كاملة لكي تكون دائماً صالحة للصرف في البيئة البحرية. وعلاوة على ذلك كله فقد عانت الثروة السمكية من تهديدات جسيمة أثرت عليها من الناحيتين النوعية والكمية بسبب الصيد الجائر والعشوائي الذي استمر عقوداً طويلة من الزمن.

 

فهذه الثروة البحرية المتجددة وغير الناضبة والتي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق الأمن الغذائي الذاتي والفطري، يجب أن تكون العمود الفقري الذي نعتمد عليه لتحقيق الأمن الغذائي الذاتي والفطري والمستدام للبحرين، إضافة إلى تنويع مصدر الغذاء من ثروات حيوانية ونباتية يتم إنتاجها محلياً أو استيرادها من الخارج.  

 

ومن أجل تحقيق هذا الهدف علينا الاهتمام بهذه الثروة كما نهتم بالثروة النفطية، من حيث الأولوية، وتخصيص الميزانية المناسبة، ودراسة وعلاج كافة مصادر إفسادها، إضافة إلى تقوية الهيكل الإداري للجهة المعنية حالياً بالثروة البحرية.

الخميس، 18 نوفمبر 2021

مؤشرات فشل اجتماع جلاسجو للمناخ

 

لا أريد أن أكون متشائماً بالنسبة للتوصيات التي تمخضت عن الاجتماع رقم (26) للأمم المتحدة حول التغير المناخي والذي اختتم أعماله في 13 نوفمبر في مدينة جلاسجو البريطانية، ولكن التاريخ والوقائع والقرارات والتوصيات التي توافق عليها المجتمعون لا تدعوني إلى التفاؤل كثيراً حول مستقبل هذه الاجتماعات السنوية، وفاعليتها في اتخاذ القرارات الملزمة والحازمة والمصير المحتوم الذي يواجهنا جميعاً ويواجه كوكبنا من تداعيات وخيمة لا تحمد عقباها.

 

وهذا الشعور الداخلي الذي ينتابني بفشل الاجتماع، أو في الأقل عدم تحقيقه لأهدافه الرئيسة، إضافة إلى عدم تحقيقه لطموحات الشعوب وآمالها ومتطلبات واحتياجات الدول النامية والفقيرة لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية، يأتي من أقوال وتصريحات المسؤولين عن هذا الاجتماع خاصة، والمعنيين بمثل هذه الاجتماعات المناخية عامة، فجميع التصريحات لم تكن مشجعة كثيراً، ولم تكن قوية ومؤيدة لتوصيات الاجتماع الطوعية بشكلٍ عام.

 

فوزير الدولة البريطاني ورئيس المؤتمر ألوك شارما(Alok Sharma) ظهرت منه عدة مواقف وتصريحات تؤشر إلى ضعف توصيات وقرارات الاجتماع، وعدم مواكبتها لحجم الحدث وتداعيته على كوكب الأرض وعلى المجتمعات الفقيرة، فقبل أن يُسدل الستار على المشهد الأخير للإجتماع، لم يستطع أن يسيطر على عواطفه الجياشة، فكادت الدموع أن تذرف من عينيه، وقال: "في النهاية، كان من الأفضل أننا وصلنا إلى اتفاق في جلاسجو بدلاً من عدم الاتفاق"، كما عبَّر عن خيبة أمله في بعض التوصيات، وقدَّم اعتذاره للشعوب التي وضعت آمالها في هذا الاجتماع قائلاً: "أنا أقول لجميع المندوبين بأنني أعتذر عن الطريقة التي جرت بها هذه العملية، وأنا آسف بشدة"، كما أضاف:"أنا أتفهم أيضاً عن خيبة الأمل العميقة، ولكن كما لاحظتم بأنه من المهم جداً حماية هذه الاتفاقية"، وأخيراً قال بأن ما توصل إليه الاجتماع يُعد "انتصاراً هشاً.....ونحن نعلم جميعاً بأن طموحاتنا المناخية وأعمالنا حتى اليوم لا ترقى إلى تعهداتنا في باريس".

 

فكل هذه التصريحات الواضحة تشير بالنسبة لي ضمناً بأن الاجتماع قد فشل، ولم يرق إلى طموحات شعوب العالم، وبخاصة الشعوب الفقيرة الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية، والأشد تأثراً بتداعياتها من سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، والفيضانات، وحرائق الغابات وغيرها من الكوارث المناخية التي زادت في حدتها وتكرار حدوثها في السنوات القليلة الماضية.

 

وأما المؤشر الثاني على فشل الاجتماع فقد جاء من رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، حيث وصف الاتفاقية بأنها "مشوبة بخيبة الأمل"، كما قال: "لا يزال هناك عمل كبير هائل يتوجّب فعله في السنوات المقبلة".

 

وأخيراً صدر المؤشر الثالث من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حيث قال عن قمة المناخ "كوب 26"، بأن: "النص الذي تم الاتفاق عليه هو حل وسطي وتوافقي....ولكن لسوء الحظ فإن الإرادة السياسية الجماعية غير كافية للتغلب على التناقضات العميقة"، ونظراً لضعف التوصيات وعدم تحقيقها لأهداف الاجتماع، فقد قال: "حان الوقت الانتقال إلى حالة الطوارئ، أو فإن حظنا في بلوغ الحياد الصفري سيكون صفراً".

 

وعلاوة على هذه المؤشرات التي تُقنعني بفشل هذا الاجتماع الأخير خاصة، وضعف قدرة هذه الاجتماعات عامة على التوصل إلى "معاهدة مشتركة وملزمة"، وعدم قدرتها على وضع آلية لمراقبة ومحاسبة ومعاقبة الدول غير الملتزمة هي العامل التاريخي الذي يمتد قرابة خمسين عاماً من وضع قضية التغير المناخي في جدول أعمال اجتماعات الأمم المتحدة الرسمية. فربما أول إشارة إلى قضية التغير المناخي كانت في قمة الأرض التاريخية الأولى حول البيئة البشرية والتي عُقدت في ستوكهولهم بالسويد في الفترة من 5 إلى 16 يونيو 1972، حيث حذَّر إعلان ستوكهولم من تهديدات هذه القضية على الإنسان وكوكب الأرض، ثم بعد عشرين عاماً، وبالتحديد في عام 1992 وافق المجتمع الدولي في قمة الأرض الثانية في مدينة ريو دي جانيرو على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي، تمهيداً للتفاوض حول الوصول إلى اتفاقية شاملة ومشتركة وملزمة لجميع الأطراف الموقعة. فبدأ الاجتماع الأول للدول الموقعة على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي في برلين في مارس 1995، ثم جاء الاجتماع الثالث في كيوتو في ديسمبر 1997، والذي نجح في وضع معاهدة تلتزم بها الدول الصناعية المتقدمة الكبرى في الحد من انبعاثاتها من الغازات المتهمة برفع حرارة الأرض، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون. وفي هذا الاجتماع تقدم العالم خطوة قوية للأمام، واستبشرت دول العالم خيراً في العمل معاً على مكافحة تداعيات التغير المناخي، ولكن بسبب التقلبات السياسية في أكبر دولة ملوثة مناخياً للبيئة، وتغير القيادات السياسية والتشريعية من الرئيس كلينتون إلى الرئيس بوش والذي انسحب من المعاهدة في مارس 2001، فرجع العالم خطوات طويلة إلى الوراء وانشل العمل بالمعاهدة، فتوقفت الجهود الدولية لخفض الانبعاث بشكلٍ دولي ملزم، أي رجع العالم إلى عام 1992. ثم بعد سنوات طويلة عجاف من المفاوضات الماراثونية العقيمة والتي بلغتها ذروتها في اجتماع باريس لعام 2015، والذي توصلت فيه دول العالم إلى هدف عدم السماح لرفع درجة حرارة الأرض أكثر من درجة ونصف الدرجة مئوية من مستويات ما قبل الثورة الصناعية من خلال التعهد "الطوعي" من جميع دول العالم على خفض الانبعاث، علماً بأن معدل درجة حرارة الكرة الأرضية ارتفع حتى الآن 1.1 درجة مئوية، ولكن هذه الاتفاقية أيضاً لم تر النور كثيراً حيث بعد توقيع الرئيس الأمريكي أوباما على الاتفاقية، جاء ترمب فلم يعترف بها، وانسحب كلياً منها، فرجع العالم مرة ثانية إلى خط البداية، أو نقطة الصفر.

 

فهذه الوقائع التاريخية المشهودة تثبت لي بعدم جدوى توصيات اجتماعات التغير المناخي لأنها غير إلزامية وتعتمد على ضمير وجهود كل دولة للقيام بواجباتها تجاه خفض الانبعاث حسب إمكاناتها، وظروفها، ومواردها الداخلية، وسياساتها القومية، كما أنها في الوقت نفسه ليست لديها القدرة على مراقبة ومحاسبة ومعاقبة الدول غير الملتزمة بالقرارات، وبخاصة الدول العظمى التي لا يستطيع أحد محاسبتها مهما فعلت وأخلت بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية. 

 

والآن بالنسبة للاجتماع المناخي المنصرم والاجتماعات القادمة في المستقبل، فإنها مهما فعلت وقدَّمت من قرارات ملزمة، أو طوعية فإنها لا تستطيع الآن مواكبة التغيرات المناخية الواقعة منذ مئات السنين والتي تتفاقم تأثيراتها يوماً بعد يوم، كما أن قرارات أي مؤتمر مستقبلي مهما كانت قوية وحازمة فإنها لن ترقى إلى التداعيات الكارثية التي تشهدها الكرة الأرضية من سخونة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة حمضيته، وزيادة موجات البرد والحر والفيضانات والحرائق، كذلك فإن هذه القرارات لن تلحق بسرعة وحجم انبعاثات الغازات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض منذ بدء الثورة الصناعية قبل أكثر من مائتي عام، ولن تنجح في مواكبة سرعة ارتفاع وتراكم تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان والغازات الأخرى سنوياً في الهواء الجوي، فأي قرار قادم سيكون متأخراً جداً وذي فاعلية وتأثير محدودين، فالدمار الذي يلحق بكوكبنا نتيجة للتغير المناخي أشد وأسرع بكثير من الخطوات البطيئة، والإجراءات الطوعية التي قد تتخذها دول العالم حالياً وفي المستقبل.

 

الخميس، 11 نوفمبر 2021

قضية بيئية تُشعل أزمة أمنية


ليست هذه هي المرة الأولى، وحتماً لن تكون الأخيرة عندما تتحول قضية ذات جذورٍ بيئية بحتة إلى قضية سياسية وأمنية محتدمة، فتندلع حالة من عدم الاستقرار في البلاد، وتقع أعمال عنفٍ وشغب تستمر عدة أيام، بل وتؤدي إلى موت البشر نتيجة لهذه الممارسات.

 

فهذه المرة نشهد مثل هذه الحالة من عدم الاستقرار الأمني في تونس، وبالتحديد في بلدة عقارب في ولاية صفاقس، ثاني أكبر المدن التونسية، حيث شهدت المدينة في الثامن من نوفمبر من العام الجاري مظاهرات حاشدة، ومسيرات كبيرة شارك فيها الآلاف من الناس، ثم بعد وفاة أحد المحتجين تصعد الموقف وتحولت المظاهرات إلى أعمال عنفٍ، وحرقٍ، وقطعٍ للطرقات، ومواجهات مع رجال الأمن، ثم الإضراب العام في المدينة برمتها.  

 

وكل هذا الاحتقان العنيف تفجر عن سببٍ بيئي بسيطٍ وهامشي في نظر الكثير من رجال السياسة والحكم، وبالتحديد المسؤولين عن البيئة، والمعنيين بإدارة هذا الملف البيئي المتعلق بإدارة المخلفات البلدية الصلبة، أو القمامة المنزلية. فهؤلاء المعنيون في الكثير من دول العالم لا يُعيرون قضية القمامة الاهتمام الذي يستحق لخطورتها وتهديدها للصحة العامة وسلامة البيئة إذا لم تتم إدارتها بأسلوب علمي منهجي ومستدام، ولذلك في الحالة التونسية تم اتباع السياسة التي أُطلقُ عليها "خُذوه فغلوه"، أي اجمع القمامة بأية طريقة هي الأسهل من مصادرها عند المنازل والمجمعات التجارية، ثم تخلص منها في إلقائها في مواقع مكب النفايات، وأخيراً دفنها تحت الأرض، كما أنه في هذه الحالة تم خلط القمامة بمخلفات خطرة يجب التعامل معها بأسلوب آخر غير أسلوب دفن القمامة المنزلية غير الخطرة.

 

ومع مرور الوقت، وسوء الإدارة، وعشوائية الدفن، تشبع الموقع وامتلأ بالمخلفات الخطرة وغير الخطرة، وبدأت تنبعث الروائح فتفسد حياة الناس اليومية وتؤثر على أمنهم الصحي، فارتفعت شكاوى المتضررين ورُفعت إلى المحاكم، والتي حكمت بإغلاق المدفن في نهاية شهر سبتمبر من العام الجاري. فهذا الحُكم الآني قصير النظر الذي لم ينظر باستراتيجية طويلة الأمد إلى هذه القضية المعقدة والمتشابكة، ولَّد قضية بيئية وصحية جديدة أخرى، ولكن في مواقع شملت معظم أنحاء المدينة، حيث تراكمت المخلفات في الأحياء، والطرقات، وأمام المحلات والمستشفيات، حتى تكونت جبال من هذه القمامة التي بدأت تتحلل يوماً بعد يوم فتنبعث منها الروائح السامة العفنة، وتُعشعش فوقها الذباب والحشرات الأخرى، وتنمو في بطنها الفئران والقوارض، فارتفعت مرة ثانية أصوات الناس وزاد غضبهم مما اضطر الجهات المعنية إلى إعادة فتح مدفن المخلفات ونقل جبال المخلفات إلى هذا الموقع المتشبع بالمخلفات والذي لا يتحمل المزيد، وهذا الوضع زاد الحال العام احتقاناً فخرج الناس في مسيرات يطلبون إعادة إغلاق المدن من جديد!   

 

فهذا الوضع التونسي يؤكد لي الفرضية التي بدأتُ في سبر غورها ودراستها منذ الثمانينيات من القرن المنصرم حول العلاقة بين تدهور البيئة وفساد مواردها الحية وغير الحية نوعياً وكمياً والوضع السياسي والأمني للدول، أي بعبارة أخرى: هل تلوث الهواء والماء والتربة وانكشاف المظاهر البيئية الناجمة عنها يسبب حالة من عدم الاستقرار في الدول التي تعاني من هذا التلوث؟ وهل هذا التدهور البيئي يُسقط الحكومات التي تسببت في ظهوره؟

 

ومنذ ذلك الوقت وأنا أُراقب وأُتابع هذه الأسئلة والفرضية التي طرحتها، وأدرس الأمثلة التي أشاهدها في دول العالم حول احتمالية وجود هذه العلاقة. ففي نهاية الثمانينيات كتبتُ مقالاً تحت عنوان: "البيئة تُسقط إمبراطورية"، حيث تعمقت في أسباب انحلال وسقوط امبراطورية الاتحاد السوفيتي، ووجدتُ أنه من بين الأسباب الكثيرة التي أدت إلى تفكك هذه الإمبراطورية هي التدهور الشديد لعناصر البيئة في الدول الخاضعة لهذه الإمبراطورية، وانعكاس هذا الفساد البيئي العصيب على صحة الناس وسلامة أطفالهم، مما أدى مع الوقت إلى تراكم كل الأسباب السياسية، والأمنية، والاقتصادية، إضافة إلى الجانب البيئي الذي ساهم بدرجة ما في الإطاحة بهذه الإمبراطورية.

 

كذلك حدث في لبنان ما يشبه الحالة التونسية، حيث انتهى العمر الإفتراضي لأحد مدافن القمامة في بيروت، أي لم يعد المدفن يحتمل أية كمية إضافية من المخلفات الصلبة، مما أدى إلى تجمعها وتراكمها وتحولها إلى تلال من المخلفات في أحياء وشوارع وسواحل بيروت، فانبعثت الروائح النتنة والكريهة، وسالت وانهمرت المخلفات السائلة الناتجة عن تحلل القمامة في الطرقات كما تجري الأنهار، وتأثرت الحالة الصحية للناس، ونظراً لعدم استجابة الجهات المعنية للتعامل مع المخلفات في طرقات بيروت والعمل على جمعها والتخلص منها بطريقة سليمة، أضطر الناس إلى الاحتجاج والخروج إلى الشوارع لإبداء غضبهم من هذا الوضع البيئي المأساوي. ومع الوقت، وبالتحديد في أغسطس 2015 وقعت الكثير من الصدامات العنيفة وأعمال الشغب، مما استدعت هذه الأزمة البيئية الأمنية عقد اجتماعٍ طارئ غير عادي لمجلس الوزراء للنظر فيها وفي ملابساتها وسبل تهدئة الناس وامتصاص غضبهم ونقمتهم على حالة القمامة في عاصمتهم وانتشارها وتراكمها في الطرقات والأحياء وتشويه منظر المدينة برمتها.

 

كما تكرر مشهد تونس، ولبنان في العاصمة الروسية موسكو، حسب التحقيق المنشور في مجلة النيوزويك الأمريكية في 13 يونيو 2015 تحت عنوان:

"هل ستُسقط القمامة الرئيس الروسي بوتين؟". فهذا التحقيق الميداني يتحدث عن سوء إدارة القمامة في موسكو، وتأثيره على مكونات البيئة برمتها، إضافة إلى الأمراض التي نزلت على بعض السكان الذين يعيشون بالقرب من مقابر القمامة. فقد أكد التقرير على وجود جبالٍ من القمامة لفترة طوية من الزمن في مواقع الدفن القريبة من الأحياء السكنية، بحيث أن الروائح العفنة بدأت تتصاعد منها والسوائل الخطرة الناجمة عن تحلل القمامة تسيل كالأنهار فتصب في المسطحات المائية فتسممها وتهدد الأمن الصحي لسكان المنطقة الذين بدأوا بالتذمر وإبداء سخطهم وغضبهم على هذا الوضع السيئ للقمامة. وهذا السخط والغضب أَخرج السكان من منازلهم في عدة ضواحي وأحياء محيطة بالعاصمة في مظاهرات ومسيرات للتعبير عن معاناتهم البيئية والصحية وإيقاظ الجهات المعنية من سباتهم العميق الذي طال لإيجاد حلولٍ فورية ومستدامة لهذه الحالة البيئية الصحية، ورفعوا أثناء المظاهرات شعارات تعكس وضعهم السيئ منها "قِفُوا تسميمنا" و "لا تقتلوا أطفالنا".

 

فمثل هذه الوقائع الميدانية التي وقعت في بعض مدن العالم تؤكد لي صحة نظريتي حول وضع البيئة ودوره في زعزعة أمن الدول، وألخصها في المعادلة التالية: تدهور صحة البيئة يساوي تدهور الأمن العام في الدول.